|
ملتقى الفتاوى الشرعية إسأل ونحن بحول الله تعالى نجيب ... قسم يشرف عليه فضيلة الشيخ أبو البراء الأحمدي |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#4
|
||||
|
||||
![]() الخطأ في الفتوى وأثره على حياة المسلمين المعاصرة (الحلقة الرابعة والأخيرة)
ما زال حديثنا مستمرا عن الانحراف الكبير الذي وقع في باب الفتوى، وحدث بسببه فساد عريض في المجتمع المسلم؛ ولذلك جاء هذا المقال للتنبيه على بعض المزالق والأخطاء في باب الفتيا التي عمت بها البلوى، وانتشرت بين الناس، وذكرنا في الحلقة الماضية تعريف الإفتاء، وكيف كان السلف يتورعون عن الفتوى، ثم تحدثنا عن الأمور التي يقع فيها الخطأ في باب الفتوى وذكرنا منها: الإفتاء بغير علم، والجواب عن كل ما يُسأل عنه، واليوم نستكمل ذكر هذه الأخطاء. 8- الفتوى بالهوى من أصول الخطأ في باب الفتوى: أن يتبع المفتي هواه في الترجيح بين الأقوال المختلفة والآراء المتباينة بغير مرجح من دليل نقلي، أو نظر عقلي، أو اعتبار مصلحي، إلا مجرد الميل النفسي إلى ذلك القول، موافقة لمذهبه، أو قول شيخه، أو تشديدًا أو تخفيفًا على من يفتيه؛ ولذا حذر العلماء من هذا الاتجاه وعدّوه زيغًا عن الحق وانحرافًا عن المنهج واتباعا للهوى. قال ابن القيم: «لَا يَجُوزُ لِلْمُفْتِي أَنْ يَعْمَلَ بِمَا يَشَاءُ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْوُجُوهِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ مِنْ التَّرْجِيحِ وَلَا يَعْتَدُّ بِهِ، بَلْ يَكْتَفِي فِي الْعَمَلِ بِمُجَرَّدِ كَوْنِ ذَلِكَ قَوْلًا قَالَهُ إمَامٌ أَوْ وَجْهًا ذَهَبَ إلَيْهِ جَمَاعَةٌ، فَيَعْمَلُ بِمَا يَشَاءُ مِنْ الْوُجُوهِ وَالْأَقْوَالِ حَيْثُ رَأَى الْقَوْلَ وَفْقَ إرَادَتِهِ وَغَرَضِهِ عَمِلَ بِهِ، فَإِرَادَتُهُ وَغَرَضُهُ هُوَ الْمِعْيَارُ وَبِهَا التَّرْجِيحُ، وَهَذَا حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ، وَهَذَا مِثْلُ مَا حَكَى الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيَّ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ زَمَانِهِ مِمَّنْ نَصَّبَ نَفْسَهُ لِلْفَتْوَى أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إنَّ الَّذِي لِصَدِيقِي عَلَيَّ إذَا وَقَعَتْ لَهُ حُكُومَةٌ أَوْ فُتْيَا أَنْ أُفْتِيَهُ بِالرِّوَايَةِ الَّتِي تُوَافِقُهُ. وَقَالَ: وَأَخْبَرَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ أَنَّهُ وَقَعَتْ لَهُ وَاقِعَةٌ فَأَفْتَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُفْتِيَيْنِ بِمَا يَضُرُّهُ، وَأَنَّهُ كَانَ غَائِبًا، فَلَمَّا حَضَرَ سَأَلَهُمْ بِنَفْسِهِ، فَقَالُوا: لَمْ نَعْلَمْ أَنَّهَا لَكَ، وَأَفْتَوْهُ بِالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى الَّتِي تُوَافِقُهُ. قَالَ: وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ يُعْتَدُّ بِهِمْ فِي الْإِجْمَاعِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا يَجُوزُ الْعَمَلُ وَالْإِفْتَاءُ فِي دِينِ اللَّهِ بِالتَّشَهِّي وَالتَّخَيُّرِ وَمُوَافَقَةِ الْغَرَضِ، فَيَطْلُبُ الْقَوْلَ الَّذِي يُوَافِقُ غَرَضَهُ وَغَرَضَ مِنْ يُحَابِيهِ فَيَعْمَلُ بِهِ، وَيُفْتِي بِهِ، وَيَحْكُمُ بِهِ، وَيَحْكُمُ عَلَى عَدُوِّهِ وَيُفْتِيهِ بِضِدِّهِ، وَهَذَا مِنْ أَفْسَقِ الْفُسُوقِ وَأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ». 9- عدم تحري أهل العلم الموثوقين من أصول الخطأ التي يقع فيها الكثير من الناس: عدم تحري أهل العلم الموثوق فيهم للإجابة عن فتواهم، وبعضهم قد يغتر بمظهر من يستفتيه، روي عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أنه جاءه رجل فسأله عن شيء، فقال القاسم: لا أحسنه، فجعل الرجل يقول: إني دفعت إليك لا أعرف غيرك! فقال القاسم: لا تنظر إلى طول لحيتي، وكثرة الناس حولي، والله ما أحسنه، فقال شيخ من قريش جالس إلى جنبه: يا بن أخي، الزمها فوالله ما رأيتك في مجلس أنبل منك اليوم، فقال القاسم: «والله لأن يقطع لساني أحب إليَّ من أن أتكلم بما لا علم لي به، والعامي فرضه سؤال أهل العلم، لكنه يجب أن يتحرى في اختيار من يسأله منهم؛ فلا يسأل إلا من ظهر علمه، وبان للناس ورعه، واستفاضت شهرته بالفتوى بين الناس، ولم يعرف عنه مداهنة ولا مجاملة». إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ قَالَ ابْنِ عَوْنٍ: «إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ، فَانْظُرْ عَمَّنْ تَأْخُذُ دِينَكَ»، وقال يَزِيدَ بْنَ هَارُونَ: «إِنَّ الْعَالِمَ حُجَّتُكَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللَّهِ -تعالى-، فَانْظُرْ مَنْ تَجْعَلُ حُجَّتَكَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-»، مع ملاحظة عدم الاغترار بالمناصب أو الرتب العلمية عند الاستفتاء، فليس كل من حصل شيئًا من المراتب كان فقيهًا. قال شيخ الإسلام: «وَالْمَنْصِبُ وَالْوِلَايَةُ لَا يَجْعَلُ مَنْ لَيْسَ عَالِمًا مُجْتَهِدًا عَالِمًا مُجْتَهِدًا، وَلَوْ كَانَ الْكَلَامُ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ بِالْوِلَايَةِ وَالْمَنْصِبِ لَكَانَ الْخَلِيفَةُ وَالسُّلْطَانُ أَحَقَّ بِالْكَلَامِ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ». تحري أهل العلم عند السؤال والله عز وجل أمرنا بتحري أهل العلم عند السؤال وجوبًا، فقال -تعالى-: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}، وأهل الذكر هم أهل العلم المشهود لهم بالفضل والورع والفقه والدين. قال البغدادي: «أَوَّلُ مَا يَلْزَمُ الْمُسْتَفْتِي إِذَا نَزَلَتْ بِهِ نَازِلَةٌ أَنْ يَطْلُبَ الْمُفْتِيَ، لَيَسْأَلَهُ عَنْ حُكْمِ نَازِلَتِهِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مَحَلَّتِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَمْضِيَ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَجِدُهُ فِيهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِبَلَدِهِ لَزِمَهُ الرَّحِيلُ إِلَيْهِ وَإِنْ بَعُدَتْ دَارُهُ، فَقَدْ رَحَلَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ فِي مَسْأَلَةٍ». الحذرَ منِ استفتاء من ليس بأهل! والحذرَ الحذرَ منِ استفتاء من ليس بأهل للفتوى! فإذا استُفتي من ليس بأهل فقد ظهر في الإسلام أمر عظيم وثلمة لا تسدّ، وحقّ لنا أن نبكي بكاء ربيعة، قال مَالِكٌ: أَخْبَرَنِي رَجُلٌ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عبدالرَّحْمَنِ فَوَجَدَهُ يَبْكِي، فَقَالَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟ وَارْتَاعَ لِبُكَائِهِ، فَقَالَ لَهُ: أَمُصِيبَةٌ دَخَلَتْ عَلَيْكَ؟ فَقَالَ: لَا، وَلَكِنِ اسْتُفْتِيَ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ، وَظَهَرَ فِي الْإِسْلَامِ أَمْرٌ عَظِيمٌ. قَالَ رَبِيعَةُ: وَلَبَعْضُ مَنْ يُفْتِي هَاهُنَا أَحَقُّ بِالسَّجْنِ مِنَ السُّرَّاقِ، وقد وصل التساهل في هذا الأمر وصل لدرجة أن الناس يفتي بعضهم بعضًا، وفي مسائل لو عرضت على عمر لجمع لها أهل بدر، فيفتي بعضهم بعضا في الطلاق، وفي الحدود، وفي المواريث، وأصبحت الفتيا صناعةَ من لا صناعةَ له. والعلماء لم يجيزوا للمستفتي العمل بالفتوى التي سمعها من عالم إذا لم تطمئن نفسه إليها، فما بالك إذا كان المفتي ليس أهلا للفتوى؟! قال ابن القيم: «لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِمُجَرَّدِ فَتْوَى الْمُفْتِي إذَا لَمْ تَطْمَئِنَّ نَفْسُهُ، وَحَاكَ فِي صَدْرِهِ مِنْ قَبُولِهِ، وَتَرَدَّدَ فِيهَا»، بل البعض قد يعلم بجهل المفتي، أو أنه قد جانبه الصواب في الفتوى، أو أن الأمر بخلاف ذلك، ورغم ذلك يعمل بفتواه، فقط لأنها توافق هواه! فإن سألته: لماذا فعلت كذا؟ يقول: أجابني فلان. وفي مثل هؤلاء المستفتين والمفتين قال ابن القيم: «وَكَانَ شَيْخُنَا - رضي الله عنه - شَدِيدَ الْإِنْكَارِ عَلَى هَؤُلَاءِ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: قَالَ لِي بَعْضُ هَؤُلَاءِ: أَجعلت مُحْتَسِبًا عَلَى الْفَتْوَى؟! فَقُلْتُ لَهُ: يَكُونُ عَلَى الْخَبَّازِينَ وَالطَّبَّاخِينَ مُحْتَسِبٌ وَلَا يَكُونُ عَلَى الْفَتْوَى مُحْتَسِبٌ؟!». 10- الإفتاء في مسألة ليس له فيها إمام من أصول الخطأ في الفتوى: أن يتكلم المفتي في مسألة ليس له فيها إمام، وهذا ما حذر منه السلف -رضوان الله عليهم-، قال سفيان الثوري: «إِنِ اسْتَطَعْتَ أَلَّا تَحُكَّ رَأْسَكَ إِلَّا بِأَثَرٍ فَافْعَلْ»، قال البربهاري -رحمه الله-: «كل من سمعت كلامه من أهل زمانك خاصة، فلا تعجلن، ولا تدخلن في شيء منه حتى تسأل وتنظر: هل تكلم به أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو أحد من العلماء؟ فإن وجدت فيه أثرا عنهم فتمسك به، ولا تجاوزه لشيء، ولا تختار عليه شيئا فتسقط في النار»، فهذا كلام البربهاري لأهل زمانه، فكيف الحال في زماننا وقد غلب على الناس الجهل والفتيا بالهوى؟! ولكن هل يطالب أن يكون للمفتي سلف في كل مسالة؟ والجواب: هناك مسائل علمية من أصول الاعتقاد، لا يجوز للمفتي أن يتكلّم فيها إلا إذا كان له فيها سلف، كالكلام في الله عز وجل وفي أسمائه وصفاته، فإذا كانت الفتوى في أمر عملي، وليست من مسائل الاعتقاد: فإما أن يكون المفتي من أهل الاجتهاد، فيجوز له الاجتهاد فيها لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ»، فإذا لم يكن من أهل الاجتهاد فلا يجوز أن يفتي في مسألة ليس له فيها إمام، لأن مثل هذا غايته النقل عن أهل العلم. فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ قال ابن القيم: «إذَا سَأَلَ الْمُسْتَفْتِي عَنْ مَسْأَلَةٍ لَمْ تَقَعْ، فَهَلْ تُسْتَحَبُّ إجَابَتُهُ أَوْ تُكْرَهُ أَوْ تَخَيَّرَ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُ كَانَ لَا يَتَكَلَّمُ فِيمَا لَمْ يَقَعْ. وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ إذَا سَأَلَهُ الرَّجُلُ عَنْ مَسْأَلَةٍ قَالَ: هَلْ كَانَ ذَلِكَ؟ فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ تَكَلَّفَ لَهُ الْجَوَابَ، وَإِلَّا قَالَ: دَعْنَا فِي عَافِيَةٍ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ: إيَّاكَ أَنْ تَتَكَلَّمَ فِي مَسْأَلَةٍ لَيْسَ لَكَ فِيهَا إمَامٌ!. وَالْحَقُّ التَّفْصِيلُ، فَإِنْ كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ نَصٌّ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَوْ أَثَرٌ عَنْ الصَّحَابَةِ لَمْ يُكْرَهْ الْكَلَامُ فِيهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا نَصٌّ وَلَا أَثَرٌ فَإِنْ كَانَتْ بَعِيدَةَ الْوُقُوعِ أَوْ مُقَدَّرَةً لَا تَقَعُ لَمْ يُسْتَحَبَّ لَهُ الْكَلَامُ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ وُقُوعُهَا غَيْرَ نَادِرٍ وَلَا مُسْتَبْعَدٍ، وَغَرَضُ السَّائِلِ الْإِحَاطَةُ بِعِلْمِهَا لِيَكُونَ مِنْهَا عَلَى بَصِيرَةٍ إذَا وَقَعَتْ اسْتُحِبَّ لَهُ الْجَوَابُ بِمَا يَعْلَمُ، لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ السَّائِلُ يَتَفَقَّهُ بِذَلِكَ وَيَعْتَبِرُ بِهَا نَظَائِرَهَا، وَيفرعُ عَلَيْهَا، فَحَيْثُ كَانَتْ مَصْلَحَةُ الْجَوَابِ رَاجِحَةً كَانَ هُوَ الْأَوْلَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ». (11) استعمال الرأي في مقابلة النص من أصول الخطأ في باب الفتوى: تقديم الرأي على النص، فيقدم المفتي عقله مع وجود النص، فيتكلم في الدين بالظن والتخمين، وهذا هو الرأي المذموم الذي كثر كلام السلف في النهي عنه، كما قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -]-: «إيَّاكُمْ وَالرَّأْيَ! فَإِنَّ أَصْحَابَ الرَّأْيِ أَعْدَاءُ السُّنَنِ، أَعْيَتْهُمْ الْأَحَادِيثُ أَنْ يَعُوهَا وَتَفَلَّتَتْ مِنْهُمْ أَنْ يَحْفَظُوهَا، فَقَالُوا فِي الدِّينِ بِرَأْيِهِمْ»، ولقد ذكر ابن القيم أنواع الرأي الباطل، فذكر منها الرَّأْي الْمُخَالِف لِلنَّصِّ، ثم قال فيه: «وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ فَسَادُهُ وَبُطْلَانُهُ، وَلَا تَحِلُّ الْفُتْيَا بِهِ وَلَا الْقَضَاء»؛ بل لخطورة معارضة النصوص بالرأي في الفتوى كان السلف -رضوان الله عليهم- يقدمون الحديث الضعيف على القول بالرأي، وعلى استحسان العقل. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ: سَمِعْت أَبِي يَقُولُ: الْحَدِيثُ الضَّعِيفُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الرَّأْيِ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: سَأَلْت أَبِي عَنْ الرَّجُلِ يَكُونُ بِبَلَدٍ لَا يَجِدُ فِيهِ إلَّا صَاحِبَ حَدِيثٍ لَا يَعْرِفُ صَحِيحَهُ مِنْ سَقِيمِهِ وَأَصْحَابَ رَأْيٍ، فَتَنْزِلُ بِهِ النَّازِلَةُ، فَقَالَ أَبِي: يَسْأَلُ أَصْحَابَ الْحَدِيثِ، وَلَا يَسْأَلُ أَصْحَابَ الرَّأْيِ، ضَعِيفُ الْحَدِيثِ أَقْوَى مِنْ الرَّأْيِ، وَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللَّهُ- مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ ضَعِيفَ الْحَدِيثِ عِنْدَهُ أَوْلَى مِنْ الْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ، قال ابن القيم: «وَالْمَقْصُودُ أَنَّ السَّلَفَ جَمِيعَهُمْ عَلَى ذَمِّ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ الْمُخَالِفِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَنَّهُ لَا يَحِلُّ الْعَمَلُ بِهِ لَا فُتْيَا وَلَا قَضَاءً». ومن أمثلة الفتاوى المعاصرة التي قدم أصحابها الرأي على النص: فتاوى من يجيز مساواة المرأة بالرجل في الميراث؛ حتى لا يقال: إن الإسلام ظلم المرأة، وفتاوى من يبيح للمرأة خلع الحجاب؛ حتى لا تتَّهم بالتشدّد والتطرف، وفتاوى من يبيح الربا بحجة التوافق مع النظام الاقتصادي العالمي. 12- الغلو في استعمال المقاصد لا شك أن الإسلام جاء برعاية مصالح الخلق، ورفع الحرج عنهم، وهذا مقصد من مقاصد الشريعة، قال -تعالى-: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} (المائدة: 6)، وقال -تعالى-: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: 78)؛ بل جعل الله -عز وجل- من أسباب بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -، رفع الآصار والأغلال التي كانت على من قبلنا، فقال -تعالى-: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (الأعراف: 157)، «وَقَدْ سُمِّيَ هَذَا الدِّينُ: (الْحَنِيفِيَّةَ السَّمْحَةَ) لِمَا فِيهَا مِنَ التَّسْهِيلِ وَالتَّيْسِيرِ». فرفع الحرج والتيسير على الناس مقصد عام من مقاصد الشريعة، لكن بعض المفتين يغالي في اعتبار المقاصد؛ فيقدم في فتواه الكثير من المقاصد الملغاة في الشريعة؛ بحجة أن هذا فيه مصلحة للناس، كمن يفتي بجواز التعامل بالربا لمصلحة تنمية المال، وبمساواة الأنثى لأخيها في الميراث لاعتبار مصلحة الأنثى، وبترك العمل بالحدود؛ لعدم تنفير الكفار من الدخول في الإسلام، وبجواز حلق اللحية؛ لمجاراة العرف والعادة. المصلحة المعتبرة في حال الفتوى ولا شك أن المصلحة المعتبرة في حال الفتوى هي المصلحة التي شهد لها الشرع بالاعتبار، كتشريع القصاص لمصلحة النفس، وتشريع الجهاد لحفظ الدين؛ فإذا لم يشهد لها الشرع فهي مصلحة ملغاة، قال الشاطبي -رحمه الله-: «الْمَصَالِحُ الْمُجْتَلَبَةُ شَرْعًا وَالْمَفَاسِدُ الْمُسْتَدْفَعَةُ، إِنَّمَا تُعْتَبَرُ مِنْ حَيْثُ تُقَامُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لِلْحَيَاةِ الْأُخْرَى، لَا مِنْ حَيْثُ أَهْوَاءِ النُّفُوسِ فِي جَلْبِ مَصَالِحِهَا الْعَادِيَّةِ، أَوْ دَرْءِ مَفَاسِدِهَا الْعَادِيَّةِ». وعلى هذا فالواجب على المفتي عدم مجاراة الظروف الواقعة (صحيحها وفاسدها)، وقبولها والإفتاء بصحتها وشرعيتها، وإن خالفت في معظم الأحوال الحكم الشرعي؛ تأثرًا بشدة سطوة الواقع، ويأسًا من محاولة تغييره لصعوبته، وأن ينسى المفتي وظيفة الشرع الذي جاء لإصلاح ما فسد من الأحوال والعادات، وأن الواجب تطويع الواقع للنصوص، لا تطويع النصوص للواقع؛ لأن النصوص هي الميزان المعصوم الذي يجب أن يحتكم إليه ويعتمد عليه. اعداد: د. حماد عبدالجليل البريدي
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |