الشهادة
في غزوة مؤتة في جمادي الأول سنة ثمان كان لجعفر رضي الله عنه موعدا مع الشهادة ،
فقد رأى جعفر في هذه الغزوة فرصة العمر، فاما أن يحقق فيها نصرا كبيرا لدين الله،
واما أن يظفر باستشهاد عظيم في سبيل الله ، وتقدم من رسول الله صلى الله عليه وسلم
يرجوه أن يجعل له في هذه الغزوة مكانا..
كان جعفر رضي الله عنه يعلم علم اليقين أنها ليست نزهة ، بل ولا حربا صغيرة، انما هي
حرب لم يخض الاسلام منها من قبل ، حرب مع جيوش امبراطورية عريضة باذخة، تملك من
العتاد والأعداد، والخبرة والأموال ما لا قبل للعرب ولا للمسلمين به، ومع هذا طار شوقا
اليها، وكان ثالث ثلاثة جعلهم رسول الله قواد الجيش وأمراءه..
وخرج الجيش وخرج جعفر معه ، والتقى الجمعان في يوم رهيب..
وبينما كان من حق جعفر أن تأخذ الرهبة عنده عندما بصر جيش الروم ينتظم مائتي ألف
مقاتل، فانه على العكس، أخذته نشوة عارمة اذ احس في أنفه المؤمن العزيز، واعتداد
البطل المقتدر أنه سيقاتل أكفاء له وأندادا..
وما كادت الراية توشك على السقوط من يمين زيد بن حارثة، حتى تلقاها جعفر باليمين
ومضى يقاتل بها في اقدام خارق ، اقدام رجل لا يبحث عن النصر، بل عن الشهادة...
وتكاثر عليه وحوله مقاتلي الروم، ورأى فرسه تعوق حركته فاقتحم عنها فنزل ، وراح
يصوب سيفه ويسدده الى نحور أعدائه كنقمة القدر ، ولمح واحدا من الأعداء يقترب من
فرسه ليعلو ظهرها، فعز عليه أن يمتطي صهوتها هذا الرجس، فبسط نحوها سيفه، وعقرها..
وانطلق وسط الصفوف المتكالبة عليه يدمدم كالاعصار، وصوته يتعالى بهذا الرجزالمتوهج :
يا حبذا الجنة واقترابها *** طيبة، وبارد شرابها
والروم روم، قد دنا عذابها *** كافرة بعيدة أنسابها
علي اذا لاقيتها ضرابها
وأدرك مقاتلو الروم مقدرة هذا الرجل الذي يقاتل، وكانه جيش ، وأحاطوا به في اصرار
مجنون على قتله ، وحوصر بهم حصارا لا منفذ فيه لنجاة..
وضربوا بالسيوف يمينه، وقبل أن تسقط الراية منها على الأرض تلقاها بشماله ، وضربوها
هي الأخرى، فاحتضن الراية بعضديه ، في هذه اللحظة تركزت كل مسؤوليته في ألا يدع
راية رسول الله صلى الله عليه وسلم تلامس التراب وهو حي.. فقتل وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة
وحين تكومت جثته الطاهرة، كانت سارية الراية مغروسة بين عضدي جثمانه، ونادت
خفقاتها عبدالله بن رواحة رضي الله عنه فشق الصفوف كالسهم نحوها، واخذها في قوة،
ومضى بها الى مصير عظيم..