عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 23-02-2007, 11:15 PM
الصورة الرمزية ابو الزبير المقدسي
ابو الزبير المقدسي ابو الزبير المقدسي غير متصل
عضو متميز
 
تاريخ التسجيل: Jan 2007
مكان الإقامة: في ارض الله
الجنس :
المشاركات: 388
افتراضي نظرات في سورة غافر

نظرات في سورة غافر

[الكاتب: عمر عبد الرحمن]

نظرات في سورة غافر

[الكاتب: عمر عبد الرحمن]
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

أما بعد...

فيقول رب العزة تبارك وتعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آَيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ}.

هذه الآيات من مطلع سورة غافر، وهذه السورة تمثل معركة واضحة بين الحق والباطل، فيها الصراع العنيف، وفيها الأخذ والشدة، وفيها الجذب والقوة... صراع قائم بين الحق والباطل على امتداد التاريخ، يبذل فيه الباطل كل قوته، وكل عمقه، وكل ما يملك من أسلحة... لكن الحق يسطو على الباطل، فيضربه ضربة؛ تُزهِق روحه، وتُذهِب حياته، مهما فشا الباطل، ومهما كثر أهله، وقويت عدته.

هذه السورة تبدأ؛ بأن القرآن نزل من عند الله.

ثم تذكر بعض صفات الله تبارك وتعالى لعباده...

{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}...


فهو القوي القاهر؛ الذي لا يُغالب، والذي كل من عاداه فهو هالك لا محالة.


وهو العليم؛ كل أمره سبحانه بعلم وحكمة وتدبير.


وهو الذي يغفر الذنب ويقبل التوب؛ {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}، فعلى العبد أن بأتي إلى باب ربه، وأن يندم على ما فات، وأن يقلع على الذنب، ويصر على أن لا يباشره، فإذا ربه يتكرم عليه؛ فيغفر ذنبه، ويقبل توبته.


والله سبحانه وتعالى؛ شديد العقاب، يعاقب كل من يستمر ويصر على الذنب... كل من يعادي دعوة الله، وكل من يؤذي الدعاة، وكل من يكيد بهم ويمكر بهم؛ يقتلهم الله قتلاً، ويأخذهم أخذ عزيز مقتدر.

{غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ}؛ ذي الفضل والإنعام، فهو المنعم على عباده، وهو الذي يغمرهم بنعمه التي لا تحصى ولا تعد.

ثم تذكر كلمة التوحيد {لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}؛ منه البداية ومنه النهاية، إليه المصير، فالمرجع والمآب والمنتهى إليه سبحانه، {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى}، {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ}.

ثم تأخذ السورة في بيان المعركة القائمة بين الحق والباطل...

معركة عنيفة شديدة، فيها الحق ملء الوجود كله، في السموات والارض، والبر والبحر، والرطب واليابس، الإنسان والحيوان والنبات والجماد... كل شيء يعترف بوحدانية الله، مقر بإلوهية الله وربوبيته، ممسك بالحق، قائم عليه.

هذا اجماع من الوجود، بكل اتجاهاته وكل أنواعه، لا يخرج عن هذا الإجماع إلا من يسمون بـ "الذين كفروا"، فهم شذوذ على هذا الاجماع.

{مَا يُجَادِلُ فِي آَيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا}؛ لا يجادل أحد في هذا الكون الفسيح الواسع... لا يجادل أحد في وحدانية الله وإلوهيته، لا يجادل أحد في قيام هذا الوجود على الحق الأصيل، الكل مجمع عليه، لا يخرج على هذا الإجماع إلا نشاز وأفراد من هذا الوجود، هم "الذين كفروا".

هم وحدهم الذين يجادلون في آيات الله، فإذا كانت معهم بعض مظاهر القوة أو الحركة أو العُدة، فلا يغرنك هذا، إنما هو متاع قليل، وإنما هو عرض زائل، وإنما هذا كله زبد وأمر عما قليل ينتهي، فلا يغررك تقلبهم في البلاد... هذا الإجماع القائم على الحق، لا يضيره خروج بعض أفراد منه ليكونوا من أهل الباطل.

وأهل الباطل يُجمعون قوتهم وجنودهم وسلطانهم، ليحاربوا الحق في كل مكان، وليجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق، فإذا كان قومك أيها الرسول الكريم قد جادلوا بالباطل؛ فإن هذا أمر قديم على امتداد الزمان؛ {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ}، وكلما جاء رسول هَمّ قومه بأن يؤذوه ويعذبوه؛ {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ}.

فماذا كانت النتيجة؛ حينما يتجمع أهل الباطل ويضعون العراقيل في طريق الحق وأهله؟!

إذا بالضربة العظمى، وإذا بالقوة الكبرى تلاحق أهل الباطل... ضربة تقصمهم قصماً وتأخذهم أخذاً.

{فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ}؛ كيف كان عقابي؟... كان عقابك يا رب عقاباً أليماً، وكان عذابك عذاباً شديداً... كانت الضربة شديدة، وكان الهلاك قاصماً للباطل وأهله.

{فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ}؛ كان العقاب شديداً لأن العالم كله لا يستطيع أن يملك قوة أمام قوة العزيز الجبار، المنتتقم القهار... {فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ}.

وكذلك؛ كلما تجمع أهل الباطل، وظنوا أنهم قادرون على أهل الحق؛ قصمهم الله قصماً وأخذهم أخذاً شديداً، {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}.

والله سبحانه إذا أمهل أهل الباطل، وتركهم يستعملون قوتهم ونفوذهم، وليستعملوا مالهم وثروتهم، وليستعلموا حكمهم وسلطانهم في ضرب أهل الحق؛ فإنه إذا أمهلهم لا يهملهم أبداً، بل يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، ويمكر بهم، ويحبط مكرهم وكيدهم ومؤامراتهم بالمسلمين... ونحن نرى أهل الباطل كلما كانت لهم صولة وجولة؛ قصمهم الله وأخزاهم وأذلهم.

وهكذا تستمر المعركة بين الحق والباطل...

وأهل الحق معهم الوجود كله؛ معهم حملة العرش ومن حوله: {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا}...

حملة العرش ومن حوله؛ يستغفرون للذين آمنوا، وما الذي يشغلهم بالذين آمنوا؟! وما الذي يجعلهم يفكرون بالذين آمنوا من الناس؟! لأن بين حملة العرش ومن حوله وبين المؤمنين بالله صلة قوية، بينهم صلة قوية ورابطة أكيدة، وهي الإيمان بالله، حملة العرش يؤمنون بالله، والناس المؤمنون الموحدون يؤمنون بالله أيضاً، فلماذا لا ينشغل حملة العرش ومن حوله بالاستغفار للمؤمنين والدعاء لهم، {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا}.

هذا الوجود مشغول كله بأهل الحق، مشغول كله بالمؤمنين، حتى حملة العرش - وهم أرفع قدراً، وأعلى مكانة - منشغلون بالتسبيح بحمد ربهم والاستغفار للذين آمنوا والدعاء لهم، بعد الحمد والثناء والأدب مع الله؛ {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ}.

وهكذا نجد أن الملائكة مشغولون بأهل الحق، مشغولون بالذين آمنوا، وأن الوجود كله يقف مع أهل الحق، فإذا ظهر للناس أنهم قلة؛ فليعلم الجميع أن الوجود كله معهم.

وهكذا نجد الباطل وهو يستعمل كل ما معه من قوة وسلطة لضرب أهل الحق... ولن يصلوا إلى ذلك، ولن يجدوا إلى ذلك سبيلاً.

وسورة غافر تبين؛ أنه كم من الأقوام تجبروا وتكبروا، فأخذهم الله بذنوبهم، ليس لهم ولي يدفع عنهم، ولا ناصر ينصرهم، {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ}... جائتهم رسلهم بالبينات فكفروا، فأخذهم الله، {إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.

استعلى فرعون بقوته وجنوده ومعه وزيراه - هامان وقارون - حينما جاءهم الحق؛ رفضوه، وقالوا: {سَاحِرٌ كَذَّابٌ}، جاء موسى بآيات الله وبحجج ظاهرة؛ {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ}، لما جاءهم الحق من عند الله بماذا قابلوه؟ باستعمال سلطتهم وقوتهم؛ {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ}.

ويذكرنا هذا القرار بقرار صدر من فرعون سابق في الوقت الذي ولد فيه موسى عليه السلام، صدر قرار من فرعون بقتل أبناء بني إسرائيل، ويستبقي النساء... فهل هذا قرار غيره؟ وهل فرعون الذي أصدر الأول هو الذي أصدر القرار الثاني، أم أنه غيره؟ كل ذلك محتمل، أن يكون فرعون الذي أصدر القرار الذي يصاحب ميلاد موسى عليه السلام هو الذي أصدر القرار الثاني: {اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ}... وقد يكون فرعون ورث فرعون، يكون الذي أصدر القرار الثاني هو ولي العهد، وقد تسلم الملك لأن أباه قد مات، فهو يستعيد القرار، لكن القرار الثاني مسلط على الذين آمنو بموسى: {اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ}... وظن أهل الباطل أنهم تمكنوا من الحق وأهله، وأنهم يكيدون لهم، لكن الآية ترد: {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ}.

ويرى فرعون - ممثلاً لأهل الباطل - أن الحل الوحيد أن يقتل موسى ويتخلص منه، بحجة أنه يخاف من موسى أن يبدل دينهم! أو أن يظهر في الأرض الفساد!

وهذا أمر عجب! أن يقول فرعون الضال الوثني عن موسى عليه السلام الداعي إلى التوحيد، يقول ضروري أقتل موسى: {وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ}، هل هناك ما هو أعجب من ذلك؟! أليس هذا هو عين كلام كل طاغية وهو يواجه المؤمنين؟! أليس هذا الكلام هو عين ما يواجه به الظلمة دعاة الحق؛ {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ}.

لكن موسى يلجئ إلى الركن الركين، وإلى الحصن الحصين، وإلى الحمى الذي لا يغالب، يلوذ بالجناب القوي المتين، يلجئ إلى ربه، فقال موسى: {إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ}، عذت بربي وربكم... فهو يوحد الله، ويبين أنه رب الجميع، وأنه لا رب غيره ولا إله سواه، وأن يوم الحساب؛ لا يوجد التفكير فيه في قلب أي متكبر، فإذا وجد الكبر فإنه لا يفكر في يوم القيامة أبدً؛ {مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ}.

وبينما الأمر كذلك، وبينما الصراع قائم محتد بين موسى وفرعون، بين الإيمان والطغيان، إذا برجل مؤمن من آل فرعون يظهر، لكنه في حذر وحيطة، إنه يكتم إيمانه، ولا يريد أن يظهر للسلطة ولا للقوة، لئلا يأخذوه أخذاً... إنه يتكلم في حذر ويتحدث في حيطة، لكن لا يمنعه الحذر والحيطة من أن يعلن الحق ويدافع عنه، إنه رغم حيطته وحذره، وعلى الرغم من أنه يكتم إيمانه؛ فإنه يدافع عن الحق.

ليس معنى أن يكتم الإنسان إيمانه، أو أن يكون في حيطة وحذر، أن يترك الحق ذبيحاً أو جريحاً، ليس معنى أن الإنسان يواري نفسه من السلطة، أو يمنع نفسه من هؤلاء... ليس معنى ذلك؛ أنه يخذل الحق، ولا يقف بجانب الحق.

على كل مسلم؛ أن يقول الحق، بأي أسلوب يراه، لكن الحق يجب أن يُقال، وأن يُعلن به، وأن يظهر أمام الناس.

ها هو الرجل الذي يكتم إيمانه من آل فرعون؛ انه لا يمتنع أبداً عن أن يقول الحق، فهو يواجههم... يواجه السلطة والقوة، ويواجه الحكم والنفوذ، ويواجه المطبقين على عبادة فرعون... يواجههم فيقول: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ}، أرأيتم هذه القوة وهو يبين الحق ويعلنه، مع أنه يكتم إيمانه؛ فهذا الذي فعله موسى يستوجب أن تقتلوه؟! إن كل ما يقول موسى هو؛ ربي الله، ثم لم يقل موسى هذا من فراغ، قاله ومعه حجته ومعه برهانه ودليله، {وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ}، فهو لم يذكر شيئاً دون برهان، أو خالياً من الدليل، إنما ذكره ومعه برهانه، و {جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ}.

وهكذا؛ بدأ الرجل الذي يكتم إيمانه في الدفاع عن الحق، ما قال؛ إن السلطة والقوة، وإن الإطباق على الكفر، وإن عبادة فرعون، تمنعني من أن أقول الحق! بل قالها في حيطة، وقالها في حذر: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ}.

