ومن الآيات التي بشرت النبي صلى الله عليه وسلم بأن العافية ستكون له ولأتباعه، كما كانت للأنبياء السابقين وأتباعهم قوله تعالى: [{كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } (سورة المجادلة: 21)]
وقوله سبحانه: [{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ "171" إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ "172" وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ "173"} (سورة الصافات: الآيات 171 ـ173)]
[{إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } (سورة غافر: الآية 51)]
11- كذلك من أهداف القصة في القرآن الكريم: الاعتبار والاتعاظ. قال تعالى: [{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }]
وهذه الآية الكريمة هي الآية الأخيرة التي ختم الله تعالى بها سورة يوسف عليه السلام، التي اشتملت على أحسن القصص وأحكمه وأصدقه وأشده أثرا في النفوس .. أي: لقد كان في قصص أولئك الأنبياء الكرام، وما جرى لهم من أقوامهم، عبرة وعظة لأصحاب العقول السليمة، والأفكار القويمة، بسبب ما اشتمل عليه هذا القصص من حكم وآداب وإرشادات. وما كان هذا الذي قصصناه حديثا مختلقا أو كاذبا، وإنما هو حديث لحمته وسداه الصدق الذي لا يحوم حوله الكذب، والتأييد لما صح من الكتب السابقة التي امتدت إليها أيدي الفاسقين بالتحريف والتبديل، والتفصيل والتوضيح للشرائع السابقة، والهداية والرحمة لقوم يؤمنون به، ويعملون بما فيه من أمر أو نهي.
والعبر والعظات التي نأخذها من قصص القرآن الكريم، لها صور شتى منها: بيان حسن عاقبة المؤمنين، الذين ثبتوا على الحق، وابتعدوا عن الباطل، وتابوا إلى الله تعالى توبة صادقة، وشكروا الله تعالى على نعمه، بأن استعملوها فيما يرضيه لا فيما يسخطه.
ونرى نماذج لذلك في قصة سليمان عليه السلام الذي آتاه الله تعالى ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، فلم يبطره هذا الملك، ولم يشغله عن ذكر الله تعالى بل قال كما حكى القرآن عنه "هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر".
ونرى نماذج لذلك في قصة ذي القرنين، الذي مكن الله تعالى له في الأرض، فاستعمل ما آتاه الله من قوة في الخير لا في الشر، وفي الإصلاح لا في الإفساد.
ونرى نماذج لذلك في قصة أصحاب الكهف، الذين آمنوا بربهم، وزادهم الله تعالى إيمانا على إيمانهم، بسبب ثباتهم على الحق.
نرى نماذج لذلك في قصة قوم يونس عليه السلام الذين استجابوا لدعوة الحق، وصدقوا نبيهم فيما أخبرهم به، وأخلصوا دينهم لله تعالى.
[{فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } (سورة يونس: الآية 98)]
والمعنى: فهلا عاد المكذبون إلى رشدهم وصوابهم، فآمنوا بالحق الذي جاءتهم به رسلهم، فنجوا بذلك من العذاب، كما نجا منه قوم يونس عليه السلام بسبب ندمهم على ما فرط منهم، وإيمانهم إيمانا صادقا، وتوبتهم توبة نصوحاً، فعاشوا آمنين إلى حين انقضاء آجالهم في هذه الدنيا ..
12- ومنها: بيان سوء عاقبة المكذبين، الذين أصروا على كفرهم، ولم يستمعوا لنصائح أنبيائهم، واستحبوا العمى على الهدى، وجحدوا نعم الله تعالى واستعملوها في المعاصي لا في الطاعات.
ونرى نماذج لذلك في قصة قارون الذي آتاه الله تعالى من النعم ما أتاه، فلم يشكر الله تعالى على نعمه، بل قال بكل غرور وصلف: "إنما أوتيته على علم عندي".
كما نرى نماذج لذلك في قصة أهل سبأ الذين قال الله تعالى في شأنهم: [{لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ "15" فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ "16" ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ "17"} (سورة سبأ: الآيات: 15 ـ 17)]
ولفظ "سبأ" في الأصل: اسم لرجل ينتهي نسبه إلى أول ملك من ملوك اليمن، والمراد به هنا: الحي أو القبيلة المسماة باسمه، وكانوا يسكنون بمأرب على مسيرة ثلاثة أيام من صنعاء.
والمعنى: لقد كان لقبيلة سبأ في مساكنهم، علامة واضحة على فضل الله مساكنهم والثاني عن شمالها .. وقال الله تعالى لهم على ألسنة الصالحين منهم: "كلوا من رزق ربكم واشكروا له" نعمه، فأنتم تسكون في بلدة طيبة، فيها كل ما تحتاجونه، وقد منحها لكم الله الرحيم بكم، الغفور لذنوبكم، فاشكروه على ذلك.
"فأعرضوا" أي: فأعرضوا عن نصح الناصحين، وجحدوا نعم الله، فكانت نتيجة ذلك، أن أرسل الله تعالى عليهم السيل المدمر، وتحولت البساتين اليانعة إلى أماكن ليس فيها سوى الثمار والأشجار التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
هذا الذي فعلناه بهم، سببه جحودهم وبطرهم، ومن سنتنا أننا لا نعاقب بهذا العقاب الرادع إلا من جحد نعمنا، وفسق عن أمرنا.
والمتدبر للقرآن الكريم يراه قد ساق لنا كثيرا من قصص الجاحدين، ثم بين لنا سوء مصيرهم. ومن ذلك أنه سبحانه بعد أن ذكر لنا جانبا من قصص نوح وإبراهيم ولوط، وشعيب، وهود، وصالح وموسى .. مع أقوامهم، عقب على ذلك بقوله تعالى: [{فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } (سورة العنكبوت: 40)]
أي: فكلا من هؤلاء المذكورين كقوم نوح وإبراهيم ولوط .. أخذناه وأهلكناه، بسبب ذنوبه التي أصر عليها ولم يرجع عنها. فمنهم من أرسلنا عليه "حاصبا" أي ريحا شديدة رمته بالحصاة كقوم لوط عليه السلام.
ومنهم من أخذته الصيحة الشديدة المهلكة كقوم صالح وشعيب عليهما السلام ومنهم من خسفنا به الأرض وهو قارون.
ومنهم من أغرقناه كما فعلنا مع قوم نوح ومع فرعون وقومه. وما كان الله تعالى مريدا لظلمهم، ولكنهم هم الذين ظلموا أنفسهم، وأوردوها موارد المهالك، بسبب إصرارهم على كفرهم وجحودهم.
هذه بعض الأهداف والمقاصد التي من أجلها ساق القرآن ما ساق من قصص، امتاز بسمو غايته، وشريف مقاصده، وعلو مراميه.
13- وكان للقصة أغراض أخرى متفرقة :
منها : بيان قدرة الله على الخوارق : كقصة خلق آدم . وقصة مولد عيسى . وقصة إبراهيم والطير الذي آب إليه بعد أن جعل على كل جبل منه جزءا . وقصة " الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها " . وقد أحياه الله بعد موته مئة عام .
وبيان عاقبة الطيبة والصلاح , وعاقبة الشر والإفساد . كقصة ابني آدم . وقصة صاحب الجنتين . وقصص بني إسرائيل بعد عصيانهم , وقصة سد مأرب , وقصة أصحاب الأخدود .
وبيان الفارق بين الحكمة الإنسانية القريبة العاجلة , والحكمة الكونية البعيدة الآجلة . كقصة موسى مع " عبد من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما " وسنعرضها بالتفصيل في مناسبة أخرى.
إلى آخر هذه الأغراض الوعظية , التي كانت تساق لها القصص فتفي بمغزاها .. ( التصوير الفني في القرآن الكريم للسيد قطب رحمه الله )