صور من معاناة الأسرى الإداريين
طريقة لنزع الاعتراف
يزج أحيانا بالأسير الفلسطيني في أقبية التحقيق وتوجه له العديد من التهم، وإذا لم يقدم إقرارا بما تدعيه المخابرات الإسرائيلية، فمن بين الاحتمالات التي تواجهه في هذه الحالة هو تلقي بلاغ الاعتقال الإداري، ويقال له أنه سيمضي سنوات طويلة في المعتقل دون محاكمة وأنه قد يمكث ضعف المدة التي قد يُحكم بها في حالة تقديمه للاعتراف. يمارس الادعاء العام بقية دور المحقق عند كل تمديد، حيث يساوم المعتقل إما أن يعترف ويقر ببعض التهم أو يُجدد له الاعتقال الإداري إلى ما لا نهاية. وقد شهدت حقبة التسعينيات، العديد من الشواهد والأمثلة على هذا الابتزاز القاتل للأحاسيس الإنسانية.
تمديدات متوالية
لم يعد الأمر يتوقف عند قرار الاعتقال الأول، فقد يتم التمديد لمرة أو مرتين أو لما يزيد عن عشر مرات، فهناك من أمضى أكثر من 5 سنوات عبر تمديدات متكررة، ومن الأمثلة على ذلك: الأسرى احمد قطامش، عبدالعليم دعنة، رائد قادري، وليد خالد، عبدالعزيز الرنتيسي، مجدي شروف، صالح العاروري. وأما من أمضى ثلاث سنوات وسنتين فالقائمة تضم العشرات من أسمائهم.
الباب الدوار أو تصفير العداد من جديد
يعاني الأسرى في هذه الحالات من التمديدات العديدة، وبعد أن يستنفذ الإدعاء كل الذرائع الواهية للإعتقال، يتم الإفراج عن الأسير الإداري ليقضي خارج السجن فترة قصيرة لا تتجاوز الأسابيع أحيانا، بل هناك من أعيد إلى المعتقل في نفس اليوم، وقد اعتقل بمجرد وصوله إلى اقرب حاجز عسكري إسرائيلي بعد إخلاء سبيله، وقبل أن يصل إلى منزله، كالأسير عبد الهادي طه.
أحيانا ُيفرج عن الأسير ليأتيه ضابط المخابرات بعد أيام، فيقول له: الإجازة انتهت، هذا ما حدث مع صالح العاروري ومع وليد خالد، الذين أمضيا 5 أعوام رهن الاعتقال الإداري، وأُفرج عنهما ليعاد اعتقالهما مره أخرى بعد شهور قليله من الإفراج عنهما. ويتندر بعض الأسرى فيقولون: أُفرج عن فلان ستة أشهر إداري ثم عاد إلى السجن، فأصبح الإفراج هو الإقرار الإداري أما السجن فقد أصبح واقعاً مفروضاً في حياة الكثيرين.
حرب نفسية
هذا الشكل من الاعتقال يمثل ضغطاً نفسياً على الأسرى وذويهم، فعندما يمكث الأسير في السجن ولا يعلم تاريخ الإفراج الحقيقي عنه، بل زيادة في التنكيل به يُعطى تواريخ وهمية للإفراج عنه، بعد ثلاثة أشهر أو ستة أشهر مثلاُ؛ ليبقى الأسير وأسرته في حالة ترقبٍ حذر وشد أعصاب، فإذا ما جاءت اللحظة الحاسمة وقبل الإفراج المفترض بدقائق، يأتي الخبر الصاعق لتمديد مدة الإعتقال لأربعة أو خمسة أشهر جديدة. ساعتئذ يشعر الأسير بكل معاني اليأس وتتحطم أحلام الزوجة وأشواق الأطفال وتنهمر دموع الأم والشقيقات.
أكذوبة المحاكم الإدارية
وفي محاولة خادعة لتخريج أسلوب الإعتقال الإداري بصورة قانونية، تُعقد ما تسمى بالمحاكمة؛ والتي هي في الحقيقة مسرحية درامية، بل أُكذوبة تقتل المشاعر وتقضي على الأمل بتحقق النزاهة، فهي المحاكمة التي يُمنع الأهل من حضورها أولاً، ولا توجه فيها تهمة واضحة، بل كل ما يلقي به الادعاء هي الكلمة السحرية التي لا يملك المحامي أمامها حيلة، وهي (الملف سري)، فلا يدري الأسير على ماذا يُحاكم، ولا يدري المحامي عن ماذا يترافع.
وأول هذه المحاكم ما يُسمى محكمة التثبيت؛ والتي تدل من إسمها على هدفها، فبمجرد أن يتلقى الأسير قرار الإعتقال الإداري يُعرض على هذه المحكمة، لتقرر الإفراج عنه أو تثبت الحكم عليه، ولكن بما أن إسمها تثبيت يصبح الأمر واضحاً ولكن بحاجة إلى بعض الطلاء، فيقوم القاضي بتخفيض المدة شهراً أو شهرين، ليُقال أن العمل أُنجز عن طريق القانون والفضاء. ولكن ما قيمة التخفيض إذا كان التمديد التالي جاهزاً في كثير من الأحيان.
ومن فصول هذه المسرحية ما يسمى بمحكمة الاستئناف، والتي تكون بعد التثبيت، ولكن سلاح الملف السري مازال فتاكاً وناجعاً، وأفضل القضاة من يطلب تسلم الملف السري لدراسته لعدة أيام، وأحياناً لما يقارب الشهر أو الشهرين، ثم تكون النتيجة رفض الاستئناف الذي تقدم به الأسير.
والفصل الأكبر هنا ما يسمى بمحكمة العدل العليا أو لنقل محكمة الظلم العليا؛ والتي إذا ما صدر عنها رفض لمطالب الأسير، أصبح ذلك ذريعة لتمديد الإعتقال الإداري عدة مرات، بحجة انه رُفض بالعليا، لذلك يتم التلويح بالرفض مسبقاً، ليُجبر الأسير مخافة ذلك على سحب الملف والتراجع عن الترافع أمام المحكمة، باستثناء حالات نادرة جداً أُفرج فيها عن أسرى بقرارات صادرة عن هذه المحكمة.
التقصير الجوهري والمادة الجديدة
وهي انه يُعرض على الأسير ما يسمى بالتقصير الجوهري وعدم التمديد، وخصوصاً أمام محاكم الاستئناف أو ما يسمى بالعليا، وبعد تعليق الآمال وفرحة الأهل العظيمة وترقب إنهاء الأيام المتبقية من مدة الحكم الإداري، يأتي خبر التمديد الصاعق بحجة أن هناك مواد جديدة حصلت عليها المخابرات، تدين المتهم وتقضي بتمديد الحكم بحقه، وبالطبع الملف سري للغاية كما تدعي السلطات؟!
من القضية إلى الإداري ومن الإداري إلى القضية
الأسير شكري الخواجة يمضي حكمه في الأسر ثماني سنوات ونصف، وبعد الفراغ من كافة التجهيزات لاستقباله من السجن، يتم تحويله إلى الاعتقال الإداري، ليمضي 18 شهراً إضافية على الحكم السابق، ولا يدري أحد ما التهمة التي حوكم عليها من جديد؟ وهو من انقطع نشاطه قبل ثماني سنوات.
الأسير صالح العاروري ينهي حكماً امتد خمس سنوات، ليُحول بعدها ظلماً إلى الإعتقال الإداري. ثم يحول ثانية إلى المحاكمة والقضية من جديد، ثم ينهي حكمه فيُحول إلى الاعتقال الإداري حتى يمضي ما مجموعه 15 عاماً فيفرج عنه في 11/3/2007، ويُعاد اعتقاله بعد ثلاثة أشهر فقط من الإفراج عنه في 26/6/2007 ليصدر بحقه حكماً إدارياً مدته 6 شهور، وأخيراً بعد انتهاء هذا الحكم يجدد بتاريخ 22/12/2007 لمدة ستة شهور أخرى.
بمعنى آخر: لا أحد من الأسرى الإداريين يُضمن تاريخ إفراجه، وكذلك الأسير المحكوم بقضية واضحة البنود ومحددة المدة، يظل عرضة للتحويل للاعتقال الإداري ولا حاجة إلى التبرير أو الاستيضاح فهناك سلاح فتاك اسمه ملف سري.
من المُر إلى الأمر
بعد سنوات طويلة من الاعتقال الإداري ووتيرة التمديد وقتل مشاعر الأمل عند الأهل والأحباب، تأتي المساومة على الإبعاد، فإما أن تمكث في السجن إلى ما لا يعلم مدته إلا الله، أو تغادر بلادك ووطنك؟ الأمر الذي دفع بالغالبية العظمى ممن سووموا على ذلك، إلى اختيار مكابدة ظلام السجن بدلاً من معاناة ألم النفي والإبعاد عن ارض الوطن.
الاعتقال الإداري قتل للنفس وشل لنمو المجتمع
كما أن هذا الأسلوب يتفنن في تعذيب الفرد والنيل من روحه ومعنوياته، فهو يركز أيضاً على شل نمو المجتمع، خاصة إذا علمنا أنه يستهدف في الغالبية العظمى النخب الاجتماعية، كرجال السياسة وأعضاء المجلس التشريعي وناشطي العمل الاجتماعي، والعلماء والأكاديميين، وصولاً إلى أعضاء مجالس البلديات والنوادي والهيئات المحلية، إلى طلاب الجامعات ومعلمي المدارس والأطباء والمهندسين، وغيرهم.
فالإعتقال الإداري أسلوب يهدف إلى شل إمكانيات نمو المجتمع، عبر حرمانه من الكفاءات والنخب التي تعتبر لبنة أساسية في حياة الشعوب ونهضتها، وهذا يوضح السبب الحقيقي وراء استهداف هؤلاء.
حادي عشر : البوسطات
من صور المشقة والعذاب التي تنتظر الأسير الفلسطيني ما يطلق عليه البوسطة، أي الذهاب إلى المحكمة أو التنقل بين السجون. تتولى عملية النقل فرقة خاصة من فرق أمن سلطات الإحتلال، تسمى النحشون، ويمتاز أفراد هذه الفرقة بالغلظة والجلافة وإتقان أسوأ أساليب الإذلال، كالتفتيش أثناء عملية النقل؛ حيث يفتش الأسير عارياً حتى من جواربه عدة مرات أثناء اليوم الواحد، ويصاحب هذه العملية المذلة سيل من الشتائم يتطور أحيانا ليصل إلى الضرب المبرح. ولا يتم التفريق بين المرضى والأصحاء، وكبار السن والأطفال من الأسرى خلال هذه الممارسات العنيفة.
في هذه الرحلة الأليمة، يجلس الأسير في حافلة ذات مقاعد حديدية بالغة البرودة، تلتصق هذه المقاعد ببعضها البعض لدرجة إيلام الركبة والمفاصل والظهر، ولا يستطيع الأسير الجلوس في أي وضعية مريحة؛ وذلك بسبب القيود ( الكلبشات) التي توضع في اليدين والقدمين. فكلبشات اليدين تكون من نوعية خاصة، بحيث تكون اليدين في وضعية مرهقة، وملتصقتان تماماً دون أدنى مجالٍ للتحرك.
ومن طبائع وحدة النحشون، أنهم يحرصون على شد الكلبشات لتطوق المعصم والكاحل بشكل كامل، حيث يحتقن الدم في الأعضاء المقيدة لساعات طويلة، ويجلس الأسير بهذه الوضعية المرهقة داخل الشاحنة المغلقة النوافذ، إلا من فتحاتٍ صغيرة جداً لا تكاد تكفي للتنفس.
خلال هذه الرحلة يمنع الذهاب إلى الحمام أو قضاء الحاجة، ويجبر الأسرى عملياً إما على كبت أنفسهم لفترة طويلة جداً، أو قضاء حاجتهم في داخل زجاجة بشكل مهين أمام الأسرى والجنود الذين يبدؤون بالضحك والاستهزاء على الأسير، وفي بعض الأحيان قد يتعرض الأسير للضرب إذا طلب الذهاب إلى الحمام أو حتى لمجرد الكلام.
وتتواصل هذه الرحلة لينزل الأسير إلى ما يسمى بالمعبار، وهي غرف انتظار مؤقتة، يقضي فيها الأسير يومين أو ثلاثة قبل محاكمته وبعدها. وتمتاز هذه المعابر بأنها لا تصلح للإقامة البشرية، وهي تشبه علب السردين، فالغرفة التي لا تكاد تتسع لأربعة أشخاص يوضع فيها خمسة عشر أو عشرين شخصاً. وإذا كنت من سجون الجنوب ومحكمتك في سالم في أقصى الشمال أو في عوفر في الوسط تضطر لقضاء ما بين ثمانية إلى عشرة أيام في المعبار.
ويشتهر بين الأسرى اسم معبار الرملة الذي يتعوذ منه الجميع، وإذا ما ذهب الأسير إلى المحكمة هناك سيضطر بشكلٍ أو بآخر للمكوث في هذا المعبار، غرف هذا المعبار قاتمة مظلمة شديدة البرودة شتاءً عالية الحرارة صيفاً. الطعام سيء إلى درجة أن الدواب لا تكاد تسيغه، ويجبر الأسرى على تناوله بأسوأ حالة من القذارة وتراكم للأوساخ في ظروف مهينة.
ثم يصل الأسير إلى المحكمة بعد هذه المعاناة المتصلة، ليمكث ساعات طويلة مقيد اليدين والقدمين في مخادع انتظار إسمنتية (تسمى بالعبرية الامتناة)، وتعني غرفة انتظار. هذه المساحات تسمى زوراً بالغرف، إذا أنها اقرب ما تكون إلى القبور؛ حيث لا تتجاوز مساحتها مترين في متر ونصف المتر.
يوضع داخل المخدع الواحد من عشرين إلى خمسة وعشرين أسيرا، يضطرون للوقوف على مدى ساعات دوام المحكمة، أي من الصباح الباكر حتى الساعة الثالثة بعد الظهر. يقوم على حراسة هذه المخادع أفراد وحدة النحشون المذكورين سابقاً؛ الذين يمنعون الأسرى من الذهاب إلى الحمام أو حتى الصلاة.
يتم اقتياد الأسرى إلى المحكمة وهناك يُمنعون من الحديث إلى ذويهم أو حتى مجرد الإشارة إليهم، وفي بعض الأحيان يُجبر الأسرى على خفض رؤوسهم وعدم النظر إلى ذويهم؛ بحجة الأمن. ويعتدي أفراد النحشون على الأسرى وذويهم في حالة تبادلهم الكلمات أو مجرد الإشارات.
هذا بالنسبة إلى الأسرى الذين يذهبون إلى المحاكم وهم موقوفون، أما الأسرى الذين يمكثون في غرف الانتظار (المعبار) دون محاكم، فيقال لهم في النهاية أن المدعى العام غير موجود، أو أن القاضي غير متفرغ لمشاهدتهم، أو إنهم خاضوا هذه الرحلة المريرة والمعاناة المتصلة بمجرد الخطأ؛ أي أنهم أُحضروا خطأً إلى المحكمة، وتستمر هذه المعاناة بالنسبة للأسرى الموقوفين سنوات عديدة أحيانا حتى تصدر بحقهم أحكام سلطات الإحتلال.