|
ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث ملتقى يختص في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلوم الحديث وفقهه |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() أسباب اختلاف نُسخ «صحيح البخاري» د. هيثم بن عبدالمنعم بن الغريب صقر الحمد لله؛ أما بعد: فإذا علِمنا شدة اعتناء أئمة الحديث والرواية بـ «صحيح البخاري»، وحرصهم على سماعه وإقرائه ونسخه، ودقة صنيعهم في رصد وحصر وتقييد الفروق بين الروايات والنسخ، يطرأ سؤال له وجاهته: ما هي أسباب اختلاف نسخ «صحيح البخاري»؟ هل ترك البخاري «صحيحه» مُسودةً دون تبييض قبل وفاته؟ يزعم البعض أن أحد هذه الأسباب هو عدم تبييض البخاري لـ «صحيحه»، وأنه تركه مسودة. قال أبو إسحاق المستملي إبراهيم بن أحمد: "انتسخت كتاب البخاري من أصله، كان عند محمد بن يوسف الفربري، فرأيته لم يتم بعد، وقد بقيت عليه مواضع مبيضة كثيرة، منها تراجِم لم يثبت بعدها شيئًا، ومنها أحاديث لم يترجم عليها، فأضفنا بعض ذلك إلى بعض"[1]. قال أبو الوليد الباجي: "ومما يدل على صحة هذا القول أن رواية أبي إسحاق المستملي، ورواية أبي محمد السرخسي، ورواية أبي الهيثم الكشميهني، ورواية أبي زيد المروزي، وقد نسخوا من أصل واحد، فيها التقديم والتأخير، وإنما ذلك بحسب ما قدر كل واحد منهم فيما كان في طرة أو رقعة مضافة، أنه من موضع ما فأضافه إليه، ويبين ذلك أنك تجد ترجمتين وأكثر من ذلك متصلة ليس بينهما أحاديث، وإنما أوردت هذا لما عُني به أهل بلدنا من طلب معنى يجمع بين الترجمة والحديث الذي يليها، وتكلفهم في تعسف التأويل ما لا يسوغ، ومحمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله وإن كان من أعلم الناس بصحيح الحديث وسقيمه، فليس ذلك من علم المعاني وتحقيق الألفاظ وتمييزها بسبيلٍ، فكيف وقد روى أبو إسحاق المستملي العلة في ذلك، وبيَّنها إن الحديث الذي يلي الترجمة ليس بموضوع لها ليأتي قبل ذلك بترجمته، ويأتي بالترجمة التي قبله من الحديث بما يليق بها"[2]. والسؤال: هل يُفهم من هذا النص أن البخاري ترك «صحيحه» مسودةً دون تبييض قبل وفاته، وأن هذا هو سبب الاختلافات في الرواية؟ الجواب: قطعًا لا، بيَّضه وحدَّث به مراتٍ ومراتٍ. قال الإمام البخاري: "صنفت جميع كتبي ثلاث مرات"، وفي هذا دليلٌ على كمال احتياط الإمام البخاري، ومبالغته في التوقي، وحرصه على التمام، فقد كان يعيد النظر والتأمل في كل كتاب يضعه، ويتعاهده بالتهذيب والتعديل، حتى يُخرجه في الهيئة المرضية، والصورة المضيئة، ولا شك أن الإمام البخاري لم يخرج كتابه «الصحيح» للناس، ویسمعه منه الجمع الغفیر إلا بعد أن انتهى من جمعه، وتنقیحه، وترتیبه، وقد مكث الإمام البخاري في تصنيف «الصحيح» ست عشرة سنة، واستغراق التصنيف هذا الزمن الطويل دليلٌ أيضًا على أنه لم يكتب شيئًا في «الصحیح» إلا بعد التحري والتثبت. وبيَّض تراجِمه بالتأكيد: وأما قول الإمام البخاري: "صنفت كتابي الجامع في المسجد الحرام، وما أدخلت فيه حديثًا حتى استخرت الله تعالى، وصليت ركعتين، وتيقنت صحته"؛ فقد قال ابن حجر: "الجمع بين هذا وبين أنه كان يصنفه في البلاد، أنه ابتدأ تصنيفه وترتيبه وأبوابه في المسجد الحرام، ثم كان يخرج الأحاديث بعد ذلك في بلده وغيرها، ويدل عليه قوله: إنه أقام فیه ست عشرة سنةً، فإنه لم يجاور بمکة هذه المدة کلها، وقد روی ابن عدي عن جماعة من المشايخ: أن البخاري حوَّل تراجم جامعه بين قبر النبي صلى الله عليه وسلم ومنبره، وكان يصلي لكل ترجمة ركعتين، قال ابن حجر: ولا ينافي هذا أيضًا ما تقدم؛ لأنه يُحمل على أنه في الأول كتبه في المسودة، وهنا حوَّله من المسودة إلى المبيضة". دعوة القسطلاني لتأمل كلام الباجي، وموقف ابن حجر: حدَّث الإمام البخاري بكتابه الصحيح في البلدان مرارًا، وسمِعه منه أممٌ وخلائق، وهو قد حدث به مبوبًا مرتبًا، ولا يمكن أن يتركه لاجتهاد النُّساخ؛ قال القسطلاني: "هذا الذي قاله الباجي فيه نظرٌ؛ من حيث إن الكتاب قرئ على مؤلفه، ولا ريب أنه لم يُقرأ عليه إلا مرتبًا مبوبًا، فالعبرة بالرواية لا بالمسودة التي ذكر صفتها"[3]، قال ابن حجر: "وهذه قاعدة حسنة يُفزع إليها حيث يتعسر وجه الجمع بين الترجمة والحديث، وهي مواضعُ قليلة جدًّا"[4]، ولا يُفهم من هذا قبول ابن حجر للكلام، بل إنه قصره على موضع مناسبة الحديث مع الترجمة. وقاعدة التداخل هذه لا تحل كثيرًا من الإشكالات: مثل: ذِكر حديث: ((إنما الأعمال بالنيات)) في أول «الصحيح»؛ قال المهلب: "وأكثر ما شُنع[5] عليه به رحمه الله ما ترجم به في أول باب من كتابه، ثم أدخل غير ما ترجم به عندهم، وذلك أنهم ألفوهم في أول باب … فاستغنَوا به عن إصلاح كثيرٍ مما سايروا الكتاب، وهو أنه قال: باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أدخل حديث ((الأعمال بالنيات))، زعموا أن ليس فيه شيء مما تضمنت الترجمة، حتى بلغني أن بعض المتقدمين وضع في هذا الباب وشبهه مما لم ينفك له منه معنى الترجمة في سائر الكتاب وضعًا يُشنع به على البخاري رحمه الله، وذلك الحديث - والله أعلم - نفس ما ترجم به، وأولى الأحاديث بنصه، ثم بدأ يذكر وجه هذا الحديث في هذه الترجمة، إلى أن قال: فأي معنى أولى بهذه الترجمة من هذا الحديث، وأشد مشاكلة ومطابقة لها عند من فتح الله عليه الفهم، فبحث عن العلم، واقتبس من أهل التقدم، ولقد ينبغي لأهل الطلب والتفقه أن يعرفوا وكيدَ حاجتهم إلى علم معاني الحديث الصحيح، ووجوه مطابقته للمسائل الصحيحة، المتوفرة بينهم في الفتوى، فيستنبطون منها ما لم يتقدم فيه قولٌ لعالمٍ، ويفرقون منها بين الوهم والصواب من الاختلاف، إذ قد كثُر وعُورض المتقدم بالمتأخر، ولعله مفسَّر"[6]. وهي قاصرة على التراجم والمناسبات: وهذا باقي كلام الباجي نفسه الذي يُورده عقب ذكره هذه الحكاية عن النسخة، فقد كان كلامه في سياق الحديث عن التراجم ومناسبة الحديث للترجمة، فأورد النقل السابق الذي جاء فيه: "وإنما أوردت هذا لما عُني به أهل بلدنا من طلب معنى يجمع بين الترجمة والحديث الذي يليها، وتكلفهم في تعسف التأويل ما لا يسوغ"، فأين هذا من التعميم وجعل المبيضة مسودة؟ بعث والي بُخارى للبخاري: أن احمل إليَّ كتاب الجامع والتاريخ وغيرهما لأسمع منك: والإمام البخاري لما خرج من نيسابور، وتوجه إلى بُخارى، بعث الأمير خالد بن أحمد الذهلي والي بخارى إلى الإمام البخاري أنِ احمل إليَّ كتاب الجامع والتاريخ وغيرهما لأسمع منك، فردَّ عليه الإمام البخاري بقوله: أنا لا أذل العلم ولا أحمله إلى أبواب الناس، فإن كانت لك إلى شيء منه حاجةٌ، فاحضرني في مسجدي أو في داري، وإن لم يعجبك هذا فأنت سلطان فامنعني من المجلس؛ ليكون لي عذر عند الله يوم القيامة؛ لأني لا أكتم العلم، فكون والي بخارى يطلب من الإمام البخاري أن يُسمعه كتاب الجامع دليلٌ على أن الإمام فرغ من تأليفه وتصنيفه، حتى اشتهر أمر الصحيح بين الأمراء والعامة. إذا تركه البخاري مسودة، فمن بيَّضه؟ وقد اشتهر عن الإمام البخاري فقهه الدقيق في تراجم أبواب «صحيحه»، مما يدل على شفوف ذهنه، وثاقب فهمه، ودقة استنباطه، وبراعته في استخراج الحكم أو الإشارة للمسألة التي يتضمنها الحديث، ومع هذه الدقة العجيبة، والترتيب المتقن بين أبواب الكتاب الواحد؛ لم يذكر أحدٌ من العلماء أن رواة الصحيح هم من قاموا بترتيبه، وإلا لما اتفقوا على ترتيب واحد، ولَوقع بينهم اختلاف في نسخهم للكتاب. وخلاصة المسألة: أن البخاري بيَّض «الصحيح»: وهذا كله مما يؤكد أن الإمام البخاري قد انتهى من كتابه الصحيح وترتیبه، فظهر مما سبق أن الإمام البخاري بيَّض كتابه، ونقَّحه، وأنه قد بلغ الغاية في العناية به؛ قال ابن حجر: "وللغفلة عن هذه المقاصد الدقيقة اعتقد من لم يمعن النظر أنه ترك الكتاب بلا تبييض، ومن تأمل ظفِر، ومن جدَّ وجد"[7]. [1] «التعديل والتجريح لمن خرج له البخاري في الجامع الصحيح» للباجي (1/ 310). [2] «التعديل والتجريح لمن خرج له البخاري في الجامع الصحيح» للباجي (1/ 311). [3] «إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري» للقسطلاني (1/ 266). [4] «هدى الساري» لابن حجر (8). [5] قال أحمد فارس السلوم في مقدمة تحقيق: «إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري» للقسطلاني (1/ 101): "وعلى كل هذا التعقيب السمج الذي ذكره الباجي، وغمز به البخاري من أنه ليس له إلى تحقيق الألفاظ والمعاني سبيل، فما هو وقول الناس: فقه البخاري في تراجمه، ولعل المهلب عناه لما ذكر عن بعض أهل زمانه ما ذكر من تشنيعهم على البخاري، وتصديهم للرد عليه"، والغمز الذي ذكره السلوم هو قول الباجي في «التعديل والتجريح لمن خرج له البخاري في الجامع الصحيح» (1/ 311): "وَمُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيُّ رحمه الله وَإِن كَانَ من أعلم النَّاس بِصَحِيح الحَدِيث وسقيمه، فَلَيْسَ ذَلِك من علم الْمعَانِي وَتَحْقِيق الْأَلْفَاظ وتمييزها بسبيل". [6] «إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري» للقسطلاني (1/ 311). [7] «هُدى الساري» لابن حجر (14).
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |