|
ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
قصة أيوب عليه السلام في ضوء منهجية التفسير
قصة أيوب عليه السلام في ضوء منهجية التفسير أ. د. عبدالله بن ضيف الله الرحيلي الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. أما بعد: فقد قال الله تعالى: ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ [الأنبياء: 83 - 85]. وقال الله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ * ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ﴾ [ص: 41، 42]. يتعين أنْ أُشير قبل البدء، إلى أنّ هذا الموضوع ليس في تفاصيل قصة أيوب عليه السلام كلها، وإنما هو في نموذجٍ لجزئيةٍ أو جزئياتٍ منها؛ بهدف تطبيق بعضِ منهجية التفسير عليها[1]. الدَّاعي إلى كتابة هذا التعليق: كانت البداية التي دعتني إلى هذا التعليق ما نقله في تفسيره القرطبي وغيره: "قال الثعلبي: سمعت أستاذنا أبا القاسم بن حبيب يقول: حضرت مجلسًا غاصًّا بالفقهاء والأدباء في دار السلطان؛ فسئلت عن هذه الآية الكريمة -بعد إجماعهم على أنّ قول أيوب كان شكايةً- وقد قال الله تعالى: ﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا﴾ [ص: 44] فقلت: ليس هذا شكايةً، وإنما كان دعاءً؛ بيانه ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ﴾ [الأنبياء: 76]؛ والإجابة تتعقّبُ الدعاءَ، لا الاشتكاءَ. فاستحسنوه وارتضوه. وسئل الْجُنَيْدُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: عَرَّفَهُ فَاقَةَ السُّؤَالِ لِيَمُنَّ عَلَيْهِ بِكَرَمِ النَّوَالِ "[2]. فرأيت مِن المفيد التعليق على فقه هذه الآيات وتفسيرها، مع ما وردَ في معانيها في مواضع أُخر مِن القرآن الكريم، وذِكْر ما أراه راجحًا في فقهها، في النقاط الآتية: وأقول ابتداءً: ليس كلامُ أبي القاسم بن حبيب رحمه الله على إطلاقه، وإنما هو صحيح مع شيء مِن التقييد، على ما سيتضح بالاطّلاع على هذا التعليق. وكذلك قول أصحاب المجلس، الذين أجمعوا على أنّ نداءَ أيوبَ رَبَّه كان شكايةً، فليس كلامهم على إطلاقه. وأرى أنَّ الصواب هو أنّ نداءَ أيوبَ رَبَّه بهذه الصيغة وبهذه الحال، هو دعاءٌ لطيفٌ مؤدّب مع الله جل جلاله؛ إذ جمعَ فيه أيوب عليه السلام، بصورةٍ بليغة، بين دعائه بالحال ودعائه بالمقال، وليس قول أيوبَ شكايةً وجزَعًا مِن حالِه. قال القرطبيّ: "قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَلَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ: ﴿مَسَّنِيَ الضُّرُّ﴾ [الأنبياء: 83] جَزَعًا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: ﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا﴾ [ص: 44] بَلْ كَانَ ذَلِكَ دُعَاءً مِنْهُ، وَالْجَزَعُ فِي الشَّكْوَى إِلَى الْخَلْقِ لَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالدُّعَاءُ لَا يُنَافِي الرِّضَا..."[3]. وهذا الترجيحُ للأسباب الآتية: 1- لأنّ عبارة: ﴿نَادَى رَبَّهُ﴾ [الأنبياء: 83] هذه فيها معنى الدعاء، ولك أنْ تَلْمح الدعاء مِن: ﴿نَادَى﴾، و﴿رَبَّهُ﴾،﴿وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [الأنبياء: 83]! وقد تكررَ في القرآن ذكْر نداء بعض أنبياء الله ربهم في حالات الكرب، واستجابة الله نداءهم إياه في نداءاتهم تلك، مثل: نوح، وذي النون، وأيوب، وزكريا. ومِن نداءاتهم تلك: ♦ قوله سبحانه عن نداء نوح عليه السلام له: ﴿وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ﴾ [الأنبياء: 76]. ♦ وقوله عن نداء ذي النون عليه السلام له: ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنبياء: 87، 88]. ♦ ومن ذلك هذا الذي ذكَره الله في هذه الآيات مِن سورة الأنبياء مِن نداء أيوب عليه السلام، المذكورةَ أعلاه. ♦ ومِن ذلك ما ذكره الله مِن نداء زكريا عليه السلام: ﴿وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ [الأنبياء: 89، 90]. وانظر هذا التعقيب على هذا كله بقوله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ [الأنبياء: 90] وهذا مما يؤكد المعنى المتقرّر في هذا التعليق على فقه هذا النداء في الآية. 2- ومِن العجيب، الذي يؤكد هذا الفهم للآية، كلمة ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ﴾ حيث جاءت للدلالة على استجابة الله لنداء العبد ربَّه، وذلك في جميع مواضعها في القرآن فقد جاءت بالفاء، فاء العاقبة أو السببية بعد كلٍّ من تلك النداءات من الأنبياء لربهم جل جلاله، ولم يَرِدْ ذكْر استجابة الله لهم دون الفاء ﴿فَاسْتَجَبْنَا...﴾، أليسَ هذا الاطّراد في القرآن الكريم كله بذِكْر الفاء مع كل موضعٍ أَخبرَنا الله فيه عن استجابته نداء مَن ناداه دليلًا واضحًا على أنّ صيغة هذا النداء صِيغة دعاء! ومِن هذه المواضع: 1) ﴿وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الأنبياء: 76، 77]. 2) وآيات سورة الأنبياء، المنقولة في بداية هذا الموضوع. 3) ﴿ﱡوَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ * وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ [الأنبياء: 87-90]. 4) ﴿ﱡوَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ﴾[الصافات: 75]. 5) والآية في سورة ص التي نقلناها في أول هذا التعليق. 6) ﴿ﱡفَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ * لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ * فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [القلم: 48-50]. فهذه هي دلالة الاستقراء لنداءات الأنبياء لربهم، سبحانه، واستجابته نداءاتهم، حيث ذُكرتْ استجابتها في القرآن كله بفاء التعقيب. بينما جاء في القرآن في مقابل ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ﴾ عبارة (استجابوا)، دون الفاء في التعبير عن استجابة العباد لربهم: 1) كما في قوله سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ﴾ [الشورى: 38، 39]. 2) وقوله عزّ اسمه ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ *....﴾ [آل عمران: 172، 174]. 3) وقوله سبحانه ﴿لَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ *.....﴾ [الرعد: 18-24]. إلى غير ذلك مِن المواضع. وهذه هي دلالة الاستقراء لبعض ما ورد في القرآن الكريم مِن صيغةِ التعبير عن استجابات العباد لربهم سبحانه، حيث وردت كلها في القرآن كله دون فاء التعقيب (استجابوا) ونحوها! ألا ما أدقّ هذا الكتاب العزيز! وما أدقّ اللغة العربية وما أجملها! وما أعظم ارتباط هذه اللغة الكريمة بالقرآن الكريم المبارك! وما أشدّ التلازم بينهما! 4) ولأنّ في عبارة ﴿مَسَّنِيَ الضُّرُّ﴾، إشارةً إلى شفْع دعاء المقال بدعاء الحال بأدنى إشارة وألطفِها! ولا سيما أنّ الدعاء بواقع الحال مِن أبلغِ أنواع الدعاء؛ طالما لم يكن في ذلك شكايةٌ وتجزّعٌ! 5) ولأنّ في قوله تعالى: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ﴾، دلالةً صريحة على أنّ نداءه ربَّه كان دعاءً. 6) ولأنّ القرآن يفسّر بعضُه بعضًا، فما جاء فيه في موضعٍ فقد يأتي في موضعٍ آخر أو مواضع يُفسّر بعضُها بعضًا، وقد ذَكرَ الله أيوب، عليه السلام في موضعٍ آخر غيرِ هذا، فقال: ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾ [ص: 41]، وتكلم عنه حتى نهاية الآية 44، وذكَر الله عنه في هذا الموضع دعاءه ربه بما يقارب الصيغة في سورة الأنبياء، وأشار فيه إلى شيء مِن هذا الضر الذي أصابه، وأنه نُصْبٌ وعذابٌ مِن الشيطان، وذكرَ الله هنا، أيضًا استجابته لعبده أيوبَ بقوله: ﴿ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ﴾ [ص: 42] فما بعدها. وهكذا ترى أنّ القرآن هنا يُفسِّر بعضُه بعضًا، كما هو الشأن في القرآن الكريم كله! اللهم إنّ الكتاب كتابك، والبيان بيانك، والإعجاز في هذا الكتاب الكريم إعجازك؛ فلا عجَب أن يأتي البيان فيه بنحو هذه الدقّة الآسِرة! فاللهم وفقنا للفقه عنك وعن رسولك محمد صلى الله عليه وسلم خاتم أنبيائك ورسلك، عليه وعليهم صلوات الله وسلامه! وقفةٌ عند الضُّرّ الذي مَسّ أيوبَ عليه السلام: قال الإمام القرطبي في تفسيره: "قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ﴾، أَيْ: وَاذْكُرْ أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ. ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ﴾ أَيْ: نَالَنِي فِي بَدَنِي ضُرٌّ وَفِي مَالِي وَأَهْلِي. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سُمِّيَ أَيُّوبَ لِأَنَّهُ آبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ حَالٍ"[4]. قلتُ: في ثبوت هذا القول عن ابن عباس رضي الله عنهما نظرٌ -فلا أَظنه يَثبتُ عنه- ومما يَدلُّ على عدم ثبوته أنّ تسميتَه (أيوبَ) سابقةٌ لكل ما جرى عليه في حياته مِن الأحوال والأفعال؛ لأنَّ التسمية حاصلةٌ عند ولادته، حين لا يُعرَفُ ماذا سيحْصُل له في حياته بعد ذلك! وأسوقُ، على استحياءٍ، ما حكاهُ الإمام القرطبي عن بعض المفسرين مِمَّا لا يصحّ قبوله بحالٍ[5] بقوله: "وَرُوِيَ أَنَّ أَيُّوبَ عليه السلام كَانَ رَجُلًا مِنَ الرُّومِ ذَا مَالٍ عَظِيمٍ، وَكَانَ بَرًا تَقِيًا رَحِيمًا بِالْمَسَاكِينِ، يَكْفُلُ الْأَيْتَامَ وَالْأَرَامِلَ، وَيُكْرِمُ الضَّيْفَ، وَيُبَلِّغُ ابْنَ السَّبِيلِ، شَاكِرًا لِأَنْعُمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ دَخَلَ مَعَ قَوْمِهِ عَلَى جَبَّارٍ عَظِيمٍ فَخَاطَبُوهُ فِي أَمْرٍ، فَجَعَلَ أَيُّوبُ يَلِينُ لَهُ فِي الْقَوْلِ مِنْ أَجْلِ زَرْعٍ كَانَ لَهُ؛ فَامْتَحَنَهُ اللَّهُ بِذَهَابِ مَالِهِ وَأَهْلِهِ، وَبِالضُّرِّ فِي جِسْمِهِ حَتَّى تَنَاثَرَ لَحْمُهُ وَتَدَوَّدَ جِسْمُهُ، حَتَّى أَخْرَجَهُ أَهْلُ قَرْيَتِهِ إِلَى خَارِجِ الْقَرْيَةِ[6]، وَكَانَتِ امْرَأَتُهُ تَخْدمُهُ. قَالَ الْحَسَنُ: مَكَثَ بِذَلِكَ تِسْعَ سِنِينَ وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ[7]. فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُفَرِّجَ عَنْهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ: ﴿ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ﴾، [سورة ص: 42] فِيهِ شِفَاؤُكَ، وَقَدْ وَهَبْتُ لَكَ أَهْلَكَ وَمَالَكَ وَوَلَدَكَ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ. وَسَيَأْتِي فِي "ص"[8] مَا لِلْمُفَسِّرِينَ فِي قِصَّةِ أَيُّوبَ مِنْ تَسْلِيطِ الشَّيْطَانِ عَلَيْهِ، وَالرَّدِّ عَلَيْهِمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى". ثمّ تناول القرطبيُّ معنى قول أيوب ﴿مَسَّنِيَ الضُّرُّ﴾، هذا، فقال: "وَاخْتُلِفَ فِي قَوْلِ أَيُّوبَ: ﴿مَسَّنِيَ الضُّرُّ﴾، عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ قَوْلًا..."، وذكَرَها[9]. وأستغفرُ اللهَ مِن نَقْلِ أقاويلِهم هذه. قلتُ: وأورد فيها تفاصيلَ وأقوالًا بعضها يَنبو عن العقل أو عن سُنن الله في الخلْق، أو يتعارض مع مقام النبوّة، أو يَفتقد دليلَ إثباته! ولا يَصحّ نسبة مثل هذه المعصية، التي ذكروها لنبيٍّ مِن أنبياء الله تعالى، المعصومين عن الخيانة والمداهنة في دِين الله تعالى، الذي بَعثَهم به! وهذه قاعدةٌ عامّة يَجبُ تطبيقها في حق الرسل والأنبياء جميعًا، وقاعدةٌ أساسيّةٌ في تفسير القرآن الكريم في هذا المجال. ولا بدّ مِن الإشارة الإجمالية هنا إلى بطلان الأقوال والروايات التي اشتملتْ على تصوير أيوب عليه السلام بأنّ بلاءه كان بسببِ خطيئة؛ وذلك أنها تُنافي عصمة الأنبياء، أو تنافي مقام الأنبياء عند ربهم، أو تصوّر أيوب بأوصافٍ مزرية، نحو تساقط لحمه، وتسليط الدود عليه، وكراهة رائحته حتى قَذَرَه قومُه وأخرجوه من بلدتهم بسبب ذلك، ونحو هذا الكلام؛ فلا يجوز الانشغال، والإشغال، بمثل هذا الكلام في كتب التفسير بحجة إرادة تفسير كلام الله تعالى! قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي[10]: ﴿مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ﴾، وما ذكره في "الأنبياء": من أنه آتاه أهله ومثلهم معهم رحمةً منه وذكرى لمن يعبده؛ بيّنه في "ص" في قوله: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [ص: 43]، وقوله في "الأنبياء": ﴿وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ﴾ [الأنبياء: 84] مع قوله في "ص": ﴿وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ فيه الدلالة الواضحة على أن أصحاب العقول السليمة مِن شوائب الاختلال، هم الذين يعبدون الله وحده ويطيعونه. وهذا يؤيد قول مَن قال مِن أهل العلم، إن من أوصى بشيء من ماله لأعقل الناس؛ أنّ تلك الوصية تُصْرف لأتقى الناس وأشدهم طاعة لله تعالى؛ لأنهم هم أولو الألباب؛ أي العقول الصحيحة السالمة مِن الاختلال". وقال الشيخ الأمين: "تنبيه: في هذه الآيات المذكورة سؤالٌ معروف، وهو أن يقال: إن قول أيوب المذكور في "الأنبياء" في قوله: ﴿إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ﴾ وفي "ص" في قوله: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾ [ص: 41] يدل على أنه ضجر مِن المرض فشكا منه؛ مع أن قوله تعالى عنه: ﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ [ص: 44] يدل على كمال صبره؟ والجواب: أن ما صدَر من أيوب دعاءٌ، وإظهارُ فقرٍ وحاجة إلى ربه، لا شكوى ولا جزع. قال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة: ولم يكن قوله: ﴿مَسَّنِيَ الضُّرُّ﴾ جزعًا؛ لأن الله تعالى قال: ﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا﴾، بل كان ذلك دعاءً منه. والجزع في الشكوى إلى الخلق لا إلى الله تعالى، والدعاء لا ينافي الرضا". قال الشيخ الأمين في تفسيره هذه الآيات: "ودعاءُ أيوبَ المذكور ذكره الله في سورة "الأنبياء" من غير أن يسند مس الضر أيوب إلى الشيطان في قوله: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [الأنبياء: 83] وذكره في سورة "ص" وأسند ذلك إلى الشيطان في قوله: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾ [ص: 41] والنصب على جميع القراءات معناه: التعب والمشقة، والعذاب: الألم. وفي نسبة ما أصابه من المشقة والألم إلى الشيطان في آية "ص" هذه إشكال قوي معروف؛ لأن الله ذكر في آيات من كتابه: أن الشيطان ليس له سلطان على مثل أيوب من الأنبياء الكرام؛ كقوله: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ﴾ [النحل: 99، 100] وقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ﴾ [سبأ: 21] الآية، وقوله تعالى عنه مقررًا له: ﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي﴾ [إبراهيم: 22]، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾ [الحجر: 42]. وللعلماء عن هذا الإشكال أجوبة؛ منها ما ذكره الزمخشري قال: فإن قلت: لِمَ نسبه إلى الشيطان، ولا يجوز أن يُسلّطه على أنبيائه ليقضي من إتعابهم وتعذيبهم وطرَه، ولو قدر على ذلك لم يدعْ صالحًا إلا وقد نكبه وأهلكه، وقد تكرر في القرآن أنه لا سلطان له إلا الوسوسة فحسب؟ قلت [القائل: الشيخ محمد الأمين الشنقيطي]: لما كانت وسوسته إليه، وطاعته له فيما وسوس سببًا فيما مسه الله به من النصب والعذاب نَسَبَه إليه، وقد راعى الأدب في ذلك حيث لم ينسبه إلى الله في دعائه، مع أنه فاعله ولا يقدر عليه إلا هو. وقيل: أراد ما كان يوسوس به إليه في مرضه من تعظيم ما نزل به من البلاء، ويغريه على الكراهة والجزع، فالتجأ إلى الله تعالى في أن يكفيه ذلك بكشف البلاء، أو بالتوفيق في دفعه ورده بالصبر الجميل. وروي أنه كان يعوده ثلاثةٌ من المؤمنين؛ فارتد أحدهم فسأل عنه، فقيل: ألقى إليه الشيطان أن الله لا يبتلي الأنبياء الصالحين. وذكر في سبب بلائه: أن رجلًا استغاثه على ظالم فلم يغثه. وقيل: كانت مواشيه في ناحيةِ ملك كافر فداهنه ولم يغزه. وقيل: أعجب بكثرة ماله. انتهى منه. ومنها ما ذكره جماعة من المفسرين: أن الله سلط الشيطان على ماله وأهله ابتلاءً لأيوب؛ فأهلك الشيطان ماله وولده، ثم سلطه على بدنه ابتلاءً له فنفخ في جسده نفخة اشتعل منها، فصار في جسده ثآليل، فحكها بأظافره حتى دميت، ثم بالفخار حتى تساقط لحمه، وعصَم الله قلبه ولسانه. (وغالب ذلك من الإسرائيليات) وتسليطه للابتلاء على جسده وماله وأهله ممكن، وهو أقرب من تسليطه عليه بحمْله على أن يفعل ما لا ينبغي؛ كمداهنة الملك المذكور، وعدم إغاثة الملهوف، إلى غير ذلك من الأشياء التي يذكرها المفسرون. وقد ذكروا هنا قصة طويلة تتضمن البلاء الذي وقع فيه، وقدر مدته (وكل ذلك من الإسرائيليات) وقد ذكرنا هنا قليلًا. وغايةُ ما دل عليه القرآن: أن الله ابتلى نبيه أيوب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وأنه ناداه فاستجاب له وكشف عنه كل ضر، ووهبه أهله ومثلهم معهم، وأن أيوب نسب ذلك في "ص" إلى الشيطان. ويمكن أن يكون سلطه الله على جسده وماله وأهله؛ ابتلاءً ليظهر صبره الجميل، وتكون له العاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة، ويرجع له كل ما أصيب فيه، والعلم عند الله تعالى. وهذا لا ينافي أن الشيطان لا سلطان له على مثل أيوب؛ لأن التسليط على الأهل والمال والجسد من جنس الأسباب التي تنشأ عنها الأعراض البشرية كالمرض، وذلك يقع للأنبياء؛ فإنهم يصيبهم المرض، وموت الأهل، وهلاك المال لأسباب متنوعة. ولا مانع من أن يكون جملة تلك الأسباب تسليط الشيطان على ذلك للابتلاء. وقد أوضحنا جواز وقوع الأمراض والتأثيرات البشرية على الأنبياء في سورة "طه". وقول الله لنبيه أيوب في سورة "ص":﴿وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ﴾ [ص: 44]، قال المفسرون فيه: إنه حلف في مرضه ليضربن زوجَه مائة سوط، فأمره الله أن يأخذ ضغثًا فيضربها به ليَخرج من يمينه، والضغث: الحزمة الصغيرة من حشيش أو ريحان[11]. ومِن المفيدِ أن أنقُلَ هنا كلام الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور في تفسير هذه الآيات، وما اشتمل عليه مِن تحقيق، حيث قال: "هذا مَثَل ثانٍ ذُكِّر به النبي صلى الله عليه وسلم أسوةً به في الصبر على أذى قومه والالتجاء إلى الله في كشف الضر، وهو معطوف على ﴿اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ [ص: 17] ولكونه مقصودًا بالْمِثل أعيد معه فعل ﴿وَاذْكُرْ﴾. وإذ كانت تعدية فعل ﴿وَاذْكُرْ﴾ إلى اسم أيوب على تقدير مضاف لأن المقصود تذكّر الحالة الخاصة به كان قوله: ﴿إِذْ نَادَى﴾ [ص: 41]. بدل اشتمال من أيوب لأن زمن ندائه ربَّه مما تشتمل عليه أحوال أيّوب. وخص هذا الحال بالذكر من بين أحواله لأنه مظهر توكّله على الله واستجابة الله دعاءه بكشف الضر عنه. والنداء: نداء دُعاءٍ لأن الدعاء يُفتتح بـ: يا رب، ونحوه. و﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ﴾ متعلق بـ ﴿نَادَى﴾ بحذف الباء المحذوفة مع (أن)، أي نادى: بأنّي مسني الشيطان، وهو في الأصل جملة مبيّنة لجملة ﴿نَادَى ربه﴾ ولولا وجود (أن) المفتوحة التي تصيِّر الجملة في موقع المفرد لكانت جملة مبيِّنة لجملة ﴿نَادَى﴾، ولما احتاجت إلى تقدير حرف الجر ليتعدّى إليها فعل ﴿نَادَى﴾ وخاصة حيث خَلَت الجملة من حرف نداء. فقولهم: إنها مجرورة بباء مقدرة جرى على اعتبارات الإِعراب؛ تفرقة بين موقع (أنَّ) المفتوحة وموقع (إنَّ) المكسورة ولهذا الفرق بين الفتحِ والكسرِ اطّرد وجهَا فتحِ الهمزة وكسرِها في نحو "خيرُ القَول أني أحمد". وقد ذكرنا في قوله تعالى: ﴿أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾ [الأنفال: 9] رأينا في كون (أنّ) المفتوحة الهمزة المشددة النون مركبة من (أَنْ) التفسيرية (وأنَّ) الناسخة. والخبر مستعمل في الدعاء والشكاية، كقوله: ﴿رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى﴾ [آل عمران: 36]، وقد قال في آية سورة [الأنبياء: 83] ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ والنُصْب، بضم النون وسكون الصاد: المشقة والتعب، وهي لغة في نَصَب بفتحتين، وتقدم النَصَب في سورة الكهف. وقرأ أبو جعفر ﴿بِنُصُبٍ﴾ بضم الصاد وهو ضم إتباع لضمّ النون. والعذاب: الألم. والمراد به المرض يعني: أصابني الشيطان بتعَب وألم. وذلك من ضرٍّ حل بجسده وحاجةٍ أصابته في ماله كما في الآية الأخرى ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ﴾ [الأنبياء: 83]. وظاهر إسناد المسّ بالنُّصب والعذاب إلى الشيطان أن الشيطان مسّ أيوب بهما، أي أصابه بهما حقيقةً مع أن النصب والعذاب هما الماسّان أيوب، ففي سورةَ [الأنبياء: 83] ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ﴾ فأسند المسّ إلى الضر، والضرّ هو النصب والعذاب. وتردّدت أفهام المفسرين في معنى إسناد المسّ بالنُّصب والعذاب إلى الشيطان، فإن الشيطان لا تأثير له في بني آدم بغير الوسوسة كما هو مقرر من مُكرر آيات القرآن، وليس النُّصب والعذاب من الوسوسة ولا من آثارها. وتأولوا ذلك على أقوال تتجاوز العشرة وفي أكثرها سماجة وكلها مبني على حملهم الباء في قوله: ﴿بِنُصُبٍ﴾ على أنها باء التعدية؛ لتعدية فعل ﴿مَسَّنِيَ﴾، أو باء الآلة مثل: ضربه بالعصا، أو يؤول النُّصب والعذاب إلى معنى المفعول الثاني من باب أعطى. والوجه عندي [الكلام للطاهر ابن عاشور]: أنْ تُحْمل الباء على معنى السببية بجعل النُّصْب والعذاب مسببين لمسّ الشيطان إياه، أي مسّني بوسواس سببه نُصْب وعذاب، فجعل الشيطان يوسوس إلى أيوب بتعظيم النُّصْب والعذاب عنده ويلقي إليه أنه لم يكن مستحقًا لذلك العذاب ليلقي في نفس أيوب سوء الظن بالله أو السخط من ذلك. أو تحمل البَاء على المصاحبة، أي مسّني بوسوسة مصاحبة لضرٍّ وعذاب، ففي قول أيوب: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾ [ص: 41] كناية لطيفة عن طلب لطف الله به ورفع النُّصب والعذاب عنه بأنهما صارا مدخلًا للشيطان إلى نفسه فطلب العصمة مِن ذلك على نحو قول يوسف عليه السّلام: ﴿وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ [يوسف: 33]. وتنوين ﴿بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾ للتعظيم أو للنوعية، وعدل عن تعريفهما لأنهما معلومان لله"[12]. وبهذا التحقق مِن التفسير الصحيح لهذه الآيات بشأن أيوب عليه السلام وابتلاء الله له؛ ليُظهِر صبره والأُسوة فيه؛ يتبين زَيْف ما أُلصق بكتاب الله مِن تلك التفاسير المنقولة عند هذه الآيات، وأنّ مما هو واضحٌ مِن دلالة هذه الآيات هو أنّ الله ابتلى عبده ورسوله أيوب، وأَظهَرَ في حاله وسيرته وفي ابتلائه له جَلال قدْره عند ربه، وآيات نبوّته، ومواضع القدوة والأسوة فيه؛ ولهذا أَمرَ خاتم رسله محمدًا صلى الله عليه وسلم بأخْذ العبرة والأُسوة فيه، صلوات الله وسلامه عليهما وعلى سائر رسله وأنبيائه. خاتمة الموضوع: وأخيرًا: لعل القارئ يُدرِك مما مضى المحَصّلة الآتية: 1- هذا الموضوع مثالٌ تطبيقيّ؛ يُوَضّح أهمية المنهج السديد، المطلوب مراعاته في فقه كتاب الله تعالى وتفسيره؛ للخلاص مما عَلق بتفسيره في عددٍ مِن كتب التفسير، مِن تغليب منهج الجمْع في كثيرٍ مِن الأحيان على منهج التحقيق والنقد؛ وذلك لاطّراح غيرِ الصحيح، والأوهام، والابتعاد عن منهجِ سرْد الروايات الباطلة الواهية، والأقوال الواهمة[13]. 2- ولعل القارئ ينتهي، أيضًا، إلى حقيقةٍ في غاية الأهمية، وهي أنّ تفسيراتِ المفسرين ليست حكَمًا على كتاب الله، وإنما كتاب الله هو الحَكَم عليها؛ فهي ينبغي أن تؤخذ في ضوء هذا الكتاب الكريم، الذي لا يأتيه الباطل مِن بين يديه ولا مِن خلفه، تنزيلٌ مِن حكيمٍ حميد، لا العكس. 3- ولعل القارئ يَتنبّهُ، أيضًا، إلى أنه ليس معنى ما ورد في هذا الموضوع هو الدعوة إلى اطّراح الكنوز العلمية النورانية تلك، التي زَخرَ بها النتاج العلميّ المبارك في جهود العلماء في كتب تفسير القرآن الكريم؛ فيتطاول الجاهل، أو غير ذي الأهلية على رصيد الأمّة في التفسير هذا؛ ليتّخذ ذلك تُكَأةً للقول في كتاب الله بغير عِلم! كلا، بل لا يصح التفريط أو الانتقاص مِن قدْر هذا العِلم الشريف وتراثه، لكن -في الوقت نفسه- لا بد مِن التأكيد على أهمية التمحيص والتجديد في ضوء منهجية التفسير اللازمة، المبنية على أصول منهج أولئك الأئمة مِن حيث الجملة. وربنا الموفق الهادي إلى سواء السبيل، جل جلاله، والحمد لله رب العالمين. 19-8-1445هـ. [1] وإلا لو استوعبنا الكلام في قصته، عليه السلام، كلها؛ لطال بنا المقام، ولا سيما أني قد تناولتُ هذا بشيءٍ مِن التفصيل، ضِمْن الأمثلة التطبيقية في كتاب: "منهج تفسير القرآن الكريم بين المأثور عن السلف والاجتهاد المشروع للخلف"، الذي انتهيتُ من إعداده، بفضل الله تعالى. [2] تفسير القرطبي، 11/ 325، وتصحفتْ فيه "فَسُئِلْتُ" إلى: "فَسَأَلْتُ"، في تفسيره للآيات من سورة الأنبياء: 83-85، ونقله الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في "أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن"، عند تفسيره لهذه الآيات، دون تصحيف. [3] تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي، المتوفى 671ه، تحقيق أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، القاهرة، دار الكتب المصرية، ط.2، 1384هـ - 1964م، 11/ 325. [4] تفسير القرطبيّ، 11/ 323. [5] على أنه علّق لاحقًا على بعضه؛ انتقادًا له، رحمه الله، وقد أحسَنَ صُنعًا بذلك، لكنه تعليقٌ بعيد عن مكان إيراد الروايات المزعومة، ومتأخرٌ عن مكان إيرادها، ولا يَصحّ تأخير البيان عن وقته. [6] قلتُ: وهذا كلامٌ غيرُ مقبولٍ في حقِّ نبي الله أيوب، ولا في حقّ سِواه مِن الأنبياء؛ لِمَا فيه وصْفه بهذه الأمراض والعاهات، التي نزّهَ الله عنها أنبياءه؛ فلم يَبعث رسولًا فيه عاهة قطُّ، بل بعثهم وهم في أحسنِ خِلْقه جسدية، كما أنهم في أحسَنِ صورةٍ أخلاقية! وما هذه الروايات إلا روايات ملفّقة، أُدخِلتْ في التفسير على حين غفلةٍ مِن بعض الأئمة في بعض العصور، رحمهم الله تعالى. [7] أوردوا في مدة بلائه عليه السلام أقوالًا كثيرة مختلفة، وكلها يتوقف قبولها على صحة سندها، ولا سنَدَ يَعزو إلى عالِمٍ بهذا الغيب سوى القرآن الكريم، وما يَثبتُ مِن الحديث عن رسول الله محمد خاتم الأنبياء. [8] يُنظَر: 15/ 207، في تفسير القرطبيّ. [9] تفسير القرطبيّ، 11/ 323 -327. [10] أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي، المتوفي 1393ه، له عدة طبعات، ويُهتدى فيه للموضع بالرجوع لمكان تفسيره للآية أو الآيات. [11] أضواء البيان، 4/ 850 -851. [12] تفسير التحرير والتنوير، تونس، دار سحنون للنشر والتوزيع- لبنان، دار ابن حزم، 1443هـ- 2921م، محمد الطاهر ابن عاشور، في تفسيره للآيات. [13] ويمكن الرجوع إلى شيء من ذلك في الأمثلة التطبيقية في كتاب: "منهج تفسير القرآن الكريم بين المأثور عن السلف والاجتهاد المشروع للخلف".
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 3 ( الأعضاء 0 والزوار 3) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |