علم الحديث: رواية ودراية - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         الصالون الأدبي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 131 )           »          أصول في دراسة مسائل التفسير (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 3 - عددالزوار : 290 )           »          شرح طريقة فهرسة المسائل العلمية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 2 - عددالزوار : 144 )           »          إذا لا يضيعنا (من دروس الحج) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 92 )           »          ما يفعله الحاج بعد الانتهاء من الطواف والسعي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 68 )           »          وقرن في بيوتكن (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 64 )           »          أدب الطفل اليهودي ممنوع الاقتراب أو التصوير!! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 92 )           »          زوجة الداعية الجندي المجهول (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 60 )           »          السياسة الشرعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 60 - عددالزوار : 5877 )           »          حتى نربي أطفالا مستقلين ومعتمدين على أنفسهم… (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 92 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث ملتقى يختص في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلوم الحديث وفقهه

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 19-05-2024, 02:35 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,861
الدولة : Egypt
افتراضي علم الحديث: رواية ودراية

علم الحديث: رواية ودراية

د. جابر القصاص

الحمد لله، برحمته اهتدى المهتدون، وبعدله وحكمته ضلَّ الضالون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا يُسأل عمَّا يفعل وهم يُسألون، وأشهدُ أن محمدًا عبد الله ورسوله، تركنا على محجَّةٍ بيضاءَ لا يزيغ عنها إلَّا أهل الأهواء والظُّنون، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسانٍ إلى يوم لا ينفعُ فيه مالٌ ولا بنونَ، إلَّا مَنْ أتى اللهَ بِقلبٍ سَلِيمٍ، أما بعد:
أحبتي الكرام، إن علم الحديث من أشرف العلوم وأجَلِّها، فهو مرتبط بالسنة النبوية المطهرة التي تعد المصدر الثاني للتشريع، والمتضمنة لكل الأحكام التفصيلية لشرعنا الحنيف، والمبينة لما جاء مجملًا في القرآن الكريم، وحسبه من الشرف نسبته إلى خير الأنام صلى الله عليه وسلم، فكلام النبي صلى الله عليه وسلم وفعله وأحواله، هو مدار هذا العلم الشريف، وأي شيء أعظم من علمٍ قائمٍ على أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وأحواله، وسننه وأيامه، فعلم النبي صلى الله عليه وسلم بدايته، وإليه مستنده وغايته.

كما أن جميع العلوم الشرعية الأخرى بحاجة إليه، فما من أصولي، ولا مُفسِّر، ولا فقيه، ولا أخباري، إلا احتاج إلى أن يستند إلى هذا العلم الشريف، للإحاطة بما يخوض فيه، ويتوصل إلى الدليل والشاهد، ويتجنَّب الزلل والشارد، علاوة على ما ينهض به هذا العلم الشريف ورجاله من الذبِّ عن قواعد الدين وأحكامه، بمعرفة صحيح ما روي عن سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، والكشف عن ضعيفه ومكذوبه.

قال الشيخ عز الدين بن جماعة: "علم الحديث: علم بقوانين يعرف بها أحوال السند والمتن"، وقال الحافظ ابن حجر: "أولى التعاريف له أن يقال: معرفة القواعد، والمعرفة بحال الراوي والمروي". وقال آخرون: "هو علم يعرف به أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفعاله وأحواله"[1].

قلت: ولا تعارض ولا اختلاف بين التعريفين الأوَّلين؛ لأن لفظة القوانين في كلام ابن جماعة تساوي لفظة القواعد في كلام الحافظ، ولفظة السند في كلام ابن جماعة تساوي لفظة الراوي في كلام الحافظ، ولفظة المتن في كلام ابن جماعة تساوي لفظة المروي في كلام الحافظ، وأما التعريف الأخير فيقتصر على المتن وحده، والله أعلم.

هذا عن حد علم الحديث، وأما عن موضوعه: فهو السند والمتن، حسب كلام ابن جماعة، والراوي والمروي حسب كلام الحافظ، ولا تعارض بينهما كما قدمنا.

وأما غايته: فأما الغاية الدنيوية: معرفة المقبول من الأخبار من أجل العمل به، ومعرفة المردود منها، كي لا يعمل به.

وأما غايته الأخروية: فهي الفوز بسعادة الدارين، بفضل الله تعالى وتوفيقه.

وأما حكمه: فهو فرض كفاية، إذا قام به من يكفي الأمة أمره فإنه حينئذٍ يسقط الإثم عن الباقين؛ وإنما قالوا بوجوبه نظرًا لعظيم قدره، وشدة الحاجة إليه، على النحو الذي بيَّناه آنفًا في فضائله.

وأما نسبته إلى بقية العلوم الشرعية: فهو من علوم الأصول التي يبنى عليها، وكل العلوم بحاجة إليه، فهو بمنزلة الحدقة من العين، والقلب من البدن، وهو السبيل إلى النظر في كافة العلوم الأخرى.

وينقسم علم الحديث عند أهل هذا الفن إلى قسمين:
علم الحديث رواية: وهو العلم الذي يشتمل على ضبط الحديث، ونقله، وروايته، وتحرير ألفاظه. وهو العلم الذي أنتج لنا دواوين السنة، من صحاح، وسنن، ومسانيد، وغير ذلك، ويعد الإمام مسلم أحد أبرز رجالاته.

وعلم الحديث دراية: وهو العلم بقواعد يُعرف بها أحوال السند والمتن، والراوي والمرويِّ، من حيث القبول والرد، وهو العلم الذي أنتج لنا شرائط صحة الخبر، وأقسامه، وأصناف المرويات وأحكامها، وطبقات الرواة ودرجاتهم. والإمام مسلم يعد أيضًا أحد أهم رجال هذا العلم.

وقد وضعت البذور الأولى لكلا العلمين- الرواية والدراية - في عهد النبوة، ثم تبلورا في القرون التالية.

فأما علم الحديث رواية: فهو مؤصل بالكتاب والسنة، قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ [التوبة: 122]، قال الإمام أحمد: سمعت عبدالرزاق يقول: "هم أصحاب الحديث"[2].

ويُعضِّده ما تقدم من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "نضَّر الله امرأ سمع منا حديثًا فحفظه حتى يبلغه كما سمعه.."؛ الحديث، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصًا على نشر أحاديثه، وإبلاغها من وراءه، ودعا لمن يفعل ذلك وزكَّاه، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يتناوبون في طلب العلم، ويبلغ كل منهم من غاب عن مجلس النبي صلى الله عليه وسلم بما حفظه ووعاه منه، ثم انطلق هؤلاء في الأمصار يبلغون من دونهم، وهكذا انتشرت الرواية في الآفاق.

وكانت الرواية في بادئ الأمر تتم شفاهة، من حفظ الراوي، أما التدوين فقط مَرَّ بمراحل متعددة:
ففي البدء نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كتابة الحديث، كي لا يختلط بالقرآن الكريم الذي يتوالى نزوله مفرقًا، فقال صلى الله عليه وسلم: "لا تكتبوا عني شيئًا إلا القرآن، من كتب عني شيئًا سوى القرآن فليمحه"[3]، وفي بعض طرقه: "استأذنا النبي صلى الله عليه وسلم في الكتابة فلم يأذن لنا"[4].

قيل: إن النهي ها هنا في حق من يوثق بحفظه، ويخاف اتِّكاله على الكتابة إذا كتب، ويُباح في حق من لا يوثق بحفظه.

وقيل: بل كان النهي عن كتابة الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة؛ لئلا يختلط فيشتبه على القارئ.

وقيل: بل كان النهي مطلقًا، ثم نسخ بعد ذلك. وهو الأظهر، والله تعالى أعلم.

ثم كان الإذن بالكتابة، ودل عليه العديد من الأخبار، منها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه، يقول: "ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثًا عنه مني، إلا ما كان من عبدالله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب"[5]. ومعلوم أن قدوم أبي هريرة رضي الله عنه كان متأخِّرًا، مما يدل على تأخُّر الإذن في الكتابة.

كما نرى ذلك في حديث عبدالله بن عمرو - رضي الله عنهما – ذاته؛ إذ يقول: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش، فقالوا: إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: "اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا حق"[6].

وقوله: فنهتني قريش، أو لامتني قريش، دلَّ على تأخُّر الحديث، فإن إسلام قريش عامة كان بعد الفتح، والله أعلم.

وكذلك حديث أبي شاة، كان في زمن الفتح، حين خطب النبي صلى الله عليه وسلم فنهى عن استحلال مكة، فقام أبو شاة - رجل من أهل اليمن - فقال: اكتبوا لي يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اكتبوا لأبي شاة»، قال الوليد بن مسلم: قلت للأوزاعي: ما قوله: اكتبوا لي يا رسول الله؟ قال: هذه الخطبة التي سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم[7].

وهكذا كانت كل الأخبار التي تُعضِّد الكتابة متأخرة زمنيًّا، مما يقوي اتجاه القائلين بالنسخ.

وفي إجازة الكتابة قال الطحاوي: "وهذا أولى بالنظر؛ لأن الله عز وجل قال في الدَّيْن: ﴿ وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا ﴾ [البقرة: 282]، فلما أمر الله عز وجل بكتابة الدَّيْن خوف الريب، كان العلم - الذي حفظه أصعب من حفظ الدين - أحرى أن تباح كتابته، خوف الريب فيه والشك. وهذا قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد، رحمهم الله تعالى. وقد روي في ذلك أيضًا عمَّن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يوافق هذا"[8].

لكن التدوين في تلك المرحلة كان فرديًّا، واستمر كذلك حتى نهاية القرن الأول، حين كتب عمر بن عبدالعزيز إلى أبي بكر بن حزم: انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء، ولا تقبل إلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم[9].

قال الحافظ: "يستفاد منه ابتداء تدوين الحديث النبوي، وكانوا قبل ذلك يعتمدون على الحفظ، فلما خاف عمر بن عبدالعزيز - وكان على رأس المائة الأولى - من ذهاب العلم بموت العلماء، رأى أن في تدوينه ضبطًا له وإبقاء"[10].

قلت: وبذلك بدأت مرحلة التصانيف التي تنوَّعت ما بين مصنفات كبرى وصغرى، وتباينت أسماؤها، ما بين مصنف وموطأ ومسند وسنن، وغير ذلك.

وقد اتخذ أهل التصنيف ثلاثة اتجاهات:
فبعضهم دوَّن كل ما وصل إليه، من الصحيح وغيره، واكتفى بإيراد الإسناد إبراء لذمته، وترك لمن بعده مهمة تحقيق هذه الأخبار، من خلال الأسانيد التي ساقها.

وبعضهم اقتصر على الصحيح، وما كان ضعفه يسيرًا، مع تجنب الخبر المكذوب فحسب، وهذا ما يفهم من قول أبي داود: "وما كان في كتابي - أي: السنن - من حديث فيه وهن شديد فقد بينته، ومنه ما لا يصح سنده، وما لم أذكر فيه شيئًا فهو صالح، وبعضها أصح من بعض.."[11].

قال الحافظ: "ومن هنا يتبيَّن أن جميع ما سكت عليه أبو داود لا يكون من قبيل الحسن الاصطلاحي؛ بل هو على أقسام:
1- منه ما هو في الصحيحين أو على شرط الصحة.

2- ومنه ما هو من قبيل الحسن لذاته.

3- ومنه ما هو من قبيل الحسن إذا اعتضد. وهذان القسمان كثير في كتابه جدًّا.

4- ومنه ما هو ضعيف، لكنه من رواية من لم يجمع على تركه غالبًا. وكل هذه الأقسام عنده تصلح للاحتجاج بها"[12].

وبعضهم اقتصر على الحديث الصحيح فحسب، ولم يُعرِّج على الضعيف ولا ما دونه، ويتزعم هذا القسم الإمامان الجليلان: البخاري ومسلم. وبالله التوفيق.

وأما علم الحديث دراية: فمرجعه إلى قول الله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ﴾ [الحجرات: 6]، وقوله جل شأنه: ﴿ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ ﴾ [البقرة: 282]، وقوله: ﴿ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ﴾ [الطلاق: 2]، قال مسلم رحمه الله: "فدلَّ بما ذكرنا من هذه الآي أن خبر الفاسق ساقط غير مقبول، وأن شهادة غير العدل مردودة، والخبر - وإن فارق معناه معنى الشهادة في بعض الوجوه - فقد يجتمعان في أعظم معانيهما؛ إذ كان خبر الفاسق غير مقبول عند أهل العلم كما أن شهادته مردودة عند جميعهم، ودلَّت السنة على نفي رواية المنكر من الأخبار كنحو دلالة القرآن على نفي خبر الفاسق.."[13].

قلت: وقد اجتهد الصحابة رضوان الله عليهم في التحري والتثبُّت من الأخبار، رغم ندرة وقوع الكذب على عهدهم، فكان منهم من يطلب شاهدًا، ومنهم من يستحلف مَن يُحدِّثه، فلما وقعت الفتنة، وتنازعت الأمة، وافترقت الفرق، وشاع الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم احتاجوا إلى التثبُّت أكثر مما كانوا عليه قبل ذلك، وكان التثبُّت يتم عن طريق تسمية رجال الإسناد، فلا يقبلون خبرًا بلا إسناد، ثم النظر في دين رجاله، ومعتقدهم وعدالتهم، قال ابن سيرين: "إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم"[14].

وقال أيضًا: "لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة، قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم"[15].

وقال ابن المبارك: "الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء"[16]. وقال أيضًا: "بيننا وبين القوم القوائم" يعني: الإسناد[17].

والمراد: إن جاء الحديث بإسناد صحيح قبلناه، وإلا تركناه، فجعل الحديث كالحيوان لا يقوم بغير إسناد، كما لا يقوم الحيوان بغير قوائم.

ثم تبلورت شرائط قبول الحديث في خمسة، وهي: اتصال الإسناد، وعدالة الرواة، وضبطهم، والسلامة من الشذوذ، ومن العلة القادحة. قال ابن الصلاح: "أما الحديث الصحيح: فهو الحديث المسند الذي يتصل إسناده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه، ولا يكون شاذًّا، ولا معللًا"[18].

وقال العراقي في ألفيته:
وأهل هذا الشأن قسموا السنن
إلى صحيح وضعيف وحسن
فالأول المتصل الإسنادِ
بنقل عَدْل ضابط الفؤادِ
عن مثله من غير ما شذوذ
وعلة قادحة فتوذي[19]


فأما اتصال الإسناد: أن يكون كل واحد من رواته قد سمعه - أو تحمَّله بأحد وجوه التحمُّل المعتبرة - ممن فوقه حتى ينتهي إلى منتهاه.

وأما عدالة الرواة: أي استقامتهم وصلاح دينهم، فلا بد أن يكون الراوي مسلمًا عاقلًا، سالمًا من الفسق وخوارم المروءة.

وأما ضبط الرواة: أي قوة حفظهم للحديث، فلا بد أن يكون الراوي - بجانب عدالته - متيقظًا غير مغفل، حافظًا إن حدَّث من حفظه، فاهمًا إن حدَّث على المعنى.

وأما السلامة من الشذوذ: فالشذوذ هو مخالفة الراوي الثقة من هو أوثق منه في الرواية، بحيث يستحيل الجمع بين روايته وما رواه من هو أوثق منه، قال الإمام الشافعي: "ليس الشاذ من الحديث أن يروي الثقة ما لا يروي غيره، إنما الشاذ أن يروي الثقة حديثًا يخالف ما روى الناس"[20].

ولهذا كان من المهم أن نعرف طبقات الرواة من حيث العدالة والضبط، ومن هو أوثق من الآخر، للتثبت من هذا الشرط.

وأما السلامة من العلة القادحة: وهو أصعب الشروط؛ لأن العلة تكون خفية، لا يفطن لها إلا الأفذاذ، قال الحافظ العراقي: "وإنما يضطلع بذلك أهل الحفظ والخبرة والفهم الثاقب، وهي عبارة عن أسباب خفية غامضة قادحة فيه. فالحديث المعلل هو: الحديث الذي اطلع فيه على علة تقدح في صحته مع أن ظاهره السلامة منها، ويتطرق ذلك إلى الإسناد الذي رجاله ثقات، الجامع شروط الصحة من حيث الظاهر. ويستعان على إدراكها بتفرد الراوي وبمخالفة غيره له مع قرائن تنضم إلى ذلك تنبه العارف بهذا الشأن على إرسال في الموصول أو وقف في المرفوع أو دخول حديث في حديث أو وهم واهم بغير ذلك بحيث يغلب على ظنه ذلك فيحكم به أو يتردد فيتوقف فيه"[21]. قلت: وسيأتي مزيد من البيان لهذا كله أثناء شرح المقدمة بإذن الله تعالى.

لكن تجدر الإشارة إلى أن الشرط الأول اختلف الشيخان: البخاري ومسلم في آلية تطبيقه، فالبخاري رحمه الله اشترط ثبوت اللقيا بين الراوي وشيخه، وهذا الشرط أدق في تحقيق اتصال السند، لكن مسلمًا اكتفى باشتراط المعاصرة مع إمكانية اللُّقيا، وعدم ثبوت التدليس على الراوي الأدنى، بمعنى: أنه يكفي أن يكون الراوي معاصرًا لمن يروي عنه من الأشياخ، مع إمكانية اللُّقيا بينهما، حتى لو لم تثبت اللُّقيا بينهما، مع كون الراوي الأول غير مدلس، وشرط مسلم معتبر وصحيح عند أهل العلم، لكن شرط البخاري أقوى.

وأما من جهة عدالة الرواة وضبطهم فلم يختلف الشيخان على هذين الشرطين، وإنما كان البخاري أكثر تشددًا من مسلم فيهما؛ ولهذا قلَّ عدد الرواة الذين انتقدوا عليه عما وقع في صحيح مسلم. والله الموفق.

[1] انظر: تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي: (1/ 26).

[2] شرف أصحاب الحديث: ص (59).

[3] رواه مسلم (3004)، وأحمد (11085)، والدارمي (464)، وأبو يعلى (1288)، وابن حبان (64)، والحاكم (437)، عن أبي سعيد الخُدْري.

[4] رواه الترمذي (2665).

[5] رواه البخاري (113)، والترمذي (2668)، وأحمد (7389)، والدارمي (500)، وابن حبان (7152).

[6] رواه أبو داود (3646)، وأحمد (6510)، والدارمي (501)، والطبراني في الأوسط (1553)، والحاكم (359).

[7] رواه البخاري (2434)، ومسلم (1355)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

[8] شرح معاني الآثار: (4/ 319).

[9] انظر: صحيح البخاري: (1/ 31)، كتاب العلم، باب: كيف يقبض العلم.

[10] فتح الباري: (1/ 194).

[11] رسالة أبي داود إلى أهل مكة: ص (27).

[12] النكت على كتاب ابن الصلاح: (1/ 435).

[13] صحيح مسلم: المقدمة (1/ 8).

[14] رواه مسلم في مقدمته: (1/ 14)، وابن أبي شيبة (26636)، والدارمي (433)، وابن الأعرابي (1568)، وابن المقرئ (101).

[15] رواه مسلم في مقدمته: (1/ 15)، والدارمي (430)، وأبو نعيم (2/ 278).

[16] رواه مسلم في مقدمته: (1/ 15)، والرامهرمزي في المحدث الفاصل ص (209)، والخطيب في الجامع لأخلاق الراوي (1643).

[17] رواه مسلم في مقدمته: (1/ 15- 16).

[18] مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث: ص (11- 12).

[19] ألفية العراقي (التبصرة والتذكرة): الأبيات: (11- 13).

[20] التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح: ص (101).

[21] السابق: ص (116).





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 61.29 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 59.62 كيلو بايت... تم توفير 1.67 كيلو بايت...بمعدل (2.72%)]