2- العلم:
وهو سمة من سمات أهل الحق، وهو المقصود بالبصيرة في قوله - تعالى -: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108].
يقول البغوي: "والبصيرة: هي المعرفة التي تميز بها بين الحق والباطل".
والمقصود بالعلم هنا العلم بأمرين:
1- كيفية تحرير محل النزاع عامة.
2- معرفة المسألة التي يراد الاستدلال عليها على وجه الخصوص.
وهذا العلم يقوم على عدة ركائز إجمالاً، وهي:
1- تصنيف المسائل إلى: المتفق عليه، والمختلف فيه، ويمكن تحرير ذلك باستخدام السبر والتقسيم.
2- نقل الاتفاق إن كان في محل البحث من مصادره، أو تسليم المحاور بصحة الاتفاق؛ حتى يخرج عن محل النزاع.
3- تحديد نوع الخلاف: فيُقسم الخلاف لثلاثة أقسام:
القسم الأول: الاختلاف اللفظي: أن يكون معنى اللفظ الذي يقوله هذا، هو معنى اللفظ الذي يقوله هذا، وإن اختلف اللفظان، فيتنازعان لكون معنى اللفظ في اصطلاح أحدهما غيرَ معنى اللفظ في اصطلاح الآخر، وهذا كثيرٌ.
القسم الثاني: اختلاف التنوع: أن يكون هؤلاء يثبتون شيئًا لا ينفيه هؤلاء، وهؤلاء ينفون شيئًا لا يثبته هؤلاء.
القسم الثالث: اختلاف التضاد: أن يكون مقتضى القول الأول هو تخطئة القول الثاني.
4- يستبعد خلاف التنوع والتضاد من محل النزاع اتفاقًا، ويحرر الخلاف اللفظي على الراجح، وفقًا لمنهج السلف في التعامل مع الألفاظ، "لكن اللفظ المطابق للكتاب والسنة هو الصواب، فليس لأحد أن يقول بخلاف قول الله ورسوله، لا سيما وقد صار ذلك ذريعةً إلى بدع أهل الكلام من أهل الإرجاء وغيرهم، وإلى ظهور الفسق، فصار ذلك الخطأُ اليسير في اللفظ سببًا لخطأ عظيم في العقائد والأعمال"[23].
5- الاستقراء لما ذكره العلماء من أدلة في المسألة، وطرق في الاستدلال، عن طريق جمع المادة من مظانها على وجه الاستيعاب المتيسر، ثم تصنيف هذا المجموع، ثم تمحيص مفرادته تمحيصًا دقيقًا، وذلك بتحليل أجزائها بدقة متناهية، وبمهارة وحذر؛ حتى يتيسر للدارس أن يرى ما هو زيفٌ جليًّا واضحًا، وما هو صحيح مستبينًا ظاهرًا، بلا غفلة، وبلا هوى، وبلا تسرع[24].
وهو ما يسمى بحسن التصورلمحل النزاع، وضعفُ التصور كما أنه ينشأ من قلة الاطلاع، أو عدم التعمق في البحث، ينشأ من عدم التتبع والاستقراء.
6- وتحرير الشاهد من كلامهم، والتوثق من ضبطه في مظانه السليمة قبل البناء عليه، والرجوع إلى مصادره الأولى لمعرفة ما قبله وما بعده؛ فكثيرًا ما يكون الشاهد الأبتر داعيةَ الخطأ في المعنى والمبنى.
7- لا يجوز إحداث قول ليس له سلف؛ فالخلاف محصور في ما اختلفوا فيه، فإن اختلفوا في الاستحباب والوجوب، فلا يصح القول بالحرمة بحال، والعكس لو اختلفوا في الحرمة أو الكراهة، فلا يصح القول بالوجوب.
8- النص على محل النزاع في بداية البحث أو المناظرة.
9- رفع الإشكال عن المصطلحات المتوهمة، أو التي لا يسلم المحاور على معناها؛ "فتحديد المفاهيم التي يقع فيها النزاع، وبيانُ مدلولها بدقة ووضوح - يرفع عنها الغموض والاشتباه؛ فكثيرًا ما يحتد النزاع حول معنى أو مفهوم معين، لو حُدِّد بدقة، وشُرح بجلاء، لأمكن للطرفين أن يلتقيا عند حد وسط".
10- الاتفاق على مصادر الاستدلال، والتنبيه عليها في حال المناظرة، وتقريرها إن كان المحاور منكرًا لها أو لبعضها.
11- إذا كان محل النزاع في مناظرة، يكون مقدمة يستدل عليها كل محاور إثباتًا أو نفيًا، أما الأبحاث فالأفضل أن يكون محل النزاع نتيجةً يخرج بها الباحث، وليس مقدمة يبرهن عليها.
12- لازمُ الحق حقٌّ، ولازم الباطل باطل، ولا يلزم المحاور بلازم قوله، حتى يسلم بالتزامه؛ لأنه قد يذهل عن اللازم، وقبل ذلك لازمُ قوله ليس من محل النزاع.
13- إذا تعلَّق محل النزاع بمناط، فلا بد من تحرير المناط؛ حتى ينزل الحكم على محله، لا على محل متوهم.
"يحتاج تحرير محل النزاع إلى النظر في السياق والقرائن، إذا كانت المسألة من باب ما ورد فيه نص، وإلى تحقيق المناط وتحديد الزمان والمكان والصفات... إن لم تكن المسألة منصوصة"[25].
14- معرفة الخاص والعام؛ "لأن الأخص في محل النزاع مقدَّمٌ على الأعم"[26]، بشرط أن يستويا في قوة الدلالة، يقول الشنقيطي: "إن الآية الكريمة وإن كانت أقوى سندًا وأخص في محل النزاع، فإن الحديث أقوى دلالة على محل النزاع منها، وقوة الدلالة في نصٍّ صالح للاحتجاج على محل النزاع، أرجح من قوة السند".
• • •