فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام - الصفحة 29 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 13219 - عددالزوار : 350663 )           »          {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ المُؤْمِنِينَ}ا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 257 - عددالزوار : 47107 )           »          قيمة إسلامية حثَّ عليها القرآن الكريم والسُنَّة النبوية – الجودة الشاملة في مؤسساتنا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 126 )           »          التداوي من السحر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 159 )           »          حكم المرابحة للآمر بالشراء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 142 )           »          الوجيز في أحكام التداولات المالية المعاصرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 2 - عددالزوار : 395 )           »          حكم الغرر في عقود التبرعات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 151 )           »          الفرق بين الرجل والمرأة في التلبية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 113 )           »          أخطاء في التحليل والتحريم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 176 )           »          حكم الصلح على الدين ببعضه حالا (ضع وتعجل) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 130 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #281  
قديم 18-08-2024, 04:35 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,401
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السابع
الحلقة( 281)

من صــ 416 الى صـ 430





وأيضا قوله: {وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك} [سورة الأنفال: 32] في سورة الأنفال، وقد نزلت عقيب بدر بالاتفاق قبل غدير خم بسنين كثيرة، وأهل التفسير متفقون على أنها نزلت بسبب ما قاله المشركون للنبي - صلى الله عليه وسلم - قبل الهجرة، كأبي جهل وأمثاله، وأن الله ذكر نبيه بما كانوا يقولونه بقوله: {وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء} أي اذكر قولهم، كقوله: {وإذ قال ربك للملائكة} [سورة البقرة: 30]، {وإذ غدوت من أهلك} [سورة آل عمران: 121]، ونحو ذلك: يأمره بأن يذكر كل ما تقدم. فدل على أن هذا القول كان قبل نزول هذه السورة.
وأيضا فإنهم لما استفتحوا بين الله أنه لا ينزل عليهم العذاب ومحمد - صلى الله عليه وسلم - فيهم ; فقال:{وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} [سورة الأنفال: 32] ثم قال الله تعالى: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} [سورة الأنفال: 33] واتفق الناس على أن أهل مكة لم تنزل عليهم حجارة من السماء لما قالوا ذلك، فلو كان هذا آية لكان من جنس آية أصحاب الفيل، ومثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله.
ولو أن الناقل طائفة من أهل العلم، فلما كان هذا لا يرويه أحد من المصنفين في العلم: لا المسند، ولا الصحيح، ولا الفضائل، ولا التفسير، ولا السير ونحوها، إلا ما يروى بمثل هذا الإسناد المنكر - علم أنه كذب وباطل.
وأيضا فقد ذكر في هذا الحديث أن هذا القائل أمر بمباني الإسلام الخمس، وعلى هذا فقد كان مسلما فإنه قال: " فقبلناه منك. ومن المعلوم بالضرورة أن أحدا من المسلمين على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصبه هذا.

وأيضا فهذا الرجل لا يعرف في الصحابة، بل هو من جنس الأسماء التي يذكرها الطرقية، من جنس الأحاديث التي في سيرة عنتر ودلهمة. وقد صنف الناس كتبا كثيرة في أسماء الصحابة الذين ذكروا في شيء من الحديث، حتى في الأحاديث الضعيفة، مثل كتاب " الاستيعاب " لابن عبد البر، وكتاب ابن منده، وأبي نعيم الأصبهاني، والحافظ أبي موسى، ونحو ذلك. ولم يذكر أحد منهم هذا الرجل، فعلم أنه ليس له ذكر في شيء من الروايات، فإن هؤلاء لا يذكرون إلا ما رواه أهل العلم، لا يذكرون أحاديث الطرقية، مثل " تنقلات الأنوار " للبكري الكذاب وغيره.

الوجه الثالث: أن يقال: أنتم ادعيتم أنكم أثبتم إمامته بالقرآن، والقرآن ليس في ظاهره ما يدل على ذلك أصلا ; فإنه قال: {بلغ ما أنزل إليك من ربك} [سورة المائدة: 67]. وهذا اللفظ عام في جميع ما أنزل إليه من ربه، لا يدل على شيء معين.
فدعوى المدعى أن إمامة علي هي مما بلغها، أو مما أمر بتبليغها، لا تثبت بمجرد القرآن، فإن القرآن ليس فيه دلالة على شيء معين، فإن ثبت ذلك بالنقل كان ذلك إثباتا بالخبر لا بالقرآن. فمن ادعى أن القرآن يدل على [أن] إمامة علي مما أمر بتبليغه، فقد افترى على القرآن، فالقرآن لا يدل على ذلك عموما ولا خصوصا.
الوجه الرابع: أن يقال: هذه الآية، مع ما علم من أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم -، تدل على نقيض ما ذكروه، وهو أن الله لم ينزلها عليه، ولم يأمره بها، فإنها لو كانت مما أمره الله بتبليغه، لبلغه ; فإنه لا يعصي الله في ذلك.
ولهذا قالت عائشة - رضي الله عنها -: " من زعم أن محمدا كتم شيئا من الوحي فقد كذب، والله تعالى يقول: {ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} [سورة المائدة: 67].

لكن أهل العلم يعلمون بالاضطرار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبلغ شيئا من إمامة علي، ولهم على هذا طرق كثيرة يثبتون بها هذا العلم.
منها: أن هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، فلو كان له أصل لنقل، كما نقل أمثاله من حديثه، لا سيما مع كثرة ما ينقل من فضائل علي، من الكذب الذي لا أصل له، فكيف لا ينقل الحق [الصدق] الذي قد بلغ للناس؟!.
ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أمته بتبليغ ما سمعوا منه، فلا يجوز عليهم كتمان ما أمرهم الله بتبليغه.
ومنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما مات، وطلب بعض الأنصار أن يكون منهم أمير ومن المهاجرين أمير، فأنكر ذلك عليه، وقالوا: الإمارة لا تكون إلا في قريش، وروى الصحابة في [مواطن] متفرقة الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في: " أن «الإمامة في قريش» "
ولم يرو واحد منهم: لا في ذلك المجلس ولا غيره، ما يدل على إمامة علي.
وبايع المسلمون أبا بكر، وكان أكثر بني عبد مناف - من بني أمية وبني هاشم وغيرهم - لهم ميل قوي إلى علي بن أبي طالب يختارون ولايته، ولم يذكر أحد منهم هذا النص. وهكذا أجري الأمر في عهد عمر وعثمان، وفي عهده أيضا لما صارت له ولاية، ولم يذكر هو ولا أحد من أهل بيته ولا من الصحابة المعروفين هذا النص، وإنما ظهر هذا النص بعد ذلك.
وأهل العلم بالحديث والسنة الذين يتولون عليا ويحبونه، ويقولون: إنه كان الخليفة بعد عثمان، كأحمد بن حنبل وغيره من الأئمة، قد نازعهم في ذلك طوائف من أهل العلم وغيرهم، وقالوا: كان زمانه زمان فتنة واختلاف بين الأمة، لم تتفق الأمة فيه لا عليه ولا على غيره.
وقال طوائف من الناس كالكرامية: بل هو كان إماما ومعاوية إماما، وجوزوا أن يكون للناس إمامان للحاجة. وهكذا قالوا في زمن ابن الزبير ويزيد، حيث لم يجدوا الناس اتفقوا على إمام.
وأحمد بن حنبل، مع أنه أعلم أهل زمانه بالحديث، احتج على إمامة علي بالحديث الذي في السنن: " «تكون خلافة النبوة ثلاثين سنة، ثم تصير ملكا» ".
وبعض الناس ضعف هذا الحديث، لكن أحمد وغيره يثبتونه، فهذا عمدتهم من النصوص على خلافة علي، فلو ظفروا بحديث مسند أو مرسل موافق لهذا لفرحوا به.
فعلم أن ما تدعيه الرافضة من النص، هو مما لم يسمعه أحد من أهل العلم بأقوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا قديما ولا حديثا.
ولهذا كان أهل العلم بالحديث يعلمون بالضرورة كذب هذا النقل، كما يعلمون كذب غيره من المنقولات المكذوبة.
وقد جرى تحكيم الحكمين، ومعه أكثر الناس، فلم يكن في المسلمين من أصحابه ولا غيرهم من ذكر هذا النص، مع كثرة شيعته، ولا فيهم من احتج به، في مثل هذا المقام الذي تتوفر فيه الهمم والدواعي على إظهار مثل هذا النص.

ومعلوم أنه لو كان النص معروفا عند شيعة علي - فضلا عن غيرهم - ; لكانت العادة المعروفة تقتضي أن يقول أحدهم: هذا نص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على خلافته، فيجب تقديمه على معاوية.
وأبو موسى نفسه كان من خيار المسلمين، لو علم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص عليه لم يستحل عزله، ولو عزله لكان من أنكر عزله عليه يقول: كيف تعزل من نص النبي - صلى الله عليه وسلم - على خلافته؟.
وقد احتجوا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " «تقتل عمارا الفئة الباغية» " وهذا الحديث خبر واحد أو اثنين أو ثلاثة ونحوهم، وليس هذا متواترا. والنص عند القائلين به متواتر، فيا لله العجب كيف ساغ عند الناس احتجاج شيعة علي بذلك الحديث، ولم يحتج أحد منهم بالنص؟.
(فصل في حديث الغدير)
قال الرافضي: الثاني الخبر المتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه لما نزل قوله تعالى: {ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} (سورة المائدة: 67) «خطب الناس في غدير خم، وقال للجمع كله: يا أيها الناس ألست أولى منكم بأنفسكم؟ قالوا: بلى، قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله»، فقال عمر: بخ بخ، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة، والمراد بالمولى هنا الأولى بالتصرف لتقدم التقرير منه صلى الله عليه وسلم بقوله: ألست أولى منكم بأنفسكم؟
والجواب عن هذه الآية والحديث المذكور قد تقدم، وبينا أن هذا كذب، وأن قوله: {بلغ ما أنزل إليك من ربك} (سورة المائدة: 67) نزل قبل حجة (الوداع) بمدة طويلة.
ويوم الغدير إنما كان ثامن عشر ذي الحجة بعد رجوعه من الحج، وعاش بعد ذلك شهرين وبعض الثالث، ومما يبين ذلك أن آخر المائدة نزولا قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} (سورة المائدة: 3)، وهذه الآية نزلت بعرفة تاسع ذي الحجة في حجة الوداع، والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة كما ثبت ذلك في الصحاح والسنن، وكما قاله العلماء قاطبة من أهل التفسير والحديث وغيرهم.

وغدير خم كان بعد رجوعه إلى المدينة ثامن عشر ذي الحجة بعد نزول هذه الآية بتسعة أيام، فكيف يكون قوله: {بلغ ما أنزل إليك من ربك} (سورة المائدة: 67) نزل ذلك الوقت، ولا خلاف بين أهل العلم أن هذه الآية نزلت قبل ذلك، وهي من أوائل ما نزل بالمدينة، وإن كان ذلك في سورة المائدة كما أن فيها تحريم الخمر، والخمر حرمت في أوائل الأمر عقب غزوة أحد، وكذلك فيها الحكم بين أهل الكتاب بقوله: {فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} (سورة المائدة: 42)، وهذه الآية نزلت إما في الحد لما رجم اليهوديين، وإما في الحكم بين قريظة والنضير لما تحاكموا إليه في الدماء، ورجم اليهوديين كان أول ما فعله بالمدينة، وكذلك الحكم بين قريظة والنضير، فإن بني النضير أجلاهم قبل الخندق، وقريظة قتلهم عقب غزوة الخندق.

والخندق باتفاق الناس كان قبل الحديبية، وقبل فتح خيبر، وذلك كله قبل فتح مكة وغزوة حنين، وذلك كله قبل حجة الوداع، وحجة الوداع قبل خطبة الغدير.
فمن قال: إن المائدة نزل فيها شيء بغدير خم فهو كاذب مفتر باتفاق أهل العلم.
وأيضا، فإن الله تعالى قال في كتابه: {ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس} (سورة المائدة: 67) فضمن له سبحانه أنه يعصمه من الناس إذا بلغ الرسالة ليؤمنه بذلك من الأعداء ; ولهذا روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قبل نزول هذه الآية يحرس، فلما نزلت هذه الآية ترك ذلك.
وهذا إنما يكون قبل تمام التبليغ، وفي حجة الوداع تم التبليغ.
«وقال في حجة الوداع: " ألا هل بلغت ألا هل بلغت؟ " قالوا: نعم، قال: " اللهم اشهد "، وقال لهم: " أيها الناس إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله، وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فجعل يرفع إصبعه إلى السماء، وينكبها إلى الأرض، ويقول: " اللهم اشهد، اللهم اشهد» "، وهذا لفظ حديث جابر في صحيح مسلم وغيره من الأحاديث الصحيحة.
وقال: " «ليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع» ".
فتكون العصمة المضمونة موجودة وقت التبليغ المتقدم، فلا تكون هذه الآية نزلت بعد حجة الوداع ; لأنه قد بلغ قبل ذلك، ولأنه حينئذ لم يكن خائفا من أحد يحتاج أن يعصم منه، بل بعد حجة الوداع كان أهل مكة والمدينة، وما حولهما كلهم مسلمين منقادين له ليس فيهم كافر، والمنافقون مقموعون مسرون للنفاق، ليس فيهم من يحاربه، ولا من يخاف الرسول منه فلا يقال له في هذه الحال: {بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس} (سورة المائدة: 67).

وهذا مما يبين أن الذي جرى يوم الغدير لم يكن مما أمر بتبليغه، كالذي بلغه في حجة الوداع، فإن كثيرا من الذين حجوا معه - أو أكثرهم - لم يرجعوا معه إلى المدينة، بل رجع أهل مكة إلى مكة، وأهل الطائف إلى الطائف، وأهل اليمن إلى اليمن، وأهل البوادي القريبة من ذاك إلى بواديهم، وإنما رجع (معه). أهل المدينة ومن كان قريبا منها.
فلو كان ما ذكره يوم الغدير مما أمر بتبليغه كالذي بلغه في الحج، لبلغه في حجة الوداع كما بلغ غيره، فلما لم يذكر في حجة الوداع إمامة ولا ما يتعلق بالإمامة أصلا، ولم ينقل أحد بإسناد صحيح ولا ضعيف أنه في حجة الوداع ذكر إمامة علي، بل ولا ذكر عليا في شيء من خطبته، وهو المجمع العام الذي أمر فيه بالتبليغ العام - علم أن إمامة علي لم تكن من الدين الذي أمر بتبليغه، بل ولا حديث الموالاة، وحديث الثقلين، ونحو ذلك مما يذكر في إمامته.

والذي رواه مسلم أنه. بغدير خم قال: " «إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله» " فذكر كتاب الله وحض عليه، ثم قال: «وعترتي أهل بيتي، أذكركم الله (في أهل بيتي») ثلاثا، وهذا مما انفرد به مسلم ولم يروه البخاري، وقد رواه الترمذي وزاد فيه: " «وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض» ".
وقد طعن غير واحد من الحفاظ في هذه الزيادة، وقال: إنها ليست من الحديث. والذين اعتقدوا صحتها قالوا: إنما يدل على أن مجموع العترة الذين هم بنو هاشم لا يتفقون على ضلالة، وهذا قاله طائفة من أهل السنة، وهو من أجوبة القاضي أبي يعلى وغيره.
والحديث الذي في مسلم إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد قاله، فليس فيه إلا الوصية باتباع كتاب الله، وهذا أمر قد تقدمت الوصية به في حجة الوداع قبل ذلك، وهو لم يأمر باتباع العترة، ولكن قال: " «أذكركم الله في أهل بيتي» "، وتذكير الأمة بهم يقتضي أن يذكروا ما تقدم الأمر به قبل ذلك من إعطائهم حقوقهم، والامتناع من ظلمهم، وهذا أمر قد تقدم بيانه قبل غدير خم.
فعلم أنه لم يكن في غدير خم أمر يشرع نزل إذ ذاك، لا في حق علي ولا غيره لا إمامته، ولا غيرها.
لكن حديث الموالاة قد رواه الترمذي، وأحمد في مسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " «من كنت مولاه فعلي مولاه» "، وأما الزيادة وهي قوله: " «اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه». . . " إلخ فلا ريب أنه كذب.
ونقل الأثرم في " سننه " عن أحمد أن العباس سأله عن حسين الأشقر، وأنه حدث بحديثين: أحدهما: قوله «لعلي: إنك ستعرض على البراءة مني فلا تبرأ، والآخر: اللهم وال من والاه وعاد من عاداه». فأنكره أبو عبيد الله جدا لم يشك أن هذين كذب.
وكذلك قوله: «أنت أولى بكل مؤمن ومؤمنة»، كذب أيضا.

وأما قوله: " «من كنت مولاه فعلي مولاه» " فليس هو في الصحاح لكن هو مما رواه العلماء، وتنازع الناس في صحته فنقل عن البخاري، وإبراهيم الحربي، وطائفة من أهل العلم بالحديث أنهم طعنوا فيه وضعفوه، ونقل عن أحمد بن حنبل أنه حسنه كما حسنه الترمذي، وقد صنف أبو العباس بن عقدة مصنفا في جميع طرقه.
وقال ابن حزم: الذي صح من فضائل علي فهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: " «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» "، وقوله: " «لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله» " وهذه صفة واجبة لكل مسلم ومؤمن وفاضل، وعهده صلى الله عليه وسلم أن عليا " «لا يحبه إلا مؤمن، ولا يبغضه إلا منافق» "، وقد صح مثل هذا في الأنصار أنهم " «لا يبغضهم من يؤمن بالله، واليوم الآخر» ".


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #282  
قديم 18-08-2024, 04:43 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,401
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السابع
الحلقة( 282)

من صــ 431 الى صـ 445



قال: " وأما " «من كنت مولاه فعلي مولاه» فلا يصح من طريق الثقات أصلا، وأما سائر الأحاديث التي يتعلق بها الروافض فموضوعة يعرف ذلك من له أدنى علم بالأخبار ونقلها ".
فإن قيل: لم يذكر ابن حزم ما في الصحيحين من قوله: «أنت مني، وأنا منك» "، وحديث المباهلة، والكساء.
قيل: مقصود ابن حزم: الذي في الصحيح من الحديث الذي لا يذكر فيه إلا علي، وأما تلك ففيها ذكر غيره فإنه قال لجعفر: «أشبهت خلقي وخلقي» "، «وقال لزيد: " أنت أخونا ومولانا» "، وحديث المباهلة، والكساء فيهما ذكر علي، وفاطمة، وحسن، وحسين - رضي الله عنهم - فلا يرد هذا على ابن حزم.
ونحن نجيب بالجواب المركب فنقول: إن لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قاله فلا كلام، وإن كان قاله فلم يرد به قطعا الخلافة بعده ; إذ ليس في اللفظ ما يدل عليه، ومثل هذا الأمر العظيم يجب أن يبلغ بلاغا مبينا.
وليس في الكلام ما يدل دلالة بينة على أن المراد به الخلافة، وذلك أن المولى كالولي، والله تعالى قال: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا} (سورة المائدة: 55)، وقال: {وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير} (سورة التحريم: 4) * فبين أن الرسول ولي المؤمنين وأنهم مواليه أيضا، كما بين أن الله ولي المؤمنين وأنهم أولياؤهم، وأن * المؤمنين بعضهم أولياء بعض.
فالموالاة ضد المعاداة، وهي تثبت من الطرفين، وإن كان أحد المتواليين أعظم قدرا وولايته إحسان وتفضل، وولاية الآخر طاعة وعبادة، كما أن الله يحب المؤمنين، والمؤمنون يحبونه، فإن الموالاة ضد المعاداة والمحاربة والمخادعة، والكفار لا يحبون الله ورسوله، ويحادون الله ورسوله ويعادونه.
وقد قال تعالى: {لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} (سورة الممتحنة: 1)، وهو يجازيهم على ذلك كما قال تعالى: {فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله} (سورة البقرة: 279).
وهو ولي المؤمنين وهو مولاهم يخرجهم من الظلمات إلى النور، وإذا كان كذلك فمعنى كون الله ولي المؤمنين ومولاهم، وكون الرسول وليهم ومولاهم، وكون علي مولاهم هي الموالاة التي هي ضد المعاداة.

والمؤمنون يتولون الله ورسوله الموالاة المضادة للمعاداة، وهذا حكم ثابت لكل مؤمن فعلي رضي الله عنه من المؤمنين الذين يتولون المؤمنين ويتولونه.
وفي هذا الحديث إثبات إيمان علي في الباطن، والشهادة له بأنه يستحق الموالاة باطنا وظاهرا، وذلك يرد ما يقوله فيه أعداؤه من الخوارج والنواصب، لكن ليس فيه أنه ليس للمؤمنين مولى غيره فكيف ورسول الله صلى الله عليه وسلم له موالي، وهم صالحو المؤمنين فعلي أيضا له مولى بطريق الأولى والأحرى، وهم المؤمنون الذين يتولونه.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: * " «إن أسلم، وغفارا، ومزينة، وجهينة، وقريشا، والأنصار ليس لهم مولى دون الله ورسوله» "، وجعلهم موالي رسول الله صلى الله عليه وسلم * كما جعل صالح المؤمنين مواليه، والله ورسوله مولاهم.

وفي الجملة فرق بين الولي، والمولى ونحو ذلك، وبين الوالي فباب الولاية التي هي ضد العداوة - شيء، وباب الولاية - التي هي الإمارة - شيء.
والحديث إنما هو في الأولى دون الثانية، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: من كنت واليه فعلي واليه، وإنما اللفظ: " «من كنت مولاه فعلي مولاه» ".
وأما كون المولى بمعنى الوالي فهذا باطل، فإن الولاية تثبت من الطرفين، فإن المؤمنين أولياء الله، وهو مولاهم.
وأما كونه أولى بهم من أنفسهم فلا يثبت إلا من طرفه صلى الله عليه وسلم، وكونه أولى بكل مؤمن من نفسه من خصائص نبوته، ولو قدر أنه نص على خليفة من بعده، لم يكن ذلك موجبا أن يكون أولى بكل مؤمن من نفسه كما أنه لا يكون أزواجه أمهاتهم، ولو أريد هذا المعنى لقال: من كنت أولى به من نفسه فعلي أولى به من نفسه، وهذا لم يقله ولم ينقله أحد، ومعناه باطل قطعا ; لأن كون النبي صلى الله عليه وسلم أولى بكل مؤمن من نفسه أمر ثابت في حياته ومماته، وخلافة علي - لو قدر وجودها - لم تكن إلا بعد موته، لم تكن في حياته، فلا يجوز أن يكون علي خليفة في زمنه فلا يكون حينئذ أولى بكل مؤمن من نفسه، بل ولا يكون مولى أحد من المؤمنين إذا أريد (به) الخلافة.
وهذا مما يدل على أنه لم يرد الخلافة ; فإن كونه ولي كل مؤمن وصف ثابت له في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لم يتأخر حكمه إلى الموت، وأما الخلافة فلا يصير خليفة إلا بعد الموت. فعلم أن هذا ليس هذا.

وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم في حياته وبعد مماته إلى يوم القيامة، وإذا استخلف أحدا على بعض الأمور في حياته، أو قدر أنه استخلف أحدا على بعض الأمور في حياته، أو قدر أنه استخلف أحدا بعد موته، وصار له خليفة بنص، أو إجماع فهو أولى بتلك الخلافة وبكل المؤمنين من أنفسهم فلا يكون قط غيره أولى بكل مؤمن من نفسه، لا سيما في حياته.
وأما كون علي، وغيره مولى كل مؤمن فهو وصف ثابت لعلي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد مماته، وبعد ممات علي، فعلي اليوم مولى كل مؤمن، وليس اليوم متوليا على الناس، وكذلك سائر المؤمنين بعضهم أولياء بعض أحياء وأمواتا.

(قل ياأهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين (68)
[فصل: مواصلة الرد على النصارى بما قاله الحسن بن أيوب ثم بكلام ابن البطريق]
قال الحسن بن أيوب: ومثل هذا أنه لما خاطبه الرجل على ما كتب في الإنجيل فقال له: (أيها الخير، فقال: ليس الخير إلا الله وحده، قلت: وبعضهم يترجمه أيها الصالح، فقال: ليس الصالح إلا الله وحده). قال: ومثله قوله في الإنجيل: (إني لم آت لأعمل بمشيئتي، لكن بمشيئة من أرسلني). قال: ولو كانت له مشيئة لاهوتية، كما يقولون، لما قال هذا القول فقد أبطل به ما تدعونه في ذلك.
قال: ثم أنتم مع ذلك تدعون أن المسيح كلمة الله، ومن قوة الله غير بائنة منه ولا منفصلة عنه، وتشهدون عليه في الإنجيل بقوله: (إنه يصعد إلى السماء ويجلس عن يمين أبيه، ويدين الناس يوم القيامة ويجازيهم بأعمالهم، ويتولى الحكم بينهم، وأن الله عز وجل منحه ذلك إذ كان لا يراه أحد من خلقه في الدنيا ولا في الآخرة، فإن كان هذا الجالس للحكومة بين العالمين يوم الدين، والقاعد عن يمين أبيه وهو شخص قائم بذاته لا يشك فيه هو الجسد الذي كان في الأرض المتوحد به الربوبية، فقد فصلتم بين الله تبارك وتعالى وبينه، وبعضتموه باجتماعهما في السماء شخصين متباينين أحدهما عن يمين صاحبه، وهذا كفر وشرك بالله عز وجل وإن كان جسدا خاليا من الإلهية، وهي الكلمة، وقد عادت إلى الله كما بدت منه، فقد زال عنه حكم الربوبية التي تنتحلونه إياها.
قال: ونسألكم عن واحدة نحب أن تخبرونا بها، هي أصل ما وضعتموه من عبادة الثلاثة الأقانيم التي ترجع بزعمكم إلى جوهر واحد وهو اللاهوت، ما هو؟ ومن أين أخذتموه؟ ومن أمركم به؟ وفي أي كتاب نزل؟ وأي نبي تنبأ به؟ أو أي قول للمسيح تدعونه فيه؟ وهل بنيتم أمركم في ذلك إلا على قول " متى " التلميذ على المسيح
عليه السلام أنه قال لتلاميذه حيث أراد أن يفارقهم: (اذهبوا فعمدوا الناس باسم الأب والابن وروح القدس).
قال: وهذا كلام يحتمل معناه إن كان صحيحا أن يكون ذهب فيه بأن يجمع هذه الألفاظ إلى أن تجتمع لهم بركات الله وبركة نبيه المسيح وروح القدس التي يؤيد بها الأنبياء والرسل، وقد نراكم إذا أردتم الدعاء بعضكم لبعض قلتم: صلاة فلان القديس تكون معك. ومعنى الصلاة: الدعاء. واسم فلان النبي يعينك على أمورك.
وكما قال الله تبارك وتعالى:
{ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} [النساء: 59]
يقرن طاعته نبيه وأولي الأمر من المسلمين، أفنقول لذلك إنهم جميعا آلهة؟
قال: وقد يجوز أن يكون له معنى يدق عن الوقوف عليه بغير التأويل إن لم يكن معناه ما قلناه، أو يكون المسيح عليه السلام ذهب فيه إلى ما هو أعلم به، فلم حكمتم بأنه ذهب إلى أن هذه

الأسماء لما أضافها إلى الله عز وجل صارت آلهة، وجعلتم لها أقانيم لكل اسم أقنوم يخصه بعينه وهو شخص واحد، وكيف استجزتم ما أشركتموه مع الله عز وجل بالتأويل الذي لا يصح؟
وإذا قلتم بثلاثة أقانيم كل أقنوم بذاته، فلا بد من أن تعترفوا ضرورة بأن كل أقنوم منها حي سميع بصير عالم حكيم منفرد بذاته، كما يقولون في المسيح إنه جالس عن يمين أبيه، فنراكم أخذتم الأقنومين اللذين أحدثتموها مع الله من جهة أن الله حكيم حي، فحكمته الكلمة وهي المسيح، وروحه روح القدس، وهذه صفة من صفات الله مثلها كثير، لأنه يقال حكيم عليم سميع بصير حي قدير.
وكذلك ربنا تبارك وتعالى وإن كانت صفاتنا إياه لا تلحق صفاته ولا تبلغ كنه مجده إلا بالتمثيل لعظمته وعزته وجلاله وعلوه، فنحلتم صفاته التي هي معناه وليست سواه غيره وجعلتموه
أقانيم لكل واحد من الحياة والحكمة وسائر الصفات مثل الذي له، وما منها أقنوم له صفة إلا ويحتمل على قياس قولكم أن تكون صفته مثله، فإذا كانت هذه الأقانيم آلهة وكل صفة إله، وهي من جوهره فيجب أن تكون كل صفة لكل واحد من الثلاثة الأقانيم إلها مثله إذ كان من جوهره فيتسع الأمر في ذلك حتى لا يكون له غاية ولا نهاية.

قال: وإذا قلتم بثلاثة أقانيم هي في السماء من جوهر قديم، أفليس يلزمكم الإقرار بثلاثة آلهة، لأن الأقانيم أشخاص يومأ إليها ويقع الحد عليها، وإلا فما الحجة وأنتم تذكرون في بعض احتجاجكم أنها ثلاثة ترجع إلى واحد غير متبعضة ولا منفصلة، وتشبهونها في اجتماعها وظهور ما يظهر منها بالشمس، وقد نراكم عقدتم شريعة إيمانكم على أن المسيح إله وإنسان متحدين، وأنه يصعد إلى السماء ويجلس عن يمين أبيه، والجالس عن يمين صاحبه أليس هو منفصلا

عنه مفروزا عنه؟ فكيف يصح على هذا القول قياس، أو يصح به عقد دين؟ تقولون مرة مجتمع، ومرة منفصل، وما شبهتموه به من الشمس، فقد تقدم شرحنا لبطلان الحجة فيه، وأنه لا يكون قياسه القياس الذي تعلقتم به.
على أنا وجدناكم تقولون في معنى التثليث: إن الذي دعاكم إليه ما ذكرتم أن " متى " التلميذ حكاه في الإنجيل عن المسيح عليه السلام إذ قال لتلاميذه: (سيروا في البلاد، وعمدوا الناس باسم الأب والابن والروح القدس). وأنكم فكرتم في هذا القول بعقولكم فعلمتم أن المراد بذلك أنه لما أن ثبت حدوث العالم علمتم أن له محدثا فتوهمتموه شيئا موجودا، ثم توهمتموه حيا ثم ناطقا، لأن الشيء ينقسم لحي ولا حي، والحي ينقسم لناطق ولا ناطق.
وأنكم علمتم بذلك أنه شيء حي ناطق، فأثبتم له حياة ونطقا غيره في الشخص وهما هو في الجوهرية.
فنقول لكم في ذلك: إذا كان الحي له حياة ونطق، فأخبرونا عنه: أتقولون أنه قادر عزيز، أم عاجز ذليل؟
فإن قلتم: لا بل هو قادر عزيز، قلنا: فأثبتوا له قدرة وعزة، كما أثبتم له حياة وحكمة.
فإن قلتم: لا يلزمنا ذلك، لأنه قادر بنفسه عزيز بنفسه، قلنا لكم: وكذلك فقولوا: إنه حي بنفسه وناطق بنفسه، ولا بد لكم مع ذلك من إبطال التثليث، أو إثبات التخميس، وإلا فما الفرق؟ وهيهات من فرق.
وقال الحسن بن أيوب أيضا: إنا كلما تأملنا معكم في نسبة المسيح عليه السلام إلى الإلهية وعبادتكم له مع الله على الجهة التي تذهبون إليها، وطلبنا لكم الحجة في ذلك من كتبكم، ازددنا بصيرة في استحالة ذلك ووضعكم له من القول ما يثبت لكم به حجة، ولا يشهد به لكم شيء من كتبكم، ووجدنا أبين ما جاء في المسيح وصحة أمره فيما أتى به ما قال " متى " التلميذ: (إنه لما جاء يسوع إلى أرض قيسارية سأل تلاميذه فقال: ماذا يقول الناس في أني ابن البشر؟ فقالوا: منهم من يقول: إنك يوحنا المعمداني، وآخرون يقولون: إنك أرميا، أو أحد الأنبياء. فقال لهم يسوع: فأنتم ماذا تقولون؟ فأجابه سمعان الصفا، وهو رئيسهم، فقال: أنت المسيح ابن الله الحق. فأجابه المسيح وقال: طوبى لك يا سمعان ابن يونان، إنه لم يطلعك على
هذا لحم ولا دم، ولكن أبي الذي في السماء).

وحكى لوقا في إنجيله هذا الخبر فقال: (إن سمعان أجابه فقال: أنت مسيح الله)، ولم يقل ابن الله، فهذا كلام تلميذه الرئيس فيه وأرضاه ما قال.
وقوله: إنه لم ينطق بذلك إلا ما أوحاه الله في قلبه ولم ندفعكم قط عن أنه مسيح الله، ولا عن أنه كما تقولون في لغتكم أنه ابن الله بالرحمة والصفوة مع هذا الاختلاف الواقع في ذلك في الإنجيلين، وقد قال مثل ذلك فيكم جميعا: (إن الله إلهي وإلهكم وأبي وأبيكم)، فنعمل على احتجاجكم بأنه ليس مثلكم في معنى
النبوة ونجعله مثل من سمي في الكتب ابنا على جهة الاصطفاء والمحبة مثل إسرائيل وغيره، بل قد خص إسرائيل بأن قال عز وجل: (أنت ابني بكري).

وهذا كلام له مذهب في اللغة القديمة التي جاءت بها الكتب، وليست بموجبة الإلهية إذ كان قد شاركه في هذا الاسم غيره، فلم لا جعلتموه كما جعل نفسه؟
ومما يؤكد المعنى في ذلك ويزيل تأويل من يتأوله له ما لم يدعه ولم يرض به، قوله في علم الساعة: (أن ذلك شيء لا يعلمه أحد من الخلق ولا الملائكة المقربون، ولا الابن يعني نفسه إلا الأب وحده)، ثم قال للرجل الذي أتاه فقال له: (أيها العالم الصالح، أي الأعمال خير لي، الذي تكون لي حياة إلى يوم الدين؟ فقال له: لم تقول لي صالحا؟ ليس الصالح إلا الله وحده)، فاعترف لله بأنه واحد لا شريك له، ونفى عن نفسه فلم يجعلها ولا أحد من الخلق أهلا لذلك.
وقوله للمرأة التي جاءته فقالت: (أنت ذلك النبي الذي كنا ننتظر مجيئه؟
فقال لها المسيح: صدقت طوبى لك)، ثم قال للشيطان حين اختبره فسامه أن يلقي نفسه من رأس الهيكل، فقال: (أمرنا أن لا نجرب الرب)، ثم سامه أن يسجد له فقال: (أمرنا أن لا نسجد إلا لله وحده، ولا نعبد سواه)، ثم صلاته في غير وقت لله، وآخرها الليلة التي أخذته اليهود فيها، فإذا كان إلها كما زعمتم فلمن كان يصلي ويسجد؟
ثم قول الجموع الذين كانوا معه حين دخل أورشليم، وهي مدينة بيت المقدس على الأتان، لمن كان يسأله عن أمره لما راجت المدينة به: (هذا هو يسوع الناصري النبي الذي من الناصرة)؟ ثم قوله في بعض الإنجيل: (اخرجوا بنا من هذه المدينة، فإن النبي لا يبجل في مدينته). وفي موضع آخر أنه قال: (لا يهان نبي إلا في مدينته وفي بيته وأقاربه).
وقوله في بعض خطبه: (إن هذا الجيل السوء يريد آية وأنه

لا يعطى إلا آية يونس، كما كان يونس لأهل " نينوى ": كذلك يكون ابن البشر لهذا الجيل، رجال نينوى يقومون في الدين مع هذا الجيل فيخصمونهم، لأنهم تابوا على قول يونس النبي، وإن هاهنا أفضل من يونس).
ثم قول داود في نبوته عليه: (من هذا الرجل الذي ذكرته وجعلته
دون الملائكة قليلا). ثم قول تلاميذه فيه ما شرحناه في صدر كتابنا هذا ما تقدم ووصفهم أنه رجل أتى من عند الله بالأيدي والقوة.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #283  
قديم 18-08-2024, 04:57 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,401
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السابع
الحلقة( 283)

من صــ 446 الى صـ 460





ومما يشبه ذلك أنه لما قدم تلامذته فركبوا السفينة وقال لهم: (امضوا فإني ألحق بكم، فأتاهم يمشي على البحر فلما رأوه في تلك الحال قالوا: ما هذا الحال ويح، ومن الغرق صاحوا. فقال لهم يسوع: اطمئنوا ولا تخافوا أنا هو، فأجابه شمعون الصفا وقال له: يا رب إن كنت أنت هو فأذن لي آتيك على الماء. فقال له: تعال، فنزل سمعان إلى الماء ليمشي عليه، فلم يستطع وجعل يغرق، فصاح وقال: يا رب أغثني، فبسط يده يسوع فأخذه وقال له: لم تشككت يا قليل الأمانة؟). قال: فبان بذلك عجز المسيح عن إتمام ما سأله شمعون الصفا، ومثله أمر الرجل الذي قال ليسوع خبر ابنته وما ينالها من الشيطان، وأنه قد قدمها إلى تلاميذه فلم يستطيعوا أن يخرجوه، وقد كان جعل لهم ذلك وغيره فأخرجه هو منها.
وقال في الإنجيل، وهو يذكر الأمثال التي ضربها لرؤساء الكهنة، أنهم لما سمعوها منه علموا أنها في شأنهم، فهموا أن يأخذوه ثم فرقوا
من الجموع، لأنهم كانوا ينزلونه مثل النبي.
وقال في الإنجيل لما جاءته أم ابني زندا، وكانت من تلامذته مع ابنيها، فقال لها: (ما تريدين؟ قالت: أريد أن تجلس ابناي أحدهما عن يمينك والآخر عن شمالك في ملكوتك. فقال: ليس إلى ذلك سبيل، لأنه ليس لي أن أعطيه، ولكن من وعد له من أبي).
قال الحسن بن أيوب: فما يكون يا هؤلاء أفصح وأبين وأوضح من اجتماع هذه الشواهد لكم في كتبكم، ما رضيتم بقوله في نفسه، ولا بقول تلامذته فيه، ولا بقول من تنبأ عليه من الأنبياء، ولا قول جموعه الذين تولوه لمن سألهم من مخالفيهم عنه وتركتم ذلك كله،
وأخذتم بآراء قوم تأولوا لكم على علمكم بأنهم قد اختلفوا أيضا في الرأي، فقال كل قوم في المسيح ما اختاروا، واتبع كلا منهم طائفة قالوا بقولهم، ثم سلك من بعدهم سبيل الآباء في الاقتداء بهم.
فبينوا لنا حجتكم في ذلك، وهيهات من حجة ونحن نستوهب الله العصمة والتوفيق منه.
قال: ومما يشبه ما تقدم قوله لتلاميذه في إنجيل لوقا 55: (فأما أنتم الذين صبرتم معي في بلائي وتجاربي فإني أعدكم كما وعدني أبي الملكوت لتأكلوا وتشربوا معي على مائدتي في ملكوتي) فبين أن الله - عز وجل ثناؤه وعده أن يجعله في ملكوت السماء يأكل ويشرب مع تلاميذه على مائدته، وهذا ما لا شك لكم فيه، وهو مخالف لقولكم فيما يصير إليه، وفي الأكل والشرب
والنعيم هناك، ثم قوله لشمعون حين أتته الجموع فأخذوه: (أم تظن أني لست قادرا أن أطلب إلى أبي فيقيم لي اثني عشر جندا من ملائكته أو أكثر، ولكن: كيف تتم الكتب أنه هكذا ينبغي أن يكون)، ولم يقل: إني قادر أن أدفعهم عن نفسي، ولا أني آمر الملائكة أن يمنعوا عني، كما يقول من له القدرة والأمر.

قال: ونجدكم تقولون في المسيح عليه السلام: إنه مولود من أبيه أزلي، ويجب على المدعي القول أن يثبت الحجة فيه ويعلم أنه مطالب بإيضاحها، لا سيما في مثل هذا الخطب الجليل الذي لا يقع التلاعب به، ولا تجترئ النفوس على ركوب الشبهات فيه، والويل الطويل لمن تأول في ذلك تأويلا لا حقيقة له، فإنه يهلك نفسه ومن كان من الناس معه ممن يتبع قوله، إن كان هذا الابن أزليا على ما في شريعة إيمانكم فليس هذا بمولود، وإن كان مولودا فليس بأزلي ; لأن اسم الأزلية إنما يقع على من لا أول له ولا آخر.
ومعنى المولود: أنه حادث مفعول، وكل مفعول فله أول، فكيف

ما أردتم القول فيه كان بطلان الشريعة.
قال: ونسألكم أيضا عن واحدة، لم سميتم الأب أبا والابن ابنا؟ فإنه إن كان وجب للأب اسم الأبوة لقدمه، فالابن أيضا يستحق هذا الاسم بعينه، إذ كان قديما مثله، وإن كان الأب عالما عزيزا فهو أيضا عالم عزيز تشهد شريعة الإيمان له بذلك في قولها: إنه خلق الخلائق كلها وأتقنت على يده، وأنه نزل لخلاصكم ومن قدر على ذلك لم يكن إلا عالما عزيزا، فهذه المعاني التي ذكرناها تبطل اسم الأبوة والبنوة وفي إبطالها بطلان الشريعة التي تقول: ولد من أبيه، وإلا فإن كان الأب والابن متكافئين في القدم والقدرة، فبأي فضل وسلطان للأب عليه أمره ونهاه، فصار الأب باعثا والابن مبعوثا، والأب متبوعا مطاعا والابن تابعا مطيعا؟.
ومما يشهد بصحة قولنا وبطلان ما تأوله أولوكم في عبودية المسيح، أن " متى " التلميذ حين بنى كتابه الإنجيل أول ما ابتدأ به أن قال: كتاب مولد يسوع المسيح ابن داود بن إبراهيم، فنسبه إلى من كان منه على الصحة، ولم يقل: إنه ابن الله، ولا إنه إله من إله كما يقولون: فإن قلتم: إن تسمية يسوع للناسوت الذي قد جعلتموه حجة بينكم وبين كل من التمس الحجة منكم عند الانقطاع فيما يعترف به للمسيح من العبودية، فقد نسق " متى " على اسم يسوع الذي هو عندكم اسم للناسوت المسيح الذي هو جامع الناسوت واللاهوت، فأي حجة في إبطال هذا التأويل أوضح من هذا؟.
ومما يصحح قولنا ويؤكده قول جبريل الملك لمريم عند مخاطبته إياها: إنه ابن داود على ما ثبت من ذلك في الإنجيل.

قال: ووجدناكم قد ذكرتم في شريعة الإيمان: أن يسوع المسيح بكر الخلائق، فإن كنتم ذهبتم في ذلك إلى أنه على نحو ما يسمى أول ولد الرجل وكبيرهم فجائز، وهو محقق لقولنا في عبوديته، وإن كنتم أردتم بذكر البكر أنه أول قديم، فلسنا نعرف للبكر معنى في لغة من اللغات إلا للأكبر من الإخوة والأول من الولد، وبكر الخلائق لا يكون إلا من الخلائق.
كما أن بكر الرجل والمرأة لا يكون إلا من جنسهما، وباكورة الثمار لا تكون إلا ثمرة، ولأن من المحال أن يقول قائل: بكر ولد آدم ملك من الملائكة، وكذلك من المحال أن يكون بكر المصنوعات ليس بمصنوع، وبكر المخلوقات ليس بمخلوق.

وقد قال الله تعالى في التوراةيا ابني بكري) أي إسرائيل، وقال في موضع آخر: (إنه نظر بنو الله إلى بنات الناس فشغفوا بهن). فهل يوجب لآل إسرائيل إلهية بهذا القول؟
قال: وقلتم: إن المسيح ولد من أبيه قبل العوالم وليس بمصنوع، فليس يخلو الأب من أن يكون أولد شيئا موجودا أو غير موجود، فإن كان لم يزل موجودا فإن الأب لم يلد شيئا، وإن كان غير موجود وإنما هو حادث، لم يكن، فهو مخلوق كما قلنا.
قال: ومما يبين قولنا في خلق المسيح: أن هذا الاسم إنما وقع له، لأنه مسح للنبوة والخير وماسحه الله تبارك وتعالى، وقد قال داود في زبوره قولا يشهد على ذلك بعينه: (من أجل هذا البر مسحك الله إلهك أكثر مما مسح به نظراءك) فأبان داود بهذه الآية معنى المسح بإنجيله، وأن ماسحه الله إلهه، وأنه مصطفى مكرم بزيادة على نظرائه، وقال داود أيضا في مزمور إحدى وثلاثين يخاطب الله: (من
أجل داود عبدك لا يغلب وجه مسيحك. عهد الرب لداود بالحق، ولا يرجع عنه) يعني بمسيحه نفسه، لأن الله مسحه للنبوة والملك، وقد قال مثل هذا في غير موضع من زبوره، فسمى نفسه مسيح الله.
قال: وإذا نظر في الإنجيل وكتب بولس وغيره ممن يحتج به النصارى، وجد نحوا من عشرين ألف آية مما فيه اسم المسيح وكلها تنطق بعبودية المسيح، وأنه مبعوث مربوب وأن الله اختصه بالكرامات، ما خلا آيات يسيرة مشكلات قد تأولها كل فريق من أولئك الذين وضعوا الشريعة باختيارهم على هواهم، فأخذوا بذلك التأويل الفاسد، وتركوا المعظم الذي ينطق بعبوديته، فلو كانوا قصدوا الحق لردوا تلك المشكلات الشاذة اليسيرة التي يوجد لها من التأويل خلاف ما يتأولونه على الواضحات الكثيرة التي قد بانت بغير تأويل، لأنه إنما يجب أن يقاس الجزء على الكل، ويستدل على ما غاب بما حضر، وعلى ما أشكل بما ظهر، فمن تلك الآيات المشكلات ما ذكرناه في

كتابنا هذا وبينا معناه والحجة فيه، وأنه ليس كما تأولوه.
ومنها ما يحكون عن المسيح أنه قال: (أنا بأبي)، وقد فسر المسيح عليه السلام ذلك وكشفه. قال " يوحنا " في إنجيله: (إن المسيح تضرع إلى الله في تلاميذه وقال: يا أيها الرب القدوس احفظهم باسمك الذي أعطيتني ليكونوا هم أيضا شيئا واحدا، كما أنا شيء واحد، وكما أنك أرسلتني إلى العالم، وكذلك أرسلهم أنا أيضا. ثم قال بعد هذا أيضا: إني قد منحتهم من المجد الذي أعطيتني ومنحتني ليكونوا أيضا شيئا واحدا، كما أنا شيء واحد، فأنا بهم وأنت بي)

قال: هو معنى ذلك أنه قال: أنت معي وأنت لي، كما أنا مع تلاميذي ولهم.
قلت: أو أراد أنك بي هديت الخلق وعلمتهم وأنا أهديهم
وأعلمهم. والباء للسببية، فإن الله برسله هدى عباده وعلمهم، والرسل علموا الغائبين عنهم بالحاضرين الذين بلغوا عنهم، وقوله: ليكونوا شيئا واحدا: أراد به اتفاق صدقهم وأمرهم ومرادهم، وهذا مفسر، وقد قال: ليكونوا هم شيئا واحدا، كما أنا شيء واحد، فقد طلب لهم مثل ما حصل له ولربه.
وهذا يبين أن قوله: كما أنا شيء واحد، أي أنا موافقك في أمرك ونهيك ومحبتك ورضاك، لم يرد بذلك اتحاد ذاته به، كما لم يرد أن تتحد ذوات بعضهم ببعض، فإنه طلب لهم مثل ما حصل له من الموافقة لأمر الله ونهيه ومحبته ورضاه.
قال: أو يكون ذهب فيه إلى معنى دقيق لا يعرفه إلا أنه قد بطل على كل حال بهذا القول تأويلكم ممازجته عز وجل في اللاهوت بقوله في تلاميذه أنه بهم، كما أن أباه به، لأنه إن تأول متأول في هذا المعنى أنه ذهب في وصفه أنه أبيه، وأن أباه به إلى مشاركته في
اللاهوت فقد قال في تلامذته مثل هذا القول، فيجب أن يكونوا على هذا القياس شركاء في المحل، وهذا ما لا يكون ولا يجترئ على القول به أحد.
قال: ومن أعجب العجب أن تكون أمة كتابها ودعوتها ومعبودها واحد يتمسكون بأمر المسيح عليه السلام، وتلامذته وإنجيله وسنته وشرائعه، وهم مع ذلك مختلفون فيه أشد الاختلاف، فمنهم من يقول: إنه عبد، ومنهم من يقول: إنه إله، ومنهم من يقول: إنه ولد، ومنهم من يقول: إنه أقنوم وطبيعة، ومنهم من يقول: إنه أقنومان وطبيعتان.
وكل منهم يكفر صاحبه ويقول: إن الحق في يده، وكلهم لا يأتي من الكتاب بحجة واضحة يثبت بها دعواه، ولا من قياسه لنفسه وتأوله بما يصح له عند المناظرة، وإنما يرجع في دينه واعتقاده إلى ما تأوله له المتأولون، بما يخالف إنجيلهم وكتبهم بالهوى والعناد من بعضهم لبعض، فهم يشركون بالله على التأويل ولا شريك له، ويدعون له ولدا من جهة ما أحدثوا لأنفسهم، سبحانه أنى يكون له ولد.

قال الحسن بن أيوب: وقد بينا الحجج في بطلان كل قول لكم
مما عقدتم به شريعة إيمانكم، ووجدنا قوما منكم إذا نوظروا في ذلك قالوا: قد وجدنا أكثر الأديان يختلف أهلها فيها، ويتفرقون على مقالات شتى هم عليها، وكل منهم يدعي أن الصواب في يده.
وهذا أيضا من سوء الاختيار، وذهاب القلوب عن رشدها وانصرافها عن سبيل حقها.
فلم يختلف أهل دين من الأديان في عقد معبودهم، ولا شكوا فيه ولا تفرقوا القول فيما اختاروه، إلا أهل ملل النصرانية فقط.

وسائر من سواهم إنما اختلفوا في فروع من فروع الدين وشرائعه، مثل اختلاف اليهود في أعيادهم وسنن لهم، ومثل اختلاف المسلمين في القدر.
فمنهم من قال به، ومنهم من دفعه.
وفي تفضيل قوم من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم على نظرائهم بعد اتفاق جماعتهم على إلههم ومعبودهم وخالقهم، وأن الله إله الخلق كلهم واحد لا شريك له ولا ولد.
ثم اتفاقهم بعد ذلك على نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم لا يشكون فيه، وعلى القرآن وأنه كتاب الله المنزل على محمد المرسل لا يختلفون فيه.
فإذا صح اتفاقهم على هذه الأصول، كان ما سواها خللا لا يقع معه كفر ولا يبطل به دين.
والبلاء العظيم الاختلاف في المعبود.
فلو أن قوما لم يعرفوا لهم إلها ولا دينا، ثم عرض عليهم دين النصرانية، لوجب أن يتوقفوا عنه، إذ كان أهله لم يتفقوا على شيء فيه.
ودل اختلافهم في مقالاتهم ومباينتها ما في كتبهم على باطله.
فأما قولنا في باب التوحيد، واعترافنا بوحدانية الله تعالى ونفينا عنه الشركاء والأنداد والأمثال والأولاد، فهو قول لا يشكون في صحته ولا يشك فيه أحد من أهل الكتب وسائر الملل ولا غيرهم من أهل القول بالدهر وسائر عبدة الأصنام والأوثان، وكل منهم يقر به ويرجع إليه.
إلا أن منهم من يتابعنا على تحديد التوحيد. ومنهم من يدخل العلل فيه، بأن يقول: ثلاثة ترجع إلى واحد، وصنما نعبده إجلالا لله ليقربنا إلى ربنا وربه، ومدبر للأمور قديم لا بد أن نعترف به خالقها وباريها.
وكل منهم مقر بقولنا، وذاهب إلى مذهبنا على الاعتراف بالله على الجهة التي يذهب إليها، وأنه واحد لا شريك له.
فقد صح عقدنا بلا شك منكم، ولا من أحد من الأمم فيه،

ولا في شيء منه، بل تقودكم الضرورة إلى الإقرار به والاجتماع معنا عليه.
والحمد لله رب العالمين على توفيقه، وإياه نسأل أن يتم علينا فضله ويديم لنا تسديده بقدرته، وأن يحيينا ويميتنا على الإسلام غير مشركين ولا جاحدين ولا مبدلين، إنه على كل شيء قدير، وكل مستصعب عليه يسير، وهو بمن خافه واتقاه وطلب ما عنده ولم يلحد في دينه رءوف رحيم. اهـ.
قلت: هذا آخر ما كتبته من كلام الحسن بن أيوب، وهو ممن كان من أجلاء علماء النصارى وأخبر الناس بأقوالهم، فنقله لقولهم أصح من نقل غيره.
وقد ذكر في كتابه من الرد على ما يحتجون به من الحجج العقلية والسمعية، وما يبطل قولهم من الحجج السمعية والعقلية ما يبين ذلك.

(لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يابني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار (72)
[فصل: بيان اضطراب كلام النصارى وتفرقهم في باب طبيعة المسيح]
وأما قولهم: وعلى هذا المثال نقول: في السيد المسيح طبيعتان:
طبيعة لاهوتية: التي هي طبيعة كلمة الله وروحه.
وطبيعة ناسوتية: التي أخذت من مريم العذراء واتحدت به.
فيقال لهم: كلام النصارى في هذا الباب مضطرب مختلف متناقض، وليس لهم في ذلك قول اتفقوا عليه، ولا قول معقول، ولا قول دل عليه كتاب، بل هم فيه فرق وطوائف كل فرقة تكفر الأخرى، كاليعقوبية والملكانية والنسطورية، ونقل الأقوال عنهم في ذلك مضطربة، كثيرة الاختلاف.
ولهذا يقال: لو اجتمع عشرة نصارى لتفرقوا على أحد عشر قولا، وذلك أن ما هم عليه من اعتقادهم من التثليث والاتحاد، كما هو مذكور في أمانتهم، لم ينطق به شيء من كتب الأنبياء، ولا يوجد لا في كلام المسيح ولا الحواريين ولا أحد من الأنبياء، ولكن عندهم في الكتب ألفاظا متشابهة وألفاظا محكمة يتنازعون في فهمها، ثم القائلون منهم بالأمانة وهم عامة النصارى اليوم من الملكانية والنسطورية واليعقوبية مختلفون في تفسيرها، ونفس قولهم متناقض يمتنع تصوره على الوجه الصحيح.

فلهذا صار كل منهم يقول ما يظن أنه أقرب من غيره، فمنهم من يراعي لفظ أمانتهم وإن صرح بالكفر الذي يظهر فساده لكل أحد كاليعقوبية، ومنهم من يستر بعض ذلك كالنسطورية، وكثير منهم وهم الملكانية بين هؤلاء وهؤلاء، ولما ابتدعوا ما ابتدعوا من التثليث والحلول، كان فيهم من يخالفهم في ذلك.
وقد يوجد نقل الناس لمقالاتهم مختلفا، وذلك بحسب قول الطائفة التي ينقل ذلك الناقل قولها، والقول الذي يحكيه كثير من نظار المسلمين يوجد كثير منهم على خلافه، كما نقلوا عنهم ما ذكره أبو المعالي وصاحبه أبو القاسم الأنصاري، وغيرهما: أن القديم واحد بالجوهر، ثلاثة بالأقنوم، وأنهم يعنون بالأقنوم: الوجود والحياة والعلم.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #284  
قديم 18-08-2024, 05:04 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,401
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السابع
الحلقة( 284)

من صــ 461 الى صـ 475





ونقلوا عنهم: أن الحياة والعلم ليسا بوصفين زائدين على الذات موجودين، بل هما صفتان نفسيتان للجوهر، قالوا: ولو مثل مذهبهم بمثال لقيل: إن الأقانيم عندهم تنزل منزلة الأحوال والصفات النفسية عند مثبتيها من المسلمين، فإن سوادية اللون ولونيته صفتان نفسيتان للعرض، قال: وربما يعبرون عن الأقانيم بالأب وروح القدس، فيعنون بالأب الوجود، وبالابن المسيح والكلمة، وربما سموا العلم
كلمة، والكلمة علما، ويعبرون عن الحياة بالروح، قال: ولا يريدون بالكلمة الكلام، فإن الكلام عندهم من صفات الفعل، ولا يسمون العلم قبل تدرعه بالمسيح واتحاده به ابنا، بل المسيح عندهم مع ما تدرع به ابن، قالوا: ومن مذهبهم أن الكلمة اتحدت بالمسيح وتدرعت بالناسوت، ثم اختلفوا في معنى الاتحاد فمنهم من فسره بالاختلاط والامتزاج، وهذا مذهب طوائف من اليعقوبية والنسطورية والملكانية، قالوا: إن الكلمة خالطت جسد المسيح ومازجته كما مازج الخمر الماء أو اللبن، قالوا: وهذا مذهب الروم ومعظمهم الملكانية، قالوا: فمازجت الكلمة جسد المسيح فصارت شيئا واحدا وصارت الكثرة قلة.

وذهبت طائفة من اليعاقبة إلى أن الكلمة انقلبت لحما ودما، وقالوا: وصارت شرذمة من كل صنف إلى أن المراد بالاتحاد ظهور اللاهوت على الناسوت كظهور الصورة في المرآة، والنقش في الخاتم.
ومنهم من قال: ظهور اللاهوت على الناسوت كاستواء الإله على العرش عند المسلمين، وذهب كثير من هذه الطوائف إلى أن المراد بالاتحاد الحلول. قالوا: وقد اختلفوا أيضا في الجوهر والأقانيم
فذهبت اليعقوبية والنسطورية إلى أن الجوهر ليس بغير الأقانيم.
ولا يقال: إنه هي، وصرحت الملكانية بأنه غير الأقانيم، وآخرون قالوا: هو الأقانيم.
قالوا: وافترقت النصارى من وجه آخر، فذهبت الروم إلى التصريح بإثبات ثلاثة آلهة، وامتنعت اليعقوبية والنسطورية من ذلك في وجه والتزموه من وجه، وذلك أنهم قالوا: الكلمة إله والروح إله والأب إله، والثلاثة الأقانيم التي كل أقنوم إله، إله واحد.
قالوا: وذهبت شرذمة من النصارى إلى أن عيسى كان ابنا لله على جهة الكرامة، فكما اتخذ الله إبراهيم خليلا، كذلك اتخذ عيسى ابنا.
قالوا: وهؤلاء يقال لهم: الأريوسية. فهذا نقل طائفة من نظار المسلمين، وهذا قول لمن قاله من النصارى، وفيه ما هو مخالف لصريح أمانتهم وما عليه جمهورهم، مثل قوله: إنهم لا يسمون العلم قبل تدرعه بالمسيح ابنا، بل المسيح مع ما تدرع به ابن، فإن هذا خلاف ما عليه فرق النصارى من الملكانية واليعقوبية والنسطورية، وخلاف ما تضمنته أمانتهم، إذ صرحوا فيها بأن الكلمة ابن قديم أزلي مولود قبل الدهور، وهذا صفة اللاهوت عندهم، وفيها أشياء يقولها بعض النصارى لا كلهم، وكذلك نقلهم عنهم أنهم لا يريدون بالكلمة الكلام، فإن الكلام عندهم صفة فعل، وهذا قول طائفة منهم ومن
اليهود، وكثير منهم أو أكثرهم يقولون: إن كلام الله غير مخلوق، وينكرون على من يقول إنه مخلوق.
ونقلت طائفة أخرى منهم أبو الحسن بن الزاغوني عنهم ما يوافق هذا من وجه دون وجه، فقالوا: اتفقت طوائف النصارى على أن الله ليس بجسم، واتفقوا على أنه جوهر واحد ثلاثة أقانيم، وأن كل واحد من الأقانيم جوهر خاص يجمعها الجوهر العام، ثم اختلفوا، فقال بعضهم: إن الأقانيم مختلفة في الأقنومية، متفقة في الجوهرية.
وقال آخرون: ليست مختلفة في الأقنومية، بل متغايرة، وقال فريق منهم: إن كل واحد منها لا هو الآخر، ولا هو غيره، وليست متغايرة ولا مختلفة، وزعموا أن الجوهر ليس هو غيرها إلا ما ذكر عن طائفة من الملكانية، فإنهم قالوا: إن الأقانيم هي الجوهر غير الأقانيم، وزعموا أن الجوهر هو الأب، والأقانيم الحياة، وهي روح القدس، والقدرة، والعلم، وأن الله اتحد بأحد الأقانيم الذي هو الابن بعيسى ابن مريم، وكان مسيحا عند الاتحاد، لاهوتا وناسوتا، حمل، وولد، ونشأ، وقتل، وصلب، ودفن.
واختلفوا أيضا فقالت النسطورية: إن المسيح جوهران أقنومان قديم ومحدث، وأن اتحاده إنما هو بالمشيئة، وأن مشيئتهما واحدة وإن كانا جوهرين.

وقالت اليعقوبية: لما اتحدا صار الجوهران الجوهر القديم والجوهر المحدث جوهرا واحدا.
واختلفوا هاهنا فقال بعضهم: الجوهر المحدث صار قديما، وزعم آخرون أنهما لما اتحدا صارا جوهرا واحدا قديما من وجه محدثا من وجه آخر.
وقالت الملكانية: إن المسيح جوهران أقنوم واحد. وحكي عن بعضهم أنه أقنومان جوهر واحد، وقالت الأريوسية: إن الله ليس بجسم ولا أقانيم له، وأن المسيح لم يصلب ولم يقتل، وأنه نبي، وحكي عن بعضهم أنه قال: المسيح ليس بابن الله، وحكى عن بعضهم أنه ابن الله على التسمية والتقريب.
واختلفوا في الكلمة الملقاة إلى مريم، فقالت طائفة منهم: إن الكلمة حلت في مريم حلول الممازجة، كما يحل الماء في اللبن فيمازجه ويخالطه. وقالت طائفة منهم: إنها حلت في مريم من غير ممازجة، كما أن شخص الإنسان يحل في المرآة وفي الأجسام الصقيلة من غير ممازجة.
وزعمت طائفة من النصارى أن الناسوت مع اللاهوت كمثل الخاتم مع الشمع، يؤثر فيه بالنقش، ثم لا يبقى منه شيء إلا أثره.
قال أبو الحسن بن الزاغوني ومن معه: واختلفت النصارى في الأقانيم فقال قوم منهم: هي جواهر، وقال قوم: هي خواص، وقال قوم هي صفات، وقال قوم: هي أشخاص، والأب عندهم الجوهر الجامع للأقانيم، والابن هو الكلمة التي اتحدت عند مبدأ المسيح، والروح هي الحياة، واجتمعوا على أن الاتحاد صفة فعل وليس بصفة ذات.
قالوا: واختلف قولهم في الاتحاد اختلافا متباينا، فزعم قوم منهم أن الاتحاد هو أن الكلمة التي هي الابن حلت جسد المسيح وقيل: هذا قول الأكثرين منهم.
وزعم قوم منهم أن الاتحاد: هو الاختلاط والامتزاج، وقال قوم من اليعقوبية: هو أن كلمة الله قد انقلبت لحما ودما بالاختلاط، وقال كثير من اليعقوبية والنسطورية: الاتحاد هو أن الكلمة والناسوت اختلطا وامتزجا كاختلاط الماء بالخمر وامتزاجهما، وكذلك الخمر باللبن.
وقال قوم منهم: الاتحاد هو أن الكلمة والناسوت اتحدا فصارا هيكلا واحدا.
وقال قوم منهم: الاتحاد مثل ظهور صورة الإنسان في المرآة، وكظهور الطابع في المطبوع، مثل الخاتم في الشمع، وقال قوم منهم: الكلمة اتحدت بجسد المسيح على معنى أنها حلته من غير مماسة ولا ممازجة، كما نقول: الله في السماء على العرش من غير مماسة ولا ممازجة، وكما نقول: إن العقل جوهر حال في النفس من غير مخالطة للنفس ولا مماسة لها. وقالت الملكانية: الاتحاد أن الاثنين صارا واحدا وصارت الكثرة قلة.

وهذا الذي نقله عنهم أبو الحسن الزاغوني هو نحو ما نقله عنهم القاضي أبو بكر بن الطيب والقاضي أبو يعلى وغيرهما، وقال أبو محمد بن حزم: النصارى فرق منهم أصحاب أريوس، وكان قسيسا بالأسكندرية، ومن قوله: التوحيد المجرد وأن عيسى عبد
مخلوق، وأنه كلمة الله التي بها خلق السماوات والأرض، وكان في زمن " قسطنطين " الأول باني القسطنطينية وأول من تنصر من ملوك الروم، وكان على مذهب أريوس هذا.
قال: ومنهم أصحاب بولس الشمشاطي، وكان بطرياركا بأنطاكية قبل ظهور النصرانية وكان قوله بالتوحيد المجرد الصحيح، وأن عيسى عبد الله ورسوله كأحد الأنبياء عليهم السلام خلقه الله في بطن أمه مريم من غير ذكر، وأنه إنسان لا إلهية فيه البتة، وكان يقول: لا أدري ما الكلمة ولا الروح القدس، قال: وكان منهم أصحاب مقدنيوس، كان بطرياركا بالقسطنطينية بعد ظهور النصرانية أيام قسطنطين بن قسطنطين باني القسطنطينية، وكان هذا الملك أريوسيا كأبيه، وكان من قول مقدونيوس هذا التوحيد المجرد وأن عيسى عليه السلام عبد مخلوق إنسان نبي رسول كسائر الأنبياء عليهم السلام، وأن عيسى هو روح القدس وكلمة الله، وأن روح القدس والكلمة مخلوقان، خلق الله كل ذلك، قال: وكان منهم البربرانية، وهم يقولون: إن عيسى وأمه إلهان من دون الله تعالى. قال: وهذه الفرق قد بادت، وعمدتهم اليوم ثلاث فرق، وأعظمها فرق الملكانية، وهي مذهب جميع ملوك النصارى حيث كانوا حاشا الحبشة والنوبة ومذهب عامة أهل كل مملكة النصارى حاشا النوبة والحبشة وهو مذهب جميع نصارى أفريقية وصقلية
والأندلس وجمهور الشام، وقولهم أن الله تعالى الله عن قولهم ثلاثة أشياء: أب، وابن، وروح القدس، كلها لم تزل، وأن عيسى إله تام كله وإنسان تام ليس أحدهما غير الآخر، وأن الإنسان منه هو الذي صلب وقتل، وأن الإله منه لم ينله شيء من ذلك، وأن مريم ولدت الإله والإنسان، وأنهما معا شيء واحد ابن الله تعالى الله عن كفرهم.
وقالت النسطورية مثل ذلك سواء بسواء، إلا أنهم قالوا: إن مريم لم تلد الإله، وإنما ولدت الإنسان، وأن الله لم يلد الإنسان، وإنما ولد الإله تعالى الله عن كفرهم، وهذه الفرقة غالبة على الموصل والعراق وفارس وخراسان، وهم منسوبون إلى نسطور، وكان بطرياركا بالقسطنطينية.
وقالت اليعقوبية: إن المسيح هو الله نفسه، وأن الله تعالى الله عن عظيم كفرهم مات وصلب وقتل، وأن العالم بقي ثلاثة أيام بلا
مدبر، والفلك بلا مدبر، ثم قام ورجع كما كان، والله تعالى عاد محدثا، والمحدث عاد قديما، والله تعالى كان في بطن مريم محمولا به، وهم في أعمال مصر وجميع النوبة وجميع الحبشة، وملوك الأمتين المذكورتين.

قلت: ومن أخبر الناس بمقالاتهم من كان من علمائهم، وأسلم على بصيرة بعد الخبرة بكتبهم ومقالاتهم، كالحسن بن أيوب الذي كتب رسالة إلى أخيه علي بن أيوب يذكر فيها سبب إسلامه ويذكر الأدلة على بطلان دين النصارى وصحة دين الإسلام، قال في رسالته إلى أخيه لما كتب إليه يسأله عن سبب إسلامه بعد أن ذكر خطبته: " ثم أعلمك أرشدك الله أن ابتداء أمري في الشك الذي دخلني فيما كنت عليه والاستبشاع بالقول به من أكثر من عشرين سنة لما كنت أقف عليه في المقالة من فساد التوحيد لله عز وجل بما أدخل فيه من القول بالثلاثة الأقانيم وغيرها مما تضمنته شريعة النصارى، ووضع الاحتجاجات التي لا تزكو ولا تثبت في تقرير ذلك، وكنت إذا تبحرته وأجلت الفكر فيه، بان لي عواره، ونفرت نفسي من قبوله، وإذا فكرت في دين الإسلام الذي من الله علي به، وجدت أصوله ثابتة وفروعه مستقيمة وشرائعه جميلة.
وأصل ذلك ما لا يختلف فيه أحد ممن عرف الله عز وجل منكم ومن غيركم وهو الإيمان بالله الحي القيوم السميع البصير الواحد الفرد الملك القدوس الجواد العدل إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وإله موسى وعيسى وسائر النبيين والخلق أجمعين، الذي لا ابتداء له ولا انتهاء، ولا ضد ولا ند، ولم يتخذ صاحبة ولا ولدا، الذي خلق الأشياء كلها لا من شيء ولا على مثال، بل كيف شاء وبأن قال لها: " كوني " فكانت على ما قدر وأراد، وهو العليم القدير الرءوف الرحيم الذي لا يشبهه شيء، وهو الغالب فلا يغلب، والجواد فلا يبخل، لا يفوته مطلوب، ولا تخفى عليه خافية، {يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور} [غافر: 19]، وما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها، وكل مذكور أو موهوم هو منه، وكل ذلك به، وكل له قانتون، ثم نؤمن بأن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ; ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، ونؤمن بموسى وعيسى وسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لا نفرق بين أحد منهم، ونؤمن بالتوراة والإنجيل والزبور والقرآن وسائر الكتب التي أنزلها الله تعالى على أنبيائه، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأن الأبرار لفي نعيم وأن الفجار لفي جحيم يصلونها يوم الدين، ذلك بما كسبت أيديهم وأن الله ليس بظلام للعبيد.

قال: وكان يحملني إلف ديني وطول المدة والعهد عليه والاجتماع مع الآباء والأمهات والإخوة والأخوات والأقارب والإخوان والجيران وأهل المودات على التسويف بالعزم، والتلبث على إبرام الأمر، ويعرض مع ذلك الفكر في إمعان النظر والازدياد في البصيرة، فلم أدع كتابا من كتب أنبياء التوراة والإنجيل والزبور وكتب الأنبياء والقرآن إلا نظرت فيه وتصفحته، ولا شيئا من مقالات النصرانية إلا تأملته، فلما لم أجد للحق مدفعا، ولا للشك فيه موضعا، ولا للأناة والتلبث وجها، خرجت مهاجرا إلى الله عز وجل بنفسي هاربا بديني عن نعمة وأهل مستقر ومحل وعز ومتصرف في عمل، فأظهرت ما أظهرته عن نية صحيحة، وسريرة صادقة، ويقين ثابت، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، لقد جاءت رسل ربنا بالحق،

وإياه تعالى نسأل أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا منه رحمة، إنه هو الوهاب.
قال: ولما نظرت في مقالات النصارى وجدت صنفا منهم يعرفون بالأريوسية يجردون توحيد الله ويعترفون بعبودية المسيح عليه السلام ولا يقولون فيه شيئا مما يقوله النصارى من ربوبية ولا بنوة خاصة ولا غيرهما، وهم متمسكون بإنجيل المسيح مقرون بما جاء به تلاميذه والحاملون عنه، فكانت هذه الطبقة قريبة من الحق مخالفة لبعضه في جحود نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ودفع ما جاء به من الكتاب والسنة.
قال: ثم وجدت منهم صنفا يعرفون باليعقوبية، يقولون: إن المسيح طبيعة واحدة من طبيعتين: إحداهما طبيعة الناسوت والأخرى طبيعة اللاهوت، وأن هاتين الطبيعتين تركبتا كما تركبت النفس مع البدن فصارتا إنسانا واحدا وجوهرا واحدا وشخصا واحدا، وأن هذه الطبيعة الواحدة والشخص الواحد هو المسيح، وهو إله كله وإنسان كله، وهو شخص واحد وطبيعة واحدة من طبيعتين.
وقالوا: إن مريم ولدت الله، تعالى الله عما يقولون، وإن الله مات وتألم وصلب متجسدا، ودفن وقام من بين الأموات وصعد إلى السماء، فجاءوا من القول بما لو عرض على السماء لانفطرت، أو على الأرض لانشقت، أو على الجبال لانهدت، فلم يكن لمحاجة هؤلاء وجه، إذ كان كفرهم بما صرحوا به أوضح من أن يقع فيه الشك، وكان غيرهم من النصارى كالمالكانية والنسطورية يشهدون بذلك عليهم.

قال: ثم نظرت في قول الملكانية وهم الروم وهم أكثر النصارى فوجدتهم قالوا: إن الابن الأزلي الذي هو الله الكلمة تجسد من مريم تجسدا كاملا كسائر أجساد الناس، وركب في ذلك الجسد نفسا كاملة بالعقل والمعرفة والعلم كسائر أنفس الناس، وأنه صار إنسانا بالنفس والجسد اللذين هما من جوهر الناس، وإلها بجوهر اللاهوت كمثل أبيه لم يزل، وهو إنسان بجوهر الناسوت مثل إبراهيم وداود، وهو شخص واحد لم يزد عدده وثبت له جوهر اللاهوت كما لم يزل يصح له جوهر الناسوت الذي لبسه من مريم، وهو شخص واحد لم يزد عدده وطبيعتان، ولكل واحدة من الطبيعتين مشيئة كاملة، فله بلاهوته مشيئة مثل الأب والروح، وله بناسوته مشيئة مثل مشيئة إبراهيم وداود.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #285  
قديم 18-08-2024, 05:12 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,401
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السابع
الحلقة( 285)

من صــ 476 الى صـ 490



وقالوا: إن مريم ولدت إلها، وأن المسيح وهو اسم يجمع اللاهوت والناسوت، مات، وقالوا: إن الله لم يمت، والذي ولدت مريم قد مات بجوهر ناسوته (فهو إله تام بجوهر لاهوته، وإنسان تام بجوهر ناسوته، وله مشيئة اللاهوت ومشيئة الناسوت، وهو شخص واحد لا نقول شخصان لئلا يلزمنا القول بأربعة أقانيم.
قال: فهؤلاء أتوا من ذلك بمثل ما أتت به اليعقوبية في ولادة مريم الله، تعالى الله عما يقول الظالمون، وقالوا: إن المسيح وهو اسم لا تشك جماعة النصارى أنه واقع على اللاهوت والناسوت مات، وأن الله لم يمت، فكيف يكون ميتا لم يمت، وقائما قاعدا في حال واحدة؟ وهل بين المقالتين فرق إلا ما اختلفوا فيه من الطبائع؟
قال: ثم نظرت في قول النسطورية فوجدتهم قالوا: إن المسيح شخصان وطبيعتان لهما مشيئة واحدة، وأن طبيعة اللاهوت التي للمسيح غير طبيعة ناسوته، وأن طبيعة اللاهوت لما توحدت بالناسوت بشخصها
الكلمة التي صارت الطبيعتان بجهة واحدة وإرادة واحدة، واللاهوت لا يقبل زيادة ولا نقصان، ولا يمتزج بشيء، والناسوت يقبل الزيادة والنقصان، فكان المسيح بتلك إلها وإنسانا، فهو إله بجوهر اللاهوت الذي لا يزيد ولا ينقص، وهو إنسان بجوهر الناسوت القابل للزيادة والنقصان.
وقالوا: إن مريم ولدت المسيح بناسوته، وإن اللاهوت لم يفارقه قط منذ توحدت بناسوته.

وقال: فوجدنا اليعقوبية قد صرحوا بأن مريم ولدت الله، تعالى عما يصفه المبطلون ويقوله العادلون، وأنه تألم وصلب ومات، وقام بعد ثلاثة أيام من بين الموتى، وهذا الكفر الذي تشهد به عليهم سائر ملل النصارى وغيرهم، ووجدنا الملكانية قد حادوا عن هذا التصريح إلى ما هو دونه في الظاهر، فقالوا: إن المسيح شخص واحد وطبيعتان، فلكل واحدة من الطبيعتين مشيئة، فله بلاهوته مشيئة مثل الأب والروح، وله بناسوته مشيئة كمشيئة إبراهيم وداود. وأوهموا الواقف على قولهم أنهم بما اخترعوه من هذا الاختيار قد فرقوا بين اللاهوت والناسوت، ثم عادوا إلى قول اليعقوبية، فقالوا: إن مريم ولدت إلها وأن المسيح وهو اسم يجمع اللاهوت والناسوت عند جماعتهم لا يشكون في ذلك، مات بالجسد وأن الله لم يمت، والذي قد ولدته مريم قد مات بجوهر ناسوته، فكيف يكون ميت لم يمت؟ وهل بين المقالتين إلا ما اختلفوا فيه من الطبائع فرق؟

وإذا كانوا قد اعترفوا بأن مريم ولدت الله، وأن الذي ولدته مريم وهو المسيح الاسم الجامع للجوهرين، للاهوت والناسوت قد مات، فهل وقعت الولادة والموت وسائر الأفعال التي تحكي النصارى أنها فعلت بالمسيح إلا عليهما؟
فكيف يصح لذي عقل عبادة مولود من امرأة بشرية قد مات ونالته العلل والآفات؟
قلت: ومما يوضح تناقضهم أنهم يقولون: إن المسيح وهو اللاهوت والناسوت شخص واحد وأقنوم واحد مع قولهم أنهما جوهران بطبيعتين ومشيئتين فيثبتون للجوهرين أقنوما واحدا، ويقولون: هو شخص واحد، ثم يقولون: إن رب العالمين إله واحد، وأقنوم واحد، وجوهر واحد، وهو ثلاثة أقانيم، فيثبتون للجوهر الواحد ثلاثة أقانيم، وللجوهرين المتحدين أقنوما واحدا، مع أن مشيئة الأقانيم الثلاثة عندهم واحدة، والناسوت واللاهوت يثبتون لهما مشيئتين وطبيعتين، ومع هذا هما عندهم شخص واحد، أقنوم واحد، وهذا يقتضي غاية التناقض سواء فسروا الأقنوم بالصفة، أو الشخص، أو الذات مع الصفة، أو أي شيء قالوه.
وهو يبين أن الذين تكلموا بهذا الكلام ما تصوروا ما قالوه،بل كانوا ضلالا جهالا، بخلاف ما يقوله الأنبياء فإنه حق، فلهذا لا يوجد عن المسيح ولا غيره من الأنبياء ما يوافق قولهم في التثليث والأقانيم والاتحاد ونحو ذلك مما ابتدعوه بغير سمع وعقل، بل ألقوا أقوالا مخالفة للشرع والعقل.

ثم قال الحسن بن أيوب: ثم وجدنا النصارى المعروفين بالنسطورية قد خالفوا اليعقوبية والملكانية في قولهم بشخصين لهما مشيئة واحدة، وأن الطبيعتين اتحدتا فصارتا بجهة واحدة، ثم عادوا إلى شبيه قولهم في أن مريم ولدت المسيح، فإذا كانت ولدت المسيح فقد لزمهم ووجب عليهم الإقرار بأنها ولدت هذا اللاهوت والناسوت المتحدين.
وقد رجع المعنى إلى قول اليعقوبية، إلا أنهم اختاروا لذلك ألفاظا زوقوها وقدروا بها التمويه على السامع، ولم يصرحوا بالقول كتصريح اليعقوبية ; لأن المتحد بالشيء هو الممازج له والمجتمع معه حتى صار مازجه وهو شيئا واحدا، ثم أكدوا القول بإقرارهم أن الناسوت منذ اتحد باللاهوت لم يفارقه، فما لم يفارق الشيء هل هو إلا يجري مجراه في سائر متفرقاته من ضر ونفع، وخير وشر، وحاجة وغنى؟

قال: وأما قولهم: إن مريم ولدت المسيح بناسوته فهذه أغلوطة، وإلا فكيف يولد ولد متحد بشيء آخر مجامع له دون ذلك الشيء؟ وكيف يكون ذاك وهم يقولون إنه لم يفارقه قط؟ وهل يصح
هذا عند أهل النظر؟ أوليس الحكم عند كل ناظر ومن كل ذي عقل يوجب أن تكون الولادة واقعة على اللاهوت والناسوت معا؟ بمعنى الاتحاد وبمعنى الاسم الجامع للاهوت والناسوت وهو المسيح، وكذلك الحمل بهما جميعا، وأن يكون البطن قد حواهما؟
قال: فإن لجوا في الباطل ودافعوا عن قبيح هذه المقالة، ومالوا إلى تحسينها بالتمويهات المشككة لمن قصرت معرفته، فنحن نقيم عليهم شاهدا من أنفسهم لا يمكنهم دفعه، وذلك أن شريعة إيمانهم التي ألفها لهم رؤساؤهم من البطاركة والمطارنة والأساقفة والأحبار في دينهم وذوي العلم منهم بحضرة الملك عند اجتماعهم من آفاق الأرض بمدينة " قسطنطينية " وكانوا ثلاثمائة وثمانية عشر رجلا، يصفون أنهم نطقوا بها بروح القدس، وهي التي لم تختلف جماعتهم عند اختلافهم في المقالات فيها، ولا يتم لهم قربان إلا بها على هذا النسق الذي نبينه: نؤمن بالله الأب، مالك كل شيء، صانع ما يرى وما لا يرى، وبالرب الواحد يسوع المسيح ابن الله الواحد، بكر الخلائق كلها، وليس بمصنوع، إله حق من إله حق، من جوهر أبيه، الذي بيده أتقنت العوالم، وخلق كل شيء، الذي من أجلنا معشر البشر، ومن أجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسد من روح القدس، وصار إنسانا، وحبل به وولد من مريم البتول، وتألم وصلب أيام قيطوس بن بيلاطوس، ودفن، وقام في اليوم الثالث كما هو مكتوب، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين أبيه، وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء، ونؤمن بروح القدس الواحد روح الحق الذي يخرج من أبيه روح، ومجيئه، وبمعمودية واحدة لغفران الخطايا، وبجماعة واحدة قديسية سليخية جاثليقية، وبقيامة أبداننا، وبالحياة الدائمة إلى أبد الآبدين.
قال: فهذه الشريعة يجتمع على الإيمان بها، وبذل المهج فيها، وإخراج الأنفس دونها جماهيرهم من الملكانية واليعقوبية والنسطورية.
وقد اعترفوا فيها جميعا بأن الرب المسيح الذي هذه صفته على ما اقتصصناه منها الإله الحق من الإله الحق، نزل من السماء وتجسد من روح القدس، وصار إنسانا وحبل به وولد من مريم البتول وتألم وصلب.

قال: فهل في هذا الإقرار شبهة أو علقة يتعلق بها العنت المدافع عن الحجة؟ فتدبروا هذا القول يا معشر النصارى، فإنه لا يمكن أحد منكم أن يخرج عنه، ولا أن يدفع ما صرح به، فإنكم إن قلتم: إن المقتول المصلوب هو الله، فمريم على قولكم ولدت الله، سبحانه وتعالى عما يقولون، وإن قلتم: إنه إنسان فمريم ولدت إنسانا، وفي ذلك أجمع بطلان شريعة إيمانكم، فاختاروا أي القولين شئتم، فإن فيه نقض الدين.

قال: وقد يجب على ذوي العقول أن تزجرهم عقولهم عن عبادة إله ولدته مريم، وهي امرأة آدمية، ثم مكث على الأرض ثلاثين سنة تجري عليه أحكام الآدميين من غذاء وتربية، وصحة وسقم، وخوف وأمن، وتعلم وتعليم، لا يتهيأ لكم أن تدعوا أنه كان منه في تلك المدة من أسباب اللاهوتية شيء، ولا له من أحوال الآدميين كلها من حاجتهم وضروراتهم وهمومهم ومحنهم وتصرفاتهم مخرج، ثم أحدث بعد هذه المدة الطويلة ما أحدثه من إظهار أمر الله تعالى والنبوات والآيات الباهرة المعجزة بقوة الله تعالى، وقد كان من غيره من الأنبياء مثلها وما هو أعلى منها، فكانت مدته في ذلك أقل من ثلاث سنين، ثم انقضى أمره بما يصفون أنه انقضى به وينسبونه إليه من حبس وضرب وقذف، وصلب وقتل، فهل تقبل العقول ما يقولون من
أن إلها نال عباده منه، مثل ما تذكرون أنه نيل منه؟
فإن تأولتم أن ذلك حل بالجسم، وليس بالقياس يحتمل ذلك لما شرحناه من معنى اتحاد اللاهوت به، أفليس قد وقع بجسم توحدت اللاهوتية به، وحلت الروح فيه، وقد أنجبه الله على ما تزعمون وتصفون لخلاص الخلق، وفوض إليه القضاء بين العباد في اليوم الذي يجتمع فيه الأولون والآخرون للحساب، وقد وجدناكم تؤثرون أخبارا في قوم عرضوا التوابيت فيها شهداء لكم بأن الأيدي التي بسطت إليها جفت، أو هل نال أحدا من الجزع والهلع والغم والقلق والتضرع إلى الله في إزالة ما حل به، مثل ما يحكى في الإنجيل أنه ناله، ووجدنا الكتب تنبئ بأنه نيل من جورجيس أحد من كان على دين المسيح صلى الله عليه وسلم من العذاب الشديد بالقتل والحرق والنشر بالمناشير ما لم يسمع بمثله في أحد من الخلق، ونال خلقا كثيرا من تلامذته أيضا عذاب شديد.

وقيل: لما كان الملوك المحاربون لهم يسومونهم إياه من الرجوع عن أديانهم إلى الكفر الذي كان أولئك الملوك عليه فصبروا على ذلك واحتسبوا أنفسهم، فلم يهربوا من الموت، وقد كان يمكنهم الهرب من بلد إلى بلد، والاستتار وإخفاء أشخاصهم، وما أظهروا في حال من تلك الأحوال جزعا ولا هلعا، وهم بعض الآدميين التابعين له، لأنه خفف عنهم ما كانوا ينالون به بتأييد الله عز وجل إياهم.
قال: ثم نقول قولا آخر: قد نستدل على صحة هذه الشريعة من سقمها بأربعة أوجه، لا يقع في شيء منها شك ولا طعن، ولا زيادة ولا نقصان، وهي أصل أمر المسيح عندكم:
فأولها البشرى التي أتى بها جبريل عليه السلام

والثانية: قول يحيى بن زكريا الذي شهد له المسيح بأنه لم تقم النساء عن مثله.
والثالثة: النداء المسموع من السماء.
والرابعة: قول المسيح عن نفسه حين سأله يحيى عن شأنه.
والذي قال جبريل على ما ثبت في إنجيلكم لمريم حين بشرها: (السلام عليك أيتها الممتلئة نعما، ربنا معك أيتها المباركة في النساء. فلما رأته مريم ذعرت منه، فقال: لا ترهبي يا مريم فقد فزت بنعمة من ربك، فها أنت تحبلين وتلدين ابنا وتسميه يسوع ويكون كبيرا، ويسمى ابن الله العلي، ويعطيه الله الرب كرسي أبيه داود، ويكون ملكا على آل يعقوب إلى الأبد. فقالت مريم: أنى يكون لي ذلك ولم يمسسني رجل؟ قال لها الملك: إن روح القدس يأتيك، أو قال: يحل فيك، وقوة العلي تحبلك، من أجل ذلك يكون الذي يولد منك قديسا، ويسمى ابن الله العلي).
قال: فلم نر الملك قال لها: إن الذي تلدين هو خالقك، وهو الرب كما سميتموه، بل أزال الشك في ذلك بأن قال: إن الله الرب يعطيه كرسي أبيه داود، ويصطفيه ويكرمه، وأن داود النبي أبوه، وأنه يسمى ابن الله، وما قال أيضا: (أنه يكون ملكا على الأرض) وإنما جعل له الملك على بني إسرائيل فقط، وقد علمتم أن من يسمى بابن الله كثير لا يحصون، فمن ذلك إقراركم بأنكم جميعا أبناء الله بالمحبة، وقول المسيح: (أبي وأبيكم، وإلهي وإلهكم)، في غير موضع من الإنجيل، ثم تسمية الله يعقوب وغيره بنيه خصوصا، فالسبيل في المسيح إذا لم تلحقوه في هذا الاسم بالجمهور أن يجري في هذه التسمية مجرى الجماعة الذين اختصوا بها من الأنبياء والأبرار، ونسبة الملك إياه إلى أبيه داود تحقق أن أباه داود، وأن التسمية الأولى على جهة الاصطفاء والمحبة، وأن حلول الروح عليه على الجهة التي قالها " متى " التلميذ للشعب عن المسيح في الإنجيل: (لستم أنتم متكلمين، بل روح الله تأتيكم تتكلم فيكم).
فأخبر أن الروح تحل في القوم أجمعين وتتكلم فيهم، وقال الملك في بشارته لمريم بالمسيح عليه السلام: إنه يكون ملكا على آل يعقوب. فخص آل يعقوب بتملكه عليهم دون غيرهم من الناس، ولم يقل إنه يكون إلها للخلائق، ومعنى قول جبريل عليه السلام

لمريم 74: (ربنا معك) مثل معنى قول الله عز وجل لموسى وغيره من الأنبياء: (إني معكم) فقد قال ليوشع بن نون: (إني أكون معك، كما كنت مع موسى عبدي) فقول النصارى كلهم في مجاري لغتهم ومعاني ألفاظهم أن الله عز وجل وروح القدس مع كل خطيب وراهب وفاضل في دينه على هذه السبيل.
قال: وأما النداء الذي سمعه يحيى بن زكريا من السماء في المسيح، وشهادة يحيى له، فإن " متى " قال في إنجيله: (إن المسيح عليه السلام لما خرج من الأردن تفتحت له السماء، فنظر يحيى إلى روح القدس قد نزلت على المسيح كهيئة حمامة، وسمع نداء من السماء: إن هذا ابني الحبيب الذي اصطفيته).

فقد علمنا وعلمتم أن المصطفى مفعول، والمفعول مخلوق، وليس يستنكف المسيح عليه السلام من الاعتراف بذلك عن الاعتراف بذلك في كل كلامه، وما زال يقول: (إلهي وإلهكم وأبي وأبيكم) وكلما يصحح به أنه عبد مرسل مربوب مبعوث مأمور يؤدي ما سمع، ويفعل ما حد له، ونحن نشرح هذا في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
ثم قال: وقد وجدنا المسيح عليه السلام احتاج إلى تكميل أمره بمعمودية يحيى له، فسار إليه لذلك وسأله إياه، فليس مرتبة المقصود بدون مرتبة القاصد الراغب، وقال " لوقا " التلميذ في إنجيله: (إن يحيى المعمداني أرسل إلى المسيح بعد أن عمده وسأله: أنت ذلك الذي تجيء، أو نتوقع غيرك؟) فكان جواب المسيح لرسله: (أن ارجعوا فأخبروه بما ترون من عميان يبصرون، وزمن ينهضون، وصم يسمعون، فطوبى لمن لم يغتر بي، أو يذل في أمري).

قال: فوجدنا يحيى مع محله وجلالة قدره عند الله عز وجل ثم ما شهد به للمسيح له من أنه ما قامت النساء عن مثله، قد شك فيه، فاحتاج إلى أن يسأله عن شأنه، ثم لم يكن من جواب المسيح له بشيء مما تصفون من الربوبية، ولا قال: إني خالقك وخالق كل شيء، كما في شريعة إيمانكم، بل حذر الغلط في أمره والاغترار، ولا كان من قوله أكثر مما ذكر أنه أظهر بنبوته من هذه الآيات التي سبق إلى مثلها أكثر الأنبياء.
قال: ولا رأينا يحيى زاد في وضعه إياه لما قرظه وأعلا ذكره مع تشككه في أمره وحاجته إلى مسألته عن حاله على أن قال: (هو أقوى مني، وأني لا أستحق أن أحل معقد خفه) ولم يقل إنه
خالقي، وقد يقول الرجل الخير فيمن هو دونه مثل الذي قال يحيى فيه تواضعا لله وخشوعا، كما قال المسيح في يحيى: (إنه ما قامت النساء عن مثله).

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #286  
قديم 18-08-2024, 05:20 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,401
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السابع
الحلقة( 286)

من صــ 491 الى صـ 500



قال: فتركتم ما أتت به الرسل والنبوات في المسيح وهو أصلكم الذي وقع عليه بناؤكم، وجعلتم لأنفسكم شريعة غيرها، ومثل الذين عقدوا هذه الشريعة لكم مثل من آمن بنبوة رجل ينتفي من النبوة، لأن المسيح عليه السلام يقول: إنه مربوب مبعوث، ويقول جبريل: إنه مكرم مصطفى، وأن أباه داود، وأن الله جعله ملكا على آل يعقوب، وينادي مناد من السماء بمثل ذلك، ويشهد يحيى بن زكريا على مثله، وتقولون: بل هو خالق أزلي إلا أنه يستر نفسه، ويقول: المسيح وغيره ممن سمينا أنه معطى وأن الله معطيه، وتقولون: بل رازق النعم وواهبها، ويقول: إن الله أرسله، وتقولون:
بل هو الذي نزل لخلاصنا، وتعتقدون سبب نزوله من السماء أنه أراد أن يخلصكم، ويحتمل الخطيئة، ويربط الشيطان! فقد وجدنا الخلاص لم يقع، والخطيئة قائمة لم تزل، والشيطان أعتى ما كان لم يربط، بل سلطه الله عليه على ما تقولون، فحصره في الجبل أربعين يوما يمتحنه، وقال له في بعض أحواله معه: (إن كنت ابن الله فقل لهذه الصخور تصير خبزا، فقال له المسيح مجيبا له: إنه مكتوب أن حياة الإنسان لا تكون بالخبز، بل بكل كلمة تخرج من الله.

ثم ساقه الشيطان إلى مدينة بيت المقدس، وأقامه على قرنة الهيكل، وقال له: إن كنت ابن الله فارم بنفسك من هاهنا، فإنه مكتوب إن الملائكة توكل بك، لئلا تعثر رجلك بالحجر. قال يسوع: ومكتوب أيضا: لا تجرب الرب إلهك. ثم ساقه إلى جبل عال وأراه جميع مملكات الدنيا وزخارفها، وقال له: إن خررت على وجهك ساجدا لي جعلت هذا الذي ترى كله لك. قال له المسيح: اغرب أيها الشيطان، فإنه مكتوب: اسجد للرب إلهك، ولا تعبد شيئا سواه. ثم بعث الله عز وجل ملكا اقتلع العدو من مكانه ورمى به في البحر، وأطلق السبيل للمسيح.

وقال: أفلا يعلم من كان في عقله أدنى مسكة، أن هذا الفعل لا يكون من شيطان إلى إله، ولو كان إلها لأزاله عن نفسه قبل أن يأتيه الملك من عند ربه، ولما قال: (أمرنا أن لا نجرب الله، وأن نسجد للرب، ولا نعبد شيئا سواه). وكيف لم يربط الشيطان عن نفسه قبل أن يربط عن أمته؟ قال: فهذه أمور إذا تأملها المتأمل قبحت جدا، وكثر اختلافها، واشتد تناقضها واضطرابها.

قال: ومما يعجب منه أنكم تعتقدون أن الابن الأزلي اتحد بالمسيح فصارا بجهة واحدة ولم يفارقه قط منذ اتحد به، ومكث على ذلك في بطن أمه تسعة أشهر، ثم أقام مولودا وتغذى باللبن، ومربوبا صبيا مغذى بالأغذية إلى أن بلغ ثلاثين سنة لا يظهر منه شيء من آلة الربوبية، ولا أمر يوجب هذا المحل، ولا كان بينه وبين نظرائه من الآدميين فرق، ولا سطع منه نور، ولا ظهرت له سكينة، ولا حفته الملائكة بالتهليل، ولا ألم به الشعث بعد ذلك فوق ما كان من الأنبياء قبله، فقد كلم الله موسى من العوسجة كيف شاء فأشرق ما حولها نورا، وكلمه من طور سيناء فاضطربت في الجبل النيران، والتبس وجهه النور الساطع حتى كان يتبرقع إذا جلس مع بني إسرائيل بعد ذلك، لأنهم كانوا لا يستطيعون النظر إليه، ثم سأل موسى ربه عز وجل لما قرب

منه فقال: رب أرني أنظر إليك. قال: لن تراني ولكن انظر إلى الجبل، فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق) من صعقته استغفر ربه فتاب عليه، وتجلى مجد الله لجماعة من الأنبياء فرأوا حول مجده ربوات الملائكة.

وقال داود: (يا رب إنك حيث عبرت ببلاد سنين تزلزلت الأرض منك وانفطرت من هيبتك). وقال أيضا كالمخاطب للبحر والجبال والمتعجب منها: (ما لك أيها البحر هاربا، وأنت يا نهر الأردن لم وليت راجعا، وما لك أيتها الجبال تنفرين كالأبابيل، ومالكن أيتها الشوامخ والهضبات تنزو نزو الشياء). ثم قال كالمجيب عنهم: (من قدام الرب تزلزلت البقاع).
قال: فإن كان المسيح هو الأزلي الخالق أو كان متحدا به، فكيف لم ترجف بين يديه الجبال ولم تتصرف عن مشيئته الأنهار والبحار؟ أو كيف لم تظهر منه آيات باهرات أجل من آيات الأنبياء قبله مثل المشي على متون الهواء، والاضطجاع على أكتاف الرياح، والاستغناء عن
المآكل والمشارب وإحراق من قرب منه من الشياطين والجن، كما أحرق إيليا من قرب منه من جند أحاب الملك، ويمنع الآدميين من نفسه، وما فعلوا على زعمكم بجسمه ليعلم الناس أنه خالقهم أو أنه هيكل الخالق؟

قال: ووجدناكم تقولون: إن الابن إنما يسمى ابن الله وكلامه، لأنه تولد من الأب وظهر منه، فلم نقف على معنى ذلك، لأن شريعة إيمانكم تقول: إن الروح أيضا تخرج من الأب، فإن كان الأمر كما تقولون فالروح أيضا ابن، لأنها تخرج عن الله تعالى، وإلا فما الفرق بينهما؟
قال: ولم نفهم أيضا قولكم: إن الابن تجسد من روح القدس، وأن روح القدس ساقه إلى البر ليمتحنه الشيطان، فما كانت حاجة الابن إلى أن تكون الروح وهي في قولكم مثله تدبره وتغيره من حال إلى حال، أوما علمتم أن الغير السابق المدبر فاعل، والمسبوق
المدبر مفعول به، فالابن إذن دون الروح وليس مثله، لأن الأزلي لا ينفك من الأزلي وهو مثله.

قال: وإن كان المسيح من روح القدس، كما قال جبريل الملك لأمه مريم، فلم سميتموه كلمة الله وابنه، ولم تسموه روحه، فإنما قال لها الملك: إن الذي تلدين من روح القدس. والروح غير الابن، ولو كان المعنى واحدا لما قالت الشريعة إنه تجسد من روح القدس، وإن روح القدس ساقه إلى البر، وإن روح القدس نزل عليه، ولم تثلثون به في إيمانكم فتقولون: نؤمن بالأب والابن والروح القدس؟
قال: ووجدناكم تقولون أيتها النسطورية: إن لله علما وحكمة هما الابن، وحياة هي الروح قديمين، ولعلمه وحياته ذات كذات الله، وذلك أن علم الله له علم وحياة، ولحياته التي هي روحه علم وحياة، وأن الله الأب لما رأى استيلاء العدو على خلقه ونكول الأنبياء عن مناوأته، أرسل إليه ابنه الفرد وحبيبه وجعله فداء ووفاء للناس أجمعين، وأن ابنه نزل من السماء وتجسد من روح القدس وصار إنسانا، ثم ولد ونشأ وعاش ثلاثين سنة يتقلب بين بني إسرائيل كواحد منهم، يصلي
في كنائسهم، ويستن بسننهم، لا يدعي دينا غير دينهم، ولا ينتحل رسالة ولا نبوة ولا بنوة حتى إذا انقضت تلك السنون. أظهر الدعوة وجاء بالآيات الباهرة والبراهين المشهورة، فأنكرته اليهود وقتلته وصلبته، ثم صعد إلى السماء.
وصدقتم بشريعة الإيمان وكفرتم من خالفها، ثم لم تلبثوا أن خلعتموها وانسلختم منها وقلتم: إن المسيح جوهران وأقنومان، جوهر قديم وجوهر حديث، ولكل جوهر أقنوم على حياله، وإن الله جوهر قديم يقوم بمعنيين، فهو واحد يقوم بثلاثة معان، وثلاثة لها معنى واحد، كالشمس التي هي شيء واحد ولها ثلاثة معان: القرص والحر والنور. فالمسيح هو الله، وهو مبعوث غير أنه ليس يعبد.

فكان معنى قولكم هذا: أن المسيح مولود لكنه ليس مفعولا به، وهو مبعوث مرسل لكنكم تستحيون أن تسموه رسولا، إذ كنتم لا تفرقون بين الله وبينه في شيء من الأشياء، وأقبلتم على الملكانية واليعقوبية بالتكفير واللعن لقولهم إن الله والمسيح شيء واحد، ثم لم تلبثوا أن قدمتم المسيح على الله تبارك وتعالى وبدأتم به في التمجيد، ورفعتم إليه تهاليلكم ورغائبكم في أوقات القرابين خاصة، وهي أجل صلواتكم وأفضل محافلكم عندكم، فإنه يقوم الإمام منكم على المذبح من مذابحكم
وأهله مرعوبون فتتوقعون نزول روح القدس، بزعمكم من السماء بدعائه.

فيفتح دعاءه ويقول: (ليتم علينا وعليكم نعمة يسوع المسيح ومحبة الله الأب، ومشاركة روح القدس إلى دهر الداهرين). ثم يختم صلاته بمثل ذلك، فهذا تصريح بالشرك، وتصغير لعظمة الله وعزته أن جعلتم النعم والمواهب لمن هو دونه، وهو معطى ومخول من عند الله على قولكم، وجعلتم لله بعد المسيح محبة ولروحه مشاركة.
قال: ووجدناكم قد عبتم على اليعقوبية قولهم: إن مريم ولدت الله، عز الله وجل عن ذلك، وفي شريعة الإيمان التي بيناها المجتمع عليها أن المسيح إله حق، وأنه ولد من مريم، فما معنى المنافرة، وما الفرق، وما تنكرون من قولهم: إن المقتول المصلوب هو الله عز الله وجل عن ذلك؟
وشريعة إيمانكم تقول: نؤمن بالرب المسيح الذي من خبره وحاله الذي ولد من مريم وتألم وصلب على عهد الملك " بيلاطيس "
النبطي، ودفن وقام في اليوم الثالث، أليس هذا إقرارا بمثل قولهم؟ فتدبروا هذا القول يا أولي الألباب.
فإنكم إن قلتم: إن المقتول المصلوب هو الله، فإن مريم عندكم ولدت الله.
وإن قلتم: إنه إنسان فإن مريم ولدت إنسانا، وبطلت الشريعة، فأي القولين اخترتموه ففيه نقض دينكم، ثم عبتم على الملكانية قولهم: إنه ليس للمسيح إلا أقنوما واحدا، لأنه صار مع الأزلي الخالق شيئا واحدا لا فرق بينهما، وقلتم بأن له أقنومين، لكل جوهر أقنوم على حياله، ثم لم تلبثوا أن رجعتم إلى مثل قولهم فقلتم: إن المسيح وإن كان مخلوقا من مريم مبعوثا، فإنه هيكل لابن الله الأزلي، ونحن لا نفرق بينهما، فإذا كان الأمر عندكم على هذا فما تنقمون على الملكية، وما معنى الافتراق؟ وقد رجعتم في الاتحاد إلى مثل قولهم؟ إن هذا الأمر تحار فيه الأفهام.

فإن كانت الشريعة بمعنى الأمانة عندكم حقا، فالقول ما قال يعقوب، وذلك أنا إذا ابتدأنا من الشريعة في ذكر المسيح، ثم نسقنا المعاني نسقا واحدا وانحدرنا فيها إلى آخرها، وجدنا القوم الذين ألقوها لكم قد صححوا أن يسوع المسيح هو ابن الله وهو بكر الخلائق كلها، وهو الذي ولد من مريم ليس بمصنوع، وهو إله حق من إله حق من جوهر أبيه، وهو الذي أتقن العوالم وخلق كل شيء على يده، وهو الذي نزل لخلاصكم، فتجسد وحملته مريم وولدته، وقتل وصلب، فمن أنكر قول اليعقوبية لزمه أن ينكر هذه الشريعة التي تشهد بصحة قولهم ويلعن من ألفها.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #287  
قديم 18-08-2024, 05:28 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,401
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام

فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد الثامن
الحلقة( 287)

من صــ 1 الى صـ 15




قال: وإنما أخذت تلك الطائفة يعني الذين وضعوا الأمانة بكلمات وذكروا أنهم وجدوها في الإنجيل مشكلات تأولت فيها ما وقع بهواها، وتركت ما في الإنجيل من الكلام البين الواضح الذي يشهد بعبودية المسيح وشهادته بذلك على نفسه وشهادة تلاميذه به عليه، فأخذت بالمشكل اليسير، وجعلت له ما أحبت من التأويل، وألغت الواضح الكثير الذي لا يحتاج إلى تأويل.
قال: فأما احتجاجكم بالشمس، وأنها شيء واحد له ثلاثة معان، وتشبيهكم ما يقولونه في الثلاثة الأقانيم بها، فإن ذلك تمويه لا يصح، لأن نور الشمس لا يحد بحد الشمس، وكذلك حرها لا يحد بحد الشمس، إذ كان حد الشمس جسما مستديرا مضيئا مسخنا دائرا في وسط الأفلاك دورانا دائما، ويتهيأ أن يحد نورها وحرها بمثل هذه الصفة، ولا يقال: إن نورها أو حرها جسم مستدير مضيء مسخن دائم الدوران، ولو كان نورها وحرها شمسا حقا من شمس حق من جوهر الشمس، كما قالت الشريعة في المسيح: إنه إله حق من إله حق من
جوهر أبيه، لكان ما قلتم له مثلا تاما، والأمر مخالف لذلك فلا يشبهه ولا يقع القياس عليه، والحجة منكم فيه باطلة.

قال: ووجدناكم تذكرون أن المسيح نزل من السماء فأبطل بنزوله الموت والآثام، فإن العجب ليطول من هذا القول، وأعجب منه من قبله ولم يتفكر فيه، وممن لم يستقبح أن يعتقد ديانة لله تبارك وتعالى على مثل هذا القول المحال البائن عما تشهد به العقول وتنبئ به المشاهدة، ويدعو الناس إليها، فما هو ببعيد من عقد ما هو أمحل وأبطل منها، لأنه إن كانت الخطيئة بطلت بمجيئه، فالذين قتلوه إذا ليسوا خاطئين ولا مأثومين، لأن لا خاطئ بعد مجيئه ولا خطيئة.

وكذلك أيضا الذين قتلوا حواريه وأحرقوا أسفاره غير خاطئين، وكذلك من نراه من جماعتكم منذ ذلك الدهر إلى هذا الوقت يقتل ويسرق ويزني ويلوط، ويسكر ويكذب، ويركب كل ما نهي عنه من الكبائر وغيرها غير خاطئين، ولا مأثومين.
فمن جحد ذلك فليرجع إلى التسبيحة التي تقرأ بعقب كل قربان، وهو أن (يا ربنا الذي غلب بوجعه الموت الطاغي).
وفي الأخرى التي تقال في يوم الجمعة الثانية من الفصح: (إن فخرنا بالصليب الذي بطل به سلطان الموت وصرنا إلى الأمن والنجاة بسببه). وفي بعض التسابيح (بصلوات ربنا يسوع المسيح بطل الموت، وانطفأت فتن الشيطان، ودرست آثارها). فأي خطيئة بطلت؟ وأي فتنة للشيطان انطفأت؟ أو أي أمر كان الناس عليه قبل مجيئه من المحارم والآثام تغير عن حاله؟
قال: فإذا كان التمويه يقع فيما يلحقه كل أحد بالمعرفة والبيان، فهو فيما أشكل من الأمور وفعل بالتأويلات التي تأولها أولئك المتأولون أوقع.
وإذا كنتم قد قبلتم هذا المحال الظاهر الذي لا خفاء به عن الصبيان، فأنتم لما هو أعظم منه من المحال أقبل، وهذا إنجيلكم يكذب هذا القول، حيث يقول المسيح فيه: (ما أكثر من يقول لي يوم القيامة: يا سيدنا أليس باسمك أخرجنا الشيطان، فأقول: اغربوا عني أيها الفجرة الغاوون، فما عرفتكم قط) فهذا خلاف قول علمائكم ما قالوا، ووضعهم لكم ما وضعوا، ومثله قوله: (إني جامع الناس يوم القيامة عن ميمنتي وميسرتي وقائل لأهل الميسرة: إني جعت فلم تطعموني، وعطشت فلم تسقوني، وكنت غريبا فلم تأووني، ومحبوسا فلم تزوروني، ومريضا فلم تعودوني، فاذهبوا إلى النار المعدة لكم من قبل تأسيس الدنيا.
وأقول لأهل الميمنة: فعلتم بي هذه الأشياء فاذهبوا إلى النعيم المعد لكم من قبل تأسيس الدنيا). فهل أدخل أولئك النار إلا خطاياهم التي ركبوها؟ وهل صار هؤلاء إلى النعيم إلا بأعمالهم الجميلة التي قدموها بتوفيق الله إياهم؟ فمن قال: إن الخطيئة قد بطلت، فقد بهت، وقد خالف قول المسيح، وكان هو من الكاذبين.

وقال: ويا أيها القوم الذين هم أولوا الألباب والمعرفة، حيث ينسبونه إلى الربوبية، وينحلونه اللاهوتية، ويجعلونه خالق الخلق أجمعين وإلههم، بماذا ساغ ذلك لكم، وما الحجة فيه عندكم؟
هل قالت كتب النبوات فيه ذلك؟ أو هل قاله عن نفسه؟ أو قاله أحد عن تلامذته والناقلين عنه الذين هم عماد دينكم وأساسه ومن أخذتم الشرائع والسنن عنه؟ ومن كتب الإنجيل وبينه، قد أفصح في كل الإنجيل من كلامه ومخاطبته ووصاياه بما لا يحصى كثرة بأنه عبد

مثلكم ومربوب معكم، ومرسل من عند ربه وربكم، ومبدي ما أمر به فيكم، وحكى مثل ذلك من أمره حواريوه وتلامذته ووصفوه لمن سأل عنه.
وفي كلامهم بأنه رجل جاء من عند الله عز وجل ونبي له قوة وفضل، فتأولتم في ذلك أنه أخرج كلامه على معنى الناسوت، ولو كان كما تقولون، لأفصح عن نفسه بأنه إله، كما أفصح بأنه عبد ولكنه ما ذكره ولا ادعاه، ولا دعا إليه ولا ادعته له كتب الأنبياء قبله ولا كتب تلامذته ولا حكي عنهم، ولا أوجبه كلام جبريل الذي أداه إلى مريم، ولا قول يحيى بن زكريا.
قال: فإن قلتم: إنكم استدللتم على ربوبيته بأنه أحيا الموتى، وأبرأ الأكمه والأبرص، ومشى على الماء وصعد إلى السماء، وصير الماء خمرا، وكثر القليل، فيجب الآن أن ينظر إلى كل من فعل من هذه الأمور فعلا فنجعله ربا وإلها، وإلا فما الفرق؟
فمن ذلك أن كتاب " سفر الملوك " يخبر أن إلياس أحيا ابن الأرملة، وأن اليسع
أحيا ابن الإسرائيلية، وأن " حزقيال " أحيا بشرا كثيرا، ولم يكن أحد ممن ذكرنا بإحيائه الموتى إلها.
وأما إبراء الأكمه فهذه التوراة تخبر أن يوسف أبرأ عين أبيه يعقوب بعد أن ذهبت، وهذا موسى طرح العصا فصارت حية لها عينان تبصر بهما، وضرب بها الرمل فصار قملا لكل واحدة منها عينان تبصر بهما، ولم يكن واحد منهم بذلك إلها.

وأما إبراء الأبرص، فإن كتاب " سفر الملوك " يخبر بأن رجلا من عظماء الروم برص فرحل من بلده قاصدا اليسع عليه السلام ليبرأه من برصه، فأخبر الكتاب بأن الرجل وقف بباب اليسع أياما لا يؤذن له، فقيل لليسع: إن ببابك رجلا يقال له " نعمان " وهو أجل عظماء الروم، به برص وقد قصدك لتبرأه من مرضه، فإن أذنت له دخل إليك، فلم يأذن له، وقال لرجل من أصحابه: اخرج إلى هذا الرجل فقل له: ينغمس في الأردن سبع مرات، فأبلغ الرسول لنعمان ما أمره به اليسع، ففعل ذلك، فذهب عنه البرص ورجع قافلا إلى بلده، فأتبعه خادم اليسع فأوهمه أن اليسع وجه به إليه يطلب منه مالا، فسر الرجل بذلك ودفع إلى الخادم مالا وجوهرا، ورجع فأخفى ذلك وستره.

ثم دخل إلى اليسع، فلما مثل بين يديه قال له: تبعت نعمان وأوهمته عني كذا وكذا، وأخذت منه كذا وأخفيته في موضع كذا، إذ فعلت الذي فعلت به، فليصر برصه عليك وعلى نسلك، فبرص ذلك الخادم على المكان.
قال: فهذا اليسع قد أبرأ أبرصا، وأبرص صحيحا، وهو أعظم
مما فعل المسيح عليه السلام فلم يكن في فعله ذلك إلها.
قال: وأما قولكم أنه مشى على الماء، فإن كتاب سفر الملوك يخبر بأن إلياس عليه السلام سار إلى الأردن ومعه اليسع تلميذه، فأخذ عمامته فضرب بها الأردن فاستيبس له الماء حتى مشى عليه هو واليسع، ثم صعد إلى السماء على فرس من نور واليسع يراه، ودفع عمامته إلى اليسع، فلما رجع اليسع إلى الأردن ضرب بها الماء فاستيبس له حتى مشى عليه راجعا ولم يكن واحد منهما بمشيه على الماء إلها، ولا كان إلياس بصعوده إلى السماء إلها.
قال: وأما قولكم أنه صير الماء خمرا، فهذا كتاب سفر الملوك يخبر بأن اليسع نزل بامرأة إسرائيلية فأضافته وأحسنت إليه، فلما أراد الانصراف قال لها: هل لك من حاجة؟ فقالت المرأة: يا نبي الله إن على زوجي دينا قد فدحه، فإن رأيت أن تدعو الله لنا بقضاء ديننا فافعل.
فقال لها اليسع: اجمعي كل ما عندك من الآنية، واستعيري من جيرانك جميع ما قدرت عليه من آنيتهم. ففعلت، ثم أمرها فملأت الآنية كلها ماء فقال: اتركيه ليلتك هذه. ومضى من عندها فأصبحت المرأة وقد صار ذلك الماء كله زيتا، فباعوه فقضوا دينهم
وتحويل الماء زيتا أبدع من تحويله خمرا، ولم يكن اليسع بذلك إلها.
وأما قولكم: المسيح عليه السلام كثر القليل حتى أكل خلق كثير من أرغفة يسيرة، فإن كتاب " سفر الملوك " يخبر بأن إلياس نزل بامرأة أرملة، وكان القحط قد عم الناس وأجدبت البلاد، ومات الخلق ضرا وهزلا، وكان الناس في ضيق، فقال للأرملة: هل عندك طعام؟ فقالت: والله ما عندي إلا كف من دقيق في قلة، أردت أن أخبزه لطفل لي، وقد أيقنا بالهلاك لما الناس فيه من القحط.
فقال لها: أحضريه فلا عليك. فأتته به، فبارك عليه، فمكث عندها ثلاث سنين وستة أشهر تأكل هي وأهلها وجيرانها منه حتى فرج الله عن الناس، فقد فعل إلياس في ذلك أكثر مما فعل المسيح، لأن إلياس كثر القليل وأدامه، والمسيح كثر القليل في وقت واحد، ولم يكن إلياس بفعله هذا إلها.

قال: فإن قلتم: إن هؤلاء الأنبياء ليس لهم صنع في هذه الأفعال، وإن الصنع فيها والقدرة لله عز وجل إذ كان هو الذي أجراها على أيديهم فقد صدقتم، ونقول لكم أيضا: كذلك المسيح ليس له صنع فيما ظهر على يديه من هذه الأعاجيب، إذ كان الله هو الذي أظهرها على يديه، فما الفرق بين المسيح وسائر الأنبياء؟ وما الحجة في ذلك؟
قال: وإن قلتم: إن الأنبياء كانت إذا أرادت أن يظهر الله على أيديهم آية تضرعت إلى الله ودعته وأقرت له بالربوبية وشهدت على أنفسها بالعبودية.

قيل لكم: وكذلك سبيل المسيح، سبيل سائر الأنبياء، قد كان يدعو ويتضرع ويعترف بربوبية الله، ويقر له بالعبودية، فمن ذلك: أن الإنجيل يخبر بأن المسيح أراد أن يحيي رجلا يقال له العازر، فقال: (يا أبي أدعوك كما كنت أدعوك من قبل فتجيبني وتستجيب لي، وأنا أدعوك من أجل هؤلاء القيام ليعلموا). وقال بزعمكم وهو على الخشبة: (إلهي إلهي لم تركتني؟)، وقال: (يا أبي اغفر لليهود ما يعملون، فإنهم لا يدرون ما يصنعون).
وقال في إنجيل متى: (يا أبي أحمدك). وقال: (يا أبي إن كان بد أن يتعداني هذا الكأس، ولكن ليس كما أريد أنا، فلتكن مشيئتك). وقال أيضا: (أنا أذهب إلى إلهي الذي هو أعظم
مني) وقال: (لا أستطيع أن أصنع شيئا ولا أتفكر فيه إلا باسم إلهي). وقال يعني نفسه: (لا ينبغي للعبد أن يكون أعظم من سيده، ولا للرسول أن يكون أعظم ممن أرسله).
وقال: (إن الله لم يلد ولم يولد، ولم يأكل ولم يشرب، ولم ينم ولم يره أحد من خلقه، ويراه أحد إلا مات).
والمسيح قد أكل وشرب وولد، ورآه الناس فما ماتوا من رؤيته ولا مات أحد منهم، وقد لبث فيهم ثلاثا وثلاثين سنة.
قلت: وعامة ما ذكره هذا عن الكتب تعترف به النصارى، ولكن بعضهم ينازعه في يسير من الألفاظ، فنازعه هنا في قوله:
(لا ينبغي للعبد أن يكون أعظم من سيده). وقال: هذا إنما قاله المسيح للحواريين، وذكر أنه لا يعرف عنه لفظ (لم يولد، ولم يأكل ولم يشرب).
قال: وقال في إنجيل يوحنا: ": (إنكم متى رفعتم ابن البشر فحينئذ تعلمون أني أنا هو وشيء من قبل نفسي لا أفعل، ولكن كل شيء كالذي علمني أبي). وقال في موضع آخر: (من عند الله أرسلت معلما). وقال لأصحابه: (اخرجوا بنا من هذه المدينة، فإن النبي لا يجل في مدينته) وأخبر الإنجيل أن امرأة رأت المسيح فقالت: إنك لذلك النبي الذي كنا ننتظر مجيئه؟ فقال لها المسيح: (صدقت، طوبى لك). وقال لتلامذته: (كما بعثني أبي كذلك أبعث بكم).
قال: فاعترف بأنه نبي وأنه مألوه ومربوب ومبعوث، وقال
لتلامذته: (إن من قبلكم وآواكم فقد قبلني، ومن قبلني فإنما يقبل من أرسلني، ومن قبل نبيا باسم نبي فإنما يفوز بأجر من قبل النبي).

فبين هاهنا في غير موضع أنه نبي مرسل، وأن سبيله مع الله سبيلهم معه، وقال متى التلميذ في إنجيله، يستشهد على المسيح بنبوة أشعيا عن الله عز وجل: (هذا عبدي الذي اصطفيته، وحبيبي الذي ارتاحت إليه نفسي، أنا واضع روحي عليه، ويدعو الأمم إلى الحق). فلن يحتاج إلى حجة أوضح من هذا القول الذي جعلتموه حجة لكم، فقد أوضح الله أمره وسماه عبدا، وأعلم أنه يضع عليه روحه ويؤيده بها كما أيد سائر الأنبياء بالروح فأظهروا الآيات المذكورة عنهم، وهذا القول يوافق ما بشر به جبريل الملك مريم حين ظهر لها، وقال القول الذي سقناه في صدر كتابنا.

وقال يوحنا التلميذ في الإنجيل عن المسيح عليه السلام: (إن كلامي الذي تسمعون هو كلام من أرسلني). وقال في موضع
آخر: (إن أبي أجل وأعظم مني). وقال أيضا: (كما أمرني أبي كذلك أفعل أنا، أنا الكرم وأبي هو الفلاح). وقال يوحنا: (كما للأب حياة في جوهره، فكذلك أعطى الابن أن تكون له حياة في قينومه). قال: فالمعطي خلاف المعطى لا محالة، والفاعل خلاف المفعول.
قال: وقال المسيح في إنجيل يوحنا: (إني لو كنت أنا الشاهد لنفسي على صحة دعواي، لكانت شهادتي باطلة، لكن غيري يشهد لي، فأنا أشهد لنفسي ويشهد لي أبي الذي أرسلني). وقال المسيح لبني
إسرائيل: (تريدون قتلي، وأنا رجل قلت لكم الحق الذي سمعت الله يقوله.!
قال: وقال في الرجل الذي أقامه من الموتى: (يا أبي أشكرك على استجابتك دعائي وأعترف لك بذلك، وأعلم أنك كل وقت تجيب دعوتي، لكن أسألك من أجل هذه الجماعة ليؤمنوا بأنك أنت أرسلتني). قال: فأي تضرع وإقرار بالرسالة والمسألة والطلب للإجابة من الله عز وجل أشد من هذا أو أكثر؟
قال: وقال في بعض مخاطبته لليهود وقد نسبوه إلى الجنون: (أنا لست بمجنون، ولكن أكرم أبي ولا أحب مدح نفسي، بل أمدح أبي، لأني أعرفه، ولو قلت: إني لا أعرفه، لكنت كذابا مثلكم، بل أعرفه وأتمسك بأمره).
قال: وقال داود في مزموره المائة وعشرة: (قال الرب اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئا لرجليك، عصا العظمة تبعث الرب من صهيون، ويبسط على أعدائك شعبك يا مسيح يوم الرعب في بهاء القدس من اليوم الذي ولدتك يا صبي، عهد الرب ولا يكذب أنك أنت الكاهن المؤيد يشبه ملكليز داق.)

قال: فهذه مخاطبة ينسبونها إلى اللاهوت، وقد أبان داود في مخاطبته، أن لربه الذي ذكره ربا هو أعظم منه وأعلى أعطاه ما حكيناه، ومنحه ذلك وشهد عليه، إن عصا العظمة تبعث ربه هذا من صهيون وسماه صبيا محققا لقوله الأول: اليوم ولدتك ونسقا على أول كلامه وهو ربه، ووصف أنه الكاهن المؤيد الذي يشبه ملكليز داق.
قلت: قالوا: وهذا الكاهن هو الذي ذكر في التوراة أن الخليل أعطاه القربان، وإذا كان المسيح مشبها به مع تسميته كاهنا، كان ذلك من أعظم الأدلة على أنه مخلوق، قال: فأما قوله: (من البدء ولدتك)، فهو يشبه قول داود: (تبنني على نفسه من البدء. ذكرتك وهديت كل أعمالك). وبعضهم يقول: لفظ النص: (إن الرب يبعث عصاه من صهيون).


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #288  
قديم 18-08-2024, 05:36 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,401
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام

فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد الثامن
الحلقة( 288)

من صــ 16 الى صـ 30





قال: وقال شمعون الصفا رئيس الحواريين في الفصل الثاني من قصصهم: (يا رجال بني إسرائيل اسمعوا مقالتي، إن يسوع الناصري رجل ظهير لكم من عند الله بالقوة والأيدي والعجائب التي أجراها على يديه، وأنكم أسلمتموه وقتلتموه، فأقام الله يسوع هذا من
بين الأموات).
قال: فأي شهادة أبين وأوضح من هذا القول؟ وهو أوثق التلاميذ عندكم يخبر كما ترون أن المسيح رجل وأنه من عند الله، وأن الآيات التي ظهرت منه بأمر الله أجراها على يديه، وأن الذي بعثه من بين الموتى هو الله عز وجل.

قال: وقال في هذا الموضع: (اعلموا أن الله جعل يسوع الذي قتلتموه ربا ومسيحا). قال: فهذا القول يزيل تأويل من لعله يتأول في الفصل الأول أنه أراد بقوله الناسوت، لأنه يقول: إن الله جعله ربا ومسيحا، والمجعول مخلوق مفعول، قال أبو نصر: وإنما سمي ناصري ; لأن أمه كانت من قرية يقال لها: " ناصرة "
في الأردن وبها سميت النصرانية.
قال: وقد سمى الله جل ثناؤه يوسف ربا، قال داود في مزمور مائة وخمسة: (وللعبودية بيع يوسف وشدوا بالكبول رجليه وبالحديد دخلت نفسه حتى صدقت كلمته قول الرب جربه، بعث الملك فخلاه وصيره مسلطا على شعبه، وربا على بنيه، ومسلطا على فتيانه).

وقال لوقا في آخر إنجيله: (إن المسيح عرض له وللوقا تلميذه جبريل في الطريق وهما محزونان، فقال لهما وهما لا يعرفانه: ما بالكما محزونين؟ فقالا: كأنك أنت وحدك غريب ببيت المقدس، إذ كنت لا تعلم ما حدث فيها في هذه الأيام من أمر يسوع الناصري، فإنه كان رجلا نبيا قويا في قوله وفعله عند الله وعند الأمة، أخذوه وقتلوه) على قولهم فيه.
قال: فهذا قوله وأقوال تلاميذه قد تركتموها وعقدتم على بدع ابتدعها لكم أولوكم تؤدي إلى الضلالة والشرك بالله جل ثناؤه. وقال داود في المزمور الثاني في زبوره مخاطبا لله ومثنيا على المسيح: (من الرجل الذي ذكرته والإنسان الذي أمرته وجعلته دون الملائكة قليلا، وألبسته المجد والكرامات؟)، وقال في المزمور الثاني: (قال لي الرب: أنت ابني وأنا اليوم ولدتك، سلني فأعطيك)، فقوله: " ولدتك " دليل على أنه حديث غير قديم، وكل حادث فهو مخلوق، ثم أكد ذلك بقوله: " اليوم " فحد باليوم حدا لولادته أزال به الشك في أنه ما كان قبل اليوم، ودل بقوله: " سلني فأعطيك " على أنه محتاج إلى المسألة غير مستغن عن العطية، قال: فهذا ما حضرنا من الآيات في تصحيح خلق المسيح وعبوديته، وبطلان ما يدعونه من ربوبيته، ومثله كثير في الإنجيل لا يحصى، فإذا كانت الشهادات منه على نفسه، ومن الأنبياء عليه، ومن تلاميذه بمثل ما قد بيناه في هذا الكتاب، وإنما اقتصرنا على الاحتجاج عليكم من كتبكم، فما الحجة فيما تدعونه له ومن أي جهة أخذتم ذلك واخترتم الكلام الشنيع الذي يخرج عن المعقول، وتنكره النفوس، وتنفر منه القلوب، الذي لا يصح بحجة ولا قياس ولا تأويل على القول الجميل الذي تشهد به العقول وتسكن إليه النفوس ويشاكل عظمة الله وجلاله.
قال: وإذا تأملتم كل ما بيناه تأمل إنصاف من أنفسكم وإشفاق عليها، علمتم أنه قول لا يحتمل أن يتأول فيه للناسوت شيئا دون اللاهوت.
قال: فإن قلتم: إنه يثبت للمسيح البنوة بقوله: (أبي وأبيكم، ويا أبي، وبعثني أبي). قلنا: فإن كان الإنجيل أنزل على هذه الألفاظ لم تبدل ولم تغير، فإن اللغة قد أجازت أن يسمى الولي ابنا، وقد سماكم الله جميعا بنيه، وأنتم لستم في مثل حاله.
ومن ذلك أن الله عز وجل قال لإسرائيل في التوراة: (أنت ابني بكري). وقال لداود في الزبور: (أنت ابني وحبيبي). وقال المسيح في الإنجيل للحواريين: (أريد أن أذهب إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم). فسمى الحواريين أبناء الله، وأقر بأن له إلها هو الله

ومن كان له إله فليس بإله كما تقولون، فإن زعمتم أن المسيح إنما استحق الإلهية بأن الله سماه ابنا، فنلتزم ذلك ونشهد بالإلهية لكل من سماه ابنا، وإلا فما الفرق؟
قال: فإن قلتم: إن إسرائيل وداود ونظراءهم إنما سموا أبناء الله على جهة الرحمة من الله لهم، والمسيح ابن الله على الحقيقة، تعالى الله عن ذلك.
قلنا: يجوز لمعارض أن يعارضكم، فيقول لكم: ما تنكرون أن يكون إسرائيل وداود ابني الله على الحقيقة، والمسيح ابن رحمة، وما الفرق؟

فإن قلتم: إن الفرق بين المسيح وسائر الأنبياء من قبل، أن المسيح جاء إلى مقعد فقال: (قم قم، فقد غفرت لك، فقام الرجل، ولم يدع الله في ذلك الوقت).
قلنا لكم: هذا إلياس أمر السماء أن تمطر فأمطرت، ولم يدع الله في ذلك الوقت، وكذلك اليسع أمر نعمان الرومي أن ينغمس في
الأردن من غير دعاء ولا تضرع، على أنا قد وجدناه في الإنجيل قد تضرع، وسأل مسائل قد تقدم ذكرها.
وقال في بعض الإنجيل: (يا أبي أشكرك على استجابتك دعائي، وأعلم أنك في كل وقت تجيب دعوتي، لكن أسألك من أجل هذه الجماعة ليؤمنوا بأنك أنت أرسلتني).
فإن قلتم: إن الغفران من الله عز وجل وأن المسيح قال لبعض بني إسرائيل: (قم فقد غفرت لك) والله هو الذي يغفر الذنوب.
قلنا: فقد قال الله في السفر الخامس من التوراة لموسى: (اخرج أنت وشعبك الذي أخرجت من مصر، وأنا أجعل معكم ملكا يغفر ذنوبكم).
فإن زعمتم أن المسيح إله لأنه غفر ذنوب المقعد، فالملك إذا إله، لأنه يغفر ذنوب بني إسرائيل وإلا فما الفرق؟
فإن قلتم: إن الفرق بين المسيح وسائر الأنبياء من قبل، أن الله سماه ربا فقال: (ابن البشر رب السبت).
قلنا: فهذه التوراة تخبر بأن لوطا عليه السلام لما رأى الملكين قد أقبلا من البرية لهلاك قومه قال لهما: (يا ربي ميلا إلى منزل عبدكما). وقد تقدم لنا احتجاج في هذا الكتاب بذكر من سمي في الكتب ربا من يوسف وغيره، فإن كان المسيح إلها لأنه سمي ربا، فهؤلاء إذا آلهة، لأنهم سموا بمثل ذلك.
فإن قلتم: إن الأنبياء قد تنبأت بإلهية المسيح، فقال أشعيا: (العذراء تحبل وتلد ابنا ويدعى اسمه " عمانويل ")، وتفسيره: " معنا إلهنا ".
قلنا: إن هذا اسم يعاره السيد الشريف من الناس، وإن كان
الله عز وجل المنفرد بمعنى الإلهية جل ثناؤه فقد قال الله في التوراة لموسى عليه السلام: (قد جعلتك لهارون إلها، وجعلته لك نبيا).
وقال في موضع آخر: (قد جعلتك يا موسى إلها لفرعون). وقال داود في الزبور لمن كانت عنده حكمة: (كلكم آلهة ومن العلية تدعون).
فإن قلتم: إن الله عز وجل جعل موسى إلها لهارون على معنى الرياسة عليه.
قلنا: وكذلك قال أشعيا في المسيح إنه إله لأمته على هذا المعنى، وإلا فما الفرق؟

فإن قلتم: إن المسيح قد قال في الإنجيل: (من رآني فقد رأى أبي، وأنا وأبي واحد).
قلنا: إن قوله: (أنا وأبي واحد) إنما يريد به أن قبولكم لأمري هو قبولكم لأمر الله، كما يقول رسول الرجل: أنا ومن أرسلني واحد،
ويقول الوكيل: أنا ومن وكلني واحد، لأنه يقوم فيما يؤديه مقامه، ويؤدي عنه ما أرسله به، ويتكلم بحجته ويطالب له بحقوقه، وكذلك قوله: (من رآني فقد رأى أبي)، يريد بذلك أن من رأى هذه الأفعال التي أظهرها فقد رأى أفعال أبي.
فإن قلتم: إن المسيح قد قال في الإنجيل: (أنا قبل إبراهيم)، فكيف يكون قبل إبراهيم، وإنما هو من ولده؟ ولكن لما قال (قبل إبراهيم) علمنا ما أراد أنه قبل إبراهيم من جهة الإلهية.
قلنا: هذا سليمان بن داود يقول في حكمته: (أنا قبل الدنيا وكنت مع الله حيث بدأ الأرض)، فما الفرق بينه وبين من قال: إن سليمان ابن الله، وأنه إنما قال: أنا قبل الدنيا بالإلهية، وقد قال داود أيضا في الزبور: (ذكرتك يا رب من البدء، وهديت بكل أعمالك).
فإن قلتم: إن كلام سليمان بن داود متأول، لأنهما من ولد إسرائيل، وليس يجوز أن يكونا قبل الدنيا.
قلنا: وكذلك قول المسيح أنا قبل الدنيا متأول، لأنه من ولد إبراهيم، ولا يجوز أن يكون قبل إبراهيم، فإن تأولتم تأولنا، وإن تعلقتم بظاهر الخبر في المسيح تعلقنا بظاهر الخبر في سليمان وداود، وإلا فما الفرق؟
وقد قدمنا هذا الاحتجاج على تأويلكم لتعلموا بطلان ما ذهبتم إليه على أنه تأويل غير واقع بحقه، وإنما حقه أن يكون هذا الاسم يعني " عمانويل " لما وقع على المسيح كان معناه أنه أخبر عن نفسه بأن " إلهنا معنا " يعني أن الله معه ومع شعبه معينا وناصرا.
ومما يصحح ذلك أنكم تتسمون به، ولو كان المعنى ما ذهبتم إليه لما جاز لأحد أن يتسمى به، كما لم يجز أن يتسمى بالمسيح ; لأنه مخصوص بمعناه.
فإن قلتم: إن تلاميذ المسيح كانوا يعلمون الآيات باسم المسيح.
قلنا لكم: فقد قال الله جل ثناؤه ليحيى بن زكريا: (قد أيدتك بروح القدس وبقوة إلياس، وهي قوة تفعل الآيات)، فأضاف القوة إلى إلياس.

فإن زعمتم أن المسيح إله لأنه فعلت الآيات باسمه، فما الفرق بينكم وبين من قال: إن إلياس إله فإنه فعلت بقوته الآيات؟ فإن قلتم: إن الخشبة التي صلب عليها المسيح على زعمكم ألصقت بميت فعاش، فإن هذا دليل على أنه إله. قلنا لكم: فما الفرق بينكم وبين من قال: إن اليسع إله؟ واحتج في ذلك (بأن كتاب سفر الملوك يخبر بأن رجلا مات فحمله أهله إلى المقبرة، فلما كانوا بين القبور رأوا عدوا لهم يريد أنفسهم فطرحوا الميت عن رقابهم وبادروا إلى المدينة، وكان الموضع الذي ألقوا عليه الميت قبر اليسع، فلما أصاب ذلك الميت تراب قبر اليسع عاش وأقبل يمشي إلى المدينة، فإن زعمتم أن المسيح إله لأن الخشبة التي ذكروا أنه صلب عليها ألصقت بميت فعاش، فاليسع إله، لأن تراب قبره لصق بميت فعاش.

فإن قلتم: أن المسيح كان من غير فحل. قلنا لكم: قد كان ذلك، وليس أعجوبة الولادة توجب الإلهية ولا الربوبية، لأن القدرة في
ذلك للخالق تبارك وتعالى لا للمخلوق، وعلى أنه يوجدكم لأن حواء خلقت من فحل بلا أنثى، وخلق أنثى من ذكر بلا أنثى، أعجب من ذكر من أنثى بغير ذكر، وأعجب من ذلك أن آدم خلقه الله من تراب، وخلق بشر من تراب أعجب وأبدع من خلق ذكر من أنثى بلا فحل، فما الفرق؟
قال: وهذه الأسباب التي ذكرناها كلها هي الأسباب التي تتعلقون بها في نحلتكم المسيح الربوبية، وإضافتكم إليه الإلهية، وقد وصفناها على حقائقها عندكم، وقبلنا فيها قولكم، وإن كنا لا نشك في أن أهل الكتاب قد حرفوا بعض ما فيها من الكلام عن مواضعه، وأوجدناكم بطول ما تنتحلونه وفساد ما تتأولونه من الكتب التي في أيديكم التوراة والزبور والأنبياء والإنجيل، فما الذي يثبت الحجة بعد ذلك لكم؟
قال: وقد قال السيد المسيح في الإنجيل لتلاميذه لما سألوه عن الساعة والقيامة: (إن ذلك اليوم وتلك الساعة لا يعرفه أحد، ولا الملائكة الذين في السماء، ولا الابن أيضا، ولكن الأب وحده يعرفه). قال: فهذا إقرار منه بأنه منقوص العلم، وأن الله تبارك وتعالى أعز وأعلم منه، وأنه خلافه وأعلا منه، وقد بين بقوله (أحد) عمومه بذلك الخلق جميعا، ثم قال: (ولا الملائكة) وعندهم من علم الله ما ليس عند أهل الأرض، ثم قال: (ولا الابن) وله من القوة ما ليس لغيره، وشهد قوله هذا شهادة واضحة عليه بأنه لا يعلم كل ما يعلمه الله، بل ما علمه الله إياه وأطلعه على معرفته وجعله له، وأنه لقصور معرفته بكل الأشياء ليس بحيث يصفونه من الربوبية، وأنه هو الله ومن جوهر أبيه، تعالى الله الخالق لكل شيء علوا كبيرا، ولو كان إلها كما يقولون، لعلم ما يعلمه الله من سائر الأشياء وسرائر الأمور وعلانيتها، إذا كان هذا المعنى ليس من الكلام الذي إذا سئلتم عنه تعلقتم بأنه قيل للناسوت دون اللاهوت.

قلت: مقصوده بذلك أنه صرح بأنه لا يعلمه أحد، ثم خص الملائكة بالذكر لئلا يظن أن أحدا منهم يعلمه، فقال: (ولا الملائكة الذين في السماء)، ثم قال: (ولا الابن يعرفه، وأن الأب وحده يعرفه)، فنفى معرفة الابن، وأثبت أن الأب وحده يعرفه، ومراده بالابن المسيح، فعرف أن المسيح لا يعرفه، وأثبت أن الرب يعرفه دون الابن، ودل ذلك على أن لفظ الابن عند المسيح إنما يراد بها الناسوت وحده، إذ كان لا يجوز نفي العلم عن اللاهوت، فإن اللاهوت يعلم كل شيء، وقد دل ذلك على أن قوله: (عمدوا الناس باسم الأب والابن)، المراد به الناسوت وحده، كما أريد بلفظ الابن في سائر كلامه وكلام غيره لم يرد قط أحد منهم بلفظ الابن اللاهوت، بل إطلاق الابن على اللاهوت مما ابتدعته النصارى وحملوا عليها كلام المسيح، فابتدعوا لصفات الله أسماء ما أنزل الله بها من سلطان، وحملوا عليها كلام المسيح، وإنما يحمل كلام الأنبياء عليهم السلام وغيرهم على معنى لغتهم التي جرت عادتهم بالتكليم بها، لا على لغة يحدثها من بعدهم ويحمل كلامهم عليها.

قلت: فإن هذا الذي فعلته النصارى وأشباههم يفتح باب الإلحاد في كتب الله المنزلة وقد قال تعالى:" {إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة} [فصلت: 40] ".
وذلك أن كل من اعتقد معاني برأيه يمكنه أن يعبر عنها بألفاظ تناسبها بنوع مناسبة، وتلك الألفاظ موجودة في كلام الأنبياء عليهم السلام لها معان أخر، ويجعل تلك الألفاظ دالة على معانيه التي رآها، ثم يجعل الألفاظ التي تكلمت بها الأنبياء وجاءت بها الكتب الإلهية أرادوا بها معانيه هو، وهكذا فعل سائر أهل الإلحاد في سائر الكتب الإلهية، كما فعلته النصارى مثل ما عمدت الملاحدة المتبعون لفلاسفة اليونان القائلون بأن هذه الأفلاك قديمة أزلية لم تزل ولا تزال، وأن الله لم يتكلم بالتوراة ولا غيرها من الكتب الإلهية، ولا هو عالم بالجزئيات لا بموسى بن عمران ولا بغيره، ولا هو قادر أن يفعل بمشيئة، ولا يقيم الناس من قبورهم، فقالوا: خلق وأحدث وفعل وصنع ونحو ذلك يقال على الإحداث الذاتي، والإحداث الزماني.
فالأول: هو إيجاب العلة لمعلولها المقارن لها في الزمان.
والثاني: إيجاد الشيء بعد أن لم يكن، ثم قالوا: ونحن نقول: إن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما، وأحدث ذلك وأبدعه وصنعه، كما أخبرت بذلك الأنبياء عليهم السلام، لكن مرادهم بذلك الإحداث الذاتي، وهو أن ذلك معلول له لم يزل معه.

فيقال لهم: لم يستعمل أحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بل ولا أحد من سائر الأمم لفظ الخلق والإحداث إلا فيما كان بعد عدمه، وهو ما كان مسبوقا بعدمه ووجود غيره، ومعنى هذا اللفظ معلوم بالاضطرار في جميع لغات الأمم، وأيضا فاللفظ المستعمل في لغة العامة والخاصة لا يجوز أن يكون معناه ما لا يعرفه إلا بعض الناس، وهذا المعنى الذي يدعونه لو كان حقا لم يتصوره إلا بعض الناس، فلا يجوز أن يكون اللفظ العام الذي تداوله العامة والخاصة موضوعا له إذا كان هذا يبطل مقصود اللغات، ويبطل تعريف الأنبياء للناس، فكيف وهو باطل في صريح المعقول؟ كما هو باطل في صحيح المنقول، فإنه لم يعرف أن أحدا قط عبر عن القديم الأزلي الذي لم يزل موجودا ولا يزال بأنه محدث أو مخلوق أو مصنوع أو مفعول، فهذا الذي ذكرتموه كذب صريح على الأنبياء عليهم السلام لتوهموا الناس أنكم موافقون لهم، والكتب الإلهية كالتوراة والقرآن مصرحة بأن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، والقديم الأزلي لا يكون مخلوقا في ستة أيام، وكذلك الكتب الإلهية كالتوراة والقرآن قد أخبرت بتكليم الله لموسى وبندائه إياه من الطور من الشجرة، وفي التوراة أنها شجرة العليق.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #289  
قديم 18-08-2024, 05:47 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,401
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام

فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد الثامن
الحلقة( 289)

من صــ 31 الى صـ 45





وأخبرت بأن موسى عليه السلام كان يلقي عصاه فتصير حية
تسعى، ويخبر بأن الله فلق البحر، فقالت الملاحدة: إن الشيء الثابت يسمى طورا، فإنه ثابت كالجبل، والقلوب تسمى أودية، وإظهار العلوم بتفجير ينابيع العلم، والحجة المبتلعة كلام أهل الباطل هي عصا معنوية، فمراد الكتب بالطور العقل الفعال الذي فاض منه العلم على قلب موسى عليه السلام، والوادي قلب موسى، والكلام الذي سمعه موسى سمعه من سماء عقله، وتلك الأصوات كانت في نفسه لا في الخارج، والملائكة التي رآها كانت أشخاصا نورانية تمثلت في نفسه لا في الخارج، والبحر الذي فلقه هو بحر العلم، والعصا كانت حجته، غلب على السحرة بحجته العلمية فابتلعت حجته شبههم التي جعلوها حبالا يتوسلون بها إلى نيل أغراضهم، وعصيا يقهرون بها من يجادلونه.
أفليس من قال مثل هذا الكلام يعلم بالاضطرار أنه يكذب على الكتب الإلهية التي أخبرت بقصة موسى كالتوراة والقرآن، وأنه ليس مراد الرسل بما أخبروا به من قصة موسى هذا، بل صرحوا بأن موسى سمع نداء الله له، وأنه كلمه من الطور طور سينا الذي هو الجبل، وقلب عصاه التي كان يهش بها على غنمه ثعبانا عظيما، وفلق له البحر وأغرق فيه آل فرعون فغرقوا وماتوا فيه وهلكوا، وأمثال هذا من تحريفات الملاحدة كثير.
فهكذا النصارى حرفوا كتب الله وسموا صفة الله القديمة الأزلية
التي هي علمه أو حكمته ابنا، وسموها أيضا كلمة، وسموا صفته القديمة الأزلية، التي هي حياته روح القدس، وتسمية هذه الصفات بهذه الأسماء لا توجد في شيء من كلام الأنبياء ولا غيرهم ولا يعرف أن أحدا قط لا من الأنبياء ولا غيرهم سمى علم الله القائم به ابنه، بل وسمى علم أحد من العالمين القائم به ابنه، ولكن لفظ الابن يعبر به عمن ولد الولادة المعروفة، ويعبر به عمن كان هو سببا في وجوده، كما يقال: ابن السبيل، لمن ولدته الطريق، فإنه لما جاء من جهة الطريق جعل كأنه ولده.
ويقال لبعض الطير: ابن الماء، لأنه يجيء من جهة الماء، ويقال: كونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن الابن ينتسب إلى أبيه ويحبه ويضاف إليه، أي كونوا ممن ينتسب إلى الآخرة ويحبها ويضاف إليها، وهذا اللفظ موجود في الكتب التي بأيدي أهل الكتاب في حق الصالحين الذين يحبهم الله ويربيهم، كما ذكروا أن المسيح قال: (أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم). وفي التوراة: أن الله قال ليعقوب: (أنت ابني بكري).
ونحو ذلك مما يراد به إذا كان صحيحا له معنى صحيح، وهو المحبة له والاصطفاء له، والرحمة له، وكان المعنى مفهوما عند
الأنبياء عليهم السلام ومن يخاطبونه، وهو من الألفاظ المتشابهة، فصار كثير من أتباعهم يريدون به المعنى الباطل.
وزعم كثير من الكفار أن لله سبحانه وتعالى بنين وبنات، وأن الملائكة بناته، وبعض من يقول بقدم العالم من المتفلسفة يقولون: العقول العشرة هي بنوه، والنفوس الفلكية هي بناته وهي متولدة عنه لازمة لذاته، فجاء القرآن الذي هو أفضل الكتب وأكملها بإبطال هذه المعاني ومنع استعمال هذا اللفظ في حق الله تعالى، فنزه الله عن أن يتخذ ولدا، كما نزهه عن أن يكون له ولد، والأول من باب تنزيهه عن الأفعال المذمومة، وهذا على قول جماهير المسلمين وغيرهم الذين ينزهون الله ويقدسونه عن الأفعال القبيحة التي لا تليق به، بل تنافي ما وجب له من الكمال في أفعاله، كما وجب له الكمال في ذاته وصفاته، وأما من كان من المسلمين وغيرهم لا ينزه الله عن فعل من الأفعال إلا ما كان ممتنعا لذاته، فأما الممكن المقدور فيقول: لا يعلم انتفاؤه إلا بالخبر أو بالعادة المطردة التي يمكن انتقاضها، فهذا لا يبقى معه ما ينفي به عن الله الأفعال المذمومة القبيحة، والكتب الإلهية قد نزهت الرب عز وجل عن الأفعال المذمومة، كما نزهته عن صفات النقص، كقوله تعالى:{وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون} [الأنبياء: 26].
وقال تعالى:
{إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا} [النساء: 171].
كما قال تعالى:
{وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون} [الأنعام: 100]
وقال تعالى:
{وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا} [الإسراء: 111].
وقال تعالى عن المؤمنين:
{ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا} [آل عمران: 191].
وقال تعالى:

{تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا - الذي له ملك
السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا} [الفرقان: 1 - 2].
وقال تعالى:
{ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون - عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون} [المؤمنون: 91 - 92].
وقال تعالى:
{ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون} [الصافات: 151].
وقال تعالى:{قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد} [الإخلاص: 1]
فكما نزه نفسه عن الولادة، نزه نفسه عن اتخاذ الولد.
وقال تعالى:
{وقالوا اتخذ الرحمن ولدا - لقد جئتم شيئا إدا - تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا - أن دعوا للرحمن ولدا} [مريم: 88 - 91]
{وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا - إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا - لقد أحصاهم وعدهم عدا - وكلهم آتيه يوم القيامة فردا} [مريم: 92 - 95].
وقال تعالى:
{لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون} [النساء: 172].
وقال تعالى:
{ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون} [آل عمران: 80].
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " "يقول الله تعالى: كذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، وشتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، فأما تكذيبه إياي فقوله: أنى يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته، وأما شتمه إياي فقوله: أني اتخذت ولدا، وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد".
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " "ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله، إنهم ليجعلون له ولدا وشريكا، وهو يرزقهم ويعافيهم".
ولهذا كان معاذ بن جبل يقول: لا ترحموا النصارى، فإنهم سبوا الله مسبة ما سبه إياها أحد من البشر. فجاءت هذه الشريعة الحنيفية القرآنية وحرمت أن يتكلم في حق الله باسم ابن أو ولد، سدا للذريعة، كما منعت أن يسجد أحد لغير الله وإن كان على وجه التحية، كما منعت أن يصلي أحد عند طلوع الشمس وغروبها، لئلا يشبه عباد الشمس والقمر، فكانت بسدها للأبواب التي يجعل لله فيها
الشريك والولد أكمل من غيرها من الشرائع، كما سدت غير ذلك من الذرائع، مثل تحريمها قليل المسكر ; لأنه يجر إلى كثيره، فإن أصول المحرمات التي قال الله فيها:
{قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} [الأعراف: 33].

مما اتفقت عليه شرائع الأنبياء بخلاف تحريم الطيبات عقوبة، فإن هذا جاء في شرع التوراة دون شرع القرآن، فإن الله أحل لأمة محمد الطيبات وحرم عليهم الخبائث، وكذلك تكميل التوحيد من كل الوجوه وسد أبواب الشرك من كل الوجوه، جاءت به هذه الشريعة مع اتفاق الأنبياء على إيجاب التوحيد وتحريم أن يجعل لله شريك أو ولد.
فإذا كان مراد المسيح عليه السلام بالابن هو الناسوت، وهو لم يسم اللاهوت ابنا، وقد ذكر أن الابن لا يعلم الساعة، فتبين بذلك أن المسيح هو الناسوت وحده، وأنه لا يعلم الساعة وهذا هو الحق، وإن قالوا: مراده بالابن اللاهوت أو اللاهوت والناسوت لزم من ذلك أن اللاهوت أو اللاهوت والناسوت لا يعلم الساعة وهذا باطل،
وكذب، وهو أيضا مناقض لقولهم.

فدل هذا النص من المسيح مع سائر نصوصه ونصوص الأنبياء على أن مسمى الابن هو الناسوت وحده، وأنه لا يعلم ما يعلمه الله، وذلك صريح في أنه مخلوق ليس بخالق، ولا يجوز أن يكون هذا خطابا للناسوت المتحد باللاهوت دون اللاهوت، كما يتأوله عليه بعض النصارى، لأن كل ما علمه اللاهوت المتحد بالمسيح علمه الناسوت، ولأن الناسوت ليس هو الابن عندهم دون اللاهوت المتحد به، بل اسم الابن عندهم هو اللاهوت، ولأجل الاتحاد دخل فيه الناسوت، ولأنه لم يثبت إلا علم الأب وحده لم يستثن علم الابن الأزلي عندهم، بل نفى علم ما سوى الأب به، وهذا مناقض لقولهم من كل وجه.
(لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم (73)

[فصل: النصارى بدلوا دين المسيح قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم]
والمقصود هنا: أن الذي يدين به المسلمون من أن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول إلى الثقلين: الإنس والجن، أهل الكتاب وغيرهم، وأن من لم يؤمن به فهو كافر مستحق لعذاب الله مستحق للجهاد، وهو مما أجمع أهل الإيمان بالله ورسوله عليه ; لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي جاء بذلك، وذكره الله في كتابه، وبينه الرسول أيضا في الحكمة المنزلة عليه من غير الكتاب، فإنه تعالى أنزل عليه الكتاب والحكمة، ولم يبتدع المسلمون شيئا من ذلك من تلقاء أنفسهم، كما ابتدعت النصارى كثيرا من دينهم بل أكثر دينهم.

وبدلوا دين المسيح وغيروه ; ولهذا كان كفر النصارى لما بعث محمد صلى الله عليه وسلم مثل كفر اليهود لما بعث المسيح عليه السلام، فإن اليهود كانوا قد بدلوا شرع التوراة قبل مجيء المسيح، فكفروا بذلك، ولما بعث المسيح إليهم كذبوه فصاروا كفارا بتبديل معاني الكتاب الأول وأحكامه، وبتكذيب الكتاب الثاني.
وكذلك النصارى كانوا بدلوا دين المسيح قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم، فابتدعوا من التثليث والاتحاد وتغيير شرائع الإنجيل أشياء لم يبعث بها المسيح عليه السلام، بل تخالف ما بعث به، وافترقوا في ذلك فرقا متعددة، وكفر فيها بعضهم بعضا، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم كذبوه، فصاروا كفارا بتبديل معاني الكتاب الأول وأحكامه، وتكذيب الكتاب الثاني، كما يقول علماء المسلمين: إن دينهم مبدل منسوخ، وإن كان قليل من النصارى كانوا عند مبعث محمد صلى الله عليه وسلم متمسكين بدين المسيح، كما كان الذين لم يبدلوا دين المسيح كله على الحق، فهذا كما أن من كان متبعا شرع التوراة عند مبعث المسيح كان متمسكا بالحق كسائر من اتبع موسى، فلما بعث المسيح صار كل من لم يؤمن به كافرا، وكذلك لما بعث محمد صلى الله عليه وسلم صار كل من لم يؤمن به كافرا.

والمقصود في هذا المقام: بيان ما بعث به محمد صلى الله عليه وسلم من عموم رسالته، وأنه نفسه الذي أخبر أن الله تعالى أرسله إلى أهل الكتاب وغيرهم، وأنه نفسه صلى الله عليه وسلم دعا أهل الكتاب، وجاهدهم وأمر بجهادهم، فمن قال بعد هذا من أهل الكتاب اليهود والنصارى: أنه لم يبعث إلينا، بمعنى أنه لم يقل إنه مبعوث إلينا، كان مكابرا جاحدا للضرورة مفتريا على الرسول فرية ظاهرة تعرفها الخاصة والعامة.

وكان جحده لهذا كما لو جحد أنه جاء بالقرآن، أو شرع الصلوات الخمس، وصوم رمضان، وحج البيت الحرام؛ وجحد محمد صلى الله عليه وسلم، وما تواتر عنه أعظم من جحد أتباع الحواريين المسيح عليه السلام، وإرساله لهم إلى الأمم، ومجيئه بالإنجيل، وجحد مجيء موسى عليه السلام بالتوراة، وجحد أنه كان يسبت ; فإن النقل عن محمد صلى الله عليه وسلم مدته قريبة، والناقلون عنه أضعاف أضعاف من نقل دين المسيح عنه، وأضعاف أضعاف أضعاف من اتصل به نقل دين موسى عليه السلام، فإن أمة محمد صلى الله عليه وسلم ما زالوا كثيرين منتشرين في مشارق الأرض ومغاربها، وما زال فيهم من هو ظاهر بالدين منصور على الأعداء، بخلاف بني إسرائيل، فإنهم زال ملكهم في أثناء الأمر لما خرب بيت المقدس الخراب الأول بعد داود عليه السلام ونقص عدد من نقل دينهم حتى قد قيل إنه لم يبق من يحفظ التوراة إلا واحد.
والمسيح عليه السلام لم ينقل دينه عنه إلا عدد قليل لكن النصارى يزعمون أنهم رسل الله معصمون مثل: إبراهيم وموسى، وسيأتي الكلام على هذا إن شاء الله تعالى إذا وصلنا إليه، إذ المقصود هنا بيان من زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان يقول: إنه لم يبعث إلا إلى مشركي العرب، فإنه في غاية الجهل والضلال أو غاية المكابرة والمعاندة، فإن هذا أعظم جهلا وعنادا ممن ينكر أنه كان يأمر بالطهارة والغسل من الجنابة، ويحرم الخمر والخنزير، وأعظم جهلا وعنادا ممن ينكر ما تواتر من أمر المسيح، وموسى عليهما السلام، وقد ظهر بهذا بطلان قولهم: علمنا أنه لم يأت إلينا بل إلى جاهلية العرب.
[فصل: بيان أن تفسيرهم للتثليث تفسير باطل]
قال الحاكي عنهم: فقلت: إنهم ينكرون علينا في قولنا، أب وابن، وروح قدس، وأيضا في قولنا إنهم ثلاثة أقانيم، وأيضا في قولنا إن المسيح رب وإله وخالق، وأيضا يطلبون منا إيضاح تجسيد تجسم كلمة الله الخالق بإنسان مخلوق.
أجابوا قائلين: لو علموا قولنا هذا إنما نريد به القول الذي يعني أن الله شيء حي ناطق لما أنكروا علينا ذلك، لأننا معشر النصارى لما رأينا حدوث الأشياء علمنا أن شيئا غيرها أحدثها، إذ لا يمكن حدوثها من ذواتها لما فيها من التضاد والتقلب.

فقلنا: إنه شيء لا كالأشياء المخلوقة إذ هو الخالق لكل شيء، وذلك لننفي عنه العدم، ورأينا الأشياء المخلوقة تنقسم قسمين: شيء حي، وشيء غير حي، فوصفناه بأجملهما، فقلنا: هو شيء حي، لننفي الموت عنه، ورأينا الحي ينقسم قسمين: حي ناطق، وحي غير ناطق، فوصفناه بأفضلهما، فقلنا: هو شيء حي ناطق لننفي الجهل عنه.
والثلاثة أسماء وهي إله واحد، مسمى واحد، ورب واحد، خالق واحد شيء حي ناطق، أي الذات والنطق والحياة، فالذات عندنا الأب الذي هو ابتداء الاثنين، والنطق الابن الذي هو مولود منه لولادة النطق من العقل، والحياة روح القدس، وهذه أسماء لم نسمه نحن بها.
والجواب من وجوه:
أحدها: قولهم: أما قولنا أب، وابن، وروح قدس، فلو علموا قولنا هذا إنما نريد به تصحيح القول بأن الله حي ناطق لما أنكروا ذلك علينا، فيقال: ليس الأمر كما ادعوه فإن النصارى يقولون: إن هذا القول تلقوه عن الإنجيل، وإن في الإنجيل عن المسيح - صلوات الله عليه وسلامه - أنه قال: عمدوا الناس باسم الأب، والابن وروح القدس فكان أصل قولهم هو ما يذكرونه من أنه متلقى من الشرع المنزل لا أنهم أثبتوا الحياة والنطق بمعقولهم، ثم عبروا عنها بهذه العبارات، كما ادعوه في مناظرتهم.
ولو كان الأمر كذلك لما احتاجوا إلى هذه العبارة، ولا إلى جعل الأقانيم ثلاثة، بل معلوم عندهم، وعند سائر أهل الملل أن الله موجود حي عليم، قدير متكلم لا تختص صفاته بثلاثة، ولا يعبر عن ثلاثة منها بعبارة لا تدل على ذلك، وهو لفظ: الأب، والابن، وروح القدس، فإن هذه الألفاظ لا تدل على ما فسروها به في لغة أحد من الأمم، ولا يوجد في كلام الأنبياء أنه عبر بهذه الألفاظ عما ذكروه من المعاني، بل إثبات ما ادعوه من التثليث والتعبير عنه بهذه الألفاظ هو مما ابتدعوه لم يدل عليه لا شرع ولا عقل.

وهم يدعون أن التثليث والحلول والاتحاد إنما صاروا إليه من جهة الشرع، وهو نصوص الأنبياء والكتب المنزلة، لا من جهة العقل، وزعموا أن الكتب الإلهية نطقت بذلك، ثم تكلفوا لما ظنوه مدلول الكتاب طريقا عقلية، فسروه بها تفسيرا ظنوه جائزا في العقل ولهذا نجد النصارى لا يلجئون في التثليث والاتحاد إلا إلى الشرع والكتب وهم يجدون نفرة عقولهم وقلوبهم عن التثليث والاتحاد والحلول فإن فطرة الله التي فطر الناس عليها وما جعله الله في قلوب الناس من المعارف العقلية التي قد يسمونها ناموسا عقليا طبيعيا يدفع ذلك وينفيه وينفر عنه ولكن يزعمون أن الكتب الإلهية جاءت بذلك وأن ذلك أمر يفوق العقل وأن هذا الكلام من طور وراء طور العقل فينقلونه لظنهم أن الكتب الإلهية أخبرت به، لا لأن العقول دلت عليه، مع أنه ليس في الكتب الإلهية ما يدل على ذلك، بل فيها ما يدل على نقيضه كما سنذكره - إن شاء الله تعالى -، ولا يميزون بين ما يحيله العقل ويبطله ويعلم أنه ممتنع، وبين ما يعجز عنه العقل فلا يعرفه ولا يحكم فيه بنفي ولا إثبات، وأن الرسل أخبرت بالنوع الثاني: ولا يجوز أن تخبر بالنوع الأول، فلم يفرقوا بين محالات العقول ومحارات العقول، وقد ضاهوا في ذلك من قبلهم من المشركين الذين جعلوا لله ولدا شريكا.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #290  
قديم 18-08-2024, 05:55 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 140,401
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام

فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد الثامن
الحلقة( 290)

من صــ 46 الى صـ 60





قال - تعالى -:
{وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون} [التوبة: 30].
وقد ضاهاهم في ذلك أهل البدع والضلال المشبهون لهم من المنتسبين إلى الإسلام الذين يقولون: نحو قولهم من الغلو في الأنبياء وأهل البيت والمشايخ وغيرهم، ومن يدعي الوحدة أو الحلول أو الاتحاد الخاص المعين كدعوى النصارى ودعوى الغالية من الشيعة في علي وطائفة من أهل البيت كالنصيرية ونحوهم ممن يدعي إلهية علي، وكدعوى بعض الإسماعيلية الإلهية في الحاكم وغيره من بني عبد الله بن ميمون القداح المنتسبين إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر.
ودعوى كثير من الناس نحو ذلك في بعض الشيوخ، إما المعروفين بالصلاح، وإما من يظن به الصلاح وليس من أهله، فإن لهم أقوالا من جنس أقوال النصارى، وبعضها شر من أقوال النصارى.
وعامة هؤلاء إذا خوطبوا ببيان فساد قولهم قالوا من جنس قول النصارى، هذا أمر فوق العقل، ويقول بعضهم ما كان يقوله التلمساني لشيخ أهل الوحدة، يقول: ثبت عندنا في الكشف ما يناقض صريح النقل ويقولون: لمن أراد أن يسلك سبيلهم: دع العقل والنقل، أو اخرج من العقل والنقل.
وينشدون فيهم:

مجانين إلا أن سر جنونهم ... عزيز على أقدامه يسجد العقل
هم معشر حلوا النظام وحرقوا ... السياج فلا فرض لديهم ولا نقل
وهؤلاء مقلدون لمشايخهم متبعون لهم فيما يخرجون به عن شريعة الرسول، وما ابتدعوه مما لم يأذن به الله باتخاذ البدع عبادات، واستحلال المحرمات كتقليد بعض النصارى لشيوخهم، وإذا اعترض على أحد منهم يقولون: الشيخ يسلم له حاله، ولا يعترض عليه كما يقول النصارى لشيوخهم ومن هؤلاء من يقول نحن أولاد الله،ويقول: المسيح هو ولد الله، وينطق أيضا، بلفظ الشهوة، فيقول إنهم أولاد شهوة، ويقول: إنه زوج مريم، كما يقول ذلك من يقوله من النصارى.

وغاية ما عندهم أنهم يحكون عن شيوخهم نوعا من خرق العادات، قد يكون كذبا، وقد يكون صدقا، وإذا كانت صدقا فقد يكون من أحوال أولياء الشيطان كالسحرة والكهان، وقد يكون من أحوال أولياء الرحمن، وإذا كانت من أحوال أولياء الرحمن لم يكن في ذلك ما يوجب تقليد الولي في كل ما يقوله، إذ الولي لا يجب أن يكون معصوما، ولا يجب اتباعه في كل ما يقوله، ولا الإيمان بكل ما يقوله.
وإنما هذا من خصائص الأنبياء الذين يجب الإيمان بكل ما يقولونه فيجب تصديقهم في كل ما يخبرون به من الغيب، وطاعتهم فيما أوجبوه على الأمم، ومن كفر بشيء مما جاءوا به فهو كافر، ومن سب نبيا واحدا وجب قتله، وليس هذا لغير الأنبياء من الصالحين.
فهؤلاء المبتدعة الغلاة المشركون القائلون بنوع من الحلول هم مضاهئون للنصارى بقدر ما شابهوهم فيه، وخالفوا فيه دين المسلمين ومنهم من تكون موافقته لدين المسلمين أكثر، وأما الغلاة منهم فموافقتهم للنصارى أكثر، ومنهم من هو أكفر من النصارى، ولما كان مستند النصارى هو ما ينقلونه إما عن الأنبياء، وإما عن غيرهم ممن يوجبون اتباعه كانوا إذا أوردوا على علمائهم ما يقتضي امتناع ذلك قالوا هكذا في الكتاب، وبهذا نطق الكتاب وهذه الكتب جاءت بها الرسل، يعنون المؤيدين بالمعجزات، ويعنون بالرسل الحواريين فاعتصامهم بها إنما هو لما ظنوه مذكورا في الكتب الإلهية، وإن رأوه مخالفا لصريح المعقول.
ولهذا ينهون جمهورهم عن البحث والمناظرة في ذلك، لعلمهم بأن العقل الصريح متى تصور دينهم علم أنه باطل، فدعوى المدعين أنا إنما قلنا أب وابن وروح قدس لتصحيح القول بأن الله حي ناطق كذب ظاهر، وهم يعلمون أنه كذب، وتصحيح القول بأن الله حي متكلم، لا يقف على هذه العبارة، بل يمكنه تصحيح ذلك بالأدلة الشرعية والسمعية والعقلية، والتعبير عنه بالعبارات البينة كما يقوله المسلمون وغيرهم بدون قولنا أب وابن وروح قدس.

ومما يبين ذلك الوجه الثاني: وهو أن النصارى - المقرون بأن هذه العبارة في الإنجيل المأخوذ عن المسيح - مختلفون في تفسير هذا الكلام، فكثير منهم يقول الأب هو الوجود، والابن هو الكلمة، وروح القدس هو الحياة.
ومنهم من يقول: بل الأب هو الوجود، والابن هو الكلمة، وروح القدس هو القدرة.
وبعضهم يقول: إن الأقانيم الثلاثة: جواد حكيم قادر، فيجعل الأب هو الجواد، والابن هو الحكيم، وروح القدس هو القادر، ويزعمون أن جميع الصفات تدخل تحت هذه الثلاثة، ويقولون: إنا استدللنا على وجوده بإخراجه الأشياء من العدم إلى الوجود، وذلك من جوده.

وقد رأيت في كتب النصارى هذا وهذا وهذا، ومنهم من يعبر عن الكلمة بالعلم، فيقولون: موجود حي عالم، أو موجود عالم قادر، كما يقول بعضهم: ناطق، ومنهم من يقول موجود حي حكيم، ومنهم من يقول قائم بنفسه حي حكيم، وهم متفقون على أن المتحد بالمسيح والحال فيه هو أقنوم الكلمة، وهو الذي يسمونه الابن دون الأب، ومن أنكر الحلول والاتحاد منهم كالأريوسية يقول: إن المسيح - عليه السلام - عبد مرسل، كسائر الرسل - صلوات الله عليهم وسلامه -، فوافقهم على لفظ: الأب، والابن، وروح القدس، ولا يفسر ذلك بما يقوله منازعوه من الحلول والاتحاد.
كما أن النسطورية يوافقونهم أيضا على هذا اللفظ، وينازعونهم في الاتحاد الذي يقوله اليعقوبية والملكية: فإذا كانوا متفقين على اللفظ متنازعين في معناه، علم أنهم صدقوا أولا باللفظ لأجل اعتقادهم مجيء الشرع به، ثم تنازعوا بعد ذلك في تفسير الكتاب، كما يختلفون هم وسائر أهل الملل في تفسير بعض الكلام الذي يعتقدون أنه منقول عن الأنبياء - عليهم السلام -، وعلم بذلك أن أصل قولهم: الأب، والابن، وروح القدس، لم يكن لأجل تصحيح القول بأن الله موجود حي ناطق الذي علموه أولا بالعقل.
يوضح هذا الوجه الثالث: وهو قولهم إنما لما رأينا حدوث الأشياء علمنا أن شيئا غيرها أحدثها، إن كان المتكلم بهذا طائفة معينة من النصارى، فيقال لهؤلاء: القول بالأب، والابن، وروح القدس، موجود عند النصارى قبل وجودكم، وقبل نظركم هذا واستدلالكم، فلا يجوز أن يكون نظركم هو الموجب لقول النصارى هذا، وإن كان المراد به أن جميع النصارى من حين قالوا هذا الكلام نظروا واستدلوا حتى قالوا ذلك فهذا كذب بين، فإن هذا الكلام يقول النصارى إنهم تلقوه من الإنجيل، وأن المسيح - عليه السلام - قال: عمدوا الناس باسم الأب، والابن، وروح القدس.
والمسيح والحواريون لم يأمروهم بهذا النظر الموجب لهذا القول، ولا جعل المسيح هذا القول موقوفا عندهم على هذا البحث، فعلم أن جعلهم هذا القول ناشئا عن هذا البحث قول باطل يعلمون هم بطلانه.

الوجه الرابع: إن هذا القول: إن كان المسيح لم يقله فلا يجوز أن يقال، ولو عنى به الإنسان معنى صحيحا فإن هذه العبارة إنما يفهم منها عند الإطلاق المعاني الباطلة، ولهذا يوجد كثير من عوام النصارى يعتقدون أن المسيح ابن الله، البنوة المعروفة في المخلوقات، ويقولون: إن مريم زوجة الله وهذا لازم لعامة النصارى، وإن لم يقولوه فإن الذي يلد لابد له من زوجة.
ولهذا قال - تعالى -:
{أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم} [الأنعام: 101].

وجعل الرب والد المولود أنكر في العقول من إثبات صاحبة له سواء فسرت الولادة بالولادة المعروفة، أو بالولادة العقلية التي يقولها علماء النصارى، فإن من أثبت صاحبة له يمكنه تأويل ذلك، كما تأولوا هم الولد، ويقولون: إن الأب ولدت منه الكلمة، ومريم ولد منها الناسوت واتحد الناسوت باللاهوت، فكما أن الأب أب باللاهوت لا بالناسوت، ومريم أم للناسوت لا للاهوت، فكذلك هي صاحبة للأب بالناسوت، واللاهوت زوج مريم، بلاهوته، كما أنه أب للمسيح بلاهوته، وإذا اتحد اللاهوت بناسوت المسيح مدة طويلة، فلماذا يمتنع أن يجتمع اللاهوت بناسوت مريم مدة قصيرة، وإذا جعل الناسوت الذي ولدته ابنا للاهوت، فلأي شيء لا تجعل هي صاحبة وزوجة للاهوت فإن المسيح عندهم اسم لمجموع اللاهوت والناسوت، وهو عندهم إله تام وإنسان تام، فلاهوته من الله، وناسوته من مريم، فهو من أصلين: لاهوت وناسوت، فإذا كان أحد الأصلين أباه والآخر أمه، فلماذا لا تكون أمه زوجة أبيه بهذا الاعتبار، مع أن المصاحبة قبل البنوة؟ فكيف يثبت الفرع الملزوم بدون ثبوت الأصل اللازم؟
وليس في ذلك من المحال على أصلهم إلا ما هو من جنس إثبات بنوة المسيح، وأقل امتناعا، وإن كان المسيح - عليه السلام - قال هذا الكلام، فقد علمنا أن المسيح - عليه السلام - وغيره من الأنبياء معصومون لا يقولون: إلا الحق، وإذا قالوا قولا فلابد له من معنى صحيح.
ويمتنع أن يريدوا بقولهم ما يمتنع بطلانه بسمع أو عقل فإذا كانت العقول، ونصوص الكتب المتقدمة مع نصوص القرآن تناقض ما ابتدعته النصارى في المسيح، علم أن المسيح لم يرد معنى باطلا يخالف صريح المعقول وصحيح المنقول.

، بل نقول في الوجه الخامس: إن صحت هذه العبارة عن المسيح المعصوم عليه الصلاة والسلام، فإنه أراد بذلك ما يناسب سائر كلامه، وفي الموجود في كتبهم تسمية الرب أبا وتسمية عباده أبناء، كما يذكرون أنه قال في التوراة ليعقوب: " إسرائيل " " أنت ابني بكري "، وقال لداود في الزبور: " أنت ابني وحبيبي "، وفي الإنجيل في غير موضع يقول المسيح: " أبي وأبيكم " كقوله إني أذهب إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم فيسميه أبا لهم كما يسميهم أبناء له، فإن كان هذا صحيحا، فالمراد بذلك أنه الرب المربي الرحيم، فإن الله أرحم بعباده من الوالدة بولدها، والابن هو المربى المرحوم، فإن تربية الله لعبده أكمل من تربية الوالدة لولدها فيكون المراد بالأب الرب، والمراد بالابن عنده المسيح الذي رباه.

وأما روح القدس: فهي لفظة موجودة في غير موضع من الكتب التي عندهم، وليس المراد بها حياة الله باتفاقهم، بل روح القدس عندهم تحل في إبراهيم وموسى وداود وغيرهم من الأنبياء الصالحين.
والقرآن قد شهد أن الله أيد المسيح بروح القدس، كما قال - تعالى -:
{وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس} [البقرة: 87].
في موضعين من البقرة.
وقال - تعالى -:
{ياعيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس} [المائدة: 110].
وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لحسان بن ثابت: «إن روح القدس معك ما دمت تنافح عن نبيه» وقال: «اللهم أيده بروح القدس» كما تقدم ذكره هذا كله مبسوطا.
وروح القدس: قد يراد بها الملك المقدس كجبريل، ويراد بها الوحي، والهدى والتأييد الذي ينزله الله بواسطة الملك أو بغير واسطته، وقد يكونان متلازمين، فإن الملك ينزل بالوحي، والوحي ينزل به الملك، والله - تعالى - يؤيد رسله بالملائكة وبالهدى، كما قال - تعالى -: عن نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -:
{فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها} [التوبة: 40].
في موضعين من سورة " براءة ".
وقال الله - تعالى -:
{فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها} [الأحزاب: 9].
وقال - تعالى -:
{إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا} [الأنفال: 12].
وقال - تعالى -:
{لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه} [المجادلة: 22].
وقال الله - تعالى -:
{ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده} [النحل: 2].
وقال - تعالى -:
{يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق} [غافر: 15].
وقال:
{وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا} [الشورى: 52]

وإذا كان روح القدس معروفا في كلام الأنبياء المتقدمين والمتأخرين أنها أمر ينزله الله على أنبيائه وصالحي عباده سواء كان ملائكة تنزل بالوحي والنصر أو وحيا وتأييدا مع الملك، وبدون الملك ليس المراد بروح القدس أنها حياة الله القائمة به كان المعصوم إن كان قال: عمدوا الناس باسم الأب والابن وروح القدس مراده مروا الناس أن يؤمنوا بالله ونبيه الذي أرسله وبالملك الذي أنزل عليه الوحي الذي جاء به، فيكون ذلك أمرا لهم بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، وهذا هو الحق الذي يدل عليه صريح المعقول وصحيح المنقول.
فتفسير كلام المعصوم بهذا التفسير الذي يوافق سائر ألفاظ الكتب التي عندهم، ويوافق القرآن، ويوافق العقل، أولى من تفسيره بما يخالف صريح المعقول وصحيح المنقول.
وهذا تفسير ظاهر ليس فيه تكلف، ولا هو من التأويل الذي هو صرف الكلام عن ظاهره إلى ما يخالف ظاهره، بل هو تفسير له بما يدل ظاهره عليه باللغة المعروفة والعبارة المألوفة في خطاب المسيح، وخطاب سائر الأنبياء.
أما تفسير النصارى بأن الابن مولود قديم أزلي هو العلم أو كلمة الله، فتفسير للفظ بما لم يستعمل هذا اللفظ فيه، لا في كلام أحد من الأنبياء ولا لغة أحد من الأنبياء، وكذلك تفسير روح القدس بحياة الله، فالذي فسر النصارى به ظاهر كلام المسيح هو تفسير لا تدل عليه لغة المسيح وعادته في كلامه، ولا لغة غيره من الأنبياء والأمم، بل المعروف في لغته وكلامه وكلام سائر الأنبياء تفسيره بما فسرناه، وبذلك فسره أكابر علماء النصارى.
وأما ضلال النصارى المحرفون لمعاني كتب الله عز وجل، فسروه بما يخالف معناه الظاهر وينكره العقل والشرع.
وتمام هذا بالوجه السادس: وهو أن النصارى لما كان عندهم في الكتب تسمية المسيح - عليه السلام - ابنا، وتسمية غيره من الأنبياء ابنا، كقوله ليعقوب: أنت ابني بكري، وتسمية الحواريين أبناء قالوا هو ابنه بالطبع، وغيره هو ابنه بالوضع، فجعلوا لفظ الابن مشتركا بين معنيين وأثبتوا لله طبعا، جعلوا المسيح ابنه باعتبار ذلك الطبع، وهذا يقرر قول من يفهم منهم أنه ابنه البنوة المعروفة في المخلوقين، وأن مريم زوجة الله.

وكذلك جعلوا روح القدس مشتركة بين حياة الله وبين روح القدس التي تنزل على الأنبياء والصالحين، ومعلوم أن الاشتراك على خلاف الأصل وأن اللفظ إذا استعمل في عدة مواضع كان جعله حقيقة متواطئا في القدر المشترك أولى من جعله مشتركا اشتراكا لفظيا بحيث يكون حقيقة في خصوص هذا، أو يكون مجازا في أحدهما، فإن المجاز والاشتراك على خلاف الأصل، هذا إن قدر أن لفظ الابن وروح القدس استعمل في نطق الله وحياته كما يزعم النصارى فكيف إذا لم يوجد في كلام الأنبياء أنهم قالوا لفظ الابن، ولفظ روح القدس، وأرادوا به شيئا من صفات الله لا كلامه ولا حياته ولا علمه ولا غير ذلك، بل لم يوجد استعمال لفظ الابن في كلام الأنبياء إلا في شيء مخلوق، ولم يوجد استعمال روح القدس كما هو من صفات الله القائمة به، ونحن إذا فسرنا الأب وروح القدس ببنوة التربية، وروح القدس بما ينزل على الأنبياء كنا قد جعلنا اللفظ مفردا متواطئا وهم يحتاجون أن يجعلوا اللفظ مشتركا أو مجازا في أحد المعنيين، فكان تفسيرهم مخالفا لظاهر اللغة التي خوطبوا بها، ولظاهر الكتب التي بأيديهم وتفسيرنا موافقا لظاهر لغتهم، وظاهر الكتب التي بأيديهم، وحينئذ فقد تبين أنه ليس معهم بالتثليث لا حجة سمعية ولا عقلية، بل هو باطل شرعا وعقلا.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 9 ( الأعضاء 0 والزوار 9)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع



مجموعة الشفاء على واتساب


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 266.52 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 260.66 كيلو بايت... تم توفير 5.85 كيلو بايت...بمعدل (2.20%)]