فتور الوحي ونزول سورة الضحى
بسم الله الرحمن الرحيم
كم كانت فرحة النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما بشّره جبريل عليه
السلامبالوحي أوّل مرة ، فقد وجد أخيراً جواباً للكثير من الأسئلةٍ التي ظلّت
تؤرّقه زماناً طويلا، وأبصر طريق الخلاص من ضلال قومه وممارساتهم ، ولكن
سرعان ما تحوّلت مشاعر الفرحة إلى حزنٍ شديد ، حينما توقّف الوحي
وانقطع فترةً بعد ذلك.وجاءت هذه الحادثة ، بعد ذهاب النبي - صلى الله عليه وسلم - و خديجة رضي الله عنها إلى ابن عمها ورقة بن
نوفل ، ، وتفسير ورقة لحقيقة ما رآه في الغار ، وإنذاره بعداوة قومه له ، حيث تأخّر الوحي عن النزول عدّة أيّام كما
تفيده الروايات الصحيحة .ويظهر من سياق القصّة ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حزن حزناً
شديداً ، وذلك بسبب أنه فسّر تأخّر الوحي بانقطاع النبوّة ، وزوال الاصطفاء
من الله تعالى له ، فكان عليه الصلاة والسلام بحاجة إلى وحيٍ يعيد له
طمأنينته ، ويزيل عنه الهواجس المتعلّقة بانقطاع الرسالة .وقد حصل له -صلى الله عليه وسلم - ما يؤكد نبوته ، ويقطع الشك باليقين ،
وذلك عندما جاءه جبريل عليه السلام مرة أخرى على صورة ملك جالس على
كرسي بين السماء والأرض ، فأخذته رجفةٌ شديد حتى سقط على الأرض ،
ثم عاد إلى أهله مسرعاً ، ولما دخل على خديجة رضي الله عنها قال لها : (
دثّروني ، وصبّوا عليّ ماء باردا )، فنزلت الآيات الكريمة: { يا أيها المدثر ، قم
فأنذر ، وربك فكبر ، وثيابك فطهر ، والرجز فاهجر }( المدثّر : 1 – 5 ) ، وكان
نزول هذه الآيات إعلاماً للنبي – صلى الله عليه وسلم– بنبوّته ، وتكليفاً له
بتحمّل أعباء هذا الدين ، والقيام بواجب الدعوة والبلاغ .
وقد ذكر العلماء بعض الحِكَم من انقطاع الوحي تلك الفترة ، كذهاب الخوف
والفزع الذي وجده - صلى الله عليه وسلم - عندما نزل عليه الوحي أول مرة
، وحصول الشوق والترقب لنزول الوحي مرة أخرى ، بعد تيقّنه أنه رسول من
الله ، وأن ما جاءه هو سفير الوحي ينقل إليه خبر السماء ، وبذلك يصبح شوقه
وترقبه لمجيء الوحي سبباً في ثباته واحتماله لظاهرة الوحي مستقبلاً .
نزول سورة الضحى
هذه السورة بموضوعها , وتعبيرها , ومشاهدها , وظلالها وإيقاعها , لمسة من حنان .
ونسمة من رحمة , وطائف من ود ويد حانية تمسح على الآلام والمواجع , و
تنسم بالروح والرضى والأمل . وتسكب البرد والطمأنينة واليقين . إنها كلها خالصة للنبي صلى الله عليه وسلم كلها نجاء له من ربه ,
وتسرية وتسلية وترويح وتطمين .
كلها أنسام من الرحمة وأنداء من الود , وألطاف من القربى , وهدهدة للروح المتعب , والخاطر المقلق , والقلب الموجوع .
ورد في روايات كثيرة أن الوحي فتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبطأ عليه جبريل - عليه السلام - فقال المشركون:ودع
محمدا ربه ! فأنزل الله تعالى هذه السورة .
والوحي ولقاء جبريل والاتصال بالله, كانت هي زاد الرسول صلى الله عليه وسلم في مشقة الطريق وسقياه في هجير الجحود وروحه
في لأواء التكذيب . وكان عليه السلام يحيى بها في هذه الهاجرة المحرقة التي يعانيها في النفوس النافرة الشاردة العصية
العنيدة . ويعانيها في المكر والكيد والأذى المصبوب على الدعوة , وعلى الإيمان ,
وعلى الهدى من طغاة المشركين . فلما فتر الوحي انقطع عنه الزاد , وانحبس عنه الينبوع , واستوحش قلبه من الحبيب .
وبقي للهاجرة وحده . بلا زاد . وبلا ري . وبغير ما اعتاد من رائحة الحبيب الودود .
وهو أمر أشد من الاحتمال من جميع الوجوه . .
عندئذ نزلت هذه السورة . نزل هذا الفيض من الود والحب والرحمة والإيناس والقربى
والأمل والرضى والطمأنينة واليقين . .