وبعد فترة وجيزة من مجيء الاسلام وما صاحبه من إصرار محمدي على التعلم ببيان فضل المتعلمين، واعتبار التعلم فريضة دينية على كل مسلم لا تقل عن فريضة الصلاة و الصيام و ما فعله في غزوة بدر مع أسرى قريش و هي حادثة لم يعرف التاريخ لها مثيلا لا قبل ذلك و لا بعده، هاهي القراءة و الكتابة تنتشر فيهم و استطاعوا حل كل المشكلات التي أعيت سابقيهم فوضعوا النقاط على الحروف و استحدثوا الشكل و وضعوا علم العروض وعلم النحو و كل ذلك في فترة وجيزة، و من جهة ثانية حلت محل صفات الجاهلية أخلاق الحلم و الأناة و التدبر و انتشر بينهم التسامح و الإحسان على نحو قيس بن عاصم يخاطب امرأته :
إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له أكيلا فإني لست بآكله وحدي
أخا طارقا أو جار بيت فإنني أخاف ملامات الحديث من بعدي
و سئل الأحنف بن قيس : ممن تعلمت الحلم ؟ قال: من قيس بن عاصم المنقري رأيته قاعدا بفناء داره محتبيا بحمائل سيفه يحدث قومه حتى أتى رجل مكتوف و رجل مقتول فقيل له : هذا ابن أخيك قتل ابنك ؟ فوالله ما حل حبوته و لا قطع كلامه ثم التفت إلى ابن أخيه فقال له: يا بن أخي أثمت بربك و رميت نفسك بسهمك و قتلت ابن عمك ثم قال لابن له آخر: قم يا بني فوار أخاك و حل كتاف ابن عمك و سق إلى أمه مائة ناقة دية ابنها إنها غريبة ..و قال الأحنف : لست حليما لكنني أتحالم [6] .
3ـ من التبعية و الرعي إلى القيادة والإدارة: كان العرب قبل الإسلام متوزعين في تبعيتهم بين الفرس و الروم عدا قلة منهم كانت تعيش على الرعي والتجارة والغزو ، ولم يكن يخطر ببال أحد منهم أن يتحولوا إلى قادة فتوح وأساطين سياسة تنقل أقوالهم وأفعالهم كتب التاريخ في مشارق الأرض ومغاربها ، وحال عمر بن الخطاب قبل الإسلام وبعده خير شاهد على ذلك، ولقد استطاع النبي الكريم أن يحول جميع أصحابه إلى فاعلين في المجتمع من الخليفة إلى التاجر مرورا بالقادة والجنود، وبالتعبير المعاصر فإن الوعي السياسي كان سائدا فيهم ، كلهم يعرف المصلحة العليا ويراعيها في تصرفاته .
لقد أحسن النبي إدارة الصراع مع قريش في مكة يوم كانوا ضعافا وفي المدينة عندما تحولوا إلى قوة ، وتمكن من تفادي ما كان يمكن أن ينتج عن الهجرة من أزمات ، وكذلك نجح أصحابه من بعده في حل العديد من المشاكل كما هو الحال في حرب المرتدين ، والفتوحات الإسلامية ، وما تمخض عنها من ظهور معاملات جديدة مع الأمم التي دخلت في الإسلام ، وكان ذلك كله بفضل القواعد التي تركها لهم النبي والتي لخصها غذاة وفاته في نقطتين هما كتاب الله وسنته – صلى الله عليه وسلم - ، وإنما أصاب المسلمين ما أصابهم بعد ذلك بسبب التخلي عن الالتزام الصارم بتلك القواعد الذهبية .
[4– أنه حقق كل تلك الأعمال العظيمة بأقل التكاليف : لقد فعل النبي - صلى الله عليه وسلم – كل ذلك في وقت قياسي وبأقل التكاليف ، على خلاف التحولات المعاصرة التي تكلف الكثير من الأنفس والأموال دون أن تتمخض عنها نتائج محترمة ، فإذا كان التحول سلميا فإنه يكلف المبالغ الخيالية من الأموال ، وأما إذا كان غير ذلك فإنه لا يتم إلا بإزهاق أرواح كثيرة ، أما النبي فقد كان أحرص الناس على حقن الدماء وعلى التيسير والأخذ بالأيسر، ولم تكلف عملية التحول الناجحة التي امتدت على مدى ثلاثة وعشرين عاما أكثر من ألف وثمانين قتيلا من المسلمين وأعدائهم على الرغم من أنه خاض ضد أعدائه ثمان وعشرين غزوة، والسر في ذلك أنه جعل حفظ الأنفس واحدة من أهم أولوياته ، فهو قد قبل بصلح الحديبية على ما قد يبدو فيه من جور، وقبل الفدية يوم بدر ممن ناصبوه العداء، وآذوه وجاؤا لقتاله، ومن مظاهر حرصه على الدماء ما حدث في فتح مكة، فهو قد حرص على عدم إعلام قريش حينما أراد الفتح لئلا تتجهز لذلك ويذهب في المعارك قتلى كثيرون، فقد خرج من المدينة ولا يعلم من أصحابه وجهته إلا امرأته عائشة وصاحبه أبو بكر الذي أمره بإخفاء الأمر ، فكان من يظن أنه يريد الشام، وظان يظن ثقيفا، وظان يظن هوازن ، وبعث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أبا قتادة ابن ربعي في ثمانية نفر إلى بطن إضم[7] ليظن ظان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – توجه إلى تلك الناحية، ولأن تذهب بذلك الأخبار[8] .
وقد كان حامل لواء كتيبة رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ في طريق الفتح سعد بن عبادة فلما رأى أبا سفيان نادى : يا أبا سفيان ! اليوم يوم الملحمة ! اليوم تستحل الحرمة ! اليوم أذل الله قريشا ! فأقبل رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ حتى حاذى أبا سفيان ناداه : يا رسول الله أمرت بقتل قومك ؟ سعد حين مر بنا قال : يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة ! اليوم تستحل الحرمة ! اليوم أذل الله قريشا ! و إني أنشدك الله في قومك فأنت أبر الناس و أرحم الناس و أوصل الناس قال عبد الرحمن بن عوف و عثمان بن عفان : يا رسول الله ما نأمن سعدا أنه يكون منه في قريش صولة فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : اليوم يوم المرحمة ! اليوم أعز الله فيه قريشا ! قال : و أرسل رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ إلى سعد فعزله وجعل اللواء إلى قيس بن سعد[9] .
[أسباب الإعجاز في حياة النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ
1ـ تحقيق الاستقامة في نفسه وإلزامها بما يلزم بها غيره : فقد كان قبل الإسلام يعرف بالصادق الأمين شهادة يشهد بها أعداؤه وأصحابه على حد سواء كما كان معروفا بالوفاء و السعي في مصالح غيره فعندما نزل عليه الوحي و شكا حاله لخديجة قالت : و الله لن يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكل ، و تكسب المعدوم ، وتقري الضيف ، و تعين على نوائب الحق[10] ، و عندما سأل هرقل أبا سفيان هل يغدر؟ قال أبو سفيان : لا[11] و لا شك أن هذه الأوصاف تسبق التعاليم إلى فتح القلوب فتحبه أو تحترمه و تكون مستعدة لأن تلتزم أمره وتجتنب نهيه فإذا أضيف إليها مشاركته الناس في الالتزام أمرا ونهيا في سرائهم و ضرائهم فهي إشارة أخرى لقيمة العمل في التغيير ، لقد حاصر المشركون المسلمين في شعاب مكة و منعوا عنهم الطعام و اللباس و الزواج وعرض بعض المشركين على النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ بعض المزايا و لكنه أبى ذلك أشد الإباء، فأين هذا اليوم من حكام وملوك تطحن الأزمات شعوبهم و هم يعيشون في عالم آخر من البذح و الرفاهية وأين هذا من حكام وضعوا قوانين على الناس و استثنوا أنفسهم بالحصانة.
لقد كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مثالا صادقا للرجل العملي يأمر أصحابه أن يصدقوا القول بالعمل حتى قال : "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها يخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، ليس وراء ذلك من الإيمان جبة خردل"[12] ، وعندما أمر أصحابه بالصبر فإنه كان مثلهم الأعلى ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أشرف الخلق وأكرمهم على الله لم يتنزل عليه نصر الله بسُنّة خارقة، بل كُذِّب وأُوذي واتُّهم بالسحر والجنون وشُجّ رأسه وكُسرت رباعيته وتألب عليه الأحزاب. ولكنه ظل صابراً محتسبا .ً
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه على هذه الحقيقة، فها هو ذا خباب بن الأرث رضي الله عنه يقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم-: " ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا"، ومع أنه طلب أمراً مشروعاً وهو الاستنصار والدعاء، إلا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قعد وهو مُحمرٌ وجهه، وقال: " قد كان من كان قبلكم لتُمشط بأمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه ...ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنتين ما يصرفه ذلك عن دينه ..وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، ما يخاف إلا الله عزو جل والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون[13] .
__________________