والرسول يوصي بحسن صحابة الأم ثلاث مرات مما يعني أنها القاعدة الأساسية للتربية الخلقية في الأسرة وهي بالنتيجة أحق بالصحبة والاقتداء والتكريم، يقول الرسول (ص): (عندما سأله أحدهم مَن أحق الناس بحسن صحبتي يا رسول الله؟ قال: أمك، قال: ثم مَن؟ قال: أمك، قال: ثم مَن؟ قال: أمك، قال: ثم مَن؟ قال: أبوك). وللأب في الاسلام أيضاً دوره الحاسم في الأسرة، فهو يكون المثل الأعلى للاقتداء والتقليد بالنسبة للذكر والأنثى على حد سواء، فهو الأقدر على فرض النظام في المنزل ومنع الانحرافات الخلقية، وهو الموجه الأخير للأطفال نحو المستقبل.
والأطفال في الأسرة الاسلامية بحاجة إلى أب دائماً أو بديل عن الأب، هذا الدور الذي لا تقدر عليه الأم أبداً وخصوصاً مع الذكور من الأولاد في المرحلة قبل المدرسية وبعدها. وبشكل عام فإن دور الأم لا يقل أهمية عن دور الأب في بناء الأسرة وتلقينها القيم الأخلاقية الرفيعة في المجتمع.
ولعل من المفيد في هذا الصدد أن نستعرض بعض النماذج من آراء المربين المسلمين في الطرائق الأفضل لتكوين القيم الأخلاقية في الطفولة المبكرة ولعل أهم ما يمكن عرضه هنا هو آراء ثلاثة من أشهرهم: أحمد بن تيمية، محمد الغزالي، عبدالرحمن بن خلدون، وقد عاش هؤلاء ما بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر الميلادي وهي الفترة التي تميزت بنمو الفكر الأصولي الاسلامي وانحسار حركة النهوض الفكري الفلسفي المتأثر بالفلسفة اليونانية.
ومما هو جدير بالذكر أن أحمد بن تيمية المولود في جنوب دمشق (1263-1328م) كان من أبرز العلماء المسلمين في عصره وقد أفتى في ضرورة التصدي للغزو المغولي للعالم الاسلامي ورغم أن الغزاة قد أصبحوا مسلمين في القرن الحادي عشر الميلادي.
ويمكن تلخيص آراء أحمد بن تيمية في التربية الخلقية للطفل بالعناصر التالية:
1 ـ الملاحظة الدقيقة للطفل من قبل الأسرة وتقديم العون والإرشاد النفسي الدائمين. وكذلك التعزيز في سبيل حل المشكلات الأخلاقية التي تواجهه داخل الأسرة وخارجها.
2 ـ تأصيل القيم الأخلاقية الاسلامية بحيث تستغرق كل أبعاد شخصيته مثل: قيم توحيد الله وعبادته والقيم المرتبطة برعاية الجسم وإشباع حاجاته والقيم المتعلقة بالعمران وعدم التخريب والسعي إلى كسب الرزق والقيم المتعلقة بالتفكير والتدبير والكرم والحلم والأمانة والمحبة والأمل والأخوة والمعاملة الطيبة والمسؤولية الاجتماعية وغيرها.
3 ـ غرس القيم الاسلامية الصحيحة في الطفل بوساطة الإرشاد اللفظي وتعليمه أن تكون حياة الرسول والصحابة والشهداء مثله الأعلى وأن يرفض كل ما دخل على الاسلام من شوائب فكرية ومذاهب أخرى.
4 ـ أن يكون التعليم الخلقي منسجماً مع خبرات الطفل وسلوكه ودوافعه البيولوجية لا معاكساً لها، وأن يكون تعديل هذه الدوافع بما ينسجم مع السلوك الاجتماعي الصحيح ووضع الغرائز العدوانية لدى الطفل في قنواتها الخيرة للسلوك الطيب.
5 ـ يعتقد ابن تيمية أن الطفل يولد صفحة بيضاء وعلى قدر نوعية المثيرات الخلقية التي يتلقاها من البيئة التي يعيش في وسطها على قدر اكتسابه لقيم أخلاقية أو اتجاهه نحو الشر وهذا ما يتعلق بالأسرة.
6 ـ إعطاء الطفل حرية مقيدة وتعويده على أن الحرية المطلقة ليست مفيدة.
7 ـ استخدام الثواب والعقاب مع التأكيد على أن الثواب (التعزيز الإيجابي أفضل من العقاب وأحياناً يؤدي إلى تثبيت السلوك أكثر منه إلى تعديله).
8 ـ القدوة الحسنة من قبل الأبوين مهمة جداً في مجال التربية الأخلاقية.
وأما أفكار الإمام محمد الغزالي المولود في بلاد خراسان (طوس 1058-1111م) في مجال التربية الخلقية للطفل فيمكن تلخيصها بما يلي:
1 ـ إن للأسرة أهمية كبيرة في نمو القيم الأخلاقية لدى الطفل، وعلى قدر نوعية الخبرات والمثيرات التي يمتصها من والديه ينشأ سليم النفس طاهر العقل.
2 ـ خلق الطفل قابلاً للشر والخير معاً ووالداه هما اللذان يمنحانه القيم الأخلاقية أو عكسهما.
3 ـ يجب حجب الطفل عن رفاق السوء وتعويده قيم الاعتدال والخشونة في الملبس والمأكل ومناهج الحياة.
4 ـ الأم وأخلاقها عامل مهم في تربية الطفل.
5 ـ التربية تعتمد على ضبط السلوك بالثواب والعقاب في سبيل أن ينشأ الطفل متوافقاً ومتكيفاً مع مجتمعه وقيمه.
يصر الغزالي على ضرورة تجاهل أخطاء الطفل الأولى ومعاقبته إذا عاود الخطأ مع ضرورة التوضيح والشرح بسبب الثواب أو العقاب في حال استخدامهما.
7 ـ المحافظة على شعور الطفل أمام الآخرين إذا أريد توبيخه أو معاقبته.
8 ـ يجب عدم الإكثار من توبيخ الطفل لأن ذلك يؤدي إلى تعويده على ذلك وعدم استجابته.
9 ـ يجب تعويد الطفل على أن يكون سلوكه علنياً واضحاً وأن يتطابق فكره مع سلوكه وأن يمارس دائماً العمل النافع للجماعة.
10 ـ يجب ذكر الله أمام الطفل دائماً وتشجيعه على الصدق والإخلاص وإرضاء الله.
11 ـ يجب غرس قيمة الكرم والغيرية في نفس الطفل وأن يتعود على الإعطاء لا الأخذ ويمكن استخدام مثال الكلب في سبيل منعه من الأخذ.
12 ـ غرس قيمة احتقار المال في نفس الطفل ويعد الغزالي ذلك من الأمور الهامة.
13 ـ تدريب الطفل باكراً جداً على الاتجاهات المتعلقة بالأدب الاجتماعي: النظافة، الترتيب، عدم البصق، عدم التثاؤب بحضور الآخرين، قلة الكلام، آداب الطعام.
14 ـ تعويد الطفل على عدم النوم في أثناء النهار، لأن ذلك يورث الكسل وكذلك ممارسة الرياضة واللعب الهادئ الجميل الذي يتناسب مع ميوله.
15 ـ تعويد الطفل الذكر على لبس الملابس البيضاء فهي أنسب للذكر من الملابس الملونة.
وأما المربي ابن خلدون فهو عبدالرحمن بن محمد والمشهور بابن خلدون ولد في تونس (1332-1406م)، ويعد مؤسس علم الاجتماع بعد تأليف كتابه المعروف (مقدمة ابن خلدون) وهو من أوائل مَن نادى بديمقراطية التعليم وتكافؤ الفرص في الحصول على العلم أمام الجميع وضرورة التركيز على التعليم المهني لمصلحة المجتمع وكذلك التعليم المستمر والنظامي ولهذا فهو يعدّ رائداً من رواد التربية الحديثة، وقد تحدث في مقدمته عن ضرورة استخدام وسائل الإيضاح والتدرج من البسيط إلى المركب ومراعاة الفروق الفردية والوسائل المتعددة للتدريس بحسب مقدرة كل تلميذ على الاستيعاب. وأما في مجال تربية الأطفال والقيم الخلقية فقد جاء ما يلي:
1 ـ يجب أخذ الطفل بالرفق واللين، فالشدة مضرة وتؤدي إلى عكس المطلوب.
2 ـ إن العقاب الصارم يؤدي بالطفل إلى التظاهر بغير ما هو عليه ويعوده على الكذب والخبث والمكر والخداع وغير ذلك من الأخلاق المتجهة نحو الشر والفساد.
3 ـ يجب مراقبة مقدرة الطفل على الاستيعاب من أجل توجيهه بشكل أفضل نحو الأخلاق الحميدة. وعلى الوالدين ألا يحملا طفلهما أكثر مما يحتمل من التوجيهات الخلقية فإن ذلك لا يفيده.
4 ـ يجب الاعتماد في تدريب الطفل على القيم الخلقية بأن يكون المربون قدوة للطفل مع إتاحة الفرص له لاختبار ما تعلمه وضرورة ضرب الأمثلة المحسوسة له حتى يتمكن من الاستيعاب فإنه لا يفهم المجردات مطلقاً.
ويجدر بنا في هذا الموضع أن نبين من خلال بعض الدراسات أثر قيم الأبوين في طفل ما قبل المدرسة ومن بين هذه الدراسات دراسة على أطفال الطبقة الفقيرة في الولايات المتحدة الأمريكية شملت أطفالاً من 4-5 سنوات تمت فيها دراسة أثر الاتجاهات الوالدية والمعاملة في المنزل على سلوك الطفل الاجتماعي في الروضة. هذه الدراسة اعتمدت على زيارات منزلية للأطفال وتسجيل ملاحظات حول نظام المنزل وقيم الأبوين وأنماط الأطفال موضع البحث (عدواني، غيري، يسعى للمنافسة إلخ..) وكذلك مدى قسوة النظام المنزلي تجاه الطفل وما يمكن أن يلحقه به من أذى في سلوكه الاجتماعي وطريقة حله للمشكلات التي تواجهه وشكل المنافسة مع الأقران، ويقرر الباحثون (بيتت، ودودج وبراون) في عام 1988م أن تحليلاتهم لعوامل الكبت الذي عانى منه الأطفال نتيجة المعاملة الأبوية يؤثر بدرجة كبيرة على علاقاتهم بأقرانهم، أما قيم الآباء واتجاهاتهم وتوقعاتهم فإنهم تقوم بدور العوامل الوسيطة عند الأطفال في تأثيرها على أساليب السلوك الاجتماعية لهم وطريقة حلهم للمشكلات، وبالتالي فإن الباحثين يوصون بأخذ العلاقات الأسرية في المنزل بعين الاعتبار عند وضع البرامج الخاصة بالتطبع الاجتماعي للأطفال في الروضة وذلك لأثرها البالغ والحاسم عليهم وعلى اتجاهاتهم الإيجابية والسلبية تجاه ما يحيط بهم.
ولابد من الإشارة إلى مسألة هامة تلك هي أثر شبكة العلاقات الاجتماعية للأبوين على تكوين اتجاهات طفل ما قبل المدرسة (المرحلة الابتدائية) وأهمية هذه الشبكة تأتي من اتساع تأثيرها على الأبوين أولاً وبالتالي على الأطفال، فهي بالنسبة للأطفال يمكن أن تسرع في التطبيع الاجتماعي وتخفيف التمركز حول الذات والنمو الجسدي الأفضل من خلال ممارسة اللعب مع الأقران من أطفال الأقرباء والجيران وزملاء العمل.. الخ. وكذلك تسريع النمو المعرفي بوجود المثيرات المناسبة التي يمثلها الآخرون وما يستدعي ذلك من خلق لغة أفضل وتكون المفاهيم والمجردات والمهارات الحركية وغيرها والعلاقات التبادلية المبكرة وأثرها على اتجاهات غيرية وتعاونية لمجمل حياة الطفل.
*المصدر : ادب الاطفال والقيم التربوية