حـديـث القـرآن عـن القـرآن
_33_
د / محمـد الـراوي
ومن حديث القرآن عن القرآن ما تضمنه قوله تعالى في سورة الأنعام ﴿ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴿114﴾ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [الأنعام: 114 ـ 115 ]
إن الميل عن الحكم بما أنزل الله قصدا وعمدا دلالة على انحراف القصد وسوء المصير .
والإعراض عنه دلالةٌ على ريب النفوس ومرض القلوب . وسوء ظن بالله وبالرسول. ﴿ وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ﴿47﴾ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ ﴿48﴾ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ﴿49﴾ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ ﴾ [النور: 47 ـ 50 ]
إن القرآن الكريم قد أُنزل ليحكم به ويرجع إليه وهو يهدي في كل شأن للتي هى أقوم ولا يأبى حكمه إلا أولئك الذين يبغونها عوجا .
ولن تستقيم حياة الناس إلا بالرضا بحكم الله والتسليم له.
وقد أمر الله الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقول لأولئك الذين يميلون إلى زخارف الشياطين ﴿ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا ﴾ معناه : قل لهم : أأميل إلى زخارف الشياطين فأبتغي غير الله حكما ؟
وفي توجيه هذا القول ما فيه من إنكار على أولئك الذين تميل قلوبهم لغير ما أنزل الله مما تمليه الشياطين وتزينه فتصرفهم عن الرضا بحكم الله والتسليم له .
إن الحكم بغير ما أنزل الله مجافاةٌ للحق وبعد عن الصراط المستقيم .
والله قد أنزل الكتاب بالحق وحفظه من التبديل والتحريف ليكون هداية للأجيال كلِّها ورحمةً للعالمين. فمن ابتغى الهدى في غيره أضله الله.
إنه القول الفصل والحكم والعدل في كل شأن من شئون الخلق .
والذين آتيناهم الكتاب من علماء اليهود والنصارى يعلمون أن القرآن منزل من ربك بالحق . وفي تقرير أن القرآن منزل من ربك بالحق فيه ما فيه من دعوة لجميع الحلق لاتباع الحق . والحق جدير أن يتبع , وأن تحذر مخالفته أو الإعراض عنه . فإن للحق نوراً وناراً فمن أبي النور فالنار موعده .
ومن علم أنه الحقُّ مدانٌ مسئول .
والكارهون للحق أو المبغضون له مأخوذون به خالدون في ناره .
﴿ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ﴾ [الزخرف : 74 ] وعلَّة خلودهم فيها كراهيتهم للحق الذي جاءهم من ربهم ﴿ لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ﴾ [الزخرف : 78 ]
فهم بسبب كراهيتهم للحق مجرمون . وهم من أجل ذلك في عذاب جهنم خالدون . ذاك هو المصير لمن كره الحق أو أعرض عنه وهو يعلم أنه الحق .
والله هو الحق وقوله الحق وقد أنزل الكتاب بالحق .
ولا نجاة إلا لمحق ولا فوز إلا لمن كان على الحق الذي أنزل الله به الكتاب وأرسل الرسل، وما هلك هالك وقد جاءه الحق من قبل وبلِّغ به وحذِّر من مخالفته ﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ﴾ [الإسراء : 15 ]
فإذا جاءت العاقبة كان الحساب بعد بيان وإعذار وابتلاء وامتحان. ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ ﴾ [فاطر : 24 ]
وإن الله الذي أرسل الرسل وأنزل الكتاب هو الذي يجمع الخلائق ويقضي بينهم وهو الذي خلقهم وهو الذي أحياهم ثم يميتهم ثم يجمعهم إلى يوم القيامة لا ريب فيه .
وفي يوم الجمع القول للحق . والباطل مدان . والقضاء بين جميع الخلق ولا شفاعة إلا لمن شهد بالحق .
وإذا تأملنا في أمر الفريقين ـ من أهل الجنة وأهل السعير ـ وتدبرنا حالهم لم نجد إلا الحق سببا فيما وصلوا إليه . وصاروا إليه . إن كانوا محقٍّين فبالحق أدخلوا في رحمة ربهم . والجنة حق . وإن كانوا مبطلين فمن أجل الحق الذي كرهوه وأنكروه ـ آوتهم النار ـ وهى حق .
وما ظنوه بعيداً وجدوه قريبا. وما لم يكونوا مستيقنين وجدوه يقينا وذاك ما جاء به الكتاب مفصلا إعذارا وإنذارا .
﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ ﴾ [محمد : 3 ]