القدس في ظل الاستعمار البريطاني
بعد مجيء الاحتلال البريطاني لفلسطين خلفاً للحكم العثماني عام 1917، شرعت سلطات الانتداب البريطاني في تطبيق وعد بلفور الخاص بإقامة دولة لليهود في فلسطين، فسهلت عمليات الاستيطان اليهودي، كما ساهمت في إنشاء المؤسسات الثقافية والدينية اليهودية في المدينة، وفي شراء الأراضي العربية وغيرها في منطقة القدس ومحيطها وعلى الأخص غربي البلدة القديمة. واتجهت كذلك إلى تقسيم الأرض بين العرب واليهود والذي تبلور بقرار الأمم المتحدة رقم 181 لعام 1947، غير أن القدس مثلت عملياً العقدة الأساسية أمام هذا القرار، ولذلك اتخذ التعامل معها طابع المعالجة الخارجية عبر فكرة تدويلها كمنطقة قائمة بذاتها (Corpus Separaturm) تمكنت إسرائيل من احتلال الجزء الأكبر منها في حرب 1948، مما أفشل فكرة التدويل عملياً.(12)
برنامج التهويد الصهيوني لمدينة القدس
عند ترسيم حدود بلدية القدس في العهد البريطاني ارتبط ذلك بطبيعة الوجود اليهودي، فامتد غرب البلدة القديمة 7 كم وشرقها وجنوبها مئات الأمتار فقط. ثم أعيد رسمها عام 1921 وعام 1946 وبتركيز على القسم الغربي كذلك لتصبح 40% أملاكا إسلامية و26,12% أملاكا يهودية و13,86% أملاكا مسيحية. وفي ضوء حرب عام 1948 وبعد توقيع اتفاق الهدنة في 22/7/1948 تم تقسيمها إلى غربية وشرقية، حيث حكم الأردن المنطقة الشرقية بنسبة 11,5%، واحتلت إسرائيل المنطقة الغربية بنسبة 84,1%، واقتطعت 4,4% منها كمنطقة حرام تتبع الأمم المتحدة.(13)
ومما يجدر ذكره أن مختلف المصادر تؤكد أن توجهات ثيودور هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية بخصوص القدس تكونت من ثلاثة أجزاء:
- تدويل مدينة القدس.
- بناء الهيكل الثالث في مكان غير بعيد عن المسجد الأقصى.
- أن تكون المدينة خارج الأسوار (محيط البلدة القديمة) بطابع أوروبي غربي وأن تصبح عاصمة الشعب اليهودي.
وقد تبنى بن غوريون مؤسس إسرائيل هذا التوجه ونفذه، حيث سعى لإنشاء ما سمي بالقدس الغربية وأطلق على البلدة القديمة ومحيطها اسم القدس الشرقية. وقد حدد موقفه هذا في رسالة للحكومة البريطانية قبيل صدور قرار التقسيم عام 1947 قائلاً إنه لن يتنازل عن القدس وإنه لابد من الفصل بين الأماكن المقدسة في شرقي المدينة وغربها. ودعا إلى رقابة إنجليزية على شرقي المدينة، وطالب باعتبار اليهود من سكان القدس مواطنين في الدولة اليهودية.(14)
وبعد احتلال القوات الصهيونية لـ 84,1% من المدينة عام 1948 قامت بتدمير القرى المجاورة (مثل دير ياسين وعين كارم وغيرهما) وضم أراضيها إلى ما أسمته بالقدس الغربية حيث أعلنتها عاصمة لها.
وعلى إثر عدوان يونيو/ حزيران 1967 تمكنت قوات الاحتلال الإسرائيلي من احتلال الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية (البلدة القديمة) ومحيطها، حيث شرعت في تهويد المدينة وفرض وجودها فيها، واتخذ ذلك أربعة أشكال أساسية:
الأول- هدمت الحي الإسلامي المعروف بحارة الشرف في حي المغاربة عقب الاحتلال مباشرة في 11 يونيو/ حزيران 1967، حيث منحت السكان ساعتين فقط لمغادرة المكان. وصبيحة اليوم التالي كان الحي قد سوي بالأرض حيث تم ضم أرضه إلى الساحة المقابلة لحائط البراق التي يطلق عليها ساحة المبكى. وتم أثناء ذلك هدم مسجدي البراق والأفضلي وهدم 135 منزلاً وتهجير 650 فلسطينيا، علماً بأن ممتلكات الحي كانت ملكاً للأوقاف الإسلامية.
الثاني- توطين اليهود في حي المغاربة وتسميته بالحي اليهودي واستملاك الممتلكات الإسلامية والوقف الإسلامي ما بين هذا الحي وحارة الأرمن وذلك في الفترة ما بين 1968 و1979.
الثالث- منذ عام 1979 تم تشكيل العديد من الجماعات الاستيطانية اليهودية بالقدس، والتي ألفت بينها اتحاداً سمي "عطرا اليوشنا" أي جمعية تجديد الاستيطان في مدينة القدس جميعها، ويهدف هذا الاتحاد إلى استملاك العقارات في الأحياء الإسلامية المجاورة للحرم في قلب المناطق الفلسطينية، وذلك بتوطين أسر يهودية مختارة في وحدات سكنية يتم إنشاؤها. وقد حظي هذا الاتحاد باعتراف "إدارة أرض إسرائيل" الحكومية عام 1985 وذلك بعد تشكيل لجنة وزارية يهودية عام 1948 برئاسة أفرايم شيلو شرعت ونظمت عمل هذا الاتحاد.(15)
الرابع- احتلال مساكن الفلسطينيين في الأحياء الإسلامية وادعاء ملكيتها من قبل العديد من اليهود، وتوج ذلك بقيام أرييل شارون شخصياً باحتلال أحد المنازل الفلسطينية عام 1987 في الحي الإسلامي المجاور للحرم الشريف.
كما اتبعت سلطات الاحتلال الصهيوني وسائل أخرى أبرزها المصادرة بحجة تطوير الخرائط الهيكلية، حيث صادرت بشكل مباشر 33% من مساحة القدس الشرقية، وجمدت 40% أخرى بني فيها 27 مستوطنة يهودية، لتصبح 73% من المدينة تحت السيطرة والسيادة الإسرائيلية الكاملة. كما صادرت 6% لشق طريق يربط المستوطنات، وبذلك يبقى 21% من القدس الشرقية فقط منها 10% يسكنها العرب، و7% غير منظمة ومعرضة للمصادرة، و4% يجري عليها الصراع.(16)
وقامت سلطات الاحتلال بمحاولة إحراق المسجد الأقصى في 21/8/1969، والقيام بحفريات وأنفاق تحت المقدسات، وهدم بعض الآثار ذات الأهمية التاريخية، ناهيك عن مصادرة أراض ومعابد أثرية تاريخية موقوفة، وتحويل بعض المقابر والمعابد الإسلامية والمسيحية إلى معابد أو نوادٍ لليهود.(17)
وكان الحاخام شلومو غورين قد قام مع عشرين من جماعته بأداء صلاة يهودية داخل الحرم القدسي يوم 15/8/1967. وفي 28/1/1976 أصدرت قاضية محكمة صلح إسرائيلية في القدس قراراً يقضي بإباحة الصلاة لليهود في الحرم القدسي الشريف.(18)
وفي ضوء ذلك يمكن ملاحظة أن الاحتلال اليهودي صادر أراضي 28 قرية عربية بعد عدوان 1967، ووسع حدود القدس الغربية مما صادره من أراض فلسطينية أخرى، حتى أصبحت مساحة القدس الشرقية 70 كم2 والقدس الغربية 38 كم2، ويصبح بذلك مجموع مساحة القدس بشقيها 108 كم2. وعقب ضم أراض جديدة لها بعد عدوان 1967 أصبحت المساحة الكلية 125 كم2.(19)
وبدراسة الممارسات اليهودية زمنياً نجد أن سياسات حزبي العمل والليكود تعمل لنفس الأهداف بخصوص البلدة القديمة التي هي مدينة القدس المقدسة، ويعملان مع بقية الأطراف اليهودية لإبقاء القدس موحدة وعاصمة لإسرائيل، ويعمل حزب العمل بالذات بهدوء شديد لتهويد القدس الشرقية ونشر الوجود اليهودي في محيطها.(20)
ويقطن اليوم حوالي 170 ألف يهودي في القدس الشرقية يمثلون 46% من سكانها، مقابل 200 ألف عربي يمثلون 54% من سكانها، فيما يبدو أنه استجابة لتوصيات بن غوريون الذي قال: يجب استقدام اليهودي إلى القدس الشرقية بأي ثمن، وينبغي توطين عشرات الآلاف من اليهود في فترة قصيرة، وإن هذا الاستيطان هو العودة الحقيقية إلى صهيون.
وتبنت هذا التوجه أيضا اللجنة الوزارية الإسرائيلية لشؤون القدس، إذ دعت إلى أن تكون نسبة اليهود والعرب بالمدينة 76% مقابل 24% على الترتيب.(21) ولذلك فقد نجح اليهود في إجراء التهويد الديمغرافي بنسبة 50% من القدس الشرقية في مقابل تهويد 79% من الأرض، مما يشير إلى أن أي حل يأخذ هذا الواقع بعين الاعتبار إنما يسلم بنتائج المخطط الصهيوني التهويدي في المدينة المقدسة، وينتهك ما أطلق عليه بالشرعية الدولية، ويعتبر خرقاً لقرار الأمم المتحدة 242 لعام 1967.
أسباب الصراع القائم اليوم ودوافعه
إن الصراع القائم اليوم على القدس بين الفلسطينيين والإسرائيليين يمثل حجر الزاوية في إمكانية التوصل إلى أي حل سياسي، فالدولة الفلسطينية تعتبر القدس عاصمتها ومجالها الحيوي حيث يسكن 10% من فلسطينيي الضفة الغربية في القدس الشرقية، وتحظى المدينة بأهمية دينية وتاريخية وثقافية وتجارية، كما تمثل المدينة المقدسة فيها ورقة مهمة لرسم دور فلسطيني معتبر على صعيد العالم العربي يسهم في الحصول على مساعدات من الدول العربية، وهو ما يوفر مبررات موضوعية للصراع اليوم.(22)
ومن أبرز الإشكاليات التي يتصارع عليها الطرفان الإسرائيلي والفلسطيني عبر المفاوضات وغيرها:
- السيادة على القدس الشرقية التي تمثل حدود 4 يونيو/ حزيران 1967، والتي نص قرار الأمم المتحدة رقم 242 على إعادتها للجانب العربي.
- سهولة الوصول إلى الحرم القدسي الشريف وحق الصلاة فيه، حيث يزعم اليهود أن لهم هذا الحق بوصفه مكان الهيكل، وهم يسيطرون اليوم على حائط البراق الذي يمثل الحائط الجنوبي الغربي لساحة الحرم الشريف بزعم أنه حائط المبكى.
- الإصرار الإسرائيلي على ضم كل المناطق اليهودية والمستوطنات المجاورة في القدس الشرقية إلى السيادة الإسرائيلية، ويشمل ذلك مستوطنات معاليه أدوميم وكفار أدوميم وغفآت زئيف التي تتمتع بوضع استراتيجي بالسيطرة على طريقي القدس/الأردن والقدس/رام الله، إضافة إلى ضم ما يسمى بالحي اليهودي في القدس الشرقية إلى السيادة الإسرائيلية ويمثل هذا الحي 15 - 20% من مساحة البلدة القديمة.
- تعريف القدس من حيث الحدود والمساحة والمكونات، وهي نقطة مختلف عليها بين الجانبين.
- الإصرار الإسرائيلي على الاعتراف الفلسطيني الكامل بعاصمة إسرائيل التي يطلق عليها يورشليم أو القدس، والتي تضم القدس الغربية إضافة إلى المناطق اليهودية في القدس الشرقية.
ثانياً: القدس في مفاوضات السلام الفلسطينية الإسرائيلية
بعد محاولات مستمرة للتوصل إلى حل سياسي للصراع حول القدس منذ عام 1967 سواء على صعيد المشاريع والقرارات الدولية أو طروحات الجانبين، بقيت القدس مشكلة أساسية أمام أي حل سياسي للصراع العربي الإسرائيلي. وحتى في معاهدة كامب ديفد التي وقعت بين مصر وإسرائيل في عام 1979 كانت القدس مشكلة أساسية عند تناول الموضوع الفلسطيني.
وفي ظل انهيار النظام العربي بعد حرب الخليج الثانية عام 1991، وعلى أصداء تصاعد الانتفاضة الفلسطينية الكبرى التي اندلعت عام 1987 ضد الاحتلال الإسرائيلي، بادرت الولايات المتحدة الأميركية بفكرة عقد مؤتمر للسلام في الشرق الأوسط بهدف تسوية القضية الفلسطينية نهائياً. وقد عقد المؤتمر بالفعل في مدريد عام 1991 بحضور الطرف الفلسطيني. وبعد مفاوضات ثنائية ومتعددة الأطراف منبثقة عن المؤتمر توصل الجانبان الفلسطيني والإسرائيلي إلى اتفاق سمي "إعلان مبادئ" عام 1993، تبعته عدة اتفاقيات مرحلية عام 1994 و1995 و1996 على مشارف الوصول إلى المفاوضات النهائية حسب ما ورد في إعلان المبادئ المذكور.
وفي مطلع عام 2000 أخذت جهود البدء بالمفاوضات النهائية منحى أكثر جدية، حيث عقدت مفاوضات مستمرة لحوالي أسبوعين في منتجع كامب ديفد في الولايات المتحدة الأميركية سميت مفاوضات كامب ديفد الثانية في أواسط العام، وانتهت بالفشل في 25 يوليو/ تموز من العام نفسه، وكانت القدس كما أعلن رسمياً العقبة الأساسية أمام التوصل لأي اتفاق بين الجانبين.