ثم أخذ يورد عليهم الاحتمالات؛ موسى قد يكون صادقاً وقد يكون كاذباً، فإن كان كاذباً فعليه كذبه، لكنه لا يستوجب ذلك الكفر، وإن يكن صادقاً يصلكم بعض الذي يعدكم!

وهكذا استمر مؤمن آل فرعون في إظهار الحق الذي يؤمن به.

وختم هذه الفقرة الأولى من كلامه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ}، وهذا يصح أن يقع لموسى وأن يقع لكن، فإذا كان موسى هو الذي فعل هذا؛ فالله ينتقم منه، ينتقم من كل مسرف كذاب، فلا تكونوا يا قوم من المسرفين الكذابين، حتى لا يقع بكم عقاب الله.

واستمر مؤمن آل فرعون وهو يحذرهم بأس الله وعذابه، وعقابه الذي لا يرد عن القوم المجرمين؛ {فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا}، إذا جاء بأس الله وعذابه فمن الذي يستطيع دفعه؟ ومن الذي يقدر على ربه؟!

وهكذا أخذ مؤمن آل فرعون في بيان الحق...

ولكن فرعون استشعر أن هذا الحق خطر عليه، فأخذه ما يأخذ كل طاغية، ما يأخذ كل متكبر جبار، ما يأخذ كل ظالم، من نعرة، ومن شدة، ومن بيان؛ أن رأيه هو الصواب، {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}؛ فما أراه هو الحق! وما أهديكم إليه هو سبيل الرشاد، وأي رأي مع رأيي يجب أن يبدد وأن يذهب، وأي قائل لرأي آخر يجب أن تقطف رأسه ويقطّع لسانه... هكذا يكون الطغاة دائماً ويكون الظلمة، لا يقبلون رأياً مع رأيهم، ولا يسمحون لأي شخص آخر أن يتحدث معهم، بل يلقون في روع الجماهير؛ أن كلامهم هو الصواب، وأن ما يدعون إليه هو سبيل الرشاد، وأن قرارتهم لا معقب عليها... هكذا يكون الطغاة ويكون المستبدون، وإن ظهروا أمام الناس أنهم يعلنون القانون أو الديمقراطية.

هكذا قال فرعون، {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}، فهل سكت مؤمن آل فرعون، وقال؛ "لقد بينت من الحق قسطاً، ويكفي عليّ هذا"؟!... كلا والله! إنما استمر هذا الرجل وهو يعلن الحق، يعلن الحق وهو يكتم إيمانه، يعلن الحق وهو يرى السلطة والقوة والكل مطبق على ملك فرعون وعبادة فرعون.

هكذا يقول الحق، فما بالنا بالذين يظهرون إيمانهم لا يقولون الحق، ويظلون صامتين؟! وهم ينبغي أن يعلموا أنهم بصمتهم إنما يعينون أهل الباطل على باطلهم.

إن صمت الجماهير؛ إنما هو مشاركة لأهل الباطل ولأهل الظلم والطغيان في باطلهم وظلمهم وطغيانهم، إن هذا الصمت المطبق يجعل أهل الباطل يظنون أن الناس قد اقتنعوا بباطلهم، وأن هذا الذي أظهروه للناس قد استقر في قلوبهم أنه الحق، إن هذه مشاركة من الجماهير في طغيان الطاغي وظلم الظالم، واستمرار أهل الباطل في باطلهم.

إن مؤمن آل فرعون وهو يكتم إيمانه استمر يحذر قومه، يحذرهم من كلام فرعون، ويحذرهم من الطغيان المفروض عليهم، ويحذرهم من الاستبداد الذي فرضه فرعون على قومه، فأخذ يذكّرهم...


يذكّرهم مرة بتاريخ السابقين ومصارع المكذبين.


