
28-03-2007, 08:02 PM
|
 |
قلم مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Sep 2006
مكان الإقامة: jordan
الجنس :
المشاركات: 1,958
الدولة :
|
|
توقف القصف ودوت بعده طلقات رصاص قريبة.. ظنت أول الأمر أنه الشاب العربي لكن الطلقات كانت كثيفة.. ما هذا إنها تخترق باب المنزل.. سمعت طرقا شديدا بالبنادق على الباب.. قبل أن تتنبه هي وجارتها لما يحدث كان الباب قد بدأ يتحطم.. (إنهم هم).. صرخت واختطفت ابنها وهرولت إلى أقرب نافذة.. كانوا قد توسطوا المنزل بأسلحتهم.. قفزت من النافذة.. كان آخر ما رأته جارتها وهي محاصرة بين الجنود..
لم تصدق أنها قد صارت هي وصغيرها خارج المنزل.. أسرعت تجري وطلقات الرصاص من حولها تصم الآذان..
لم تدري أين تذهب كنها كانت تعدو وفي آذانها كلمات تتردد كانت سمعتها في المسجد عن الدين والعرض.. انكفأت أكثر من مرة على وجهها لكنها كانت تنهض مسرعة وتعدو محتضنة صغيرها الذي كان ينتحب بطريقة جنونية..
لم تتوقف إلا عندما اكتشفت أن قدميها تصعدان بها الجبل.. عادت أدراجها مسرعة.. فهي تعلم أن الصرب هناك فوق القمة.. تلفتت حولها.. لم تجد إلا الجبل أمامها والمدينة المحترقة خلفها.. أحست أنها محاصرة.. تذكرت فجأة جارتها التي تركتها هي الأخرى محاصرة بين الجنود..
انتفضت في فزع عندما تذكرت أنهم قد يغتصبوها..(لا بل قتلوها.. نعم قتلوها) هكذا راحت تتمتم وهي تحاول إقناع نفسها أنها شاهدتهم بالفعل يقتلونها.. كانت تتمنى من أعماق قلبها أن يكونوا قتلوها ولم يغتصبوها.. رفعت رأسها إلى السماء:
ــ رباه صار القتل أمنية!!
اكتشفت أن المذياع لا يزال بيدها.. همت أن تلقيه فوق الصخور ليتحطم.. ولكن بارقة أمل منعتها من ذلك
************
عندما أقلعت به الطائرة في طريقها إلى القاهرة تذكر عودته من حرب تحرير الكويت كان الجنود يومها يضحكون أما اليوم فهو يعود بمفرده وقد ملأ الحزن قلبه وكسا ملامحه.. سقطت من عينيه دموع كثيرة عندما تذكر الشارع الذي صار بلا حماية.. هز رأسه بعنف عدة مرات ليطرد عنه ذلك الخاطر الرهيب.. قال في صوت خفيض:
ــ لا.. لن يحدث.. لن يحدث.. لا لن يحدث..
بالأمس وهم عائدون من الخليج كان في انتظارهم سياسيون ورجال دين وكان معهم شيخ الأزهر.. راح يحدث نفسه أنهم سيكونون في انتظاره اليوم أيضا..
(لن يحضر الساسة بالطبع, ولكن سيأتي شيخ الأزهر.. نعم قطعا سيأتي شيخ الأزهر.. لا.. لن أطلب من أحد شيئا لنفسي, سأطالبهم بأسلحة ثقيلة للبوسنة, وقوات, نعم لابد أن تذهب قواتنا المسلحة إلى هناك.. ستأتي الصحافة اليوم.. سأرفض أن يكتبوا عني كلمة, سأحكي لهم كل ما فعله الصرب بالمسلمين, سأروي المؤامرة كاملة, سأفضح الدور القذر الذي لعبه بطرس غالي, سأحكي لشيخ الأزهر قصة اغتصاب المسلمات, سيغضب قطعا شيخ الأزهر وسيعلن الجهاد فيخرج الجيش ومعه عشرات الآلاف من المتطوعين ومعهم السلاح والذخائر.. سأتحدث أيضا في المساجد.. سأصرخ في الشباب أن أفيقوا.. فنصارى أوروبا يقتلون إخوانكم وأنتم هنا ترقصون على أنغام الديسكو!!!)..
هكذا كان يظن!!!!!!..
************
نزل الليل ثم طلع الصباح ولا زالت هي وصغيرها في مكانهم خلف صخرة كبيرة تحميهم من أعين الصرب, لم يفتأ صغيرها يسألها بصوت أنهكه الجوع والتعب وهز نبراته الخوف والبرد:
ــ لماذا لا نعود إلى البيت..
فكانت تجيبه:
ــ الدين والعرض.. الدين والعرض..
لاحت سيارة على الطريق الدائري المار بين الجبل والمدينة فانكمشت حتى لا يروها.. لا شك أنهم الأوغاد.. اكتشفت أنها كانت مخطئة إنها سيارة تابعة للأمم المتحدة مرسوم عليها شعار الأمم المتحدة.. خرجت مسرعة من مكانها ولوحت لقائد السيارة الذي توقف.. هرولت نحو السيارة وبيدها صغيرها.. هبط أحد الجنود وتقدم نحوها خاطبته قائلة:
ــ خذ هذا الصبي.. لقد سمعت أنكم تبعدون الأطفال عن البوسنة إلى دول أوروبا بعيدا عن القتال.. أرجوك أن تأخذه إلى هناك..
بكت ثم أردفت قائلة:
ــ أرجوكم أن تهتموا به.. قولوا لمن سيأخذونه منكم حافظوا عليه, إنه ولدي.. إنه.. إنه ولدي.. فلذة كبدي..
انهارت وهي تقولها.. اصطنع الجندي التأثر وهو يمسك بالطفل ويقول لها:
ــ وأنت يا سيدتي؟..
ــ سأبقى هنا..
ــ هناك خطورة عليك..
لاحظت أن نظراته جائعة.. خافت .. أرادت أن تجري مبتعدة لكنها كانت تريد أن تحتضن طفلها وتقبله للمرة الأخيرة.. نعم للمرة الأخيرة.. هبط من السيارة جندي آخر..
زاد خوفها: (يا إلهي حتى جنود الأمم المتحدة), نظرت إليهما متوسلة أن يتركاها تقبل طفلها ثم تمضي..
قال أحدهما في حزم مصطنع:
ــ سوف نصطحبك معنا.. مهمتنا الإنسانية تأبى أن نتركك في العراء..
فجأة انطلقت مدافع الصرب تهز الجبل والمدينة.. هرع الجنود بالصبي إلى السيارة التي راحت تبتعد والصبي يبكي ويلوح بيده الصغيرة من خلف زجاج السيارة إلى والدته التي كانت تعدو بمحاذاتهم وتلوح لصغيرها.. ضاعفت السيارة سرعتها, فانكفأت على الأرض.. قامت بسرعة تجري في أثار غبار سيارة تحمل ولدها..
عادت إلى الصخرة تمسح دمها ودموعها..
*************
في المطار كانوا في انتظاره, تقدم أحدهم نحوه وسأله:
ــ أأنت حامد جمعة؟.
ــ نعم..
قالها حامد وهو يمد يده ليصافح السائل فوضع الضابط قيدا حديديا في يده..
قال حامد في دهشة:
ــ ماذا تفعل؟, أجابه الضابط في سخرية: كما ترى,
ــ معذرة: أنا لا أرى,
حاول الضابط أن يضع القيد قي يده الثانية فلم يجدها..
ــ أين يدك الثانية؟..
ــ مقطوعة.. ماذا حدث؟!..أنا لم أرتكب جريمة.
ــ أتنكر أنك قادم من البوسنة وأنك كنت تحارب هناك؟..
ــ لست أنكر.. كنت أدافع عن المسلمين..
ــ إذن تعال معنا..
ــ إلى أين؟, ومن أنتم؟, وماذا تريدون؟.
صاح الضابط في الجنود:
ــ احملوه..
صرخ في عنف:
ــ أين شيخ الأزهر.. أريد شيخ.. يا شيخ الأزهر..
تجمع بعض السياح الموجودين بالمطار يستطلعون الأمر فابتسم لهم الضابط في احترام بالغ وهو يقول:
ــ معذرة.. أيها السادة.. هذا إرهابي.
*************
هذه هي ليلتها الرابعة بهذا المكان.. إنها الآن لا تقوى على مجرد الوقوف, فقد أنهكها الجوع والبرد والحزن على صغيرها وبيتها, والخوف على الدين والعرض.. ضاعف من حزنها أنها لم تسمع الآذان منذ اقتحم الجنود شارعها.. إنها ترى المأذنة من مكانها ولا تسمع آذانا, مدت يدا مرتعشة إلى المذياع فاليوم ينتهي مؤتمر القمة الإسلامية, وسيصدر قراراته الخاصة بالبوسنة والهرسك, (سيأمرون بلا شك بإرسال معونات سريعة وجيوش و سلاح ورجال).. هكذا قالت لنفسها وهي ترنو ببصرها إلى الطريق الدائري الذي مضت فيه السيارة بولدها.. خيل لها أنها ترى قوافل طويلة من جيوش المسلمين قادمة.. نعم هذا سلاحهم.. وهذه الدبابات والعربات المصفحة.. أفاقت على صوت المذياع:
ــ شجب واستنكار من رؤساء وملوك الدول الإسلامية لما يحدث في البوسنة والهرسك.. شهقت بصوت ضعيف وبكت بلا صوت ولا دموع.. رأت من وراء دموعها المحتبسة في المآقي مأذنة المسجد وكأنها تبكي.. كانت بيوت المدينة المحترقة كلها تبكي..
*************
في مكان آخر من أوروبا وقف الطفل خائفا أمام القس ذي اللحية الحمراء وراح يردد خلفه كلمات لا يدرك معناها عن الأب والابن والروح القدس..
أحس وقتها بحنين جارف إلى ذلك الشاب العربي حامد.. تساءل في نفسه: (متى سيأتي ليأخذني من هنا؟!)..
*************
عندما غربت شمس اليوم الخامس كانت ممدة إلى جوار الصخرة داخل جلبابها الواسع وخمارها..
لقد ماتت.. بينما كان المذياع يحكي وقائع الجلسة الأولى لمحاكمة عسكرية للشباب الذي قاتل في البوسنة ثم عاد.. وذلك وفق قانون الإرهاب الجديد..
بكى السحاب فسقط المطر غزيرا حتى أسكت المذياع.
منقووول
__________________
|