|
|||||||
| الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة |
![]() |
|
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
|
الوسطية والاعتدال وأثرهما في بناء الأمة
إنّ المتأمِّل في شريعة الإسلام يجد عناية بالغة بوحدة الكلمة، وجمع القلوب، ولمِّ الشمل، والتحذير الشديد من أسباب التنازع والفرقة؛ إذ لا تستقيم أحوال الأمة، ولا يعلو شأنها، ولا يتحقق أمنها واستقرارها إلا باجتماعها على الحق، وتماسك أفرادها، وتلاحم صفوفها، وقد جعل الإسلام وحدة الكلمة من أعظم مقومات قوّة الأمة وبقائها؛ إذ بها تتحقق مصالح الدين والدنيا، ويتعزز التعاون والتناصر، وتُغلق الثغور أمام الأعداء، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (آل عمران:103)، وقال -سبحانه-: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات:10)، ولن يتحقق النصر والتمكين إلا حين تتوحد الأمة على منهج الكتاب والسنة، وتقف صفاً واحداً في مواجهة الانحراف الفكري والغلو الفكري والسلوكي. والمتأمل في حال أمَّة الإسلام يجد أنها أمة لها سِمَتُها البارزة بين الأمم، فهي الأمَّة الوسط، ومنهجها منهج وسطي، أثنى الله -تعالى- عليها في كتابه فقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} (البقرة:143)، فهي الأمة الوسط بكل معاني الكلمة؛ وشريعتها الربانية تتسم بأنها شريعة السماحة ورفع الحرج؛ وموافقة الفطر السليمة، فهي وسط في كل القضايا الدينية، والدنيوية، والعبادات، والمعاملات. الفرقة الناجية يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة؛ يؤمنون بما أخبر الله به في كتابه من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، بل هم وسط في فِرق الأمة كما أن الأمة هي الوسط في الأمم». ويقول الإمام الشاطبي -رحمه الله-: «إن الشريعة جارية في التكليف لمقتضاها على الطريق الوسط العدل الآخذِ من الطرفين بقسط لا ميل فيه، فإذا نظرتَ إلى كُليِّةٍ شرعية فتأمَّلها تجدها حاملةً على التوسط والاعتدال، ورأيتَ التوسطَ فيها لائحًا، ومسلكَ الاعتدال واضحاً، وهو الأصل الذي يُرجع إليه، والمعقِل الذي يُلجأ إليه». ويقول العز بن عبد السلام -رحمه الله-: «وعلى الجملة فالأولى بالمرء ألا يأتي من أقواله وأعماله إلا بما فيه جلبُ مصلحة أو درءُ مفسدة، مع الاعتقاد المتوسط بين الغلو والتقصير». سُنَّة اللَّه في خلقه الوسطية التي جاء بها الإسلام إنما جاءت لتحقيق مبدأ التوازن الذي تقوم عليه سُنَّة اللَّه في خلقه، وفق نظام رباني، ومشيئة وحكمة إلهية، وتقدير مسبق، وثوابتَ وسننٍ لا تبديل لها، فإذا فَقَدتْ ذلك مالتْ مع الأهواء، وأصبحتْ إما تفريطاً أو إفراطاً، فما من شعيرة من شعائر الدين إلا وهي محفوفة بالوسطية فلا غلو فيها، ولا تفريط. والله -جل وعلا- لم يحمل الناس على الأحكام جملة واحدة، إنما كان مبدؤه التدرج في التحريم، كما في قضية الأصنام التي كانت حول الكعبة، وكذلك الخمر التي جاء الأمر بتحريمها تدريجياً، تهيئة وترويضاً للنفوس على تقبل أوامر الله، واستجابة لأحكام الدين، وكان - صلى الله عليه وسلم - يحرص على التيسير، ويحث أصحابه عليه كما في قوله: «يَسِّرُوا وَلا تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلا تُنَفِّرُوا»، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ»، وورد عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «مَا خُيِّرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا». من مظاهر الوسطية إن الوسطية التي جاء بها الإسلام لها مظاهرها المتعددة؛ وتشمل شرائع الدين كلها، وفرائضه، وأحكامه، ومن ذلك: (1) الفرقة الناجية أهل التوسط والاعتدال تمييز النبي - صلى الله عليه وسلم - للفرقة الناجية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ميز الفرقة الناجية وهم أهل السنة والجماعة بالوسطية بين جميع فرق المسلمين، فقال عنهم: «لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ»، فهم العُدُول الخيار، وأهل التوسط والاعتدال عقيدةً وعلماً وعملاً وأخلاقاً، وهم وسط بين أهل الغلو والتقصير، والتفريط والإفراط، قال ابن القيم -رحمه الله-: «فدين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، وخير الناس النمط الأوسط الذين ارتفعوا عن تقصير المفرطين، ولم يلحقوا بغلو المعتدين». (2) وسط في الأسماء والصفات هم وسط في الأسماء والصفات، ووسط في باب الأسماء والصفات، فيثبتون ما أثبته الله لنفسه وما أثبته له رسوله -صلى الله عليه وسلم -، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، لا يتجاوزون القرآن والحديث، ووسطية أهل السنّة في باب الأسماء والصفات هي جوهر عقيدتهم وميزان منهجهم، تميزوا بها عن فرق الغلو والتقصير؛ فأثبتوا صفات الله إثباتًا بلا تمثيل، ونزهوه تنزيهًا بلا تعطيل، فجمعوا بين الحقين معًا، وساروا على سبيل السلف الصالح، محافظين على نقاء التوحيد وصفاء الاعتقاد، وهذا المنهج هو الطريق الآمن لفهم نصوص الوحي، وتحقيق العبودية الخالصة لله -تعالى-. (3) وسط في محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - يمثّل أهلُ السُّنّة والجماعة المنهجَ القويم في محبة النبي -صلى الله عليه وسلم -؛ إذ يلتزمون المحبة الشرعية التي ترفع قدره وتُعظِّم مكانته دون غلوّ يُفضي إلى الابتداع، ولا جفاء يُنقص من حقه أو يقدح في توقيره -صلى الله عليه وسلم -؛ فهم يؤمنون بأن محبته - صلى الله عليه وسلم - أصلٌ من أصول الإيمان، لقوله -صلى الله عليه وسلم :- «لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»، وبذلك تحقّق منهجية أهل السنة الوسطيةَ والاعتدال في محبته -صلى الله عليه وسلم -؛ محبةً تُعلي مكانته، وتلتزم حدّ الشرع، وتبني في النفوس توازنًا يليق بسيّد الخلق، جامعًا بين التعظيم المشروع والاتباع الحقّ. (4) وسط في الإيمان والعمل أهل السنة وسط في باب الإيمان والعمل بين الخوارج الذين يكفرون أهل الكبائر، وبين المرجئة الذين يقولون لا يضر مع الإيمان ذنب، ووسطية أهل السنة في الإيمان والعمل ليست مجرد موقف فكري، بل هي منهج حياة قائم على العدل والاعتدال، يجمع بين النص والعقل، وبين العلم والعمل، وبين الرجاء والخوف، ويجنب الأمة مزالق التكفير والغلوّ والتسيّب والتفريط؛ وبذلك يتحقق اتّباع الهدي النبوي الخالص الذي هو سبيل النجاة وميزان الحق عبر العصور. (5) وسط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يُجسِّد أهلُ السُّنّة والجماعة المنهجَ الشرعيّ المتوازن في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ إذ ينطلقون من فهمٍ راسخٍ لمقاصد الشريعة وضوابطها، فيجمعون بين القيام بالواجب، وتحقيق المصالح، ودرء المفاسد، دون إفراطٍ يُفضي إلى الفوضى، ولا تفريطٍ يُميت شعيرة من أعظم شعائر الإسلام، فهم يؤمنون بأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ركنٌ من أركان صلاح الأمة، وسبب لثباتها ورفعتها، لقوله -تعالى-: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}، غير أنهم يمارسون هذه الشعيرة ضمن منهجٍ يراعي العلم، والحكمة، والرفق، ويسترشد بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَن رأى منكم منكرًا فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه»، ويتميّز منهجهم بأنهم لا يجعلون النهي عن المنكر ذريعةً للخروج على الأئمة، ولا سببًا لزعزعة الأمن أو إثارة الفتن، بل يلتزمون ميزان الشرع الذي يقدّر المآلات، ويوازن بين المصالح والمفاسد، ويجعل الإصلاح غايةً، والفتنةَ خطًا أحمر. (6) وسط في أداء العبادات وهم وسط في أداء العبادات الظاهرة، كالصلاة والصيام وسائر العبادات، فلا ينقطعون بها عن الدنيا والسعي في تحصيل ما ينفعهم مما أباح الله، ولا ينشغلون بالدنيا عنها، بل يفعلون ما أوجب الله عليهم، ويكملونه بالنوافل على حسب القدرة والاستطاعة، متبعين في ذلك نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، فلا يزيدون على هديه ولا ينقصون. (7) وسط في أمور الدنيا يتّسم منهج أهل السُّنّة والجماعة في أمور الدنيا بمنهجٍ متوازن يجمع بين الاعتدال في السعي والوعي بمقاصد الحياة، دون إفراطٍ يُغرق في المادّيات، ولا تفريطٍ يُهمل الأسباب ويعطّل السنن الكونية، فهم ينظرون إلى الدنيا على أنها مزرعة الآخرة، ووسيلة لا غاية، فيستفيدون من نعمها، ويتعاملون مع معطياتها وفق ضوابط الشرع، من غير ترفٍ مذموم ولا زهدٍ مبتدع، ويرتكز هذا المنهج الوسطي على مبدأٍ قرآنيّ أصيل، قال -تعالى-: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}، فهو توجيه يضبط حركة الإنسان بين الأخذ بالأسباب والسعي للرزق، وبين التعلق بالآخرة وإدراك أن البقاء الحقيقي هناك. الطريق الأقوم لبناء مجتمع متماسك إن الوسطية هي الروح التي تنبض بها الشريعة، والميزان الذي يضبط حركة الأمة بين الإفراط والتفريط، والغلو والجفاء، وهي الطريق الأقوم لبناء مجتمع متماسك، يحفظ عقيدته، ويحمي قيمه، ويتحصّن من موجات الانحراف والتطرف والتسيّب، وكلما تمسكت الأمة بمنهج الوسطية والاعتدال -علماً وعملاً وسلوكاً- ازدادت قوةً ووحدةً، وسارت على صراط الله المستقيم الذي لا اعوجاج فيه؛ فالوسطية منهج حياة، وباب نجاة، وطريق لنهضة الأمة، وسبيل لحفظ أمنها ووحدتها واستقرارها، وشرطٌ أساس في تحقيق رسالتها الحضارية الراشدة. اعداد: اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
__________________
|
![]() |
| الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 4 ( الأعضاء 0 والزوار 4) | |
|
|
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |