يتبــع موضوع ......أصول الأمن الغذائي في القرآن والسنة
يأتي الإسلام – بما سن من تشريعات – ليعطي العالم كله البداية الحقيقية لحسن الاستفادة من الأرض، والعمل على الانتفاع الحقيقي من الموارد البشرية والطبيعية المتاحة، وذلك بإفساح الطريق أمام القادرين على العمل ليأخذوا مكانهم الصحيح وسط دولاب العمل، ليس عن طريق التوظيف ولكن عن طريق التمليك وشتان بين الاثنين.
(أ) إحياء الموات :
ويقصد به إحياء الأرض الموات ... وهو أن يعمد شخص إلى أرض لم يتقدم عليها ملك لأحد فيحييها بالسقي أو الغرس أو البناء فتصير بذلك ملكه ..
وسنة النبي صلى الله عليه وسلم في أمر إحياء الأرض الموات إنما هو عودة للمبدأ القديم الذي بدأت به ملكية الأرض في الدنيا .. ففي بداية تعمير الأرض عند بدء الخليفة كان المبدأ الذي يجري به العمل أن كل أرض عمرها أحد الناس وأصلح شأنها وجعلها قابلة للانتفاع فهو أحق بها، وهذا المبدأ من عطايا الفطرة البشرية .. وقد عبر الفقهاء عن استغلال قشة الأرض عن طريق تعميرها بالزرع والغرس بالإحياء اقتباساً من قول الحق تبارك وتعالى : { وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ } [يس : 33].
ثم جاءت أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم لتحفز الأفراد إلى التعمير والتنمية ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : ( من أعمر أرضاً ميتة ليست لأحد فهو أحق بها) (24).. وقال صلى الله عليه وسلم : ( من أحيا أرضاً ميتة فهي له )(25).. وقال صلى الله عليه وسلم : ( من أحاط حاطاً على أرض فهي له )(26) .. وقال عليه الصلاة والسلام : ( من سبق إلى ما لم سبقه إليه مسلم فهو له )(27).
فهذه الأحاديث وغيرها تدل على أن الإحياء وتحقيق التنمية وعمارة الأرض إنما هو هدف في حد ذاته قبل أن كون وسيلة للملكية، وأن الإسلام يستغل فطرة الإنسان التي فطره الله عليها – من حب التملك – في تحقيق الهدف المقصود، وهو إعمار الأرض والاستفادة بها ومنها ..
ولعل أهم ما يمكن تحقيقه من وراء تشريع إحياء الموات ما يلي :
(1)حفز الأفراد على العمل والقضاء على البطالة، باستغلال الطاقات المعطلة في عملية إحياء الأرض، فلو تم توجيه طاقات الشباب المتعطلين والذين يشكون من البطالة إلى هذه الوجهة لرأينا العجب العجاب، بشرط توفير البيئة المناسبة لهم وعدم قتلهم وقتل آمالهم البيروقراطية والروتين الحكومي الذي قتل كثيراً ممن قبلهم.
(2)زيادة رقعة الأرض المنتجة، وزيادة القدرة المادية والمالية للدولة(28)، وهي الهدف الذي تنشده الدول قاطبة – صغيرها وكبيرها غنيها وفقيرها – وهو ما نسعى إليه لتحسين الأوضاع الاقتصادية للعالم الإسلامي .... ففي عملية الإحياء استفادة كبيرة من الموارد الطبيعية المعطلة، واستفادة أكبر من الطاقات البشرية المعطلة وتوجيهها الوجهة السليمة.
(3)ويمكن القول : إنه بالنظر إلى المساحات الشاسعة القابلة للزراعة – والتي يتمتع بها العالم الإسلامي – فإنه يمكن للأقطار الإسلامية، أو المؤسسات المالية الإسلامية التي تملك القدرة على الإحياء والاستصلاح الزراعي، أن تقوم بهذا العمل في ظل تنسيق وتكامل اقتصادي إسلامي، متخذة من أحكام الإسلام في إحياء الموات – والتي يرجع إليها في كتب الفقه – دليلاً لها، خاصة مع وجود المساحات الشاسعة القابلة للزراعة بالرغم من ضآلة المزروع فيها.
وإذا كانت بلدان العالم الإسلامي تعاني من النقص الحاد في الحبوب الغذائية – وأهمها القمح – فإنه يمكن لها مع التخطيط الاقتصادي السليم – بعد عملية إحياء الأرض الميتة – أن يستفاد بهذه المساحات الشاسعة في تأمين الغذاء لكل مناطق وأفراد العالم الإسلامي .. ويكفي أن نعلم – على سبيل المثال – أن بالسودان وحده ما يزيد على (200) مليون فدان صالحة للزراعة، لكن تنقصها الأيدي العاملة وحسن الاستفادة والتمويل اللازم .. وهذا مثال واحد فقط، فما بالنا ببقية بلدان العالم الإسلامي ؟!!!
(ب) التحجير :
التحجير هو أن يسبق شخص إلى أرض من أراضي الموات المعطلة التي ليست لأحد فيقيم حولها سوراً، أو أحجاراً، أو حفراً، أو أية علامة، تدل على قصد إحيائها (29).فهذا الشخص المحتجر تثبت له الأحقية في الأرض التي قام بتحجيرها، ولكن يسقط حقه فيها إذا لم يقم بإحياءها خلال ثلاث سنين .. وهذا ما أكدته الروايات الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم فعن طاووس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( عادى الأرض لله وللرسول ثم لكم من بعد، فمن أحيا أرضاً ميتة فهي له وليس لمحتج حق بعد ثلاث سنين ) (30).وروى عن سلم بن عبد الله أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال – وهو على المنبر - : ( من أحيا أرضاً ميتة فهي له، وليس لمحتجر حق بعد ثلاث سنين، وذلك أن رجالاً كانوا ينجرون من الأرض ما يعلمون) (31).
والناظر في أحكام التحجير في الفقه الإسلامي يجد أن الإسلام يعمل على التنمية الزراعية، ويحث الأفراد على سرعة المبادرة إليها، وإلا ستكون حيازتهم لتلك الأرض مهددة بالسقوط إذا مرت عليها المدة الشرعية، وهي ثلاث سنوات، فتوفيت التحجير بمدة أمر له فوائد عديدة جمعتها عبارة صاحب التكملة الثانية للمجموع بأنها ( تدفع المسلمين إلى التسابق في استخراج خيرات الأرض واستنباط معادنها وإصلاح تربتها وتأهيل مهجورها وتعمير خرابها .. وذلك قوة للمسلمين وقوة لهم على عددهم، ومصادر أعمال لعاطليهم، وتوسيع رقعة مساكنهم، وما نشطت شركات الكفار وتسابقت تستعمر بلاد المسلمين إلا لتعطيلهم هذه الأحكام الشريفة، وتخلفوا عن غيرهم في مجالات التعمير والبناء لهجرهم تعاليم النبي صلى الله عليه وسلم .. وصدق الله العظيم : { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } [طه : 124].
(ج) الإقطاع الشرعي :
هو جعل بعض الأراضي الموات مختصة ببعض الأشخاص، فيصير البعض أولى بها من غيره، على ألا كون لأحد اختصاص بها، وبمعنى آخر : هو أن يمكّن الإمام فرداً أو جماعة من الانتفاع بأرض – ليست عامرة ولا يد لأحد عليها – ليحييها ويعمرها.
ومما يدل على مشروعية الإقطاع الشرعي ما يلي :
1-ما رواه أبو داود عن علقمة بن وائل عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطعه أرضاً في حضر موت ( باليمن).
2-أقطع النبي عليه الصلاة والسلام الزبير، حضر فرسه، فأجرى فرسه حتى قام ثم رمى بصوته، فقال : ( أعطوه من حيث بلغ صوته ).
3-عن بلال بن الحارث رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطعه العقيق أجمع.
4-عن ابن سيرين قال : أقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأنصار ( يقال له سلط) وكان يذكر من فضله أرضاً، قال : فكان يخرج إلى أرضه تلك فيقيم بها الأيام ثم يرجع، فيقال له : لقد نزل بعدك القرآن كذا وكذا، وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، قال فانطلق الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله : إن هذه الأرض التي أقطعتنيها قد شغلتني عنك فاقبلها مني فلا حاجة لي في شيء يشغلني عنك، فقبلها النبي صلى الله عليه وسلم فقال الزبير : يا رسول الله أقطعنيها إياه.
هذا ويلاحظ أن الإقطاع الشرعي السابق ليس من قبيل عطايا الملوك وجوائزهم، وإنما يخضع لقيود وقواعد شرعة منها :
1-إن من أقطع أرضاً وتركها ثلاث سنين ولم يعمرها بطلت قطيعته، والدليل على ذلك ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده [ عبد الله بن عمر بن العاص] أن رسول الله أقطع لأناس من مزينة، أو جهينة، أرضاً فلم يعمروها، فجاء قوم فعمروها، فخاصمهم الجهنيون، أو المزينون، إلى عمر بن الخطاب فقال : ( لو كانت مني أو من أبي بكر لرددتها، ولكنها قطيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال : من كانت له أرضاً ثم تركها ثلاث سنين فلم يعمرها فعمرها قوم آخرون فهم أحق بها).
2-إن الإقطاع يكون على حسب قدرة الشخص المقطوع له . وهذا ما قال به الفقهاء، ويؤيد ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطع بلاد بن الحارث المزني العقيق أجمع، فلما كان عهد عمر قال له : إن رسول الله لم يقطعك لتحجره على الناس، إنما أقطعك لتعمل، فخذ منها ما قدرت على عمارته ورد الباقي.
ونعتقد أن أحكام الإقطاع الشرعي السابقة لو تمت بين البلاد الإسلامية وبعضها، وبينها وبين المؤسسات المالية الإسلامية، لأسفر ذلك عن تقدم كبير خاصة في مجال الزراعة وتحقيق الأمن الغذائي لبلدان العالم الإسلامي الكبير(32).
وفي ضوء ما تقدم يمكن القول، بأنه لو تم تطبيق هدي الإسلام لرأينا زيادة كبيرة للرقعة الزراعية في بلدان العالم الإسلامي، خاصة تلك التي حباها الله تبارك وتعالى بموارد بشرية وطبيعية متميزة، ولتحولت الزيادة السكانية من شر يهدد الاقتصاد إلى خير يزيد الأمن الغذائي داخل تلك البلدان، وعندي أنه لو تم توجيه جزء من المصروفات التي تنفق على الحملات الإعلامية لتنظيم الأسرة وتحديد النسل، أقول : لو تحولت هذه المصروفات إلى إعانات للعاطلين ورفع مستواهم المهني وشراء مستلزمات الزراعة وإعطائهم الفرصة لإثبات أنفسهم عن طريق تيسير عمليات الاستصلاح الزراعي ومنحهم المكافآت وعقود التمليك، لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه الآن .. فلقد أصبح العالم الإسلامي عبئاً على العالم كله، عالم متخلف متسول غذاؤه من أهل الشمال أو أهل اليمين .. والحكمة تقول : ( من لا يملك قوته لا يملك حريته).
فهل نظل ننظر إلى المستقبل بعين واحدة، فقط إننا بحاجة إلى تصورات أفضل وأكثر تفهماً لقدراتنا الذاتية حتى يمكننا الخروج من عنق الزجاجة .. فالأرض ليست شحيحة وليست عقيماً، وإنما العقم في الأفكار والتوجهات، ثم الإصرار على الخطأ الذي نسير فيه دون محاولة لإصلاح ذلك الخطأ ..
ثانياً : الزكاة .. :
الزكاة ركن من أركان الإسلام الخمسة التي لا تقوم إلا بها وعليها، وإذا كان لكل ركن خاصية يتميز ها، فإن خاصية ( الزكاة) تتجلى في بُعدها الاقتصادي والاجتماعي، فهي تندرج في إطار العلاقة الأفقية التي تجمع بين العباد في مختلف شؤونهم الحياتية والمادية، ولا تنحصر فقط – كباقي العبادات الأخرى – ضمن العلاقة القوية التي تعنى بشؤون العباد تجاه خالقهم.
وللزكاة دورها المهم في النواحي الاقتصادية داخل الدولة ... ونتوقف هنا مع دورها في حفظ الأمن الغذائي داخل الدولة، وهو دور لو أحسن استغلاله لما رأينا في الدولة الإسلامية جائعاً ولا محروماً.
وواجب الدولة – كما يقول علماء الدين وعلماء الإسلام – هو : ( حراسة الدين وسياسة الدنيا) وإن إقامة الزكاة داخل المجتمع يدخل ضمن حراسة الدين من ناحية، وسياسة الدنيا من ناحية أخرى.
ولما كان الله سبحانه وتعالى غني عن الخلق، فإنه أمرهم أن يعطوا حقه في المال إلى عباده المحتاجين .. يقول الحق تبارك وتعالى : { وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ } [النور : 33].وعليه فقد جاء قول علماء الإسلام : ( عن حق الله في التصور الإسلامي هو حق المجتمع).
يقول الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } [التوبة : 103].وهذا خطاب عام لكل حاكم، وليس خاصاًلنبي صلى الله عليه وسلم – كما يدعي البعض –.
يقول الإمام القرطبي في تفسيره : ( أما قولهم : إن هذا خطاب للنبي، فلا يلحق به غيره، فهو كلام جاهل بالقرآن غافل عن مآخذ الشريعة متلاعب بالدين)(33).
إن الزكاة تمثل أهم الأدوات المالية لمعالجة ( مشكلة الفقر) والاحتياج، وهذا يظهر في أن 25% من الزكاة مخصص مباشرة للفقراء والمساكين، وإذا أضفنا إليهم مصارف ( المؤلفة قلوبهم) و(في الرقاب والغارمين وابن السبيل) نجد أن النسبة تصل إلى 75 % من مصارف الزكاة، وكلها موجهة لمعالجة الفقر.
ومن حكمة الله سبحانه وتعالى أن جعل الزكاة مورداً إلزامياً ثابتاً ومستمراً لا يتأثر بما يمكن لدولة توفيره من الدعم، وإذا كان مستوى الفقر يتزايد عالمياً ليصل إلى 50% من عدد السكان، فإنه هنا في مصر – كمثال للدول الإسلامية – وصل إلى 25%، وعلى الرغم من أن الدولة تخصص /12/ مليار جنيه سنوياً لمواجهة الفقر، إلا أنه يظل مبلغاً لا يكفي .. والحل هو : الزكاة .. الزكاة.
وعلى الرغم من إخراج بعض المسلمين لزكواتهم طواعية، فإنه يوجد عدد آخر لا يزكون أموالهم، مما يخل بالتوازن في مشاركة المواطنين في الأعباء المالية العامة، وهو الأمر الذي يسلتزم وجود هيئة شرعية تقوم على أمر الزكاة – من حيث جمعها وإنفاقها في المصارف الشرعة.
وقد قدرت إجمالي المبالغ التي يمكن جمعها من الزكاة، كحصيلة فعلية، بحوالي (17)مليار جنيه مصري، وهو مبلغ لا بأس به (34).فلو أمكن توجيه هذا المبلغ لخدمة الفقراء والمساكين عن طريق تدبير عمل لهم يحقق مورداً ثابتاً على الأقل لأمكن خفض نسبة الفقر بصورة كبيرة في سنوات قلائل ..
أو كما ورد في مثل صيني : ( إذا أعطيت فقيراً سمكة فأنت أطعمته ليوم واحد .. وإذا علمته الصيد فأنت تطعمه طوال الحياة).
إن ما يمكن قوله بهذا الصدد، هو ضرورة قيام مؤسسة غير حكومية بالإشراف على شؤون الزكاة، مع وضع جدول زمني للاستفادة المثلى من أموال الزكاة .. والتي سوف تزداد سنوياً ولن تقل – حتى يمكن التخلص من الفجوة الغذائية المستمرة، توصل دول العالم الإسلامي إلى مرحلة تأمين متطلباتها الغذائية المتزايدة، وهنا فقط يمكن الحديث عن زيادة سكانية فاعلة ومؤثرة، وزيادة سكانية تحقق الخير وترفع مستوى دول العالم الإسلامي ... أما أن نظل نراوح في أماكننا بحثاً عن حلول تقليدية عفا عليه الزمن، فهذا لا يجوز، بل المطلوب هو تأمين الاحتياجات الغذائية لجميع السكان، ثم يبدأ الحديث بعدها عن المشروعات العملاقة أو غيرها مما تسمعه صباح مساء دون تحقيق أي عائد ملموس !!
إن موارد الزكاة عند توزيعها تشكل للمستحقين لها طاقة شرائية تعبر عن نفسها في شكل طلب على المواد الاستهلاكية، وأهم هذه المواد هي المواد الغذائية اللازمة والأساسية لاستمرار الحياة، ولو أننا حققنا فائضاً من خلال هذا التوزيع لاستثماره في مشروعات إنتاجية صغيرة تعمل على رفع مستوى المستحقين لها اقتصادياً .. ولو خطونا خطوة أكبر ووجهنا عائدات الاستثمار في مجال أموال الزكاة إلى النواحي الزراعية واستصلاح واستزراع بعض الأراضي الزراعية، لأمكن بالفعل – وليس بالكلام – تحقيق قدر مهم من الأمن الغذائي، على الأقل لهؤلاء المستحقين لأموال الزكاة.
وعلى هذا الأساس، فإن الزكاة لا ينبغي أن تعطي أو تصرف لمستحقيها في شكل سيولة نقدية لأجل الاستهلاك المباشر فقط – وهو ما يحدث غالباً ويكرس الفقر أكثر فأكثر – بل يجب أيضاً تخصيص جزء من موارد الزكاة للاستثمار.
الزكاة بهذا لا تقدم إعانات استهلاكية فقط، بل تخلق أيضاً وحدات إنتاجية مستمرة .. وهذا ما يتوافق مع مذهب الداعين إلى إغناء الفقير العمر كله، وهي أيضاً – وفي نفس الوقت – تخفف الأعباء عن الدولة، وترفع عنها التضخم الذي تعانيه بما يمكنها من الاستثمار الأمثل لمواردها ويحقق لها في نهاية الأمر أمنها الغذائي، وهو أغنى الآمال في الوقت الحاضر(35).
ثالثاً : التنظيم الإسلامي للأسواق ومنع الاحتكار :
(أ) مبدأ الإخوة الإسلامية وآثاره :
هل يسهم منع الاحتكار في تحقيق الأمن الغذائي ... ؟ الجواب هو : نعم.
وبادئ ذي بدء، فإنه لا يمكن الحديث عن أصول الأمن الغذائي دون الاسترشاد بما قامت به الدول الكبرى في ذلك الشأن، وليس القصد من الدول الكبرى هنا – الدول الأوروبية أو أمريكا أو غيرها، ولكن القصد هنا بما قامت به الدول الإسلامية كأكبر دولة مساحة وحضارة – على مستوى التاريخ القريب.
لقد بدأت نواة الدولة الإسلامية من المدينة المنورة، تلك المدينة الصغيرة التي لم يتخيل أحد وقتها أن تكبر وتتحول إلى عاصمة لدولة الخلافة الراشدة، ثم كبرت الدولة واتسعت فتوحاتها شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، حتى قال أحد الخلفاء – وهو هارون الرشيد – وهو ينظر إلى غيمة تسير في السماء .. (أمطري حيث شئتي فسوف يأتيني خراجك).
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو : كيف وصلت الدولة الإسلامية إلى هذا المستوى من الغنى والاستقلال .. ؟
والإجابة بسيطة جداً – وتكمن في تنفيذ الأخلاقيات التي دعا إليها الإسلام في كافة شؤون الحياة من أولها إلى آخرها.ومن أهمها أخلاقيات التعامل اليومي بين الأفراد من ناحية وبين الدولة وجيرانها من ناحية أخرى، ثم إتباع ما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة من أوامر ونواهٍ ..
لقد جاءت تعاليم الإسلام في النواحي الاقتصادية واضحة قاطعة لا تحتمل أي لبس، ولكن بسبب ما حدث للأمة من تراجع عن أوامر القرآن والسنة النبوية جاءت النتائج واضحة، وهي تراجع الأمة كلها وتخلفها وتأخرها !!
وإذا كنا في الصفحات السابقة قد رأينا تنظيم الإسلام لعملية الحرث والغرس والزراعة عموماً، فإن ناتج هذه المهنة يعرض في الأسواق وتتحكم فيه ظروف العرض والطلب وظروف جلب المنتجات الغذائية إلى الأسواق الداخلية ... وقد ظهرت نظريات اقتصادية تنادي بالحرية الاقتصادية، وأن التاجر حر في أن يمنع السلعة، بل هو المتحكم في ثمن السلعة – وهذه المذاهب مذاهب مادية محضة .. أما تعاليم الإسلام فإنها تخاطب في المسلم ضميره وإيمانه ..
ولهذا .. حرم الإسلام الاحتكار .. كما سنعرض له فيما يلي :
بداية .. لا يجوز لمسلم أن يستأثر نفسه على غيره عند الحاجة، بل يقتضي إيمانه بالله تعالى أن لا يترك غيره جائعاً وهو شبعان، كما جاء ذلك في التوجيهات النبوية الشريفة ..
يقول الني صلى الله عليه وسلم : ( ليس بالمؤمن الذي يبيت وجاره إلى جنبه جائع )(36)ويقول صلى الله عليه وسلم : ( المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه) (37).
يتبـــــــــــــــــــــــع