بسم الله الرحمان الرحيم، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
كيف يعرض القرءان الكريم نظام الكون والحياة؟
أريد أن أضع بين أيدي القراء آية كريمة من كتاب الله تعالى_وهي آية جامعة في تربية الفرد وإصلاح المجتمع _ كنموذج ومثال،تبين مبادئ الإسلام،وأن القرءان الكريم يعرض نظام الكون والحياة،وأنه سهل الفهم،ولا يحتاج إلا للتدبر والعمل للفوز بمرضاة الله في الدنيا والآخرة،وهي قوله تعالى:]يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما[ سورة الأحزاب:الآيتان:70-71.
فالآية واضحة في ألفاظها وجملها وتراكيبها،ولا تحتاج إلى تفسير واضح،يدركها كل قارئ وتال وسامع،ولكنها تحتاج للتدبر والفهم،والاتعاظ والعمل،والتذكير بها،فإن الذكرى تنفع المؤمنين.
والآية الكريمة تتركب من تمهيد ومقدمة،يعقبها أمران من الله تعالى،وهما توجيه من رب العالمين،وإرشاد إلهي،وتربية ربانية،ومنهج سليم في الحياة،ويأتي بعد الأمرين مباشرة النتائج التي تترتب عليهما،فذكر القرءان العظيم ـ في مقابل الأمرين ـ نتيجتين،الأولى في الدنيا،والثانية في الآخرة،وختم الله الآية الكريمة بمبدإ ديني خالد،يشمل جميع شؤون الدين والدنيا،ويضمن الفوز والسعادة للبشر في الدنيا والآخرة،وهو أن من أطاع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما.
وهذا كلام عام ومجمل ومختصر عن الآية،ولنشرع الآن بتفصيل كل قسم منها:
التمهيد والمقدمة:
مهد الله تعالى لأوامره وإرشاده بمقدمة جذابة لطيفة،فيها الأنس والقرب،وفيها التشويق والترغيب،وفيها العطف والحنان،وفيها الإثارة والجاذبية،فنادى عباده بقوله تعالى:]يا أيها الذين آمنوا...[أي يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله،والتزموا بدينه وشرعه،توطئة لهم لسماع ما سيأتي.
فالنداء للمؤمنين،والله سبحانه يناديهم بهذا الوصف الجميل الرائع الذي يطمع إليه كل امرئ،إنه وصف الإيمان الذي تبنى عليه جميع الأحكام،وتتفرع عنه كل الأمور،وتقوم عليه كل النتائج،وهو الذي يبعث في النفوس صوت الإجابة والإنابة،وحنين التلبية لنداء رب العالمين،كأنه يقول:آذاننا مفتوحة،وأسماعنا مصغية،وقلوبنا واعية.
الأمر الأول:
وبعد هذا النداء الرقيق،يأتي الأمر الإلهي الأول،والتوجيه الرباني العظيم،وهو قولـه تعـالى:]...اتقوا الله...[،إنه أمر بالتقوى،وهو من الوقاية،بأن نتقي الله ،ونتوقى من عذابه،ونجعل بيننا وبين النار وقاية وحجابا وحاجزا،وذلك بتقديم العمل الصالح،والتقوى هي الالتزام بدين الله، والعمل بأحكامه،وتطبيق شرعه،واجتناب نواهيه،والحفاظ على حرماته،لنحقق لأنفسنا النجاة من النار.
والتقوى أيضا أن يرانا الله تعالى حيث أمرنا،وأن يفقدنا حيث نهانا،والتقوى بتعبير ثالث هي:العمل بالتنزيل،والخوف من الجليل،والقناعة بالقليل،والاستعداد ليوم الرحيل.والتقوى كلمة جامعة،تكررت في القرءان الكريم في غير ما آية،ووصف الله بها عباده الصالحين،وأولياءه المقربين،وأنبياءه المصطفين،ورتب الإسلام على التقوى نتائج عظيمة،وآثارا طيبة في الدنيا والآخرة.
فمن أجزاء التقوى أن نعبد الله كأننا نراه،فإن لم نكن نراه فإنه يرانا،وأن نعبد الله عبادة حقيقية كما أمر ربنا سبحانه،وعلى الصورة التي طلبها،وعلى الكيفية التي تحقق أهداف العبادة،فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر،والصيام لصفاء النفس وتهذيب الأخلاق،ومراقبة الله في السر والعلن،والزكاة لشكر الله على نعمه،والإحساس بالمواساة،والحج للشعور الإنساني مع سائر البشر.
وتكون التقوى في سائر الأمكنة والأزمنة،وفي جميع ما يفعله المرء وما يتركه،وتتحقق في الخلوة والجلوة،وبأن يستحضر المرء ربه أمام عينه،وأنه مطلع عليه في جميع الأحوال.
قال ابن عباس «من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله»[1]،وهذا مأخوذ من قوله تعالى بصريح الآية:]...إن أكرمكم عند الله أتقاكم[[2].
الأمر الثاني:
قال تعالى:]وقولوا قولا سديدا[،فالتوجيه الرباني الثاني هو أن يقول المرء القول السديد،وينطق بالحق،ويتكلم بالصدق،قال ابن كثير
القول السديد:هو القول المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف)[3].
والقول هو صلة الوصل والخطاب بين البشر،وكلما كانت الصلة قويمة ومستقيمة كانت العلاقة بينهم سديدة ومتينة وقوية وصحيحة.ويعبر عن القول السديد بعبارات كثيرة،منها أن القول السديد هو الذي يكون غذاؤه الصدق في الحديث،واجتناب الكذب والخداع،والقول السديد هو الذي يتفق مع الواقع،فلا يتضمن افتراء أو كذبا،أو شهادة زور،أو يمينا غموسا،والقول السديد هو الذي يريده الله تعالى ويحبه،،ويدعو إليه ويرضى عنه،،والقول السديد هو الذي يزيد المرء محبة من الناس،ويصلح بينهم،ويقوي العلاقة معهم،ويحبب بين الناس،ويشنف الأسماع،وتطرب له القلوب،وتهوى إليه الأفئدة،ويرفع من مقام صاحبه.
والقول السديد هو الذي تعشقه الملائكة،وترغب في استماعه،وتحضر للإنصات إليه،وتنزل من السماء لتسجيله والأنس به،ويدون في الصحائف،ويطبع على القلوب.
والقول السديد هو الذي لا يحمل مفسدة في الدين،أو فسادا في المجتمع،أو إيذاء لسامع،أو غيبة لغائب،أو نميمة على آخر،أو ضلالا في الأرض،أو إضلالا بين الناس.
والقول السديد هو الذي لا يتضمن مزحا مفرطا،أو نكتة مخربة،أو مزاحا ضارا،أو معصية للرب،ولا يثير الضغائن والأحقاد،ولا ينقل العداوة والبغضاء.
والقول السديد هو الذي يحفظ فيه الإنسان لسانه عن الهراء ،وترديد أقوال المنافقين،وهمسات المرجفين.
والقول السديد هو ما فيه ذكر الله تعالى،ويكمن في كل حركة فيه من اللسان حسنة،وفي كل كلمة أجر وصدقة،وهو الذي وصف الله به عباد الرحمان،فقال تعالى:]وعباد الرحمان الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما[[4]،وهو ما قصده رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:«من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت»[5].
قال عكرمة :القول السديد
لا إله إلا الله)،وقال غيره :السديد:الصدق.وقال مجاهد:هو السداد[6].
والقول السديد يدخل في التقوى،وهو الأمر الأول في الآية،ولكن الله تعالى أفرده بالذكر لتفضيله،وكأنه جنس برأسه.
هكذا يظهر أن الآية الكريمة أمرت بأمرين،وأرشدت إلى توجيهين ربانيين،فيهما جماع الخير كله،وفيهما الوسيلة القويمة إلى صلاح الفرد،وإصلاح المجتمع،وفيهما تربية للمسلم،وتأديب له بالأدب الإلهي،ليكون لبنة صالحة في المجتمع،وهذان التوجيهان يشملان شؤون الدنيا والآخرة،ويحققان مرضاة الناس ومرضاة الله تعالى،وفيهما من الوضوح ما لا يحتاج إلى شرح وتفصيل،وفيهما من العمق والمعاني ما لا حد له،لذلك رتب القرءان عليهما النتائج العظيمة،فذكر اثنين وهما:
[1]ـ انظر تفسير ابن كثير:3/522.
[2] - سورة الحجرات:الآية:13.
[3] ـ تفسير ابن كثير:3/522.
[4] ـ سورة الفرقان ،الآية:63.
[5] ـ البخاري:4/1933ح:6138.
[6] ـ تفسير ابن كثير:3/522.
تابع...