عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 31-05-2009, 09:29 PM
الصورة الرمزية وليد نوح
وليد نوح وليد نوح غير متصل
مشرف ملتقى اللغة العربية
 
تاريخ التسجيل: Aug 2007
مكان الإقامة: الرياض
الجنس :
المشاركات: 1,482
الدولة : Syria
افتراضي رد: المقالات المشاركة في مسابقة الكتابة الذاتية ( الحلقة الثالثة )

[CENTER]



الصمت الشرس

أذن الله بولادة يوم جديد، فأطلق الفجر أول خيوطه البيضاء على تلك القرية الوادعة، لينشر صوت "الله أكبر" فوق جميع منائرها.


فتحت عينيها هبة مع التكبيرة الأولى، حتى إذا ما قال المؤذن "حي على الصلاة" تجافت عن مضجعها و هي تقول "لبيك يا رب" لتقف بين يدي الله خاشعة كما لم تخشع من قبل.


و هاهي الشمس قد أرسلت نورها لتزرع الحياة من جديد في هذه القرية الصغيرة، كما فعلت البارحة.... إلا أن صفحة هذا اليوم كان ينتظرها الكثير ليكتب فيها.



أقبلت هبة على والدها تملأ عينيها منه، قبل أن يمضي إلى عمله و قالت له: "أعدك يا أبي أن ترفع رأسك بي".... سُر الأب الحنون سروراً بالغاً لسماعه هذا الوعد من التقية النقية هبة، و تبسم وهو يسبح في بحور الخيال الواسعة.... يطوي السنين لعله يرى ابنته الحبيبة ترتدي ثياب التخرج و تحمل شهادتها بيدها، كذلك أطلقت هبة لخيالها العنان، و لكن ليمضي بها في الاتجاه الآخر، يقلب صفحات الذكريات الأليمة، حتى عثر على اليوم الذي تريد هبة أن تراه، لا حباً فيه، إنما لأن لها به شأن آخر.... يوم كانت تسير باطمئنان مع صديقاتها إلى المدرسة فعرض لها أحفاد القرود.... أهانوها و أهانوا صديقاتها لأنهن عربيات، مزقوا كتبها التي كانت تتخذها سلماً لتصعد إلى العلياء....سخروا منها، و سخروا من صمتها.... نعم صمتت هبة، لكنه كان صمتاً مختلفاً عن صمت ملايين العرب في عصر الذل....صمتت و قالت لهم في نفسها "إنا على وعد".



عادت هبة من رحلة الذكريات القصيرة لتمنح أباها الحبيب ابتسامة أخرى و تهز رأسها مؤكدة له وعدها.



مرت الساعات طويلة هذا اليوم على هبة، فقد كانت على موعد فريد... و ليس أطول من لحظات الانتظار... و ما إن استوت الشمس في قبة السماء حتى ارتدت ثيابًا لم تعتد لبسها من قبل، ثم أسبغت فوقها لباس المؤمنات الصادقات، فزادها نوراً فوق نور، و اتجهت إلى أمها المكلومة بفقد ولدها الجريح الأسير، تطمئنها بأنه لا شك عائد بإذن الله، و حبست دمعتين في عينيها كادتا تفشيان سرها، فقد أشفقت على قلب أمها، و أخذت تقلب البصر في زوايا البيت و جدرانه، ترمقه بنظرات غامضة، تعده فيها بشيء.....

قاطعتها أمها قائلة ً: إلى أين يا بنيتي؟

أجابت هبة: إلى حيث أصنع المجد، و أرتقي، و أجعلكم ترفعون رؤوسكم بي.

-إذن إلى الجامعة.... فلا تتأخري يا بنيّة.

-لا يا أمي لن أتأخر عن المجد أبداً.


كان قلبها يتفطر حزناً على جرح أمها، و لكن ثمة أمٌّ أخرى جرحها أكثر عمقاً و إيلاماً، و لا يمكن أن تتخلى عن دورها في تضميد جراحها..... فلسطين.


خرجت هبة من البيت و هي تحمل باقة من أجمل الزهور، فستحتاجها، و لن تجد وقتها من يقدمها لها. أخذت تحث الخطى خلف الخطى، فقد كانت على موعد مع الشهادة، و ما كانت لتخطئ مثل هذا الموعد....


لفت هبة على جسمها النحيل سلسلة من أصابع الموت، لتحاور بها أحفاد الخنازير، فهذه هي اللغة الوحيدة التي يفهمونها، و ستكون هبة اليوم أكثر إقناعاً.


وصلت الفتاة إلى الهدف.... سوق يعج بالمجرمين، يمتلئ بقتلة الأطفال، يزدحم بقاطعي أشجار الزيتون، و يكتظ بأعداء المسجد الأقصى.... و لكن أحد الصهاينة رأى في عينيها غير ما يراه في عيون الباحثات عن السلع و البضائع، رأى شيئاً غريباً لم يفهمه، و أنى له ذلك... أنى له أن يفهم سر بريق عينين تبحث عن سلعة الله الغالية...


صاح بها: قفي... من أنتِ؟!

صمتت هبة مرة أخرى، لينبع من هذا الصمت أبلغ الكلام...


صمتت مرة أخرى، لا كصمت ملايين العرب و المسلمين...

صمتت هبة... فكان صمتها من أعظم دروس التاريخ، تـُعطى بلا نطق.

صمتت، و مر شريط الذكريات سريعاً أمام عينيها.....أخوها الأسير و آلاف الأسرى... وأمها الحزينة و آلاف الأمهات......رأت أطفالاً يُتمت، و نساءً أيمت.. ثم رأت كتبها التي مزقها اليهود الحاقدين ذات يوم، فاستوقفت شريط الذكريات للحظة، و تذكرت كيف أنها التزمت الصمت حينها و قلبها يعتصر ألماً، و لكنه يتوعد برد قاسٍ، و ها هي اللحظة التي طالما انتظرتها قد جاءت.


صاح الدنيء مرة أخرى: من أنتِ؟ فمدت هبة يدها إلى حيث وضعت مفتاح العزة، وانطلقت تشق عنان السماء بعد أن قطعت أولئك المجرمين إرباً إرباً، و أحالتهم مِزقاً.........تماماً كما فعلوا بكتبها.

يالله كيف استطاعت أن تعطي درساً للبشرية بأسرها في لحظة.....

فعلمت الشباب آية من آيات الفداء........

و علمت المتكلمين كيف تكون ضغطة زر أبلغ من ألف خطاب..........

و علمت الصهاينة الذين مزقوا كتبها كيف يكون صمت الماجدات في غاية الشراسة، و تعلمت الأمة قاطبة أنه لا سبيل إلى ذرا المجد إلا الطريق الذي شقته و ملأته بعبقها..... هبة.



خاطرة في ذكرى العملية الإستشهادية الفدائية
للمجاهدة هبة ضراغمة


وليد نوح

الأحد في 24-5-2009

كتابة ذاتية حصرية لملتقيات الشفاء الإسلامي


التعديل الأخير تم بواسطة فاديا ; 13-05-2010 الساعة 08:23 PM.
رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 19.15 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 18.51 كيلو بايت... تم توفير 0.64 كيلو بايت...بمعدل (3.34%)]