
17-08-2010, 12:52 AM
|
 |
مراقبة الملتقيات
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2009
مكان الإقامة: أبو ظبي
الجنس :
المشاركات: 13,883
الدولة :
|
|
هكذا علمه الخبيث
منَ المعلوم أنَّ الإنسان يمرُّ في هذه الدُّنيا بحالات مختلفة من العواطف والانفعالات والأعمال، باعتبار أنه بشرٌ مكَّوَنٌ من روح وجَسد، ومِن ثَمَّ يتعرَّض للمتغيِّرات الحياتيَّة بأقدار إلهيَّة؛ من خلال العمل في سبيل إتمام العبوديَّة بهذه الدار.
وها نحن نستقبلُ شهرَ رمضان الكريم - أعاده الله علينا وعليكم باليُمْن والبركات - لنقدِّمَ وصفات إيمانيَّة، ولمسات وجدانيَّة لإنسانيتعايشُ مع المرَض الخبيث، راجيًا من الله الشفاء التام، ومن الناس الدعاء بظهْر الغيب، ومن النفْس الرضا بقضاء الله وقَدَره.
ولعلَّ الابتلاء بالمرَض يكون مدرسة تربويَّة لمن وَعَى حقيقتَه، وفَهِمَ مقاصدَه، وعَلِمَ مَغْزاه، فإذا كان المرءُ مُؤْمنًا حقًّا، فإنَّ كلَّ أمره خيرٌ، وما أصابه سببٌ في تكفير خطاياه التي اقترفها بقلْبه وسَمْعه وبَصَره ولسانه، وسائر جوارحه، وقد يكون للعبد منزلة عظيمة عند الله - سبحانه وتعالى - ولكنَّ العبدَ لم يكنْ له من العمل ما يبلغه إيَّاها؛ فيبْتَلِيه اللهُ بالمرض وبما يكرهُ؛ حتى يكونَ أهلاً لتلك المنزلة ويصل إليها.
والمحْنة تتحول إلى مِنْحة إذا فقه المؤمنُ فلسفة الداء، وعَلِمَ ما وراء المرض، وهذا ما وُجِدَ في قلب الإنسان الذي أُصيب بالمرض الخبيث ليقدِّمَ خُلاصة ما استشعره وفَهِمَه من تجربة الصراع مع الداء الخبيث، وكيف يمكن الانتصار عليه بسهولة ويُسْر.
فقد علَّمه المرضُ الزهدَ في الدنيا؛ حتى شعر بأنه غريبٌ أو عابر سبيل؛ كما قال رسولُنا المصطفى - صلى الله عليه وسلم، فالإنسان عندما يُبْتَلى بداءٍ خطير، يرى أنه وحيدٌ في هذه الدنيا، ولن ينفعَه أحدٌ إلا عَمَله باعتبار أنها معركة حياة أو موت، ولكن يتيقَّنُ أن هذه الدار فانية، وأن هناك دارًا أعظمَ منها وأجلَّ قدرًا، ألا وهي الجنة.
وعلَّمه أن الابتلاء يُعَدِّلُ مسارَ حياة الشارد، فمن يسيرُ في طريقين متناقضين؛ من قول وفِعْلٍ، يحتاج إلى علامات وآيات توقظُه من سُباته، وتردُّه إلى ربِّه، وتذكِّره بمولاه بعد أنْ كان غافلاً عنه، وتكفُّه عن معصيته بعد أن كان مُنْهَمِكًا فيها.
وعلَّمه مفهوم الاحتساب؛ كما قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "أيُّها الناس، احتسبوا أعمالَكم؛ فإن مَن احتسبَ عملَه، كُتبَ له أجرُ عمله وأجرُ حسْبته"، وهذا ما تلمَّسْتُه في كلِّ شَكَّة إبرة، أو ألمٍ جسدي، أو ضِيقٍ نفسيٍّ.
وعلَّمه عمليًّا نصف الإيمان، ألا وهو الصبر، خاصة وأن المرض مقدَّرٌ من عند الله، وهذا مصداقًا لقوله - تعالى -: ﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [التوبة: 51].
فعندما يعلم المؤمنُ أن محبَّةَ الله له تكون مع عِظَم الابتلاء، وأنَّ الله هو الحكيم يضعُ الأشياءَ في مواضعها اللائقة بها، يرى أن ما أصابَه هو عينُ الحِكْمة كما أنه عينُ الرحمة، وهذا مصداقًا لقول رسولنا - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ عِظَم الجزاء مع عِظَم البلاء، وإنَّ الله إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم)).
وعلَّمه معنى مقاومة كلِّ ما ينافي الفِطرة السليمة، فكيف يُمكن أن تجاهدَ النفس الشريرة، وتجابه المفسدين، وتحارب المعاصي والذنوب، وتقاوِم المنْكَرات ومداخلَ الشيطان، ومزالق الطريق، وتقول كلمة الحقِّ أما الجائرِ والظالم.
وعلَّمه أنَّ قيمة الإنسان لا تُقَاس بمظهره، وإنما بجوْهَره، فبالرغم من شحوب الوجه وتساقط الشعر، إلا أنَّ الجوْهر لا يزال مرتبطًا بالخالق الأحَد، وهذا مصداقًا لقول رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ الله لا يَنْظرُ إلى صورِكم وأموالكم، ولكن ينْظرُ إلى قلوبِكم وأعمالكم)).
وعلَّمه الثبات والنجاة في وقت المحَن، فلا نعلِّق القلبَ بغيره - سبحانه - ولا نظن أنَّ المخلوق يملكُ لنا شيئًا، حتى ولو كان أكبرَ طبيبًا استشاريًّا في العالم، ولنعلمْ أنَّ المقاديرَ وأنَّ الكون كلَّه بيده - سبحانه؛ ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ ﴾ [إبراهيم: 27].
وعلَّمه أنه في قِمَّة المحَن تأتي البشارات الربَّانيَّة للقلوب برضا الله لتتلاشَى معها أشكالُ البلاء كافة، وهذا ما تحقَّق مع اليُسْر في العمليَّة، ونتائج الأشعَّة والتحاليل، والرُّؤى الربَّانيَّة، والاطمئنان النفسي، وسؤال الأحبَّة والإخوان.
أخيرًا هذه المحطات تعلَّمها المريضُ من مدرسة المرض الخبيث، وفيها نفحات قلبيَّة ووقفات روحانيَّة للعِبْرة والعِظَة، فالبلاء حاصلٌ لهذه الأمة، وخاصة مَن يقوم بأمرِ الله ويعمل لدينه، ولكنْ مَن أرادَ أنْ يحيا كبيرًا ويموت كبيرًا، فعليه أن ينتصرَ على كلِّ ما هو خبيثٌ وضال، والله وَلِيُّ التوفيق.
عبادة نوح
الألوكة
|