أحوال عصره: قضى أبو عبيدة قسطًا من حياته في الجاهلية، ثم أرسل الله ـ تعالى ـ خاتمَ أنبيائه محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ فآمن به، وشارك النبيَّ والصحابةَ جهودهم العظيمة في نشر الإسلام وتبليغه للناس. وكان الصراع بين الإسلام والجاهلية في هذا الوقت محتدما، سواء في جزيرة العرب أم في فارس أم في الشام ومصر، وشهد أبو عبيدة حسم الموقف لصالح الإسلام في معظم هذه الأماكن.
مواقفه: أخرج أحمد بسنده، عن مُسْلِمِ بْنِ أُكَيْسٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ قَالَ: ذَكَرَ مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ فَوَجَدَهُ يَبْكِي، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكَ يَا أَبَا عُبَيْدَةَ؟ فَقَالَ: نَبْكِي أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ذَكَرَ يَوْمًا مَا يَفْتَحُ الله عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَيُفِيءُ عَلَيْهِمْ، حَتَّى ذَكَرَ الشَّامَ، فَقَالَ: إِنْ يُنْسَأْ فِي أَجَلِكَ يَا أَبَا عُبَيْدَةَ فَحَسْبُكَ مِنَ الْخَدَمِ ثَلاثَةٌ: خَادِمٌ يَخْدُمُكَ، وَخَادِمٌ يُسَافِرُ مَعَكَ، وَخَادِمٌ يَخْدُمُ أَهْلَكَ وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ، وَحَسْبُكَ مِنَ الدَّوَابِّ ثَلاثَةٌ: دَابَّةٌ لِرَحْلِكَ، وَدَابَّةٌ لِثَقَلِكَ، وَدَابَّةٌ لِغُلامِكَ، ثُمَّ هَذَا أَنَا أَنْظُرُ إِلَى بَيْتِي قَدِ امْتَلأَ رَقِيقًا، وَأَنْظُرُ إِلَى مِرْبَطِي قَدِ امْتَلأَ دَوَابَّ وَخَيْلاً، فَكَيْفَ أَلْقَى رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بَعْدَ هَذَا! وَقَدْ أَوْصَانَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِنَّ أَحَبَّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبَكُمْ مِنِّي مَنْ لَقِيَنِي عَلَى مِثْلِ الْحَالِ الَّذِي فَارَقَنِي عَلَيْهَا.وأخرج ابن عساكر عن مسلم قال: بعث أبو بكر إلى أبي عبيدة ـ رضي الله عنهما ـ هَلُمَّ حتى أستخلفَك، فإني سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول:
إن لكل أمة أمينًا، وأنت أمين هذه الأمة. فقال أبو عبيدة: ما كنت لأَقْدُمَ رجلاً أَمَرَهُ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يَؤُمَّنَا.
أعماله: شهد أبو عبيدة بن الجراح بدرًا والمشاهدَ كلَّها، وثبت مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم أُحُدٍ، ونَزَعَ يومئذ بأسنانه الحلقتين اللتين دخلتا في وَجْنَةِ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من حلق المغفر، فوقعت ثَنِيَّتَاهُ.وحين تولَّى أبو بكر الخلافة دفع إلى الشام بأربعةِ جيوشٍ، أعطى أبا عبيدة القيادة العامة لها. فكان فتحُ أكثرِ الشام على يده؛ وفي يوم اليرموك كان خالد قائدا عاما بعد مقدمه من العراق، بينما كان أبو عبيدة على قلب الجيش، فلما تقارب الخَصمان تقدم أبو عبيدة فى نفر من المسلمين، وعرضوا الإسلامَ على خصومهم؛ وإلا فالجزية، أو الحرب، فأبَوْا إلا الحرب.. ودارت رحى معركة طاحنة نصر اللهُ فيها المسلمين نصرًا عزيزًا.
صلته بالقدس: لم يكن دور أبي عبيدة في فتح الشام يسيرًا، فقد كان ـ رضي الله عنه ـ القائدَ العام لجيوش المسلمين، والموجِّهَ لها في هذه المنطقة المهمة من العالم، حتى انْضوى جُلّ الشام تحت لواء المسلمين. وفي رواية الواقدي أن الجيوش التي حاصرت بيت المقدس قبيل الصلح كانت تحت قيادة أبي عبيدة مباشرةً، وأن بطريرك بيت المقدس لم يراسل عمرو بن العاص في الصلح ـ كما هي الرواية المشهورة ـ وإنما راسل أبا عبيدة، وطالبه باستدعاء أمير المؤمنين عمر لتسلم مفاتيح المدينة المباركة.وفي الركب الفاتح لبيت المقدس كان أبو عبيدة في صحبة أمير المؤمنين عمر، حيث شهد هذا الموقف التاريخي الكبير، بل كان أحد الشهود على كتاب الصلح الذي كتبه المسلمون لأهل المدينة من النصارى، والمسمى بـ"العهدة العُمَريّة".
وفاته: قال عروة بن رويم: إن أبا عبيدة بن الجراح انطلق يريد الصلاةَ ببيت المقدس، فأدركه أجلُه بِفِحْل، فتوفي بها، وأوصى أن يُدفن حيث يموت. وقيل: توفي بعَمَوَاسَ في الطاعون سنة ثمان عشرة، وعمره ثمان وخمسون سنة. وصلى عليه معاذُ بنُ جبلٍ.