ويذكرهم مرة بيوم القيامة والموقف العظيم؛ {وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ}، من هؤلاء الأحزاب؟ {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ}، هؤلاء الأحزاب الذين هلكوا وضربتهم يد القدرة فاهلكتهم وجعلتهم صرعى... أحذركم يوماً مثل يومهم... يوم الأحزاب؛ وجعل للأحزاب يوماً واحداً، مع أن لكل حزب يوماً! ولكل قوم مصرعاً! جعله يوماً واحداً لأنه متشابه، لأن هذه الأيام قد تشابهت... تشابهت في صراع المكذبين وهلاكهم فهو يوم واحد... قوم نوح، وعاد، وثمود، والذين من بعدهم، فما الله يريد ظلماً للعباد، إنما يجازيهم بما يعملون.

فإذا ذكرهم بتاريخ السابقين فهو يذكرهم بيوم القيامة ويسميه "يوم التناد"؛ {وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ}، وهو "يوم التناد" لأن فيه نداء من هنا ومن هناك...


نداء أصحاب الجنة لأصحاب النار.


ونداء أصحاب الأعراف لأصحاب الجنة وأصحاب النار.


ونداء أهل النار لأهل الجنة.


ونداء الملائكة لمن في الموقف.

إن فيه هذا التصايح وهذا الصراخ الذي ينطلق في جنبات الموقف العظيم، إنه يوم التصايح ويوم الصراخ والعويل، ويوم تنادي كل جماعة جماعة أخرى، لأن الهول شديد والموقف رهيب.

{أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}، ليس له هاد... الذي يضلله الله لا يهديه فرعون ولا يهديه غيره، الذي يدعي أن رأيه هو سبيل الرشاد.

وهكذا يُذكّر مؤمن آل فرعون، ويصرخ بهم، ويرفع صوته شيئاً فشيئاً، وكان في أول الأمر؛ صوته هادئاً، ولكنه حين يقول الحق نسي نفسه، ونسي أنه وسط فرعون وآله، وعلى سلطته وقوته، نسي هذا الرجل في دفئ الحق وحرارته، نسي أنه يحذر وأنه يحتاط... فإذا بصوته يرتفع، وإذا صوته يدوي في الآفاق بعد أن كان هادئاً، وبعد أن كان الصوت مسموعاً على [ضعف]... إذا صوت مؤمن آل فرعون يدوي في الناس بقوة وحزم، يعلن الحق وإن كان مراً.

{قَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ}؛ سبيل الرشاد عندي، لا عند فرعون، سبيل الرشاد ما أدعوكم إليه، لا ما يدعوكم إليه فرعون، إن فرعون قال بالنص: {وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}، يبين مؤمن آل فرعون [...] [2] واضحة صارخة بين الحق والباطل، مؤمن آل فرعون يواجه فرعون في دعواه: {وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}، قال: "لا! ليس سبيل الرشاد عند فرعون، إنما سبيل الرشاد هو ما أدعوكم إليه".

{يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ}؛ فأبين لكم الحق بين الدنيا والآخرة، فالدنيا متاع... ومتاع قليل، زائل، عارض، ذاهب، وإن الآخرة هي دار القرار.

واستمر مؤمن آل فرعون يعلن عن الحق الذي يدين الله به، غير هَياب ولا وجل، لا يخاف سلطة فرعون وقوته، ولا يخاف تكبره ولا جبروته؛ {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآَخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ}.

ثم أخذ يفرق بين عمل السيئة والحسنة، وما يكون عليه الجزاء في الآخرة، فيبين فضل الله ورحمته؛ فالسيئة لا يُضاعف عقابها، أما الحسنة فإنها تُضاعف إلى عشر... إلى ما هو أكثر من ذلك، {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ}.

وهكذا يستمر هذا الرجل وهو يبين من يدعو إلى الجنة ومن يدعو إلى النار، فيدعوهم إلى الجنة، يدعوهم إلى النجاة، وهم يدعونه إلى النار، هو يدعوهم ليؤمنوا بالله العزيز الغفار، وهم يدعونه ليكفر بالله ويُشرك به... فليقارنوا بين الدعوتين؛ هؤلاء الأصنام ومن يعبدونهم من دون الله - من أمثال فرعون - ماذا يملكون؟ لا يملكون دنيا ولا يملكون آخرة، وأن مرجع الأمور والأشياء والأشخاص إلى الله، وأن الذين يُشركون ويبتعدون عن الطريق الحق هم أصحاب النار.
رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 31.97 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 31.36 كيلو بايت... تم توفير 0.61 كيلو بايت...بمعدل (1.91%)]