لذلك تعذب الجاهلية المؤمنين حتى ولو لم يتعرضوا لها بسوء
تسجنهم ، تشنقهم ، تحرقهم ، تشردهم ..
فوجودهم في الأرض يضايقها ،
لأن الشيطان يحزنه أن يعبد الله في الأرض ،
كما يحزنه أن يدخل النار وحده ،
فيملي لحزبه دساتير العذاب والتنكيل بعباد الرحمان لعلهم يرتدون السير في مواكب الشيطان .
والسؤال الآن:
لماذا تعذب الجاهلية المؤمنين ؟
القرآن يقدم لنا الجواب في عدة مواضع ، و في أزمنة مختلفة من تاريخ البشرية القائم على صراع الاضداد
قتل قابيل هابيل حين لم يتقبل الله قربانه من الزرع وتقبل قربان أخيه من الماشية ،
وكان الأصوب أن يراجع ربه لماذا تقبل من أخيه ولم يتقبل منه ليقف على فساد العمل فيصلحه ،
لم يفعل ذلك بل سولت له نفسه قتل أخيه فقتله وحمل جثمانه يطوف به الأرض عرضا وطولا حتى أرسل الله له غرابا ليعلمه مهنة دفن الموتى.
و فرعون -وكم في زماننا من فراعنة - نكل بأتباع موسى ، و بالسحرة لما رأوا الحق فسجدوا مستغفرين ربهم لما بسط موسى أمامهم معجزة الله .
واليهود أرادوا حرق ابراهيم نبيهم لما أقام الحجة على بطلان أصنامهم وأراهم تفاهة ما يعبدون ،
واليهود صلبوا عيسى -وما قتلوه وما صلبوه-عليه السلام لما رأوا أنصاره يتكاثرون حوله .
والجاهلية هي التي حفرت شقا في الأرض و ملأته نارا و حطبا ، وألقوا فيه فئة من المؤمنين الموحدين أكرهوهم على عبادة الأصنام فامتنعوا و أبوا واختاروا الموت حرقا في سبيل الله ، ولم تكن جريمتهم التي استحقوا عليها هذا العقاب القاسي ، وهذه النقمة العاتية
"وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ "البروج 8
هذه هي الجريمة ان كانت هذه جريمة
جريمة الايمان بالله عزة وحمدا
ويكفي المؤمنين -كل المؤمنين- عزاء في الدنيا وفي الآخرة أن الله شهيد وشاهد يسمع ويرى ،
وهذه لمسة تطمئن قلوب المؤمنين و تهدد العتاه المتجبرين .
فالله كان شهيدا وكفى بالله شهيدا ...
يا لروعة الايمان المتعلي على الفتنة ،
والعقيدة المنتصرة على الحياة ،
والانطلاق المتجرد من أوصاف الجسم ، وجاذبية الأرض .
فقد كان في مكانة المؤمنين أن ينجوا بحياتهم في مقابل الهزيمة لايمانهم .
ولكن كم كانوا يخسرون أنفسهم في الدنيا قبل الآخرة
وكم كانت البشرية كلها تخسر..
كم كانوا يخسرون وهم يقتلون هذا المعنى الكبير:
معنى زهادة الحياة بلا عقيدة ، وبشاعتها بلا حرية ، وانحطاطها حين يسيطر الطغاة على الارواح بعد سيطرتهم على الاجساد
انه معنى كريم جدا ومعنى كبير جدا هذا الذي ربحوه وهم بعد في الارض
ربحوا وهم يجدون مس النار فتحترق أجسادهم و ينتصر هذا المعنى الكريم الذي تزكيه النار
وبعد ذلك لهم عند ربهم حساب ، ولأعدائهم الطاغين حساب ...
ان الذي حدث في الارض و في الحياة الدنيا ليس خاتمة الحادث وليس نهاية المطاف فالبقية آتية هناك ، والجزاء الذي يضع الامر في نصابه ، ويفصل فيما كان بين المؤمنين و الطاغين .
وهو مقرر مؤكد وواقع...
" إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ(10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) "البروج
معالم واضحة كنور الايمان
ومعادلات قرآنية تترجم العدل الالهي القائم في الارض و القائم في السماء
الذين يفتنون المؤمنين بسجنهم و بتعذيبهم و بتشريدهم و بحرقهم وبمصادرة أموالهم... ثم يقومون وهم على ذلك مقيمون كان من العدل الالهي زحزحتهم في النار ليذوقوا ما هو أشد من العذاب البشري والسجن والتشريد والحرق ومصادرة الأموال..
وكان المقابل ان يتنعم المؤمنون ممن حرقوا او شردوا او سجنوا ...في الحياة الدنيا على يد الطاغوت و الجاهلية .كان المقابل في العدل الالهي ان يتنعموا بجنات تجري من تحتها الانهار
" ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ"
فليبشر المؤمنون الذين تحاسرهم يد الطغيان في الدنيا وتضيق الطرق على أهليهم وتحكم المشانق و الأحبال و الأصفاد و الأغلال حول اعناقهم ومعاصمهم والجلود