|
ملتقى اللغة العربية و آدابها ملتقى يختص باللغة العربية الفصحى والعلوم النحوية |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() الرواية البوليفونية أو الرواية المتعددة الأصوات د. جميل حمداوي توطـئة: تعد الرواية الكلاسيكية أو الرواية الفنية ذات البناء التقليدي رواية الصوت الواحد. لذا، سماها نقاد الرواية بالرواية المنولوجية. في حين، لم تظهر الرواية البوليفونية المتعددة الأصوات إلا مع دويستفسكي - حسب المنظر الروسي ميخائيل باختين (Mikhail Bakhtine). بمعنى أن الرواية البوليفونية هي التي تعتمد على تعدد المواقف الفكرية، واختلاف الرؤى الإيدولوجية، وترتكز كذلك على كثرة الشخصيات والرواة والسراد والمتقبلين، وتستند إلى تنوع الصيغ والأساليب، واستعمال فضاء العتبة، و توظيف الكرونوطوب(وحدة الزمان والمكان)، وتشغيل الفضاءات الشعبية الكرنفالية. وبتعبير آخر، تسعى الرواية التقليدية إلى الإكثار من السرد على حساب الحوار والمناجاة والأسلوب غير المباشر الحر، مع الانطلاق من رؤية إيديولوجية معينة، يتم ترجيحها سردا وتحبيكا وتخطيبا. في حين، تتضاءل الإيديولوجيات الأخرى، حيث يتم تبخيسها فكريا ، والانتقاص منها عمدا ؛ وذلك لوجود السارد العارف المطلق الذي يتحكم في دواليب السرد والحكي، بغية التأثير على المتلقي المفترض. أما الرواية البوليفونية ، فهي رواية قائمة على تعدد الأصوات، والشخصيات، واللغات، والأساليب، والمواقف، والمنظورات السردية. ويعني هذا أنها رواية ديمقراطية، تستدمج كل القراء المفترضين، ليدلوا بآرائهم بكل حرية وتلقائية، فيختاروا مايشاؤون من المواقف والإيديولوجيات المناسبة. في حين، نجد الرواية التقليدية رواية أحادية الصوت، يتحكم فيها الراوي المطلق والسارد العارف بكل شيء. إذاً، ماهي الرواية البوليفونية؟ وماهي خلفياتها النظرية؟ وماهي مكوناتها الدلالية والفنية والمرجعية؟ وما هي أهم النماذج الروائية العربية التي استفادت بشكل من الأشكال من الرواية البوليفونية؟ • مفهوم الرواية البوليفونية: يقصد بالبوليفونية (Poliphonie/poliphony) لغة تعدد الأصوات، وقد أخذ هذا المصطلح من عالم الموسيقى، ليتم نقله إلى حقل الأدب والنقد. ومن ثم، فالمقصود بالرواية البوليفونية تلك الرواية التي تتعدد فيها الشخصيات المتحاورة، وتتعدد فيها وجهات النظر، وتختلف فيها الرؤى الإيديولوجية. بمعنى أنها رواية حوارية تعددية، تنحى المنحى الديمقراطي، حيث تتحرر بشكل من الأشكال من سلطة الراوي المطلق، وتتخلص أيضا من أحادية المنظور واللغة والأسلوب. وبتعبير آخر، يتم الحديث في هذه الرواية المتعددة الأصوات والمنظورات عن حرية البطل النسبية ، واستقلالية الشخصية في التعبير عن مواقفها بكل حرية وصراحة، ولو كانت هذه المواقف بحال من الأحوال مخالفة لرأي الكاتب. وللتوضيح أكثر، تسرد كل شخصية الحدث الروائي بطريقتها الخاصة، وذلك بواسطة منظورها الشخصي، ومن زاوية نظرها الفردية، وبأسلوبها الفردي الخاص. بمعنى، أن الرواية تقدم عصارتها الإبداعية وأطروحتها المرجعية عبرأصوات متعددة؛ وهذا ما يجعل القارىء الضمني الواعي يختار بكل حرية الموقف المناسب، ويرتضي المنظور الإيديولوجي الذي يلائمه ويوافقه ، دون أن يكون المتلقي في ذلك مستلبا أو مخدوعا من قبل السارد أو الكاتب أو الشخصية على حد سواء. ويعني كل هذا أن الرواية البوليفونية مختلفة أيما اختلاف عن الرواية المنولوجية الأحادية الراوي والموقف، واللغة، والأسلوب، والمنظور، وذلك بوجود تعددية حوارية حقيقية على مستوى السراد، والصيغ، والشخصيات، والقراء، والمواقف الإيديولوجية . ومن أهم النصوص الروائية الممكنة في هذا المجال، نذكر: رواية :"إلواز الجديدة" (La Nouvelle Héloise)" لجان جاك روسو (J.J. Rousseau)، ورواية:" العلاقات الخطيرة (Les Liaisons Dangereuses)" لكوديرلوس دي لاكلو (Choderlos de Laclos)، وروايات دويستفكسي، وخاصة روايته الذائعة الصيت:" الجريمة والعقاب"... ومن أهم الروايات العربية التي سارت على هذا النحو، نذكر على سبيل المثال: رواية:" لعبة النسيان" للمبدع المغربي محمد برادة[1]... هذا، ويعرف ميخائيل باختين الرواية البوليفونية بقوله:" إن الرواية المتعددة الأصوات ذات طابع حواري على نطاق واسع. وبين جميع عناصر البنية الروائية، توجد دائما علاقات حوارية.أي: إن هذه العناصر جرى وضع بعضها في مواجهة البعض الآخر، مثلما يحدث عند المزج بين مختلف الألحان في عمل موسيقي.حقا إن العلاقات الحوارية هي ظاهرة أكثر انتشارا بكثير من العلاقات بين الردود الخاصة بالحوار الذي يجري التعبير عنه خلال التكوين، إنها ظاهرة شاملة تقريبا، تتخلل كل الحديث البشري وكل علاقات وظواهر الحياة الإنسانية، تتخلل تقريبا كل ماله فكرة ومعنى."[2] وتأسيسا على ماسبق، فالرواية البوليفونية في الحقيقة تعبير عن صورة الإنسان، وتصوير لتنوع الحياة، وتعبير صادق عن تعقد المعاناة البشرية. كما أنها كفاح :" ضد تشييء الإنسان، ضد تشييء العلاقات الإنسانية وكل القيم الإنسانية في ظل النظام الرأسمالي"[3]. ويعني هذا أن رؤية كاتب الرواية البوليفونية رؤية إنسانية، ترفض - بشكل قطعي- تحويل القيم المعنوية أوالكيفية إلى قيم مادية وكمية، وذلك باسم اقتصاد تبادل البضائع والسلع الذي شيأ العلاقات الإنسانية. زد على ذلك، فقد استندت الرواية البوليفونية ، وذلك على المستوى الإبستمولوجي، إلى الفلسفة النسبية، التي شككت في المطلق واليقين والثابت والكوني منذ منتصف القرن التاسع عشر، وبالضبط مع الفيزيائي الألماني إينشتاين. • الرواية البوليفونية والرواية المنولوجية: إذا كانت الرواية المنولوجية ذات صوت إيديولوجي واحد، تعتمد على السارد المطلق العارف بكل شيء، وتستند إلى سارد واحد، ورؤية سردية واحدة، ولغة واحدة، وأسلوب واحد، وإيديولوجية واحدة، فإن الرواية البوليفونية رواية متعددة الأصوات على مستوى اللغة والأساليب والمنظور السردي والإيديولوجي، وكذلك من حيث الشخصيات، وتطرح أفكارا متناقضة جدليا، وتعطي المتلقي هامشا من الحرية والاستقلالية، لكي يختار الموقف المناسب الذي يتلاءم مع قناعاته وثقافته ومعتقده. وغالبا ما تتحدد بوليفونية الرواية من خلال وجود تنوع في المنظور الإيدولوجي.لذا، يرى أوسبنسكي (Uspenski) بأن الرواية البوليفونية تمتاز بمجموعة من الشروط، وهي: 1- عندما تتواجد عدة منظورات مستقلة داخل العمل. 2- يجب أن ينتمي المنظور مباشرة إلى شخصية ما من الشخصيات المشتركة في الحدث.أي بعبارة أخرى، ألا يكون موقفا إيديولوجيا مجردا من خارج كيان الشخصيات النفسي. 3- أن يتضح التعدد المبرز على المستوى الإيديولوجي فقط، ويبرز ذلك في الطريقة التي تقيم بها الشخصية العالم المحيط بها."[4] وعلى هذا، فقد تخلصت الرواية الحديثة من أحادية المنظور ، وانزاحت كذلك عن اليقين المطلق الثابت، وذلك باسم النسبية والمعرفة الاحتمالية: " إن سيطرة أحادية الراوي العالم بكل شيء أصبحت غير محتملة في العصر الحديث مع التطور الثقافي العريض للعقل البشري، بينما أصبحت النسبية المتشبعة في النص القصصي أكثر ملاءمة"[5] وبناء على ما سبق، تنبني الرواية البوليفونية على تعدد المنظورات السردية ووجهات النظر(الرؤية من الخلف- الرؤية الداخلية - الرؤية من الخارج)، بالإضافة إلى تعدد الضمائر السردية (ضمير المتكلم- ضمير المخاطب- ضمير الغائب)، وتعدد الرواة والسراد الذين يعبرون عن اختلاف المواقف الفكرية، وتعدد المواقف الإيديولوجية، واختلاف وجهات النظر تواصلا وتبليغا واقتناعا. بمعنى أن كل قصة نووية يسردها سراد مختلفون، كل سارد له رؤيته الخاصة إلى زاوية الموضوع. أي :يعطي المؤلف للشخوص الحرية والديمقراطية في التعبير عن وجهات نظرها، دون تدخل سافر من المؤلف لترجيح موقف على حساب موقف آخر، بل يترك كل شخص يدلي برأيه بكل صراحة وشفافية، فيعلن منظوره تجاه الحدث والموقف بكل صدق وإخلاص، ثم يعبر عن نظره وإيديولوجيته بكل مصداقية، دون زيف أو مواربة أو تغيير لكلامه. كأن تعبر شخصية ما عن رؤيتها الإسلامية، وتعبر شخصية أخرى عن رؤيتها الاشتراكية، وشخصية ثالثة عن الرؤية الشيوعية، وشخصية رابعة عن رؤية أرستقراطية، وهكذا دواليك، ولكن للقارىء الحق الكامل في اختيار الرؤية التي يراها مقنعة ووجيهة، دون أن يفرض عليه الكاتب أو المؤلف أو السارد المطلق رؤية معينة ، وذلك عبر مجموعة من الآليات كترجيح وجهة نظر شخصية معينة، وتسفيه آراء الشخصيات الأخرى ، وذلك عن طريق التقويم الذاتي والانفعالي، وإصدار أحكام القيمة. وعليه، فمازالت الرواية الغربية والعربية على حد سواء ، ولا سيما التقليدية منها، رواية منولوجية بامتياز، يسيطر عليها الصوت الواحد، والمنظور المطلق، والخطاب المسرود. بيد أن الرواية الجديدة ورواية ما بعد الحداثة ، قد تخلصتا- بشكل من الأشكال- من هذا المنظور المطلق الأحادي، واستبدلتاه بالرؤية البوليفونية القائمة على فلسفة النسبية، وفلسفة الاحتمال. • دراسات حول الرواية البوليفونية: يعد ميخائيل باختين من أهم الدارسين الغربيين للرواية البوليفونية ، فقد خصصها بمجموعة من الدراسات الأدبية والنقدية، ومن أهم ما وصل إلينا من ذلك، نذكر:" شعرية دويستفسكي" [6]، وكتاب:"إستيتيقا الرواية ونظريتها"[7]، و" الماركسية وفلسفة اللغة"[8]. بيد أن ثمة دراسات أخرى أشارت إلى البوليفونية بشكل من الأشكال. ومن بين هذه الدراسات ما كتبهتشيتشرين في دراسته المطولة تحت عنوان:" الأفكار والأسلوب، دراسة في الفن الروائي ولغته"[9]، وف. ف. فينوغرادوف في كتابه:" حول لغة الأدب الفني" الصادر في مسوكو سنة 1959م[10]، ول.جروسمان في كتابه:" طريق دويستفسكي" [11]، وأوتو كاوس في كتابه:" دويستفسكي ومصيره"[12]، وف.كوماروفيتش في كتابه:" رواية دويستفسكي (المراهق) بوصفها وحدة فنية"[13]، وب.م.إنجلجاردت في كتابه:" رواية دويستفسكي الإيديولوجية"[14]، وف.لوناجارسكي في مقاله:" حول تعددية الأصوات عند دويستفسكي"[15]، وف. كيربوتين في :"ف.م.دوستويفسكي"[16] ، وب.ف.شكلوفسكي في كتابه:" مع وضد.ملاحظات حول دويستفسكي."[17]، وب.أوسبنسكي في كتابه:"شعرية التأليف"، حيث يقول عن البوليفونية الإيديولوجية:" عندما نتحدث عن المنظور الإيديولوجي لانعني منظور الكاتب بصفة عامة منفصلا عن عمله، ولكن نعني المنظور الذي يتبناه في صياغة عمل محدد، وبالإضافة إلى هذه الحقيقة يجب أن نذكر أن الكاتب قد يختار الحديث بصوت مخالف لصوته، وقد يغير منظوره- في عمل واحد- أكثر من مرة، وقد يقيم (بتشديد الياء) من خلال أكثر من منظور."[18] ومن أهم الدراسات الغربية الحديثة حول البوليفونية ما كتبه تزتيفان تودوروف (T.Todorov) تحت عنوان:"ميخائيل باختين والمبدأ الحواري"[19]، وماكتبته أيضا جوليا كريستيفا من دراسات تشير فيها إلى التناص الحواري، كما في كتابها:" السيميوطيقا"[20]... وإذا انتقلنا إلى الدراسات العربية في مجال أسلوبية الرواية ، فنستدعي في هذا الصدد دراسة حميد لحمداني تحت عنوان:" أسلوبية الرواية"[21]، ودراسة سيزا قاسم :" بناء الرواية" [22]، ومحمد برادة في كتابه:" أسئلة الرواية وأسئلة النقد"[23]، وعبد الحميد عقار في كتابه:" الرواية المغاربية: تحولات اللغة والخطاب"[24]، وعبد الله حامدي في كتابه:" الرواية العربية والتراث: قراءة في خصوصية الكتابة"[25]، والحبيب الدائم ربي في كتابه:" الكتابة والتناص في الرواية العربية"[26]... • نظرية الرواية عند ميخائيل باختين: إذا كانت الرواية ملحمة بورجوازية عند هيجل وجورج لوكاش ولوسيان كولدمان، فإن الرواية عند ميخائيل باختين ذات أصول شعبية ، تتمثل في الحوارات السقراطية ، والهجاءات المنيبية، والروح الكرنفالية. ويعني هذا أن الرواية قد تفرعت عن أجناس شعبية سفلى تحيل على الطبقة الاجتماعية العامة. بمعنى أنه إذا كانت الملحمة ، باعتبارها أدبا جادا، وراء نشأة الرواية، فإن الأدب المضحك والساخر كان وراء نشأة الرواية حسب ميخائيل باختين. ويذهب باختين كذلك إلى أن نشأة الرواية تفرعت عن أجناس أدبية ثلاثة، وهي: الملحمة، والخطابة، والكرنفال. والآتي، أن هناك مجموعة من المفكرين والفلاسفة الذين كتبوا الحوار السقراطي كأفلاطون، وكسينوفون، وأنتيسثينيس، وفيدون، وأقليديس، والكسامين، وجلاوكون، وسيميوس، وكراتون، وغيرهم.ومن بين هذه الحوارات التي وصلتنا، نذكر منها: حورات أفلاطون وكسينوفون فقط، أما الحوارات الأخرى فنعرفها عن طريق الروايات والمقاطع القليلة التي بقيت منها. ومن ثم، فالحوار السقراطي:" ليس صنفا بيانيا متكلفا، إنه ينمو بالاستناد إلى أساس كرنفالي شعبي، وهو مفعم بعمق بالموقف الكرنفالي من العالم، خصوصا في مرحلة تطور السقراطية الشفاهية..."[27] هذا، وقد تحول الحوار السقراطي إلى صنف أدبي محدد، لكنه لم يعمر طويلا، ولكن" خلال عملية انحلاله تكونت هناك أصناف حوارية أخرى. بما في ذلك " الهجائية المنيبية". ولكن لايجوز النظر إليها، طبعا، وكأنها ثمرة خالصة من ثمار انحلال الحوار السقراطي(كما يفعلون أحيانا)، وذلك نظرا لأن جذورها تغور مباشرة في الفلكلور الكرنفالي، الذي يعد تأثيره الحاسم هنا أرجح بكثير مانجده في الحوار السقراطي."[28] وترجع أصول الهجائية المنيبية إلى الفيلسوف مينيب من غادار (Gadar)، وهو من فلاسفة القرن الثالث قبل الميلاد، استطاع أن يعطي هذا الصنف الأدبي شكله الكلاسيكي. على أن المصطلح نفسه الدال على صنف أدبي بعينه كان قد أطلق لأول مرة من قبل العالم الروماني فارون، من القرن الأول قبل الميلاد، الذي سمى هجائياته (Sturae Menippeae). وقد تطورت الهجائيات المنيبية إلى أن اقتربت جدا من حدود الرواية، وحتى رواية :" الحمار الذهبي" لأبوليوس هو نوع من الهجائية المنيبية المتطورة. كما يتسم هذا النوع الأدبي بالروح الكرنفالية،والهجائية الساخرة، وهيمنة عنصر الضحك، والميل إلى حرية الخلق والإبداع والخيال، وانتشار روح المغامرة، وانبثاق الخيال الجامح ، والأخذ بالجرأة، والخارق، والرمزية، واستفزاز الحقيقة واختبارها، والانطلاق من الفكرة الفلسفية...وبهذا المعنى، يمكننا القول: " إن مضمون المنيبية يتكون من مغامرات الفكرة أو الحقيقة في العالم: على الأرض أو في الجحيم أو في أعالي الأولمب."[29] ومن هنا، فقد كانت نشأة الرواية نشأة شعبية عادية كما يدل على ذلك الحوار السقراطي، والهجاء المنيبي، والكرنفال الاحتفالي الجماهيري. وتشترك هذه الأجناس كلها في المحاكاة، والضحك، والسخرية، والهزل،والشعبية، والحوارية... في مقابل تلك النظرية التي ترى أن الرواية أصلها ملحمة بورجوازية قائمة على تصدع الذات في علاقتها بالموضوع. ومن ثم، تحن الرواية دائما إلى عصر الملحمة، حيث الوحدة الكلية والمطلقة بين الذات والموضوع. • مقومات الرواية البوليفونية: تمتاز الرواية البوليفونية أو الرواية الحوارية أو الرواية الديالوجية بمجموعة من المقومات والمكونات والسمات الدلالية والفنية والجمالية، و يمكن حصرها في العناصر التالية: 1- التعددية في الأطروحات الفكرية: تتضمن الرواية المنولوجية – كما هو معلوم – فكرة واحدة أو موقفا إيديولوجيا واحدا. وغالبا ما تكون تلك الفكرة هي فكرة الكاتب المهيمنة، كما نجد ذلك واضحا في الروايات الواقعية أو الروايات الطبيعية الكلاسيكية. ويعني هذا أن فكرة الكاتب هي التي تحدد مسار الرواية من البداية حتى النهاية، حيث يتقمص البطل روح هذه الفكرة، فيناضل من أجلها، ثم يتدخل السارد لتثبيت هذه الفكرة، ومناصرتها بجميع الوسائل الفنية ، وذلك عن طريق الوصف والتقويم والتلفظ ، فتصبح هذه الفكرة المهيمنة هي المفضلة، وعلى القارىء أن يتمثلها بأي حال من الأحوال على أنها الأمثل والأحسن. وفي هذا السياق، يقول باختين:" إن فكرة المؤلف المقبولة والكاملة القيمة يمكنها أن تضطلع ، في عمل أدبي من النمط المنولوجي، بثلاث وظائف: أولا، إنها تعتبر الأساس الذي تستند إليه الرؤيا نفسها وتصوير العالم، المبدأ الذي يعتمد عليه في اختيار المادة وتوحيدها، المبدأ الذي يقرر النبرة الأحادية الإيديولوجية لجميع عناصر العمل الأدبي.