|
الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم بالسنوات الخداعات حسام كمال النجار حين نمعن النظر في مسيرة المجتمعات الإنسانية عبر العصور، نكتشف أن انهيار القيم والمعايير الأخلاقية لا يحدث بين ليلة وضحاها، بل هو عملية تراكمية بطيئة تُشبه تآكل الصخور بالمياه، قطرة تلو الأخرى، حتى لا يبقى إلا ما لا ينفع؛ إنها عملية تدريجية يبدأ فيها الباطل مسيرته خافتًا، منفرًا، مستقبَحًا، ثم يكرره أهله ويُلحون في نشره، فيألفه الناس، ثم يعتادونه، ثم يتحول إلى جزء من نسيجهم الثقافي والاجتماعي، حتى إذا ما استقر في النفوس، غلب الحق في المظاهر والشكليات فقط. تبدأ الرحلة بزلَّة لسان، أو نكتة خبيثة، أو سلوك منحرف يُستقبَح في البدء، وتنفر منه الفطرة السليمة، ولكن التكرار يصنع الألفة، والتندر يحوِّل القبيح إلى مادة للضحك والتسلية، والضحك بدوره يخفف من وقع الجريمة في القلوب، ويُذهب الهيبة عن الحرمات، فيصير المنكر معروفًا، ثم مألوفًا، ثم مطلوبًا، ثم هوية يُفاخر بها أصحابها ويتحدون بها غيرهم؛ وهنا تتحقق النبوءة النبوية التي أخبرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: ((لتتبعُنَّ سَنَنَ من كان قبلكم، شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ لدخلتموه))؛ [رواه البخاري في صحيحه، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم))، حديث رقم: 7320، ومسلم في صحيحه، كتاب العلم، باب اتباع سنن اليهود والنصارى، حديث رقم: 2669]. وفي عصرنا الحالي، لم تعُد هذه الأخطاء والانحرافات مجرد حوارات فردية، أو سلوكيات محصورة في نطاق ضيق، بل تحوَّلت – عبر آلة الإعلام الهائلة – إلى صناعة قائمة بذاتها، تُدار بميزانيات ضخمة، وتُقدم بأحدث التقنيات، وتُوزع على مليارات البشر عبر الشاشات والمنصات، لقد صار الباطل يتصدر المنصات، والهابطون يملؤون الشاشات، حتى غدا التافهون هم نجوم العصر ورموز القدوة، في حين يهمَّش الحديث عن الفضائل العظمى؛ كالعفة والأمانة، والشرف والصدق، هذا التحوُّل الخطير لم يأتِ من فراغ، بل هو الثمرة الطبيعية والمنطقية لمرحلة السنوات الخدَّاعات؛ التي وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بأعظم وصف حين قال: ((سيأتي على الناس سنوات خدَّاعات، يصدَّق فيها الكاذب، ويكذَّب فيها الصادق، ويؤتمَن فيها الخائن، ويخوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة، قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة))؛ [رواه الإمام ابن ماجه في سننه، كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء، حديث رقم: 4036، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير، حديث رقم: 3607]. وليس من الغريب أن يبدأ هذا المسار الانحداري من نقطة المِزاح والاستهزاء، فالشيطان لا يقدِّم المعصية إلى القلب في صفتها القبيحة، بل يزيِّنها ويُلبسها ثوب الهزل واللعب، وقد أخبرنا الله تعالى في محكم كتابه عن سنة المجرمين في كل زمان ومكان، أنهم يتخذون الدين وأهله مادة للسخرية والضحك؛ فقال سبحانه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ ﴾ [المطففين: 29 - 31]، والسخرية هنا ليست بريئة ولا عابرة، بل هي سلاح خطير يُستخدَم لزعزعة الهيبة عن القيم العظمى، فإذا زالت المهابة من النفوس، هان كسر الحرماتِ، واستسهل الناس انتهاك المحرمات. إن أخطر ما في هذا المسار هو أن القيم الإيجابية – من عفة وأمانة وصدق وشرف – لا تختفي بسبب ضعف حجتها أو قلة براهينها، بل لأنها تهمَّش إعلاميًّا واجتماعيًّا بطريقة ممنهجة، حتى لا تجد من يحملها أو يكررها أو يذكِّر بها، بينما في الجانب المقابل، تتضخم أصوات الانحراف والانحلال، لتحاصر الناس بخطاب واحد متكرر، يقدم العبث والانفلات باعتباره حرية وإبداعًا وتقدمًا، وهكذا يصبح الحق غريبًا، ويصبح أهله غرباء؛ كما في الحديث الشريف الذي رواه مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود كما بدأ غريبًا، فطوبى للغرباء))؛ [رواه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب: بيان أن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا، حديث رقم: 145]. والمجتمع الذي يفقد موازينه الثابتة لا يُدرِك في الغالب أنه يسير نحو الهاوية، بل يظن – تحت تأثير التزيين الإعلامي – أنه يحقق تقدمًا وانفتاحًا وحرية، وهذا هو عينُ ما حذَّر منه القرآن الكريم في وصفه لحال الأمم التي انحرفت عن الفطرة، واتبعوا أهواءهم؛ فقال تعالى: ﴿ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾ [فاطر: 8]، وهنا تكمن الخطورة الحقيقية للإعلام المنحرف، حين يجمِّل القبح ويقبِّح الجميل، فيصير الناس أسْرَى لصورة مزيفة من الحضارة والتحرر، وهي في حقيقتها انحطاط وتبعية. وحين يسيطر الانحراف على الساحة الثقافية والاجتماعية، لا يكتفي بأن يكون مجرد ظاهرة عابرة، بل يسعى لفرض نفسه كمعيار جديد، وكأنما هو الطبيعي والمقبول، وهنا يبرز الأثر المدمر للإعلام الحديث، الذي لم يعد ناقلًا محايدًا للأحداث، بل صار صانعًا للأحداث وصانعًا للرموز في الوقت ذاته، تُنتج برامج كاملة لتلميع شخصيات فارغة من أي قيمة حقيقية، وتُسلط الأضواء على أدق تفاصيل حياتهم الشخصية التافهة، لتغدو حديث الناس، ومحطَّ أنظارهم، بينما يغيب عن الشاشة العلماء والمفكرون، وأصحاب المشاريع النافعة، وأهل القيم، وهكذا يُعاد تشكيل وعي الجماهير – خاصة الناشئة – ببطء ومهارة، حتى تترسخ في عقولهم صورة معكوسة للعالم: الفشل الأخلاقي يُحتفى به، والنجاح في خدمة المجتمع يهمَّش، والابتذال والإسفاف يكافأ بالشهرة والمال، والجدية والوقار يُسخر منها، وتُوصف بالتخلف والجمود. لقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الاختلال العميق في المعايير؛ حين قال: ((إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة))؛ [رواه البخاري في صحيحه، كتاب العلم، باب: من سأل وهو قائم عالمًا جالسًا، حديث رقم: 59)، وهذا الحديث يصف بدقة متناهية ما يحدث عندما تتصدر الساحة العامة رموزٌ لا وزن لهم علميًّا أو أخلاقيًّا، ويتحدث في شؤون الأمة من لا يملك علمًا ولا خبرة ولا تقوى، فيضيع الحق بين صخب الباطل وضجيج التفاهة، ويغيب صوت العقل والحكمة وسط نعيق الأجوف. وتزداد الأمور خطورة حين تضعُف التربية في البيت والمدرسة، فينشأ الجيل الجديد أسيرًا لما يسمعه ويشاهده عبر الشاشات والمنصات، فلا يجد صوتًا مضادًّا يرشده إلى المعايير الصحيحة، ولا قدوة حقيقية تُظهر له جمال الاستقامة، إن التربية ليست مجرد كلمات يلقِّنها الآباء للأبناء، بل هي قدوة عملية، وسلوك يومي، ومعاييرُ تُغرس بالثبات والاتساق، فإذا غاب النموذج الملتزم بالقيم، أو تهاون في أداء دوره، ملأ الفراغَ النموذجُ الإعلامي الصاخب، وأصبح القدوة هو من يملأ الفضاء بالصوت والصورة، لا من يملأ الحياة بالمعنى والعمل النافع. ولذلك جاء التحذير القرآني شديدًا وواضحًا من اتباع خطوات الانحراف المتدرجة؛ فقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [النور: 21]، فهي خطوات صغيرة متكررة، تبدأ بالتغاضي، ثم بالابتسامة، ثم بالمشاهدة، ثم بالقبول، ثم بالدفاع، حتى تنتهي إلى الضياع الكامل للمعايير، وما نراه اليوم من استمراء التندر على القيم، والدفاع عن الباطل تحت شعارات الحرية الشخصية وحرية التعبير، ليس إلا تطبيقًا عمليًّا لهذه الخطوات الشيطانية. أما المجتمع الذي يترك قِيمه العليا لتهمَّش ويُسخر منها، فإنه يسير لا محالة نحو الاضطراب الداخلي والتفكك؛ لأن القيم هي الضابط الحقيقي للعلاقات والمعاملات، وهي الإطار الذي يحفظ تماسك الأمة، فإذا تهاوت قيمة الصدق، انهارت الثقة بين الناس، وإذا غابت الأمانة، ضاع الحق وانتشر الظلم، وإذا اختفت العفة، فسدت الأسرة التي هي لبنة المجتمع، وهذه ليست مجرد معانٍ مثالية أو شعارات أخلاقية، بل هي أسس عملية للحياة المستقرة الكريمة التي أرادها الله لعباده؛ قال تعالى: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحديد: 25]، فالميزان الذي يقيم القسط بين الناس لا يمكن أن يُترك للترندات العابرة ولا للضجيج الإعلامي، بل لا بد أن يقوم على وحي الله تعالى ومعاييره الثابتة التي لا تتغير بتغير الأهواء. إن الحل – إذًا – لا يكمُن فقط في نقد الظواهر المنحرفة وفضحها، بل في إعادة الاعتبار للقيم الإيجابية ونشرها، وإبرازها بطريقة جذابة وعملية، ولا يكفي أن نتألم لاختفاء الحديث عن العفة والأمانة والشرف، بل يجب أن نعيد إنتاج هذا الحديث ونمنحه حضورًا قويًّا في حياتنا العامة والخاصة، عبر القدوة العملية، والخطاب الإعلامي البديل، والتربية المتوازنة؛ والقرآن الكريم قد رسم لنا هذا الطريق بوضوح حين قال: ﴿ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الذاريات: 55]، والتذكير هنا ليس مجرد وعظ لحظيٍّ أو خطاب عابر، بل هو بناء وعي متجدد، يقاوم التكرار الإعلامي المضلل بتكرار الحق الثابت، ويواجه الزيف بالصدق، والتفاهة بالجدية، والانحلال بالعفة. على سبيل المثال لا الحصر، ما نراه اليوم من انتشار هائل لما يسمَّى بالمحتوى التافه على منصات التواصل الاجتماعي، الذي يقوم أساسًا على الاستعراض الفارغ، والسخرية من كل مقدس، والمبالغة في إظهار العورات، وتضييع الأوقات فيما لا طائل تحته، في بداياته، كان هذا المحتوى يُستقبح، ويُنتقد على استحياء، لكن مع التكرار والضحك عليه، صار له متابعون بالملايين، بل تحول إلى مصدر رزق وشهرة لصاحبه، حتى صار قدوة لكثير من الشباب والصغار، الذين صاروا يحلمون بأن يكونوا مثله؛ وهنا يتحقق قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت))؛ [رواه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب: إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت، حديث رقم: 6120]. وفي المقابل، يندر أن تجد تسليطًا ضوئيًّا حقيقيًّا على المبادرات التي تدعو إلى مكارم الأخلاق، أو المشاريع التي تنهض بالعلم والعمل النافع، أو النماذج الشبابية الملتزمة التي تخدم مجتمعها في صمت، الإعلام التجاري – في كثير من الأحيان – يختار الصورة الأكثر إثارة للغرائز، والأكثر إضحاكًا، والأكثر إثارة للجدل، لأنه يعلم أن هذا هو الذي يحقق له الانتشار السريع والربح الوفير، لكن النتيجة الحتمية هي أن الوعيَ الجمعيَّ يتشكل حول هذه النماذج الهابطة، ومع مرور الزمن يطبع الناس على قبولها، بل والإعجاب بها؛ وهو ما سماه القرآن الكريم: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾ [آل عمران: 14]. ومن أبرز مظاهر هذا الانقلاب أيضًا، هو تغييب الحديث المتعمَّد عن القيم الكبرى؛ كالحياء، والصدق، والعدل، والإحسان، فإذا تجرأ أحد وتكلم عنها في الفضاء العام، عُد رجعيًّا أو متشددًا أو منعزلًا عن العصر، بينما يمجَّد ويُثنى على من يجرؤ على كسر هذه القيم ويسخر منها؛ وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن من علامات اقتراب الساعة أن ((يُرفع العلم، ويثبت الجهل، ويُشرب الخمر، ويظهر الزنا))؛ [متفق عليه، رواه البخاري في صحيحه، كتاب العلم، باب رفع العلم وظهور الجهل، حديث رقم: 80، ومسلم في صحيحه، كتاب العلم، باب: رفع العلم وقبضه، حديث رقم: 2673]، وكل هذه المشاهد نراها اليوم لا تحدث في الخفاء، بل تتجلى علنًا على المنصات، ويبرَّر لها بشتى المبررات، من حرية شخصية، إلى تعبير عن الذات، إلى تحرر من قيود الماضي. وإن التدبر في هذه الظواهر الاجتماعية والنفسية يذكِّرنا بقوله تعالى: ﴿ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾ [فاطر: 8]، فالخطر الأعظم ليس فقط في وجود المنكر بذاته، وإنما في تزيينه وتجميله حتى يُرى في عيون الناس جميلًا ومقبولًا ومرغوبًا، فيتبعه الناس بلا وعيٍ، ويذودون عنه بغير علم. غير أن الأمل يبقى قائمًا، والنور لا ينطفئ، فالله تعالى قد وعد أن الحق سيبقى ظاهرًا ممتدًّا، مهما تكالب عليه الباطل وتجمَّع؛ قال تعالى: ﴿ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ﴾ [الأنبياء: 18]، وكل مؤمن صادق يحمل همَّ الإصلاح في قلبه، سواء كان ذلك بكلمة حق في مجلس، أو بقدوة صالحة في بيته ومجتمعه، أو بتربية جيل جديد على الفضيلة والعمل النافع، فإنه يشارك بهذا في هذا الصراع الممتد بين النور والظلام، وبين الحق والباطل. وبهذا ندرك أن الحل ليس في الاستسلام لواقع السنوات الخداعات، ولا في اليأس من إمكانية التغيير، بل في الوعي العميق بخطرها، وتربية النفس والأهل على الاستقامة، ومجاهدة الشهوات التي تزل بالأقدام، وبناء البدائل النافعة التي تُظهر جمال الحق وقوة الفضيلة في واقع عملي ملموس، إنها معركة وعي وتربية وصبر، تحتاج إلى يقين بأن العاقبة للمتقين، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا. وهكذا يتضح لنا – مما سبق – أن ما نعيشه اليوم ليس مجرد ظواهر عابرة أو أزمة وقت، بل هو انعكاس عميق لاختلال خطير في ميزان القيم، وانقلاب صارخ في الموازين التي تضبط سلوك الأفراد والمجتمعات، حين يصبح الباطل مثارًا للإعجاب والاتباع، ويتوارى الحق في الظل وكأنه غريب لا يعرفه أحد، ندرك أننا أمام صورة حية من السنوات الخداعات التي أنبأ بها النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث يصدَّق الكاذب، ويكذَّب الصادق، ويؤتمَن الخائن، ويخوَّن الأمين، ويتكلم الرويبضة في شؤون العامة. لكن، وبرغم هذا السواد الذي يلُف المشهد من كل جانب، فإن في قلب المؤمن نورًا لا ينطفئ؛ نور الوحي الذي يهديه إلى التمييز بين الحق والباطل، ونور الفطرة السليمة التي لم تُطمس رغم كل ضغوط الشهوات والشبهات؛ فالمؤمن الحق لا يُفتن ببريق الترندات العابرة، ولا يُخدع بزينة الباطل المؤقتة؛ لأنه يسمع في أعماق نفسه صدى قول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ [محمد: 7]، ويوقن بأن الدنيا زائلة ومتاعها قليل، وأن الآخرة هي دار القرار. إن الواجب علينا – في خضم هذا المَدِّ الجارف – أن نتمسك بمصادر النور الأساسية: القرآن الكريم وتدبر معانيه، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة وتطبيق هديه في كل صغيرة وكبيرة، وصحبة الصالحين الذين يذكِّروننا بالله ويعينوننا على الطاعة، وأن نربيَ أبناءنا على أن العفة ليست ضعفًا، بل هي قوة نفسية وعزة للروح، وأن الصدق ليس سذاجة، بل هو قوة شخصية ونجاة، وأن الحياء ليس تخلفًا، بل هو رفعة وأدب وإيمان، هذه القيم هي علامات قوة النفس وصفاء الروح، وليست – كما يصورها الإعلام المُضل – علاماتِ ضعفٍ وتخلف. وختامًا، فإن دورة التاريخ تعلمنا أن الباطل مهما انتفش وتمدد، فإنه إلى زوال، وأن الحق وإن بدا ضعيفًا اليوم، فهو باقٍ خالد ممتد؛ قال تعالى: ﴿ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ﴾ [الإسراء: 81]، فلا يغرنك كثرة المفسدين، ولا تصدُّر المنحلِّين، ولا ضجيج المُبطلين، فالمعيار عند الله مختلف، والموازين عنده لا تختل، والعاقبة – دائمًا وأبدًا – للمتقين الصادقين.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |