ثانياً :
حفظ القرآن الكريم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
يتجاهل بعض المستشرقين تماماً حقيقة واضحة وهي "قداسة القرآن" بالنسبة للمسلمين، فالقرآن بالنسبة للمسلمين هو كتاباً إلهياً مقدساً، أنهم يتعجبون من وصوله إلينا بهذه الطريقة وبهذه الكيفية، ويتعمدون تزوير التاريخ ليس لإثبات حقائق ولكن لتشكيك المسلمون في كتابهم، ويقولون كيف أن كتاباً كهذا لم يتم تعديل حرفاً واحداً به طوال هذه المدة، والنقطة الأساسية التي يتحدثون عنها هي جمع القرآن.
فكل الدلائل تشير إلى أن المصحف العثماني، هو بذاته ما يطبع في أيامنا هذه، بنفس الرسم العثماني، مضافاً إليه التشكيل والتنقيط، وأحياناً إيضاحات تجويدية، هو ما تم إضافته كما سنوضح فيما بعد، إذن فما سيفضلون الإتجاه إليه هو مرحلة ما قبل المصحف العثماني.
كان القرآن الكريم ومازال أهم أساس في الإسلام وقد كانت تلاوة ما تيسر منه جزءاً جوهرياً من الصلوات اليومية عامة أو خاصة، وكان القيام بهذه التلاوة فرضاً وسنة يجزي من يؤديهما جزاء دينياً صالحاً. وذلك كان جماع الرأي في السنة الأولى، وهو ما يستفاد كذلك من الوحي نفسه. لذلك وعت القرآن ذاكرة كثرة من المسلمين الأولين إن لم يكونوا جميعاً. وكان مبلغ ما يستطيع أحدهم تلاوته بعض المميزات الجوهرية في العهد الأول للإسلام.
لماذا حفظ الصحابة القرآن ؟
جاء في صفة هذه الأمة عن وهب بن منبه:"أمة أناجيلهم في صدورهم"، بخلاف أهل الكتاب، فقد كانوا يقرءون كتبِهم نظرًا، لا عن ظهر قلب.
وقد تظاهرت الأدلة على فضل حفظ القرآن الكريم، وفضل حفظته على غيرهم من الْمسلمين، فمن ذلك:
1.علوُّ منزلة حَافظ القرآن، الْماهر به، فعَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَثَلُ الَّذِي يَقْرأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ حَافِظٌ لَهُ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَمَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَهُوَ يَتَعَاهَدُهُ، وَهُوَ عَلَيْهِ شَدِيدٌ، فَلَهُ أَجْرَانِ.
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ إِذَا دَخَلَ الْجَنَّةَ: اقْرَأْ وَاصْعَدْ، فَيَقْرَأُ، وَيَصْعَدُ بِكُلِّ آيَةٍ دَرَجَةً، حَتَّى يَقْرَأَ آخِرَ شَيْءٍ مَعَهُ.
2.وما ورد من أن حافظ القرآن لا تحرقه النار، فعن عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قال: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَوْ أَنَّ الْقُرْآنَ جُعِلَ فِي إِهَابٍ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ مَا احْتَرَقَ.
قال ابن الأثير: وقيل الْمعنى: مَن علَّمهُ اللهُ القرآنَ لم تحرقْهُ نارُ الآخرةِ، فجُعِلَ جسمُ حافظ القرآن كالإهاب له.. (والإهاب في قاموس المحيط هو الجلد للكتاب).
3.ومنه تشفيعه في أهله، فعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَحَفِظَهُ أَدْخَلَهُ اللهُ الْجَنَّةَ، وَشَفَّعَهُ فِي عَشَرَةٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ كُلُّهُمْ قَدِ اسْتَوْجَبَ النَّارَ.
4.ومن ذلك أيضًا أن أهل القرآن هم أهل الله وخاصته، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : إِنَّ للهِ أَهْلِينَ مِنَ النَّاسِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ هُمْ؟ قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ، أَهْلُ اللهِ وَخَاصَّتُهُ.
5.وكذلك إكرام والدي حافظ القرآن، وإعلاء منزلتهما، فعَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ الْجُهَنِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ، وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ، أُلْبِسَ وَالِدَاهُ تَاجًا يَوْمَ الْقِيامَةِ، ضَوْءهُ أَحْسَنُ مِنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ فِي بُيُوتِ الدُّنْيَا - لَوْ كَانَتْ فِيكُمْ، فَمَا ظَنُّكُمْ بِالَّذِي عَمِلَ بِهَذَا؟
6.ومن ذلك أيضًا أن حملة القرآن مقدمون على أهل الجنة، قَالَ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ: حَمَلَةُ الْقُرْآنِ عُرَفَاءُ أَهْلِ الْجَنَّةِ.
وعن طاوس أنه سأل ابن عباس - رضي الله عنهما: ما معنى قول الناس: أهل القرآن عرفاء أهل الجنة ؟ فقال: رؤساء أهل الجنة.
وقد يسرت عادات العرب هذا العمل، فقد كانوا ذوي ولع بالشعر عظيم. ولما كانت الوسائل لتحرير ما يفيض عن شعرائهم في غير متناول اليد، فقد أعتادوا أن ينقشوا هذه القصائد كما كانوا ينقشون ما يتعلق بأنسابهم وقبائلهم على صفحات قلوبهم، والتاريخ يروي لنا كيف كان العرب يحفظون آلاف الأبيات من الشعر بسرعة فائقة، ولديهم القدرة الفائقة على إستعادتها بذات كلامها وإعرابها.
بذلك نمت ملكة الذاكرة غاية النمو، ثم تناولت القرآن بكل ما أدت إليه يقظة الروح إذ ذاك من حرص وإقبال. ولقد بلغ بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من قوة الذاكرة ودقتها ومن التعلق بحفظ القرآن وإستذكاره حداً إستطاعوا معه أن يعيدوا بدقة يقينية كل ما عرف منه إلى يوم كانوا يتلونه.
هذه الذاكرة، وهذه الرغبة العارمة في حفظ المسلمين أنفسهم بكتاب الله، جعلت المسلمين في أي زمان لديهم ذات الرغبة في حفظ الكتاب، حتى أن في يومنا هذا يوجد حوالي 9 مليون قارئاً للقرآن يحفظون آياته ويستطيعون تلاوته عن ظهر قلب،وهؤلاء الحفظة إذا تتبعنا طريقة حفظهم، نجدهم يتجهون لحفظة القرآن وليس للمصحف الشريف، وذلك معناه أن كل حافظ للقرآن الكريم يحفظه من حافظ له، وهكذا حتى نصل إلى حفظة القرآن الأوائل من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمعنى آخر أن حفظ القرآن يورث من حافظ لحفظة، ولو أن تعديلاً طرأ في الكتاب الجامع للقرآن (المصحف الشريف) لكان ظهر عند قرآة حفظة القرآن لقرآنهم المختلف !!
أما البقية الباقية من المسلمين من غير حفظة القرآن فإنهم يحفظون أجزاءاً كبيرة تتراوح من القرآن كاملاً إلى أدنى جزء من القرآن. ومع إعتبار أن نسبة 18% فقط من عدد المسلمين في العالم من العرب (أي حوالي 270 مليون عربي) وهؤلاء قدرتهم على حفظ القرآن أعلى بكثير من قدرة غير العرب فإن عدد حفظة القرآن الكريم بالنسبة لمتقني اللغة العربية يصبح 3.34%، أي من كل ثلاثمائة فرد يتقن اللغة العربية يوجد عشرة أفراد يحفظون كتاب الله (كاملاً) عن ظهر قلب، وباقي العدد يحفظون ما تيسر منه. وذلك في أيامنا هذه، فما بالك بأيام النبوة الأولى، وآيات الكتاب تتوالي في النزول، ويحفظونها آية بآية، بل ويتفاخرون بحفظهم لكتاب الله، وذلك يؤكد لنا تأكيداً كبيراً بإن عدد حفظة القرآن في تلك الأيام كان كبيراً جداً.
هل حفظ النبي صلى الله عليه وسلم القرآن ؟
كان العرب قبل الإسلام أمَّةً أمِّـيَّةً، لا تقرأ ولا تكتب، والأمي (هو الذي لا يكتب ولا يقرأ، أو منسوب إلى الأم، كأنه باقٍ على حالته التي وُلد عليها، أو على أنه أشبه بأمه منه بأبيه، إذ إن نساء العرب ما كن يعرفن القراءة والكتابة، ووصف النبي صلى الله عليه وسلم بالأمي إما على أحد الْمعاني السابقة، أو على أنه منسوب إلى أمة العرب، وهي الأمة الأمية، وكانوا في الجاهلية لا يعرفون القراءة والكتابة إلا النادر، ولذلك كان أهل الكتاب يصفونهم بالأميين، أو على أنه منسوب إلى أم القرى - شرفها الله. القاموس الْمحيط ص 1392، والجامع لأحكام القرآن) وهو إنما يعتمد في حفظ ما يحتاج إلى حفظه على ذاكرته، فليس ثَمَّ كتابٌ يحفظ عليه ما يريد حفظه، وقد كان العرب يحفظون في صدورهم ما يحتاجون إلى حفظه من الأنساب والحقوق والأشعار والخطب.
ولما بُعِثَ النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأمة كانت إحدى آيات ودلائل نبوته أنه أميٌّ؛ حتى لا يتطرق إلى أوهام من يدعوهم أن دعوته مبنية على علمٍ حصَّله من مُعَلِّمٍ، كما قال صلى الله عليه وسلم : (وَمَا كُنْتَ تَـتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِنِكَ إِذًا لاَرْتَابَ الْمبْطِلُونَ ).
فلما كان النبي صلى الله عليه وسلم أُمِّـيًّا، فلا غروَ كان كذلك يعتمد على ذاكرته في الحفظ، فلما شرَّفه الله بالرسالة، وكان القرآن الكريم آيته التي تحدى بِها الناس كافة والعرب خاصةً - كان شديد الحرص على حفظ القرآن حال إنزاله - وهو من أشد الأحوال عليه، حتى لقد كان صلى الله عليه وسلم يعاني مشقة عظيمة لتَعَجُّلِهِ حفظَ القرآن الكريم، مخافة أن ينساه، حتى أنزل الله عليه ما يثبت به فؤاده، ويُطَمْئِنُهُ أن القرآن لن يَتَفلَّتَ منهُ:
قال الله : ( لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ! إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ! فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ).
فطمأنه الله تعالى أن حفظ وبيان القرآن إليه ، وأمره أن ينصت إلى الوحي، كما قال : (وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا ).
قال الحافظ ابن حجر: ولما كان من أصل الدين أن الْمبادرة إلى أفعال الخير مطلوبةٌ، فنُـبِّه على أنه قد يَعترضُ على هذا الْمطلوب ما هو أجَلُّ منهُ، وهو الإصغاء إلى الوحي، وتَفَهُّمُ ما يَرِدُ منه، والتشاغل بالحفظ قد يَصُدُّ عن ذلك، فأُمِرَ ألاَّ يُبَادر إلى التحفظ ؛ لأن تحفيظه مضمونٌ على ربه.
عن سعيد بن جبيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - فِي قَوْلِهِ تعالى: (لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ )قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعَالِجُ مِنَ التَّنْزِيلِ شِدَّةً وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَنَا أُحَرِّكُهُمَا لَكُمْ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُحَرِّكُهُمَا، وَقَالَ سَعِيدٌ: أَنَا أُحَرِّكُهُمَا كَمَا رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يُحَرِّكُهُمَا، فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللهُ تعالى: (لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ! إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ )قَالَ: جَمْعُـهُ لَكَ فِي صَـدْرِكَ وَتَقْرَأَهُ، (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ )قَالَ: فَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ، (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ تَقْرَأَهُ.
فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ اسْتَمَعَ فَإِذَا انْطلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَمَا قَرَأَهُ.
وظاهر السياق يحتمل أن يكون إنما كان يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ للمشقة التي كان يجدها صلى الله عليه وسلم عند نزول الوحي، فكان يتعجل بأخذه لتزول الْمشقة سريعًا.
وفي روايةٍ أخرى عند البخاري: كان يُحَرِّكُ به لسانه مخافة أن ينفلت منه.
فهذه الرواية صريحةٌ في أن سبب الْمبادرة هو خشية النسيان، أي كان يحرك لسانه لئلا يفلت منه حرف أو تضيع منه لفظة.
وعن الشَّعْبِيِّ في هذه الآية: (لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ )قال: كان إذا نزل عليه الوحي عَجِلَ يتكلم به من حُبِّه إيَّاه.
وهذه الرواية تدل على أن سبب الْمبادرة هو حب الرسول صلى الله عليه وسلم للقرآن، وحب الشيء يستلزم الخوف عليه، والخوف من ذهابه عنه.
قال الحافظ ابن حجر: ولا بُعْدَ في تعَدُّدِ السببِ.
ويُمكن أن نستخلص مِمَّا سبق بواعث حفظ النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن الكريم، وهي:
1 - أنه الْمبلِّغ عن ربه تعالى، والحفظ ضروري للبلاغ على الوجه الأكمل الذي أمره الله به.
2 - حب النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن الكريم.
3 - خوف نسيان القرآن.
4 - التوثُّق للقرآن، والتحري في ضبط ألفاظه وحفظ كلماته.
أونسي النبي صلى الله عليه وسلم أو أسقط عمداً شيئاً القرآن ؟
كعادة المستشرقين يحاولون دائماً تحريف الكلم عن مواضعه، وكلما أطفأت أكذوبة بحجة، جاءوك بأكذوبة آخرى، لأنهم لا يبغون إلا الفتنة، فقد شكَّك بعضهم في الأصل الذي قامت عليه كتابة القرآن الكريم وجمعه، وهو حفظ النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن بدعوى جواز النسيان على النبي صلى الله عليه وسلم ، واستدلوا على ذلك بدليلين:
الأول: قوله تعالى في سورة الأعلى الآية 6 : (سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى ! إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ ).
فزعموا أن الآيات تدل - بطريق الاستثناء - على أن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد أسقط عمدًا أو أُنسي آيات لم يتفق له من يذكره إياها، وتدل أيضًا على جواز النسيان على النبي صلى الله عليه وسلم .
والثاني: ما روى البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللهُ عَنْهَا قَالَتْ سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَارِئًا يَقْرَأُ مِنَ اللَّيْلِ فِي الْمسْجِدِ فَقَالَ: يَرْحَمُهُ اللهُ، لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا آيَةً أَسْقَطْتُهَا مِنْ سُورَة كَذَا وَكَذَا. وفي رواية: أُنْسِيتُها.
فزعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط عمدًا بعض آيات القرآن، أو أُنسِيَها.
وعلى الرغم من سخف دعواهم، وعدم إستنادها إلى فهم صحيح لمعاني الآيات والأحاديث، ألا أنني كما ذكرت سابقاً أخاطب الإنسان المسلم، الذي يسمع لتلك الأكاذيب، لأبين له صحة موقف الإسلام، فالإسلام ليس لديه ما يخفيه، أو يخجل منه، دين بسيط، تاريخ واضح، قرآن كريم نزل من عند الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
فيجاب على أكذوبتهم الأولى عن الآية الكريمة والتي إستدلوا منها على جواز نسيان النبي صلى الله عليه وسلم بعض القرآن:
أولاً: بأن قوله : ( سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى ) وعدٌ كريمٌ بعدم نسيان ما يقرؤه من القرآن، إذ إن (لا) في الآية نافية، وليست ناهية، بدليل إشباع السين، فأخبر الله فيها بأنه لا ينسى ما أقرأه إياه.
وقيل (لا) ناهيةٌ، وإنما وقع الإشباع في السين لتناسب رءوس الآي، والقول الأول أكثر.
قال القرطبي بعد أن ذكر القولين: والأول هو الْمختار ؛ لأن الاستثناء من النهي لا يكاد يكون إلا مؤقتًا معلومًا، وأيضًا فإن الياء مثبتة في جميع الْمصاحف، وعليها القراء.
ومعنى الآية على هذا: سنعلمك القرآن، فلا تنساه أو (لن تنسى القرآن لأننا سنعلمه لك)، فهي تدل على عكس ما أرادوا الاستدلال بِها عليه.
ثانيًا: إن الاستثناء في الآية معلق على مشيئة الله إياه، ولم تقع الْمشيئة، بدليل ما مر من قوله تعالى إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ )، ولأن عدم حصول الْمعلق عليه يستلزم عدم حصول الْمعلق، ويستحيل أن تتعلق مشيئة الله بعدم بلوغ رسالته.
ثالثًا: الاستثناء في الآية لا يدل على ما زعموا من أنه يدل على إمكان أن ينسى صلى الله عليه وسلم شيئًا من القرآن، وفي الْمراد بِهذا الاستثناء قولان:
القول الأول: أن الاستثناء صوريٌّ لا حقيقيٌّ، فهو للتبرك، وليس هناك شيءٌ استُثني. قال الفراء: لم يشأ أن ينسى شيئًا، وهو كقوله: (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك) ولا يشاء، وأنت قائل في الكلام: لأعطينَّك كل ما سألتَ إلا ما شئتُ، وإلا أن أشاءَ أن أمنعك، والنية ألا تمنعه، وعلى هذا مجاري الأيمان، يُستثنى فيها، ونية الحالف التمام.
وقيل إن الحكمة في هذا الاستثناء الصوري أن يعلم العباد أن عدم نسيان النبي صلى الله عليه وسلم القرآن هو محض فضل الله وإحسانه، ولو شاء تعالى أن ينسيه لأنساه، وفي ذلك إشعارٌ للنبي صلى الله عليه وسلم أنه دائمًا مغمور بنعمة الله وعنايته، وإشعار للأمة بأن نبيهم مع ما خُصَّ به من العطايا والخصائص لم يخرج عن دائرة العبودية، فلا يُفْتَنُون به كما فُتِنَ النصارى بالْمسيح صلى الله عليه وسلم .
القول الثاني: أن الاستثناء حقيقي، وأن الْمراد به منسوخ التلاوة فيكون الْمعنى أن الله تعالى وعد بأن لا ينسى نبيه صلى الله عليه وسلم ما يقرؤه، إلا ما شاء - سبحانه - أن ينسيه إياه بأن نسخ تلاوته لحكمة، أو على أن الْمراد به الترك، أو ما يعرض للإنسان بحكم الجبلة البشرية، أو لأجل تعليم الناس وتبيين السنة لهم.
عن الحسن وقتادة (إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ): أي قضى أن تُرفع تلاوته.
وعن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما: إلا ما أراد الله أن ينسيكه لتَسُنَّ.
وقال الطبري: وقال آخرون: النسيان في هذا الْموضع: الترك، قالوا: ومعنى الكلام: سنقرئك يا محمد، فلا تترك العمل بشيء منه، إلا ما شاء الله أن تترك العمل به مِمَّا ننسخه.
وعلى هذين القولين فلا تعلق لأصحاب تلك الشبهة بِهذه الآيات، إذ لا يفهم منها أن النبي قد نسي حرفًا واحدًا مِمَّا أمر بتبليغه.
ثم نتحدث عن الحديث الشريف وعن زعمهم حوله:
أولا: أن الحديث الذي أوردوه لا ينهض حجةً لهم فيما زعموا من الشكّ في الأصل الذي قامت عليه كتابة القرآن وجمعه، إذ إن الآيات التي أنسيها النبي صلى الله عليه وسلم ثم ذكرها كانت مكتوبة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانت محفوظة في صدور أصحابه الذين تلقوها عنه، والذين منهم هذا الذي ذكَّرَه، وإنما غاية ما فيه الدلالة على أن قراءة ذلك الرجل ذكرت النبيَّ صلى الله عليه وسلم بالآيات، وكان قد أُنسيها، أو أسقطها نسيانًا، وليس في الخبر إشارة إلى أن هذه الآيات لم تكن مِمَّا كتبه كتَّاب الوحي، ولا ما يدل على أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا نسوها جميعًا، حتى يخاف عليها الضياع.
ثانيًا: أن روايات الحديث لا تفيد أن هذه الآيات التي سمعها الرسول من أحد أصحابه كانت قد انمحت من ذهنه الشريف جملةً، بل غاية ما تفيده أنَّها كانت غائبة عنه ثم ذكرها وحضرت في ذهنه بقراءة صاحبه، وليس غيبة الشيء عن الذهن كمحوه منه، فالنسيان هنا بسبب اشتغال الذهن بغيره، أما النسيان التام فهو مستحيل على النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لإخلاله بوظيفة الرسالة والتبليغ.
قال الباقلاني وإن أردت أنه ينسى القدرَ الذي ينساه العالْم الحافظُ بالقرآن، الذي لا يُنسَب صاحبه إلى بلادةٍ، فإن ذلك جائز بعد أدائه وبلاغه، والذي يدل على جوازه أنه غير مفسدٍ له، ولا قادح في آياته، ولا مفسد لكمال صفاته، ولا مسقط لقدره، ولا منزل له عنه، ولا معرضٍ بتهمته.
ثالثًا: أن قوله صلى الله عليه وسلم: ( أسقطتها ) مفسرةٌ بقوله في الرواية الأخرى: ( أُنْسِيتُها )، فدل على أنه صلى الله عليه وسلم أسقطها نسيانًا لا عمدًا، فلا محل لما أوردوه من أنه قد يكون أسقط عمدًا بعض آيات القرآن.
قال النووي: قوله صلى الله عليه وسلم : "كنت أُنْسِيتُها" دليل على جواز النسيان عليه صلى الله عليه وسلم فيما قد بلَّغه إلى الأمة.
وترد هنا مسألة وقوع النسيان من النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي الْمسألة الآتية.
ثم نتحدث أخيراً عن وقوع النسيان من النبي صلى الله عليه وسلم وهو يكون على قسمين:
الأول: وقوع النسيان منه صلى الله عليه وسلم فيما ليس طريقه البلاغ.
فهذا جائز مطلقًا لما جُبل عليه صلى الله عليه وسلم من الطبيعة البشرية.
والثاني: وقوع النسيان منه صلى الله عليه وسلم فيما طريقه البلاغ.
وهذا جائز بشرطين:
الشرط الأول: أن يقع منه النسيان بعد ما يقع منه تبليغه، وأما قبل تبليغه فلا يجوز عليه فيه النسيان أصلاً.
قال النووي في شرح قوله صلى الله عليه وسلم : "كنت أُنْسِيتُها": دليل على جواز النسيان عليه صلى الله عليه وسلم فيما قد بلَّغه إلى الأمة.
الشرط الثاني: أن لا يستمر على نسيانه، بل يحصل له تذكره: إما بنفسه، وإما بغيره.
وقال القاضي عياضٌ - رحمه الله: جمهور الْمحققين على جواز النسيان عليه صلى الله عليه وسلم ابتداءً فيما ليس طريقه البلاغ، واختلفوا فيما طريقه البلاغ والتعليم، ولكن من جوز قال: لا يُقَرُّ عليه، بل لا بد أن يتذكره أو يُذَكَّره.
ونسيان النبي صلى الله عليه وسلم لشيء مِمَّا طريقه البلاغ يكون على قسمين أيضًا:
قال الإسماعيلي: النسيان من النبي صلى الله عليه وسلم لشيء من القرآن يكون على قسمين:
أحدهما: نسيانه الذي يتذكره عن قربٍ، وذلك قائم بالطباع البشرية، وعليه يدل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود في السهو: إنَّما أنا بشرٌ مثلكم أنسى كما تنسون.
وهذا القسم عارضٌ سريع الزوال، لظاهر قوله : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ).
والثاني: أن يرفعه الله عن قلبه على إرادة نسخ تلاوته، وهو الْمشار إليه بالاستثناء في قوله تعالى: (سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى! إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ)، على بعض الأقوال.
وهذا القسم داخل في قوله : (مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا ).
وزعم بعض الأصوليين وبعض الصوفية أنه لا يقع منه النسيان في شيء أصلاً، وإنما يقع منه صورته، ليَسُنَّ.
قال القاضي عياضٌ: وهذا تناقض مردودٌ، ولم يقل بِهذا أحد مِمَّن يقتدى به، إلا الأستاذ أبو الْمظفر الإسفراييني من شيوخنـا، فإنه مال إليه ورجحـه، وهو ضعيفٌ متناقض.
---------------------------------
الخلاصة
1.أن القرآن الكريم لقي من المسلمين الأوائل ما يليق به من العناية بالحفظ والنقل، فكان ذلك مصداقًا لقوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ).
2.أنه قد قام بحفظ القرآن من الصحابة رضي الله عنهم في زمن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم مَن لا يُحصَى كثرةً، فتجاوز عدد الحفاظ بذلك عدد التواتر، الذي يثبت به نقل القرآن ثبوتًا قطعيًّا.
3.أن جمع القرآن بإطلاقاته الثلاثة، وهي الحفظ في الصدور، وترتيب الآيات والسور، والتدوين بالكتابة قد حصل في عهد النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم.
4.أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أولى القرآن الكريم بعناية عظيمة، وأمر بتدوينه، وأن القرآن كتب كله بين يديه صلى الله عليه وسلم.
5.أن ما أثبت في العرضة الأخيرة للقرآن على جبريل هو القرآن المنَزل، وأنه قد نسخ فيها بعض القرآن.
يتبع
التعديل الأخير تم بواسطة مسلمه اون لاين ; 30-04-2006 الساعة 03:15 PM.
|