ثانيا، يمكن تقديم الفكرة على اعتبارها استنتاجا واضحا بهذه الدرجة أو تلك، أو واعيا مستخلصا من المادة التي يجري تصويرها. ثالثا وأخيرا، فإن فكرة المؤلف يمكن أن تكتسب تعبيرا مباشرا داخل الموقف الإيديولوجي للبطل الرئيس. الفكرة بوصفها مبدأ في التصوير، تندمج مع الشكل. إنها تحدد كل النبرات الشكلية، وكل تلك الأحكام الإيديولوجية التي تصوغ الوحدة الشكلية للأسلوب الفني والنغمة الوحيدة للعمل الأدبي. إن الطبقات الدفينة لهذه الإيديولوجيا التي تتحكم بصياغة الشكل، الطبقات التي تحدد الخصائص الأساسية في الأصناف الأدبية، تحمل طابعا تقليديا، وهي تتراكم وتتطور عبر العصور، إلى هذه الطبقات الدفينة الخاصة بالشكل ينتمي حتى الاتجاه المونولوجي الفني الذي وقع اختيارنا عليه."[30] هذا، وتتضمن الرواية البوليفونية تعددا في الأطروحات الفكرية؛ مما يجعلها رواية أطروحة بامتياز، ولكن رواية أطروحة حوارية وديمقراطية قائمة على الأفكارالمتعددة، والمواقف الجدلية ، واختلاف وجهات النظر، وتباين المنظورات الإيديولوجية. بمعنى ليس هناك موقف واحد أو فكرة واحدة داخل المحكي الروائي. وغالبا ما تكون هذه الفكرة المهيمنة ، كما في الرواية المنولوجية أو الرواية الاعتيادية، فكرة المؤلف أو السارد الرئيس، بل توجد في الرواية البوليفونية مواقف متعددة وأطروحات جدلية متعددة. ويعني هذا أن الرواية البوليفونية تتناول فكرة أو أطروحة معينة، وترد تلك الفكرة على لسان البطل أو الشخصيات المحورية في الرواية، وهذه الفكرة هي التي تحدد علاقة البطل بالعالم الذي يعيش فيه، إن تلك الفكرة هي التي تحدد رؤية الشخصية إلى العالم، وموقف البطل من عالمه ومصيره. لذا، فالرواية البوليفونية هي جماع الأفكار المتعارضة بقوة، حيث تتصارع وتتناقض جدليا. ومن هنا، فالمهم ليس هو الأبطال أو الشخصيات، بل المهم الأفكار التي تتقابل وتتآلف وتتعارض مع موقف الكاتب أو السارد الرئيس. وعليه، " تتمتع الفكرة بحياتها المستقلة داخل وعي البطل: إن الذي يحيا، بصورة خاصة، لا البطل، بل الفكرة، والكاتب الروائي يقدم وصفا لالحياة البطل ، بل وصفا لحياة الفكرة فيه...ومن هنا بالذات، ينبع التحديد الصنفي لرواية دويستفكسي بوصفها رواية إيديولوجية."[31] ويتبين لنا ، مما سبق ، بأن الرواية البوليفونية هي التي تقوم على الفكرة الأطروحة، ونقصد بها بطبيعة الحال الإيديولوجيا. وللتوضيح أكثر، قد تقدم الرواية مجموعة من الأفكار على لسان شخصياتها إيديولوجيا، كأن تكون شخصية ما إسلامية، أو تكون شخصية ملحدة، أو شخصية اشتراكية، أو شخصية شيوعية، أو شخصية ليبرالية، أو شخصية وطنية، أو شخصية خائنة، وهلم جرا... فكل شخصية تقدم فكرتها، وتستعرض أطروحتها، ويمكن للكاتب أن يشارك بفكرته وأطروحته الإيديولوجية إلى جانب الأفكار الأساسية الأخرى لشخصياته، ولكن بشرط واحد ألا يرجح كفة أطروحته على باقي الأطروحات الأخرى، كما هو الحال في الروايات المنولوجية أو العادية. ومن هنا، فالفكرة هي التي تسيطر على الشخصيات، ثم تحدد مصير البطل، ثم تبرز موقفه النهائي من العالم، وهي كذلك المادة الأساسية في بناء الرواية، ويتم عبرها تقسيم العالم الروائي إلى عوالم الأبطال أو الشخصيات.والآتي، "أن وجهة النظر تلك التي ينظر بها البطل إلى هذا العالم هي التي تشكل الفكرة الأساسية لدى تصوير الواقع من حوله. لقد قدم العالم الخاص بكل بطل، من زاوية خاصة يتم تصويره وبناؤه في ضوئها تماما."[32] ومن ثم، تتحول هذه الأفكار إلى تيمات وموضوعات وبرامج سردية ورؤى للعالم ، يمكن رصدها نقديا إن فهما وإن تفسيرا، أو يمكن تشريحها إن تفكيكا وإن تركيبا. 2- تعدد الشخصيات أو تعدد الأصوات: تحوي الرواية البوليفونية مجموعة من الشخصيات أو الأصوات التي تتصارع فيما بينها فكريا وإيديولوجيا. وبالتالي، تملك أنماطا من الوعي المختلف عن وعي الكاتب وإيديولوجيته الشخصية. ويعني هذا أن الشخصيات في الرواية البوليفونية تتمتع باستقلال نسبي، ولها الحرية الكاملة في التعبير عن عوالمها الداخلية والموضوعية، ولها الحق في الكلمة الحقة والصريحة التي قد تتعارض ، وذلك بشكل من الأشكال، مع كلمة المؤلف أو السارد أو البطل الموجه من قبل الكاتب. وبهذا، يكون دويستفسكي هو:" خالق الرواية المتعددة الأصوات (Polyphone)، لقد أوجد صنفا روائيا جديدا بصورة جوهرية. وبهذا السبب بالذات، فإن أعماله الإبداعية لايمكن حشرها داخل أطر محددة من أي نوع، وهي لاتذعن لأي من تلك القوالب الأدبية التي وجدت عبر التاريخ ، واعتدنا تطبيقها على مختلف ظواهر الرواية الأوربية. ففي أعماله يظهر البطل الذي بنى صوته بطريقة تشبه بناء صوت المؤلف نفسه في رواية ذات نمط اعتيادي.إن كلمة يتلفظ بها البطل حول نفسه هو بالذات، وحول العالم تكون هي الأخرى كاملة الأهمية تماما مثل كلمة المؤلف الاعتيادية.إنها لاتخضع للصورة الموضوعية الخاصة بالبطل بوصفها سمة من سماته، كذلك هي لاتصلح أن تكون بوقا لصوت المؤلف.هذه الكلمة تتمتع باستقلالية استثنائية داخل بنية العمل الأدبي، إن أصداءها تتردد جنبا إلى جنب مع كلمة المؤلف ، وتقترن بها اقترانا فريدا من نوعه، كما تقترن مع الأصوات الكبيرة القيمة، الخاصة بالأبطال الآخرين."[33] ومايلاحظ على شخصيات الرواية البوليفونية أنها شخصيات غيرية مستقلة عن شخصية السارد أو المؤلف أو الشخصية التي تمثل الكاتب نفسه، كما أنها شخصيات حرة. وهنا، ليست الحرية مطلقة ، بل هي حرية نسبية. وفي هذا النطاق، يقول ميخائيل باختين:" لقد تم التوصل إلى الاستقلالية الداخلية المدهشة لأبطال دويستفسكي. هذه الاستقلالية التي لاحظها أسكولدوف، بوسائل فنية محددة.ولقد تمثل ذلك، بالدرجة الأولى، في حريتهم واستقلاليتهم نفسها داخل بنية الرواية، تجاه المؤلف، أو بكلمة أدق تجاه تحديدات المؤلف الاعتيادية والإظهارية والإنجازية.إن هذا لايعني طبعا، إن البطل يسقط من خطة المؤلف.كلا، إن هذه الاستقلالية والحرية للبطل تدخلان تماما في خطة المؤلف. إن هذه الخطة تبدو وكأنها تهيء البطل مقدما للحرية النسبية طبعا وتدخله، بالشكل الذي هو عليه، ضمن الخطة الصارمة المحسوبة للعمل بعامة."[34] وهكذا، تظهر الشخصيات في الرواية البوليفونية باعتبارها وجهات نظر تجاه العالم، أو باعتبارها أقنعة رمزية وإيديولوجية. ومن ثم، فالشخصية الروائية في هذا النوع من الرواية تتسم بثلاث خاصيات: تتمثل في حرية البطل النسبية، واستقلاليته، وعلاقة ذلك بصوته في ضوء خطة تعدد الأصوات. ولابد أن تكون وجهة نظر الشخصية بمثابة موقف فكري وتقويم يتخذه إنسان تجاه نفسه بالذات، وتجاه الواقع الذي يحيط به." فالمهم بالنسبة لدويستفسكي – يقول باختين- لامن يكونه بطله في العالم، بل بالدرجة الأولى مالذي يكونه العالم بالنسبة للبطل، ومالذي يكونه هو بالنسبة لنفسه ذاتها."[35] ومن جهة أخرى، يتحدث ميخائيل باختين عن الشخصية غير المنجزة، وهي الشخصية التي تعيش حالة اللاإنجاز واللاكتمال واللاحزم داخل المسار السردي الروائي. ويعني هذا أن الشخصية غير المنجزة هي تلك الشخصية القلقة التي تعيش المعاناة، وتواجه تعقد الحياة، وهي كذلك شخصية غير مستقرة ، تلك الشخصية التي تعاني داخليا، وتعيش فضاء العتبة، أو فضاء الأزمات والمواقف والأفكار. وقد ترتكب هذه الشخصية جنحا وجنايات للتعبير عن أفكارها، أو للتخلص من أعدائها الآخرين. وبتعبير آخر، الشخصية غير المنجزة هي الشخصية المهووسة والمريضة نفسانيا. 3- التعددية في أنماط الوعي: تعبر الشخصيات البوليفونية عن أنماط عدة من الوعي، ولاسيما الوعي الإيديولوجي منه. فهناك من يملك وعيا زائفا، وهناك من له وعي واقعي عن العالم الذي يعيش فيه، وثمة شخصيات أخرى لها وعي ممكن أوتصورات مستقبلية إيجابية مبنية على تغيير الواقع ، واستبداله بواقع أفضل. بمعنى أن وعي الشخصيات قد يكون وعيا سلبيا أو وعيا إيجابيا، ويتعدد هذا الوعي بتعدد الشخصيات، وتنوع مصادر ثقافتها، واختلاف منظوراتها السياسية والحزبية والنقابية والاجتماعية والإيديولوجية. لذلك، تتعدد أنماط الوعي داخل الرواية البوليفونية، بينما تختفي لصالح وعي الكاتب المهيمن ، أو لصالح وعي السارد المطلق، أو لصالح وعي الشخصية البطلة التي تدافع عن وجهة نظر الكاتب، كما يتضح ذلك جليا في الرواية المنولوجية، أو الرواية ذات الصوت الواحد. وانطلاقا مما سبق، يقول ميخائيل باختين:" إن كثرة الأصوات وأشكال الوعي المستقلة، وغير الممتزجة ببعضها، وتعددية الأصوات الأصلية للشخصيات الكاملة القيمة- كل ذلك يعتبر بحق الخاصية الأساسية لروايات دويستفسكي. ليس كثرة الشخصيات والمصائر داخل العالم الموضوعي الواحد، وفي ضوء وعي موحد عند المؤلف هو مايجري تطويره في أعمال دويستفسكي، بل تعدد أشكال الوعي المتساوية الحقوق مع ما لها من عوالم، هو مايجري الجمع بينه – هنا- بالضبط، في الوقت نفسه تحافظ فيه على عدم اندماجها مع بعضها، من خلال حادثة ما بالفعل، فإن الأبطال الرئيسيين عند دويستفسكي داخل وعي الفنان ليسوا مجرد موضوعات لكلمات الفنان، بل إن لهم كلماتهم الشخصية ذات القيمة الدلالية الكاملة. ولهذا السبب، فإن الكلمة التي ينطق بها البطل لا تستنفد هنا أبدا بواسطة الأوصاف الاعتيادية والوظائف ذات الدوافع العملية والحياتية، إلا أنها لاتعتبر في الوقت نفسه تعبيرا عن الموقف الإيديولوجي الخاص بالمؤلف (مثلما هو الحال عند بايرون).إن وعي البطل يقدم هنا بوصفه وعيا غيريا، وعيا آخر، إلا أنه في الوقت نفسه غير محدد، ولايجري التستر عليه، كذلك فإنه لايصبح مجرد موضوع بسيط لوعي المؤلف. وبهذا المعنى ، فالبطل عند دويستفسكي لايعتبر صورة موضوعية اعتيادية للبطل في الرواية التقليدية."[36] ويعني هذا أن كل شخصية في الرواية البوليفونية لها حرية كاملة ومطلقة في امتلاك وعي مستقل، يعبر عن كينونتها وهويتها وطريقة تفكيرها، ومنفصلة عن طريقة تفكير الكاتب. وهذا مايقرب الرواية البوليفونية من الرواية الأطروحة ذات الطبيعة الديمقراطية القائمة على الحوارية الذهنية ، والتعددية الإيديولوجية. 4- التعددية في المواقف الإيديولوجية: تستند الرواية البوليفونية إلى تعدد الشخصيات التي تتمتع بنوع من الاستقلالية النسبية في التعبير عن أفكارها، والإفصاح عن مشاعرها الوجدانية، كما تدافع هذه الشخصيات عن معتقداتها الشخصية بكل حرية ، فتعرض أطروحتها الإيديولوجية التي قد تكون مخالفة لإيديولوجية الكاتب، ومتعارضة معها بشكل كلي. وتعد روايات دويستفسكي نماذج تمثيلية لهذا النوع ، حيث يرى ميخائيل باختين بأنه :" من الناحية الإيديولوجية، يتمتع البطل باستقلاليته ونفوذه المعنوي.وينظر إليه بوصفه خالقا لمفهوم ايديولوجي خاص وكامل القيمة، لابوصفه موضوعا لرؤيا دويستفسكي الفنية المتكاملة."[37] ومن هنا، فالشخصيات الروائية - كما قلنا سابقا - هي بمثابة وجهات نظر فكرية، وأقنعة رمزية وإيديولوجية. ومن ثم ، فبطل دويستفسكي - مثلا - حسب ميخائيل باختين:" ليس مجرد كلمة حول نفسه هو بالذات، وحول الوسط الذي يحيط به مباشر، بل هو بالإضافة إلى ذلك كلمة حول العالم: إنه ليس ممارسا للوعي فحسب، بل هو صاحب مذهب إيديولوجي."[38] وعليه، فالرواية البوليفونية هي التي تتضمن مجموعة من المواقف الإيديولوجية والآراء الفكرية المتعارضة والمتناطحة ، ويتم ذلك عبر الشخصيات السردية التي تصبح رموزا وأقنعة ورؤى للعالم. 5- تعدد اللغات والأساليب: تستند الرواية البوليفونية ، وذلك على مستوى صورة اللغة، إلى مجموعة من الأساليب التي تشكل البعد التعددي، أو ما يسمى أيضا بالصياغة الحوارية أو الديالوجية. وثمة لسانيات خاصة تتولى دراسة هذه الحوارية اللغوية، وهي: الميتالسانيات أو اللسانيات الخارجية أوأسلوبية الرواية. ومن أهم الظواهر الفنية التي تنبني عليها الرواية البوليفونية، نستحضر: الأسلبة (تقليد الأساليب/ stylization)، والمحاكاة الساخرة أو مايسمى كذلك بالباروديا (Parody)، والحوار (Dialogue)، والتهجين (Hybridation)، والتناص (Intertextuality)، والتنضيد، والعبارات المسكوكة، والأجناس المتخللة... هذا، وإن الكلمة في الرواية البوليفونية ليست أحادية كما في الرواية التقليدية المنولوجية العادية، بل هي كلمة حوارية غيرية ومزدوجة الصوت. وللتنضيد علاقة كبيرة باللغة الحوارية (الديالوجية).بمعنى أن اللغة الأدبية ليست لغة وحيدة ، بل هي:" لغة منضذة طبقات، ومتعددة لسانيا بمظهرها الملموس الذي هو دلالي وتعبيري في نظر الغير. ويكون ذلك التنضيد له علاقة وثيقة بالأجناس الأدبية (تنضيد اللغة إلى أجناس)، فيكون الحديث عن اللغة الشعرية، واللغة المقالية، واللغة الصحفية،....وهناك تنضيد آخر نسميه التنضيد اللغوي المهني(تنضيد اللغة إلى مهن)، كأن نشير – مثلا- إلى لغة المحامي، ولغة الطبيب، ولغة السلطان، ولغة الفقيه، ولغة التاجر، ولغة السياسي، ولغة المعلم...إلخ. وهكذا، فجميع:" لغات التعدد اللساني، مهما تكن الطريقة التي فردت بها، هي وجهات نظر نوعية حول العالم، وأشكال لتأويله اللفظي، ومنظورات غيرية دلالية وخلافية. بهذه الصفة، يمكنها جميعا أن تتجابه، وأن تستعمل بمثابة تكملة متبادلة، وأن تدخل في علائق حوارية.بهذه الصفة، تلتقي وتتعايش داخل وعي الناس، وقبل كل شيء داخل وعي الفنان- الروائي الخلاق.وبهذه الصفة أيضا، تعيش حقيقة، وتصارع، وتتطور داخل التعدد اللساني الاجتماعي.ولأجل ذلك، تستطيع جميع اللغات أن تتخذ موضعا لها على صعيد الرواية الفريد الذي يمكنه أن يجمع الأسلبات البارودية للغات أجناس متنوعة، ومظاهر مختلفة من أسلبة وتقديم لغات مهنية ملتزمة، مع لغات أجيال تشتمل على لهجات اجتماعية وغير اجتماعية...جميع تلك اللغات يمكن أن يجتذبها الروائي لتنسيق تيماته، وتخفيف حدة التعبير (غير المباشر) عن نواياه وأحكامه القيمية. لأجل ذلك، نلح باستمرار، على المظهر اللغوي، الدلالي والتعبيري. أي: القصدي، لأنه القوة التي تنضد وتنوع اللغة الأدبية، ولا نولي نفس الاهتمام للعلامات اللسانية (زخارف المفردات، وتناغمات المعنى، إلخ...) في لغات الأجناس والرطانات المهنية وغيرها، لأنها، إذا جاز القول، رواسب متحجرة عن سيرورة النوايا، وعن العلامات التي أهملها العمل الحي الذي تنجزه النية المؤولة للأشكال اللسانية المشتركة.إن تلك العلامات الخارجية، ملحوظة ومثبتة من وجهة النظر اللسانية، لايمكن فهمها ودراستها بدون فهم تأويلها المقصدي."[39] وعلى أي حال، يعبر التنضيد اللغوي عن التعدد الطبقي، والتنوع الهرمي الاجتماعي، فيحدد رؤى الشخصيات إلى العالم، ثم يبرز اختلافها فيما بينها اجتماعيا وطبقيا وإيديولوجيا. أما التهجين (Hybridation) الروائي، فقد يكون إراديا وغير إرادي. وبالتالي، فهو:" مزج لغتين اجتماعيتين داخل ملفوظ واحد، وهو أيضا التقاء وعيين لسانيين مفصولين بحقبة زمنية، وبفارق اجتماعي، أو بهما معا، داخل ساحة ذلك الملفوظ. وهذا المزيج من لغتين داخل الملفوظ نفسه، هو طريقة أدبية قصدية (بدقة أكثر، نسق من الطرائق).لكن التهجين الاإرادي واللاواعي هو إحدى الصيغ الهامة للوجود التاريخي ولصيرورة اللغات. ويمكن القول بوضوح بأن الكلام واللغات، إجمالا، يتغيران تاريخيا عن طريق التشعب لنفس المجموعة اللغوية أو لعدة مجموعات سواء في الماضي التاريخي للغات أو في ماضيهم الإحاثي، ودائما يقوم الملفوظ بدور المرجل في المزج."[40] وللتمثيل، يمكن للروائي البوليفوني أن يستعمل لغتين داخل ملفوظه السردي، كأن يستعمل حوارا داخليا مثلا يتحدث فيه المتكلم المشخص الرئيس ، ولكنه في الوقت نفسه، يرد فيه على شخص أو وعي آخر يستحضره داخل الملفوظ نفسه. بمعنى أن يكون هناك وعي مشخص (بكسر الصاد) ، ووعي مشخص (بفتح الصاد) داخل ملفوظ سردي واحد. بتعبير آخر، لابد أن يحمل ذلك الملفوظ هجنة قصدية واعية ، تحيل على صراع القيم والإيديولوجيات، واختلاف الأفكار، وتباين وجهات النظر. يتبع
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |