احتساب النبي صلى الله عليه وسلم - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 13672 - عددالزوار : 738571 )           »          فضائل وآداب يوم الجمعة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          آداب يوم الجمعة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »          الإنسان المذهول (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          إطلاق القرية على غير المدينة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          اختزال الإسلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          من قال ١٠ مرات بعد صلاة الصبح والمغرب:لا إله إلا الله، وحده.... (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          أعمال يسيرة وأجور عظيمة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 21 )           »          الهدي النبوي في التعامل مع حر الصيف (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4896 - عددالزوار : 1916459 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 24-06-2020, 03:16 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 153,816
الدولة : Egypt
افتراضي احتساب النبي صلى الله عليه وسلم

احتساب النبي صلى الله عليه وسلم(1)
الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل



تقرير الحسبة بأقواله (أ)





الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله...

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70-71].


أما بعد: فإن خير الكلام كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.



أيها الناس: أرسل الله تعالى رسوله محمدا عليه الصلاة والسلام بالهدى ودين الحق؛ ليخرج به الناس من الظلمات إلى النور، ومن الضلال إلى الهدى، ومن الجور إلى العدل، ومن الجهل إلى العلم، ومن الإساءة إلى الإحسان، ومن دركات الإثم والشر والذل والضعف إلى درجات البر والخير والعز والقوة {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران:164] وفي الآية الأخرى {رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِ الله مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الطَّلاق:11].



وكانت رسالته عليه الصلاة والسلام كرسالات من سبقوه من إخوانه المرسلين متضمنة للأمر والنهي: الأمر بكل معروف يحبه الله تعالى ويرضاه من الأقوال والأفعال والمقاصد، والنهي عن كل منكر يبغضه الله تعالى من القوال والأفعال والمقاصد.


والمشركون كانوا يعرفون أن كلمة التوحيد المتضمنة لشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله تعني الخضوع والتسليم والانقياد للأمر والنهي الشرعيين؛ ولذلك عارضوها وقالوا {أَجَعَلَ الآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5].


وسيرة النبي عليه الصلاة والسلام منذ بعثته وحتى وفاته تدل على أن حياته كلها كانت احتسابا على الناس لإصلاح عقائدهم وعباداتهم ومعاملاتهم وأخلاقهم، كما تدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الركن الأساس لتبليغ هذا الدين، والحكم بشريعته بين الناس، وقد أُمر النبي عليه الصلاة والسلام بالبلاغ في كثير من آي القرآن كقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67] وفي آية أخرى {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البَلَاغُ المُبِينُ} [النحل:82].


وما الدعوة إلى الله تعالى التي بعث بها النبي صلى الله عليه وسلم إلا أمر بمعروف، أو نهي عن منكر؛ لأن المباحات لا أمر فيها ولا نهي، بل سُكت عنها تخفيفا على العباد، وما بعث الرسل عليهم السلام لبيان المباحات للناس، وإنما بعثوا لبيان المأمورات ليمتثلها الناس، والمنهيات ليجتنبوها.

وما الجهاد في سبيل الله تعالى الذي هو ذروة سنام الإسلام إلا وسيلة من وسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لبسط سلطان الإسلام على الناس، وتخليصهم من أنظمة الجور والعبودية لغير الله تعالى.


والحديث عن احتساب النبي عليه الصلاة والسلام على أمته هو الحديث عن سيرته وأقواله وأفعاله منذ أن بعثه الله تعالى رسولا للعالمين إلى أن قبضه إليه سبحانه وتعالى، وأنَّى لمقام كهذا أن يأتي على ذلك، بيد أن النبي عليه الصلاة والسلام قد حث أمته على إحياء شعيرة الاحتساب بينهم، ورغبهم في ذلك، وبين لهم مخاطر تعطيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الأفراد والأمم، وقد كثرت أقواله عليه الصلاة والسلام في هذا الباب العظيم من أبواب الشريعة.



فأمر عليه الصلاة والسلام بإنكار المنكر، وبيّن أن من أنكر فقد أدى ما عليه، وبرئت ذمته، ومن رضي بالمنكر أو وافق أهله فهو الآثم فقال عليه الصلاة والسلام: (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) رواه مسلم من حديث أبي سعيد رضي الله عنه، وفي رواية له من حديث أم سلمة رضي الله عنها قال عليه الصلاة والسلام: (فمن كره فقد بريء، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع)


ولأهمية هذه الشعيرة العظيمة في إصلاح الناس، ولمكانتها من دين الإسلام؛ فإن النبي عليه الصلاة والسلام بايع أصحابه رضي الله عنهم على قول الحق، وأوصاهم بذلك.

أما البيعة على قول الحق ففي حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قالبايعنا سول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره وأن لا ننازع الأمر أهله وأن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومه لائم)رواه الشيخان.

والصدعُ بالحق إما أن يكون في معروف قد عُطل، أو في منكر قد أُظهر.


قال النووي رحمه الله تعالى: قوله (وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم) معناه: نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر في كل زمان ومكان، الكبار والصغار لا نداهن فيه أحدا، ولا نخافه هو، ولا نلتفت إلى الأئمة، ففيه القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأجمع العلماء على أنه فرض كفاية فإن خاف من ذلك على نفسه أو ماله أو على غيره سقط الانكار بيده ولسانه ووجبت كراهته بقلبه.أهـ


وأما وصيته عليه الصلاة والسلام بهذا الأمر العظيم به فقد جاءت في حديث أبي ذر رضي الله عنه قالأوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بخصال من الخير ...وذكر منها: وأوصاني أن أقول الحق وإن كان مُرَّا) رواه أحمد.

ومعلوم أن البيعة لا تكون على الأمر العظيم الكبير، وكذا الوصية لا تكون إلا بما هو مهم، وهذا يدل على مكانة قول الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في شريعة الله تعالى؛ إذ وصى النبي عليه الصلاة والسلام به، وبايعه الصحابة رضي الله عنهم عليه.

وكانت هذه البيعة مع البيعة على السمع والطاعة؛ مما ينقض رأي من يرى أن الصدع بالحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيه خروج على السلاطين، أو يؤدي إلى الخروج عليهم، ولازم هذا القول تعطيل هذه الشعيرة العظيمة، وهذا الحديث ينقض هذا الرأي الفاسد.


بل إن الاحتساب على كبار القوم، ورؤوس الناس، والصدع بالحق أمامهم مما ينفعهم؛ لئلا يتركوا معروفا، أو يتمادوا في منكر، وهذا من أعظم النصح لهم الذي جاء الأمر الشرعي به في حديث تميم الداري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدين النصيحة، قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولائمة المسلمين وعامتهم) رواه مسلم.


ومن أعظم الغش لكبار القوم، وسراة الناس ترك مناصحتهم، وعدم الصدع بالحق أمامهم، والتهاون في أمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر.


وقد فهم كبار العلماء في مختلف العصور ذلك فأنكروا على السلاطين مخالفاتهم، ولم يخرجوا عليهم، ولا رأوا أن الإنكار يؤدي إلى الخروج عليهم كما يزعمه من يعطلون الأمر والنهي الشرعيين، ولا جعلوا ظهور المنكرات مسوغا للخروج، وكان سفيان الثوري من أشهر أهل عصره في شدة الإنكار على بني العباس، حتى إنه ليبول الدم إذا رأى منكرا فلم يستطع إنكاره كما قال رحمه الله تعالى، ومع ذلك كان سيء القول في الحسن بن صالح بن حي مع أن الحسن من الأئمة الكبار في العلم والزهد، وما سبب ذلك إلا لأن الحسن كان يرى الخروج، ولذا قال الثوري فيه: ذاك رجل يرى السيف على أمة محمد صلى الله عليه وسلم.



فكان منهج الإمام سفيان الثوري رحمه الله تعالى الإنكار على من وقع في المنكر صغيرا كان أم كبيرا، وأمره بالمعروف، والنصح له، مع التزام الطاعة، ولزوم الجماعة، وهكذا كان دأب السلف الصالح عليهم رحمة الله تعالى، إلى أن نبت في المسلمين طائفتان مخطئتان، إحداهما عطلت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ بحجة السمع والطاعة، ولكيلا يكون الاحتساب على الولاة ذريعة للخروج عليهم، وطائفة أخرى استحلت الخروج عليهم لمجرد ظهور المنكرات في دولهم، وكان الصواب وسطا بين الطائفتين.



ومن أبين الأدلة على أهمية إحياء شعيرة الحسبة بين الناس أن النبي عليه الصلاة والسلام بيّن أن قول الحق أعظم الجهاد، وأن سيد الشهداء من قتل في سبيل كلمة الحق؛ كما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)رواه أبو داود، وعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله) رواه الحاكم وصححه.



جعلنا الله تعالى من أهل الحق والعدل، وكفانا شرور أنفسنا وشرور أعدائنا {وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:71].



بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.....





الخطبة الثانية




الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.



أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وأطيعوه، واعملوا لآخرتكم، ولا تغرنكم دنياكم {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء:77 ].




أيها المسلمون: من قرأ سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، ووقف على أحاديثه في شعيرة الاحتساب علم أنه عليه الصلاة والسلام قد أولى هذا الجانب من الدين أهمية كبرى, وكيف لا يكون ذلك وأول وَصْفٍ وُصِفَ به عليه الصلاة والسلام في الكتب السابقة كونه محتسبا على الناس، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [الأعراف:157].



فمن أسباب الفلاح المذكور في هذه الآية الكريمة اتباع النور الذي أنزل مع النبي عليه الصلاة والسلام، ومن أعظم أفراد هذا النور الذي أنزل معه ما جاء به من الاحتساب على الناس بأمرهم بالمعروف، ونهييهم عن المنكر.


كما أن هذه الآية العظيمة تفيد بوجه المخالفة أن ترك هذا النور سبب للخسران والبوار للأفراد والأمم، وتعطيل الحسبة سبب لترك هذا النور الذي أوصينا باتباعه.

وما كان النبي عليه الصلاة والسلام محييا لشعيرة الحسبة، معتنيا بها، داعيا إليها، ناهيا عن تعطيلها، محذرا من تركها؛ إلا لأنها من أسباب بقاء دين الإسلام الذي قضى الله تعالى قدرا أن يبقى إلى آخر الزمان، فأمر شرعا بما يكون سببا لذلك، وهو الأمر بالاحتساب على الناس بأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، ودعوتهم إلى الخير الذي جاء به الإسلام.

فكان من خيرية هذه الأمة أن تُحيا هذه الشعيرة العظيمة فيهم، وأن يتواصوا فيما بينهم بها، ويتعاونوا على أدائها، ويحاربوا من حاربها من الكفار والمنافقين والشهوانيين {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِالله} [آل عمران:110].


إن الذين يحاربون الحسبة والمحتسبين، ويرون أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تدخل في الخصوصيات، ويدعون الناس إلى رفض ذلك، إنما هم يريدون نزع الخيرية عن هذه الأمة؛ لتكون كأمم اليهود والنصارى والوثنية والمادية التي ضلت طريقها، وأفسدت أخلاقها، وأضاعت دينها، وأسخطت ربها، فسُلبت منها الخيرية إلى هذه الأمة المباركة.



إن هذه الفئة المنحرفة تريد تعطيل أعظم وَصْف وُصِف به رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل وأجله وأكبره، قد نوه الله تعالى بذكره في القرآن، وقدمه على غيره من الأوصاف {يَأْمُرُهُمْ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنْكَرِ} [الأعراف:157] يريدون تعطيله بحجة أن الاحتساب تدخل في الخصوصيات، وهو كذلك لأن دين الإسلام الذي ارتضاه الله تعالى لعباده لا يفرق بين الدين والدنيا، ولا يفصلهما عن بعض كما في ديانات اليهود والنصارى والوثنيين، وينظم علاقات الإنسان كلها، ويتدخل في خصوصياته، ويأمر أفراد المجتمع أن يأخذوا على أيدي المفسدين، ويأطروهم على الحق أطرا، ويقصروهم على الحق قصرا، فمن رفض ذلك فهو يرفض دين الإسلام.


وليس الإسلام أجزاء يسوغ للناس أن يأخذوا منه ما يشتهون، ويتركون ما لا يريدون، بل هو كل متكامل من رفض شعيرة محكمة من شعائره فهو يرفضه كله، ولا ينفعه ما أخذ من بعضه؛ إذ رفض بعضه كرفض جميعه.


وما الذي أضل اليهود والنصارى، وقد كانوا على الحق وأوتوا الكتاب قبلنا إلا أنهم كانوا يأخذون من دينهم ما يشتهون، ويتركون ما لا يريدون، وكان أحبار السوء، ورهبان الضلالة يحرفون كتبهم لأجل ذلك، فأنكر الله تعالى ذلك منهم وغضب عليهم ولعنهم، وخاطبهم بقوله سبحانه {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ العَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} [البقرة:85-86].



فالمحاربون للحسبة، الداعون إلى إبطالها لا يريدون إلا أن يسلكوا بنا مسالك من غضب الله تعالى عليهم ولعنهم وتوعدهم بنار جهنم من اليهود والنصارى الذين تركوا دينهم، وحرفوا كتبهم، فهل يُعَطِّل المؤمنون شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر طاعة للمنافقين والمرجفين والذين في قلوبهم مرض، فَيُحرموا الخيرية التي خصت بها هذه الأمة؟!



ليس هذا الظن بمن أخلصوا دينهم لله تعالى، وقرءوا كتابه، وقبلوا عنه شريعته، كيف! والله تعالى قد أمرنا بالتزام بشريعته، ونهانا عن اتباع أهوائهم {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ الله شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ المُتَّقِينَ} [الجاثية:18-19].



ألا فاتقوا الله ربكم، وأحيوا شعيرة الحسبة فيكم، وأعينوا عليها من قام بها من إخوانكم؛ فإنها من أسباب الفلاح والنجاة للأفراد وللأمة.



وصلوا وسلموا على نبيكم...





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 24-06-2020, 03:17 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 153,816
الدولة : Egypt
افتراضي رد: احتساب النبي صلى الله عليه وسلم

احتساب النبي صلى الله عليه وسلم(2)
الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل



تقرير الحسبة بأقواله (ب)




الحمد لله رب العالمين؛ خلق خلقه فدبرهم، وشرع لهم من الدين ما يصلحهم ﴿ صِبْغَةَ الله وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ ﴾ [البقرة:138] نحمده على هدايته، ونشكره على رعايته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله؛ اصطفاه الله تعالى للعالمين رسولا، وزاده رفعة وتفضيلا، فهو صاحب الحوض والفضيلة والشفاعة والوسيلة، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، خير صحب وآل، والتابعين لهم بإحسان.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [المائدة:35].


أيها الناس: دين الإسلام دين له حدود، وفيه حلال وحرام، وحقوق وواجبات ﴿ تِلْكَ حُدُودُ الله فَلَا تَقْرَبُوهَا ﴾ [البقرة:187] وفي آية أخرى ﴿ تِلْكَ حُدُودُ الله فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [البقرة:229] وفي ثالثة ﴿ تِلْكَ حُدُودُ الله وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ [النساء:13، 14].


وهذه الحدود التي يجب الوقوف عندها، ولا يحل لمسلم أن يتعداها منها ما هو لحق الله تعالى وحده كالعبادات المحضة، ومنها ما هو لحق الله تعالى ولحق البشر وهو ما يتعلق بأنواع المعاملات والأخلاق والقصاص ونحو ذلك.


ولما كان العصيان من طبيعة البشر، والخطأ من سجاياهم؛ كان لابد من الاحتساب عليهم، ورد الظالم عن ظلمه، والعاصي عن عصيانه؛ طاعة لله تعالى، وغيرةً على حرماته، وحفظا للأفراد والأمم من كل أسباب الهلاك والعذاب في الدنيا والآخرة.

وبهذا كان الاحتساب على الناس واجبا على آحادهم كل بحسب موقعه وقدرته؛ لأن الأمر يعنيهم واحدا واحدا، ولأن العذاب إن وقع بسبب أهل المعاصي لم يستثن منهم أحدا، وتلك سنة الله الماضية في الأمم الغابرة، وهذا ما قرره النبي عليه الصلاة والسلام لأمته، وأوجبه عليهم، وحذرهم من التهاون به، وأكثر القول فيه:

فتارة يأمرهم بالاحتساب على الناس بأمرهم بالمعروف ونهييهم عن المنكر، بل ويوصيهم بذلك، ويبايعه أصحابه رضي الله عنهم عليه، وتارة أخرى يخبر أن سيد الشهداء من قتل بسبب احتسابه وقوله للحق، كما يخبر عليه الصلاة والسلام أن كلمة الحق عند السلطان الجائر من أعظم الجهاد في سبيل الله تعالى.

بل إنه عليه الصلاة والسلام عد الاحتساب على الناس من الصدقات، وذلك في حديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة... وذكر منها: وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة...) رواه مسلم.

وجعل عليه الصلاة والسلام من حق الطريق لمن جلس فيه أن يحتسب على الناس، ولا يسكت إذا رأى المنكرات، وإلا لم يكن مؤديا لحق الطريق، وذلك في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إياكم والجلوس على الطرقات، فقالوا: ما لنا بد، إنما هي مجالسنا نتحدث فيها، قال: فإذا أبيتم إلا المجالس فأعطوا الطريق حقها، قالوا: وما حق الطريق؟ قال: غض البصر وكف الأذى ورد السلام وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر) رواه البخاري.


والأسواق كالطرقات، وتكثر فيها المنكرات، ويرتادها كثير من الناس، وقل فيهم من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وهذا من تقصيرهم في هذا الباب العظيم من الدين.

ومن أساليبه عليه الصلاة والسلام في تقرير الحسبة أنه ضرب مثلا عظيما بين فيه ضرر المفسدين على المجتمع، ونفع المصلحين الذين يأخذون على أيديهم؛ ليدل الناس على أهمية الحسبة في نجاتهم، ورفع العذاب عنهم، فلا يتهاونوا بها، أو يقعدوا عن الأخذ على أيدي المفسدين والسفهاء منهم؛ لأنهم إن لم يأخذوا على أيديهم أهلكوهم معهم؛ كما روى النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا) رواه البخاري.


وبين عليه الصلاة والسلام أن الهلاك الذي يصيب من تركوا الاحتساب، وعطلوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يكون خاصا وعاما؛ فالخاص يكون للأفراد بإلفهم للمنكرات، واعتيادهم مشاهدتها، وعدم إنكار قلوبهم لها، وهذا هو موت القلوب، ومن مات قلبه هلك.


وجاء معنى ذلك في حديث حذيفة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه) رواه مسلم.


فذكر عليه الصلاة والسلام أن من صفات القلب السليم إنكار الفتن، والإعلان بالمعاصي من أعظم الفتن، كما ذكر أن من صفات القلب الفاسد تشرب الفتن، التي من أعظمها ظهور المنكرات، فعدم الاحتساب على أصحابها، وعدم إنكار القلب لها هو الإصابة بموت القلوب وفتنتها، فلا تعرف معروفا ولا تنكر منكرا، إلا ما أشربت من هواها.


وأما العقاب العام، والعذاب الشامل إذا قدره الله تعالى على أمة من الأمم قد استوجبت ذلك بانتهاك حرماته جل وعلا فإنه لا يخص أهل المعصية وحدهم، بل يكون عاما عليهم وعلى غيرهم كما في قول الله تعالى ﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ ﴾ [الأنفال:25].


وسبب ذلك انتشار المنكرات وظهورها، مع عدم النكير على أصحابها؛ لضعف أهل الحق واستكانتهم وتقصيرهم، وقوة أهل الباطل وعتوهم وعنادهم، وقد جاء معنى ذلك في حديث زينب بنت جحش رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعا يقول: (لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا، وحلق بإصبعه وبالتي تليها، فقالت زينب: فقلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث) متفق عليه.


والخبث لا يكثر إلا بتوافر أسبابه ودواعيه، التي منها جلد المفسدين في نشر فسادهم، وقوة نفوذهم، مع تقاعس المصلحين عن مدافعة المفسدين، ورد إفسادهم عن الناس.

وإذا وقع ذلك في أمة من الأمم كانت حرية بعقوبة الله تعالى كما في حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم) رواه الترمذي وحسنه.

وفي حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون أن يغيروا عليهم ولا يغيروا إلا أصابهم الله بعقاب قبل أن يموتوا) رواه أبو داود وصححه ابن حبان.

والمتأمل للنصوص الواردة عن النبي عليه الصلاة والسلام في تقرير الحسبة، وأنها من شعائر الدين يجد أنها متنوعة؛ فتارة يأمرهم عليه الصلاة والسلام بالاحتساب على الناس، ويوصيهم بذلك، ويبايعهم عليه، ويعده في الصدقات، ويذكر أنه من الجهاد، وأنه نجاة للمجتمع، ويضرب الأمثلة على ذلك.


وتارة أخرى يرهبهم من التفريط فيه، ويذكر لهم ما يترتب على ترك الاحتساب من فساد القلوب، وحلول العقاب والهلاك.

وكل ذلك يدل على ما للاحتساب على الناس من أهمية كبرى في دين الله تعالى، وهذه الأمة الخاتمة تلازمها الخيرية ما قامت فيهم هذه الشعيرة العظيمة، فإذا ماتت فيهم لم يكونوا أحسن حالا من الأمم التي عذبت من قبل ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ المُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الفَاسِقُونَ ﴾ [آل عمران:110].


بارك الله لي ولكم....



الخطبة الثانية


الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما أمر، والشكر على نعمه فقد تأذن بالزيادة لمن شكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إرغاما لمن جحد به وكفر، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الشافع المشفع في المحشر، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.


أما بعد: فاتقوا الله ربكم، وأقيموا على طاعته دهركم ﴿ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ ﴾ [الحجر:99].

أيها المسلمون: من يحاربون الحسبة والمحتسبين من الصحفيين والإعلاميين ومن يسمون أنفسهم بالمفكرين والمثقفين يبنون فكرتهم في محاربة الحسبة والمحتسبين على مذهب غربي مفاده أن البشرية بعد الثورتين الصناعية والتجارية قد بلغت سن الرشد، وآن للإنسان أن يتحرر من أي وصاية عليه وبالأخص وصاية الدين؛ فله الحرية في أن يقول ما يشاء، ويفعل ما يشاء، ولا رقيب عليه ولا حسيب إلا نفسه وضميره كما يقولون.


ثم بعد ثورة الاتصالات والمعلومات التي نتج عنها مئات القنوات المرئية الفضائية، وملايين المواقع الألكترونية على الشبكة العالمية زاد إلحاح المفسدين في الأرض مطالبين بإلغاء الحسبة، ونشطوا في محاربة المحتسبين عبر وسائل الإعلام، بحجة أن العالم قد أصبح قرية واحدة، وأن منع الفساد أو تحجيمه لن يغني شيئا أمام طوفان عولمة الاتصالات، ويزعمون أنه من الخير للناس أن يتعايشوا مع الانفتاح الذي منه الفساد العقائدي والأخلاقي، ويعتادوا عليه، ويسارعوا إليه، قبل أن يفاجئوا به.


وكل هذه المسوغات التي يذكرونها ما هي إلا من حيل المفسدين، ووحي الشيطان لهم، وصدق لله تعالى إذ يقول ﴿ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ﴾ [الأنعام:121].


أما دعوى أن البشرية قد بلغت سن الرشد، ويجب أن ترفع الوصاية عن أفرادها فهي كذبة صدقوها ولم يطبقوها لا في الشرق ولا في الغرب؛ إذ يوجد في كل دول العالم قوانين وأنظمة، وعقوبات لمن ينتهكها، ومقتضى بلوغ البشرية سن الرشد أن تلغى جميع الأنظمة والقوانين والعقوبات؛ لأنها وصاية على البشر، ولا وصاية على من بلغوا سن الرشد، ولا يقول بهذا عاقل إلا ما كان من بعض منظري ما يسمى بالمذاهب الفوضوية التي ظلت كتاباتهم نظريات غير قابلة للتطبيق العملي.



وإذا كان الأمر كذلك فلماذا يقبل المحاربون للحسبة وصاية بشر مثلهم عليهم في سائر الأنظمة والقوانين، ولا يقبلون وصاية شرع الله تعالى عليهم المتمثل في شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ وهل هم يعبدون بشرا مثلهم ويستنكفون من العبودية الله تعالى؟ ويطالبون الناس برفضها والتمرد عليها؟ وأما دعوى المسارعة إلى الانفتاح، وقبول ما عند الآخرين ولو كان فسادا لئلا نفاجأ به فهي دعوى مردودة بشرع الله تعالى الذي أمرنا بمدافعة الفساد، ومحاربة أزلامه، وتحذير الناس منهم ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ ﴾ [التوبة:73] وفي آيات أخرى ﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا * فَلَا تُطِعِ الكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ﴾ [الفرقان:52].



هذا؛ والأمم الأخرى من كتابية ووثنية تدافع عن أفكارها وأديانها وثقافاتها أمام غزو الأمم الأخرى لها، وتفرض وصاية على أفرادها في هذا السبيل، فما بال أقوامنا يرفضون الحق الذي لديهم، ويسارعون في باطل غيرهم، بل ويفرضون وصايتهم علينا بقسرنا على باطلهم؟!



إن الذين يرفضون شعيرة الحسبة ما هم إلا منحرفون متسلطون يريدون فرض وصايتهم على الناس، ويحولون بينهم وبين دينهم وشعائره، ويسعون في نقلهم من أشرف المقامات وهو مقام عبوديتهم لله تعالى، والرضا بدينه، والتزام أحكامه إلى عبودية أفكارهم الضالة، ومذاهبهم المنحرفة. كفى الله تعالى المسلمين شرهم، وردهم على أعقابهم خاسرين. آمين.



﴿ المُنَافِقُونَ وَالمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ المُنَافِقِينَ هُمُ الفَاسِقُونَ * وَعَدَ اللهُ المُنَافِقِينَ وَالمُنَافِقَاتِ وَالكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ﴾ [التوبة:67، 68].


وصلوا وسلموا على نبيكم....






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 24-06-2020, 03:18 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 153,816
الدولة : Egypt
افتراضي رد: احتساب النبي صلى الله عليه وسلم

احتساب النبي صلى الله عليه وسلم(3)
الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل












غضبه إذا انتهكت الحرمات





الحمد لله؛ وفق من شاء من عباده للبر والتقوى، وصرفهم عن الإثم والهوى، فكانوا دعاة خير وصلاح وهدى، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويسارعون في الخيرات، نحمده حمد الشاكرين، ونستغفره استغفار المذنبين، ونسأله من فضله العظيم؛ فهو الجواد الكريم، البر الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له {أَلَا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ} [الأعراف: 54] وأشهد أن محمدا عبده رسوله بعثه الله تعالى ليخرج الناس من عبودية أهوائهم إلى عبوديته عز وجل؛ فكان في دينه أمر ونهي، وحلال وحرام، وثواب وعقاب في الدنيا والآخرة، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ أتقى هذه الأمة لربهم، وأعلمهم بدينهم، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.



أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واستمسكوا بدينكم، وأصلحوا أعمالكم؛ فإنكم مسئولون عن ذلك يوم القيامة {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزُّخرف: 44].



أيها الناس: تحصيل الأمن والخيرات، ودرء الفتن والمحن والعقوبات لا يكون إلا بالاستقامة على أمر الله تعالى، وإقامة دينه، وتحكيم شريعته، وقمع الفساد والمفسدين، والأخذ على أيدي السفهاء والجهلة والمغرورين {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96].



ولا يتحقق الإيمان في الناس والتقوى إلا بأمر ونهي، والأمر والنهي يؤخذان من الكتاب والسنة.



ولا شيء في دين الله تعالى يسمى حرية بلا قيود، أو عدم تدخل في الخصوصيات، أو ترك الناس وما يهوون، وإنما ذلك من دين المشركين الذين قالوا لنبيهم {يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} [هود: 87].



ومن نظر إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأقواله وأفعاله وأحواله وجد أنه بعد البعثة قد كرَّس حياته، وصرف أوقاته في الدعوة إلى الله تعالى، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتربية الناس على العبودية لله تعالى، وتغيير ما ألفوه من أمر الجاهلية.



لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُؤذى فلا يَغضب، ويُنتقص فلا ينتقم، ويُشتم فلا يرد، ويُساء إليه فيدفع الإساءة بالإحسان، وما انتصر لنفسه أبدا، ولكنه صلى الله عليه وسلم كان يغضب غضبا شديدا إذا انتهكت لله تعالى حرمة، أو عطلت له فريضة؛ فيتغير لونه، ويتمعَّرُ وجهه، ويعلو صوته؛ محذرا منذرا، آمرا ناهيا، قالت عائشة رضي الله عنها: ((ما انْتَقَمَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لِنَفْسِهِ في شَيْءٍ قَطُّ إلا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ الله فَيَنْتَقِمَ بها لله)) رواه الشيخان.



وفي رواية قالت رضي الله عنها: ((ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم منتصرا من مظلمة ظُلمها قطُّ ما لم يُنتهك من محارم الله شيء فإذا انتُهك من محارم الله شيء كان أشدَّهم في ذلك غضبا))



فهذا وصف النبي صلى الله عليه وسلم تحكيه أقرب الناس إليه، وأعلمهم به، فإذا نظرنا إلى سيرته عليه الصلاة والسلام وجدناها لا تعدو وصف عائشة رضي الله عنها؛ فقد أوذي صلى الله عليه وسلم أشد الأذى وما انتقم ممن آذوه وهو قادر عليهم، بل يردُّ إساءتهم بالإحسان، ومن ذلك ما روى أَنَس رضي الله عنه قال: ((كنت أَمْشِي مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً حتى نَظَرْتُ إلى صَفْحَةِ عَاتِقِ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أَثَّرَتْ بها حَاشِيَةُ الْبُرْدِ من شِدَّةِ جَبْذَتِهِ ثُمَّ قال: يا محمد مُرْ لي من مَالِ الله الذي عِنْدَكَ فَالْتَفَتَ إليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثُمَّ ضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ له بِعَطَاءٍ)) رواه الشيخان.



وأما غضبه إذا انتُهكت محارم الله تعالى فشيء عجيب، تكرر في حياته كثيرا، وحكى الصحابةُ رضي الله عنهم من غضبه وتغيِّر حاله، وشدةِ نكيره أخبارا كثيرة جدا، فمن ذلك ما ذكروه من تغير لونه، وتمعر وجهه صلى الله عليه وسلم ومن أقوال الصحابة رضي الله عنهم في ذلك: ((فَتَمَعَّرَ وَجْهُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم)) وفي حديث آخر: ((فتمعر وجهه تمعرا ما كنت أراه إلا عند نزول الوحي)) وفي ثالث: ((فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم)) وفي رابع: ((فعرفت في وجهه الكراهية)) وفي خامس: ((فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم)).



وتارة أخرى يحكي الصحابي غضب النبي صلى الله عليه وسلم، ويصف شدته، ومما جاء في ذلك: ((فغضب النبي صلى الله عليه وسلم)) وفي حديث آخر: ((فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأيته غضب في موضع كان أشدَّ غضبا منه يومئذ))، وفي ثالث: ((فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عُرف الغضب في وجهه)) وفي رابع: ((فغضب حتى احمرت وجنتاه، أو قال: احمر وجهه))



وربما يجثو الصحابي على ركبتيه لما يرى من غضب النبي صلى الله عليه وسلم يخشى أن لا يرضى أبدا، أو أن يُعاجلوا بعقوبة بسبب غضبه، فيستغفر ويتوب ويعتذر مما فعل، ومن ذلك أن مخاصمة وقعت بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فأتى عمرُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم قال أبو الدرداء رضي الله عنه: ((فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعَّر حتى أشفق أبو بكر فجثا على ركبتيه)).



ومع أن الموقف كان في صالح أبي بكر رضي الله عنه إلا أنه خاف من غضب النبي صلى الله عليه وسلم، وخشي أن لا يرضى عن عمر.



وفي بعض الحالات يبكى الصحابة رضي الله عنهم لما يرون من شدة غضب النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك ما جاء في حديث أَنَسٍ رضي الله عنه قال: ((سَأَلُوا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم حتى أَحْفَوْهُ الْمَسْأَلَةَ فَغَضِبَ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فقال: لَا تسألونني الْيَوْمَ عن شَيْءٍ إلا بَيَّنْتُهُ لَكُمْ فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ يَمِينًا وَشِمَالًا فإذا كُلُّ رَجُلٍ لَافٌّ رَأْسَهُ في ثَوْبِهِ يَبْكِي)) وفي رواية: ((فَأَكْثَرَ الناس الْبُكَاءَ وَأَكْثَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقُولَ سَلُونِي.... ثُمَّ أَكْثَرَ أَنْ يَقُولَ سَلُونِي سَلُونِي فَبَرَكَ عُمَرُ على رُكْبَتَيْهِ فقال: رَضِينَا بِالله رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم رَسُولًا، قال: فَسَكَتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال عُمَرُ ذلك)) وفي رواية قال أنس رضي الله عنه: ((فما أتى على أَصْحَابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَوْمٌ أَشَدُّ منه قال: غَطَّوْا رؤوسهم وَلَهُمْ خَنِينٌ)).



هكذا كان غضب النبي صلى الله عليه وسلم إذا انتهكت حرمات الله تعالى، أو عُطلت فرائضه، أو تعدى الناس حدوده، فأين اقتداؤنا بالنبي صلى الله عليه وسلم؟ وما حالنا مع المنكرات والموبقات التي يعلن بها أهل الشر والفسق والفساد، ويؤصِّل لها أهل الزندقة والردة والإلحاد؟ هل تحركت القلوب لأجل ذلك؟ وهل نطقت الألسن منكرة لها، واعظة أصحابها؟ وهل كتبت الأقلام شيئا في نقدها، وتخويف الناس منها؟ وهل وجلت النفوس من عقوبات الله تعالى أن تتنزل على العباد بسبب سكوتهم وخنوعهم؟ وما حال الناس لو انتقص شيء من دنياهم؟



لقد عظَّم كثير من الناس بعضَ الخلق أكثر من تعظيمهم لله تعالى، وعَظُمت الدنيا في قلوبهم فأزاحت الآخرة؛ يرون حرمات الله تعالى تنتهك فلا تتحرك قلوبهم، ولا تتمعر وجوههم، ولا يغضبون لله تعالى، وكأن الأمر لا يعنيهم، فإذا بُخِس شيء من دنياهم فلا تسألوا عن شدة غضبهم، وتحرك قلوبهم، واضطراب أحوالهم؛ فتتحرك قلوبهم بالنقد والإنكار، وتقوى ألسنتهم على الكلام، وينطلق مدادهم بالكتابة وفري الأعراض.



ومن أدلة ذلك ما وقع من خسائر الأسهم وغلاء الأسعار التي اجترأ الناس على الحديث والنقد اللاذع فيها، في مقابل ما سكتوا عنه من مشاريع الفساد وقرارات الإفساد التي لا تمس دنياهم، ولا سيما ما يتعلق بالمرأة والإعلام، فأين الغضب لله تعالى؟ وأين الغيرة على حرماته أن تنتهك؟



نسأل الله تعالى أن يعفو عنا، وأن لا يعذبنا بذنوبنا، ولا بما فعل السفهاء منا، إنه سميع قريب.



أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 104-105].



بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...





الخطبة الثانية


الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.


أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحديد: 28].



أيها المسلمون: لقد انبرى المنافقون والمنحرفون في عصرنا لبتر هذه الأمة عن عامل حفظها، وقطعها عن سبب خيريتها وهو الاحتساب على الناس بأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وشنَّوا على هذه الشعيرة العظيمة حربا لا هوادة فيها. مدَّعين أنها سببٌ لتقييد الناس، والحدِّ من حرياتهم، والتدخل في خصوصياتهم، داعين الناس إلى أن يكونوا أحرارا، يفعلون ما يريدون، لا يؤمرون ولا يُنهون!!



وتالله إن هذا لهو دين المشركين الذي جاء النبي صلى الله عليه وسلم لمحاربته وتغييره، وإخراج الناس منه إلى العبودية لله تعالى، والاستسلام لأمره، وقد رأينا كيف كان غضب النبي صلى الله عليه وسلم إذا انتهكت محارم الله تعالى، وكيف كان يحتسب على أصحابه.



بل كان الناس يضربون في السوق على المعاملات المحرمة؛ كما روى ابنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: ((أَنَّهُمْ كَانُوا يُضْرَبُونَ على عَهْدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إذا اشْتَرَوْا طَعَامًا جِزَافًا أَنْ يَبِيعُوهُ في مَكَانِهِمْ حتى يؤوه إلى رِحَالِهِمْ)) رواه البخاري.



قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: ((ويستفاد منه جواز تأديب من خالف الأمر الشرعي فتعاطى العقود الفاسدة بالضرب ومشروعية إقامة المحتسب في الأسواق)).



إن أعظم سياج يحفظ الأمة من الانحراف والجهل إحياء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ولذا فإن أهل النفاق والانحراف يحاربونه وأهله حربا ضروسا مستخدمين فيها ما يشرع وما لا يشرع؛ ليحرفوا جمهور الناس عن دينهم.



ولأنهم ذرائعيون نفعيون، لا يؤمنون بأي قيمة أخلاقية إلا إذا كان فيها مصلحة آنية؛ فإنهم يؤمنون بأن الغاية تبرر الوسيلة، وأن أهدافهم يجب تحقيقها ولو أُخفيت الحقائق، ودُلِّس على الناس، واتُهم الأبرياء، وزُكِّي المجرمون، فارضين وصايتهم على عقول الناس؛ فيختلقون الأكاذيب، وينشرون الشائعات، ويضخمون الأخطاء على أهل الاحتساب.



وفي الأيام الماضية قدَّمت مراكز البحوث في بعض الجامعات -وهي جهاتٌ محايدة- بحوثا ميدانية، ودراسات مسحية متخصصة عن جهاز الحسبة، قارنت فيها منجزات الهيئة في القضاء على الجرائم والمخدرات وحفظ الأمن مع أخطاء بعض منسوبيها فكانت النتائج مذهلة جدا، وكانت الأخطاء قليلةً مضمحلةً في بحرٍ من الإنجازات المشكورة، وكانت الدعاوى الصُحفية الإعلاميةُ ضد الهيئة بين مختلَق لا أصل له، وبين أخطاء قليلة نفخوا فيها حتى صارت أمثال الجبال؛ بقصد حشد الرأي العام ضد هذا الجهاز المبارك.



وقد تمالأ الإعلام الفاسد المفسد المضلل بصحفه وقنواته، ورؤوسه وأذنابه على إخفاء نتائج هذه الدراسات مع أهميتها وحياديتها، وحاجة الناس إلى معرفتها؛ لأنها لا توافق أهواءهم الفاسدة، وآراءهم الكاسدة، وتقطع الطريق على مخططاتهم الإجرامية في الفساد والإفساد، وضخوا في مقابلها سيلا من الأكاذيب والإشاعات ضد الحسبة ورجالها، فلمن يعمل هؤلاء الصُحفيون والإعلاميون؟ ومن يخدمون؟ وإلى أي الجهات الأجنبية ينتمون؟!



وفي زمن قد فرض فيه هذا الإعلام الأُحاديُ الكاذب المفسد على الناس فإن مما يجب أن ينتبه له المسلم، ويخافه على نفسه، ويحذر منه أشد الحذر، بغض المحتسبين الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وتمني زوال هذه الشعيرة العظيمة؛ فإن بغضها وتمني زوالها هو بغض لشعيرة من شعائر الإسلام، بل هي من أظهر الشعائر وأعظمها، وهي السبب الأول في تبليغ الإسلام، وحفظ الناس من الضياع.



ولا يختلف العلماء في كفر من أبغض شيئا مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وبلَّغه من دين الله تعالى، فليحذر المسلم أن يداخل قلبه شيء من ذلك، ولا سيما مع كثرة ما يتقيئوه المفسدون والزنادقة في صحفهم وقنواتهم من الكراهية والكذب والتجني على الحسبة والمحتسبين.



هذا؛ وإن مما خَبَرَه أهلُ الحسبة بتجاربهم، وأصحابُ الشرط بدورياتهم أن مواسم اختبارات الطلاب والطالبات مرتع خصب، وفرصة سانحة للمفسدين والمفسدات، والمروجين للمخدرات، يصطادون بها أبناء المسلمين وبناتهم، بسبب الضغوط النفسية عليهم، وأكثرُ ما يُروَج من المخدرات، والحبوب المسَهِّرة في مثل هذه الأيام؛ فليحذر أولاد المسلمين من ذلك، ولينتبه لهم أولياؤهم، ويبينوا لهم خطورة تجريب ما يُدَّعى أنه علاج للصداع وهم لا يعرفونه، أو دواء للسهر، أو مهدئ للأعصاب، أو معين على التركيز، أو غيره مما يحتال به المفسدون والمروجون لهذه السموم.



وبقاء الطلاب عند المدارس عقب انتهاء اختبارهم فترة طويلة، أو ذهابهم مع من لا يعرفه الآباء من أقرانهم وزملائهم فرصة لأهل الفساد والانحراف للإيقاع بهم في المخدرات والفساد الأخلاقي الذي لا تحمد عقباه، وأولادكم أمانة في أعناقكم، وسوف تسألون عن أماناتكم: ((ألا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مسؤول عن رَعِيَّتِهِ)).



اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت...


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 24-06-2020, 03:18 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 153,816
الدولة : Egypt
افتراضي رد: احتساب النبي صلى الله عليه وسلم

احتساب النبي صلى الله عليه وسلم(4)
الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل




أنواع إنكاره - صلى الله عليه وسلم -
الحمد لله رب العالمين، هدَى عبادَه إلى دينه القويم، ودلَّهم على صراطه المستقيم، فمنهم من قبِل عن الله تعالى هدايتَه، وأقبل على عبادتِه، وأخذ بدينه، ولزِم شريعته؛ فكان من المفلحين، ومنهم من تنكَّب طريقَه، وأعرض عن دينه، ورفَض شريعته؛ فكان من الخاسرين؛ {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الله وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأعراف: 30].

نَحمَده حمْد الشاكرين، ونستغفره استغفار المذنبين، ونسأله من فضله العظيم، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، تفرَّد بالأمر الكوني والأمر الشرعي، فهو الخالق المدبِّر، وهو الآمر الناهي؛ {أَلَا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ} [الأعراف: 54].

وأشهد أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه، كان أحسنَ النَّاس خلقًا، وأسْمحهم نفسًا، وأرقَّهم قلبًا، وألْيَنهم جانبًا، ولكنَّه كان أشدَّ النَّاس غضبًا إذا انتُهِكت مَحارم الله تعالى، فينتَصِر لله تعالى، ولا يغضب لنفسه، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليْه وعلى آله وأصحابه؛ كانوا أئمَّة هدى يُقتدى بهم، ودعاةَ خير يُقتفى أثرهم، اختارهم الله - تعالى - لصحبة نبيِّه، فكانوا خيْر صحْب لخير نبي، فرضي الله - تعالى - عنهم وأرْضاهم، ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أمَّا بعد:

فاتَّقوا الله - عباد الله – وأطيعوه؛ {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} [البقرة: 123].

أيُّها الناس:

مِن حكمة الله تعالى في عباده أن ابتلى بعضهم ببعض، وقسمهم إلى فريقين: دعاة خير وهدى، وأرباب شرٍّ وهوى، فأهل الخير والهدى يؤمنون بالله تعالى، ويدعون لدينه، ويقيمون شريعته، ويحتسبون على النَّاس؛ فيأمرونهم بالمعروف، وينهَوْنَهم عن المنكر، {وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ} [التوبة: 71].

وهؤلاء هم خيار النَّاس، وأفاضل البشر؛ يقول الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِالله} [آل عمران: 110].

وأمَّا أرباب الشَّرِّ والهوى فهم الذين يصدُّون عن سبيل الله تعالى، ويحاربون دينه، ويعادُون أولياءه، ويأمرون بالمنكر، وينهَوْن عن المعروف، وينشرون الفساد في الناس؛ {المُنَافِقُونَ وَالمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ} [التوبة: 67].

ومن تأمَّل سِير الأنبياء - عليهم السلام - مع أقوامهم، بان له أنَّهم كانوا دعاة خير وهُدى، وأنَّ معارضيهم كانوا أرْباب شرٍّ وهوى، وأنَّ من أراد السَّير على هَدْي المرسلين فلا بدَّ أن يكون من المحتسبين على الناس: يأمرهم بالمعروف وينهاهُم عن المنكر، كما تدلُّ سِيَر الأنبياء مع أقوامِهم على أنَّ من عارض الحسبة أو حارب أهلها، فهو ينتحِل مذاهِبَ أعداء الرُّسل - عليهم السلام - وينتظم في صفوف المُفْسدين في الأرض من أهل الأهواء الضالَّة، والآراء المنحَرِفة.

ونبيُّنا مُحمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان إمامَ المحتَسِبين، وأمرنا بالاحتِساب على النَّاس، وحذَّرنا من التَّهاوُن في هذا الجانب المهمِّ من دين الله تعالى؛ فقال - عليه الصَّلاة والسلام -: ((والذي نفسي بيدِه، لَتأمُرُنَّ بِالمَعْرُوفِ ولَتَنْهَوُنَّ عَنِ المُنْكَرِ، أو لَيوشِكَنَّ الله أن يَبْعَثَ عليْكُمْ عِقابًا من عِنْدِهِ، ثُمَّ لَتَدْعُنَّهُ، فَلا يَسْتَجِيبُ لكُمْ))؛ رواه أحمد.

ومَن نظَرَ في السُّنَّة النبويَّة، يَجد أنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - نوَّع في الإنْكار على المُخالفين بِما يحقِّق المصلحة، ويُزيل المنكر، ولا يُخلِّف مفسدةً أكبَر، وكانت هذه الأحوال منه - عليه الصلاة والسلام - في التَّعامل مع المنكر وأهلِه تشريعًا لأمَّته؛ ليسيروا على هديه، ويلزموا طريقته.

فكان تارةً يغيِّر المنكر بيدِه ويبيِّن سببَ ذلك؛ ليعلَمَ صاحب المنكر لِمَ غيَّره؛ كما في حديث عائِشة - رضي الله عنْها - قالت: دخل عَلَيَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وفي البَيْتِ قِرامٌ فيه صُوَرٌ، فتَلوَّنَ وجْهُهُ، ثُمَّ تَناوَلَ السِّتْرَ فهَتَكَهُ، وقال: ((من أَشَدِّ النَّاس عَذابًا يوم القِيامة الَّذِينَ يُصَوِّرُونَ هذه الصُّوَرَ))؛ رواه الشَّيخان.

ومرةً رَأَى خاتَمًا من ذَهَبٍ في يد رَجُلٍ، فَنَزَعَهُ فَطَرَحَهُ، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يَعْمِدُ أحدُكم إلى جَمْرة من نارٍ، فَيَجْعَلُها في يَدِه))؛ رواه مسلم.

ولرُبَّما ظهر على حالِه - صلَّى الله عليْه وسلَّم - شدَّةٌ وغضب في إنْكارِه للمُنْكر؛ غيرةً لله تعالى، وتربيةً لِمن يرونه: أن لا يتهاونوا بالمنْكَر؛ لأنَّ تهاوُنَهم به يؤدِّي إلى اعتياده ثم أُلْفَتِه، وهو عند الله - تعالى – عظيم.

عن عُقْبة بن عامِرٍ - رضِي الله عنه - قال: أهديَ لِرَسُولِ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - فَرُّوجُ حَرِيرٍ، فلَبِسَهُ ثمَّ صلَّى فيه، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَنَزَعَهُ نَزْعًا شديدًا كالكارِهِ له، ثُمَّ قال: ((لا يَنْبَغِي هذا لِلمُتَّقِين))؛ رواه الشَّيخان.

فجمع - عليْه الصَّلاة والسَّلام - في هذه الحوادِث المتعدِّدة بيْن إزالة المُنْكر، والإنْكار بالقَوْل، وبيان سببِ الإنْكار؛ لإفادةِ المُحتسَب عليْهم وتعليمِهم.

وأمَّا الإنْكار بِاللِّسان، فسُنَّته - عليْه الصَّلاة والسَّلام - وسيرتُه مليئتانِ بِذلك، وكلُّ ما نَهى عنْه في سُنَّته، فهو: إمَّا نَهي عن المُنْكر قبل وقوعِه، أو إنكارٌ له بعد وقوعِه، ولا يكاد ذلك يُحصى من كثرته.

إنَّ رسولَنا محمَّدًا - صلَّى الله عليه وسلم - كان لا يرى منكرًا، أو يسمع به إلا بادر إلى الإنكار على صاحبه، كائنًا مَن كان، وتنوَّعت أساليبُه في الإنكار باللسان: فتارةً يخصُّ صاحب المنكر بالإنْكار، فيخاطبه مباشرةً؛ كما في حديث عَبْدالله بن عَمْرٍو - رضي الله عنهما - قال: رَأَى رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عليَّ ثوْبيْنِ مُعصْفَرَيْن، فقال: ((إنَّ هذه من ثِيابِ الكُفَّارِ؛ فلا تَلْبَسْها))، وفي روايةٍ قال: ((أَأُمُّكَ أمَرَتْكَ بهذا؟)) قلْت: أغْسِلُهُما؟ قال: ((بَلْ أحْرِقْهُما))؛ رواه مسلم.

وربَّما أغلظ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في القوْل على صاحب المنكر، وكرَّر ذلك؛ لبيان فداحة فعله، وللمبالغة في التَّحذير مما وقع فيه؛ ومن ذلك: أنَّ أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - قتل رجلاً بعد ما نطَق بالشَّهادتين، قال أسامة - رضِي الله عنْه - فقال لي - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((يا أُسامةُ، أقَتَلْتَهُ بَعْد ما قال: لا إلهَ إلا الله؟!))، قال: قلتُ: يا رَسُولَ الله، إنَّما كان مُتَعَوِّذًا، قال: ((أقَتَلْتَهُ بَعْد ما قال: لا إلهَ إلا الله؟!))، قال: فما زالَ يُكَرِّرُها عليَّ، حتى تَمَنَّيْتُ أنِّي لم أكُنْ أَسْلَمْتُ قبل ذلك اليَوْمِ.

وفي رواية: قال: ((فكَيْف تَصْنَعُ بلا إلهَ إلا الله إذا جاءَتْ يوم القِيامة؟!))، قال: يا رَسُولَ الله، اسْتَغْفِرْ لي، قال: ((وكَيْفَ تَصْنَعُ بلا إلهَ إلا الله إذا جاءَتْ يوم القِيامة؟!))، قال: فَجَعَلَ لا يَزِيدُهُ على أَنْ يَقُولَ: ((كَيْفَ تَصْنَعُ بلا إلهَ إلا الله إذا جاءَتْ يوم القِيامة؟!))؛ رواه الشَّيخان.

ولربَّما صعِد المنبر فخطب خطبةً لأجْل إنكار منكر، وقع فيه النَّاس أو بعضهم؛ ليُحذِّرَهم - صلى الله عليه وسلم - مما وقعوا فيه، ومن ذلك ما بلغه - صلى الله عليه وسلم - من خطأ في معاملاتهم باشتراط شروط ليست صحيحة، فصعد المنبر لإنكار هذا المنكر فقال - صلى الله عليه وسلَّم -: ((ما بالُ أقْوامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا ليست في كِتابِ الله؟! من اشْتَرَطَ شَرْطًا ليس في كِتابِ الله، فَلَيْسَ له، وإنِ اشْتَرَطَ مِائة مَرَّةٍ))؛ رواه الشيخان.

وفي بعْض الأحيان يُعلن براءته من المنكر؛ ومن ذلك: أن خالد بن الوليد - رضِي الله عنْه - قتل بعض الأسرى، فأُخبر النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم – بذلك، فقال: ((اللهُمَّ إني أَبْرأُ إلَيْكَ ممَّا صَنَعَ خالِدُ بن الوَلِيدِ)) مَرَّتَيْنِ؛ رواه البخاري.

وفي بعض المنكرات يوجه أصحابَه - رضي الله عنْهم - إلى الشدَّة والغلظة في الإنكار؛ كما في حديث أُبَي بن كَعْبٍ - رضي الله عنْه -: أنَّ رَجُلاً اعْتَزى بِعَزاءِ الجاهليَّةِ، فَأَعَضَّهُ ولم يُكَنِّهِ، فَنَظَرَ القَوْمُ إليه، فقال لِلقَوْمِ: إني قد أرَى الذي في أنْفُسِكُمْ، إني لم أسْتَطِعْ إلا أن أقُولَ هذا، إنَّ رَسُولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أَمَرَنا ((إذا سَمِعْتُمْ مَن يَعْتَزِى بِعَزاءِ الجاهِلِيَّةِ، فَأَعِضُّوهُ، ولا تُكَنُّوا))؛ رواه أحمد.

وروى هَمَّامُ بن الحارِثِ: أَنَّ رَجُلاً جَعَلَ يَمْدَحُ عُثْمانَ، فَعَمِدَ المِقْدادُ فَجَثا على رُكْبَتَيْهِ، وكان رَجُلاً ضَخْمًا، فجَعل يَحْثُو في وجْهِهِ الحَصْباءَ، فقال له عُثْمانُ: ما شَأْنُكَ؟ فقال: إنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا رَأَيْتُم المَدَّاحِينَ، فاحْثُوا في وُجُوهِهِمْ التُّرابَ))؛ رواه مسلم.

وهو - صلى الله عليه وسلم - مع هذا الإنكار باليد واللسان، وتوجيه أصحابه إلى الأنسب في الإنكار - لم يكن - صلى الله عليه وسلم - يقتصر على الإنْكار بالقلب وحْدَه إلا لتحصيل مصلحة راجحة، أو لدَفْع منكر أعظم، وليس مداهنةً للخَلْق، أو خوفًا منهم، فكان منهجه في الإنكار وسطًا بين المفَرِّطين الذين يروْن حرمات الله - تعالى - تُنتهك فلا يُنْكِرون، ولا تتحرَّك قلوبُهم لذلك، وبين المفْرِطين الذين يُغالون في الإنكار دائمًا، وربَّما خَلَّفوا بإنكارِهم مُنْكرات أعظم؛ لجهلهم بالهَدْي النبوي أو عدم التِزامِهم به، وواجب على المحتسبين أن يشتدُّوا في الإنكار في مواطن الشِّدَّة، ويلينوا في مواطن اللِّين، وواجب على عموم المسلمين: أن يَحتسبوا على أهل المنكرات، فيأمروهُم بالمعروف وينهَوْهم عن المنكر؛ لئلا يُعذَّب العامَّة بأفعال الخاصَّة من أهل الفساد والمُنْكرات، وسكوت البقيَّة عنهم؛ {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ} [الأنفال: 25].

بارك الله لي ولكم في القُرآن العظيم.



الخطبة الثانية

الحمدُ لله حمدًا يليق بِجلالِه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، وأتباعه إلى يوم الدين.

أمَّا بعد:

فاتقوا الله ربكم؛ {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281].

أيُّها المسلمون:

إنَّ وظيفة الاحتِساب على النَّاس في منكراتهم ومُخالفاتهم هي وظيفة الرسل - عليهم السلام - وإنَّ محاربة الحسبة وأهلِها هو عمل المشركين والمنافقين والمفسدين في الأرض، من عهد نوح - عليه السلام - إلى يومِنا هذا؛ ولذا نَجِدُ في عصْرِنا هذا اتفاقَ اليهود والنَّصارى والملاحدة في الخارج، مع المفْسِدين في الدَّاخل، من المنافقين والجهلة والشَّهْوانيين: على المطالبة بإلْغاء جهاز الحسبة؛ لأنَّ في إلغائه تعطيلاً لأعظم شعيرة نالتْ بِها هذه الأمَّة خيريَّتها.

ورَغْم أنَّ أعداء الإسلام في دُوَلِهم الكبرى، ومنظَّماتِهم الأُمَميَّة يزعُمون أنَّهم مع تقْرير الشعوب لمصيرها، ودعْمهم لِما تختار من حرِّيَّاتِها - فإنهم لا يتركون الشعوب إن اختارت الإسلام، ورضيت بأحكامه، ويتواصَوْن في منظَّماتهم على إطفاء وهج الإسلام بالقضاء على شعيرة الأمر بالمعروف والنَّهْي عن المنكر؛ لأنَّها أكبر حِصْنٍ يَحفظ الأُمَّة من الانْحِراف، ويمنع الفساد، وينشُر الإسلام.

لقد تواصى المفسدون من قوم لوطٍ في نواديهم على الفضيلة، وتنادَوْا بنشر الرذيلة، وقالوا {أَخْرِجُوا آَلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل: 56]، وتنادى المفسدون في عصرنا هذا كما تنادى أسلافهم من قبل، فقضَوْا على الفضائل، ونشروا الرَّذائل، وشرَّعوا لها في إعلامهم المنحرِف، وأعْلَنوا حربَهم على أهْلِ الصَّلاح والاحتِساب، وتمنَّوا اليوم الذي يرَوْن فيه النَّاس كالحُمُرِ يَنْزُو بعضُها على بعض.

إنَّ المفسدين في هذا الزَّمن قد فرضوا الاختِلاط على النَّاس، وسَخِروا من الحجاب، وأفسدوا نِساء المسلمين وبناتِهم بالإعلام، ومرَّدوهنَّ على أُسرهن وعلى المجتمَع، وحاربوا الحسبة والمحتسبين، وما بقي من إفسادهم إلا الإجْهاز الكامل على جهاز الحسبة فطالبوا بإلغائه، وحاولوا دمْجَه في غيره، ويسعَوْن جاهدين لتحْجيم صلاحياته، وإفراغه من مهمَّته الحقيقية عبر ما يسمُّونه تنظيمًا وتطويرًا، وما هو إلا إفساد وتدمير لشعيرة الأمْر بالمعروف والنَّهي عن المنْكر.

إنَّ انتشار الفساد سببُه غياب الرَّقيب والعِقاب، وإذا نُشِر الفساد عمَّ معه الإجرام، فلا يأمن النَّاس على أعراضِهم وأموالهم، وذلك مُؤْذن بِخراب الدِّيار، وتنزُّل العقوبات؛ فإنَّ الله - تعالى - يغار على حرُماته أن تُنْتَهك، فإذا انتَهَكها المفْسِدون وجاهروا بِها، ولم يكن في النَّاس من يَحتسب عليهم، حقَّت عليهم سُنَن الله تعالى، واستحقُّوا العذاب.

إنَّ أكثر النَّاس لا يهتمُّون بشعيرة الحِسْبة، ولا يُلْقُون لها بالاً، ولا يرفعون بِها رأسًا مع أنَّها سببٌ مهمٌ للأمْن ورغد العيش، بل بعضهم يتمنَّى زوالَها ولا يعلم ما هي العواقب التي تنتج عن ذلك، وأمَّة بني إسرائيل ما حُرِّف دينُها، وسُلبت خيْريتَها، وتنزَّلت عليها العقوبات إلا لمَّا داهن رهبانُهم في دين الله تعالى، ولم يحتسِبوا على النَّاس، وعطلوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فحذارِ حذارِ أن نسير سيرتَهم؛ وقد نهانا الله - تعالى - عن ذلك بقوله سبحانه: {وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16].

فكونوا - رحمكم الله تعالى - مع الحسبة والمحتسبين؛ فإنَّ في ذلك حسنةَ الدنيا والآخرة، واحذروا مشاريع المنافقين والمفْسدين؛ فإنَّهم يُورِدون المهالك؛ والله - تعالى - قد حذَّرنا منهم، ونَهانا عن طاعتِهم؛ {وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ المُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} [الشعراء: 151- 152].

وأيُّ فسادٍ أعظم من فساد مَن يُريدون تبديلَ دين الله تعالى، وتعْطيل شريعته، وصدَّ الناس عن عبادة ربهم إلى اتِّباع أهوائهم، بإبطال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقضاء على جهاز الحسبة الذي يقوم بذلك، وتحجيم صلاحياته، وجعله شكلاً بلا مضمون، واسمًا بلا مسمى، وترْك الناس وما يهوَوْن على طريقة المشركين الذين حاربهم الرُّسل - عليهم السلام - وأبطلوا مذهبهم، ردَّ الله تعالى كيد المفسدين إلى نحورهم، وحفظ البلاد والعباد من شرورهم، ونصر أهل الصلاح والإصلاح عليهم، إنه سميع مجيب.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 24-06-2020, 03:19 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 153,816
الدولة : Egypt
افتراضي رد: احتساب النبي صلى الله عليه وسلم

احتساب النبي صلى الله عليه وسلم(5)
الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل




أصناف المحتسَب عليهم


الحمد لله مالك الملك، وخالق الخلق، ومدبر الأمر {عَالِمِ الغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [سبأ: 3].

نَحمده كما ينبغي له أن يُحمد، ونشكره فهو أحقُّ أن يشكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحديد: 2].

وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله، أرسله - تعالى - بالهدى ودين الحقِّ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، فبصَّر به من العمى، وأنقَذ به من الرَّدى، وهدى به من الضلالة، صلى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، سادة هذه الأمَّة وأعلامها وهداتها، والتَّابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أمَّا بعد:

فاتَّقوا الله ربَّكم، واعرفوا حقَّه عليكم، واشكروه على ما هداكم وأعطاكم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ الله يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [فاطر: 3].

أيُّها الناس:

دين الإسلام هو دينُ العبوديَّة لله - تعالى - وحْده لا شريك له، والخضوع لأمره الشرعي إقرارًا بأمْرِه الكوني؛ فهو - سبحانه وتعالى - خالق الخلق ومدبِّرُهم، وهو آمرهم وناهيهم، فوجب عليهم أن يستسلموا له - سبحانه - بإقامة دينه، واتباع شريعته {أَلَا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ} [الأعراف: 54]، {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].

ولا يخضع النَّاس كلُّهم لشريعة الله - تعالى - ويلتزِمون أحكام دينِه، بل أكثرهم يستنكِفون عن عبادته، ويَخرجون على أمره ونهيه - عزَّ وجلَّ - لأنَّ النفس البشرية نزَّاعة للهوى، محبَّة للشهوة، ولأجل ذلك شرع الله - تعالى - الاحتساب على النَّاس لتعبيدهم لربِّهم، وكفِّهم عن غيِّهم.

وهذا الاحتِساب يكون على الكافر بدعْوته إلى الإسلام، وترغيبه فيه، فإن امتنع عنه احتُسب عليه بمنعه من إظْهار شعائر الكفر في بلاد المسلمين.

ويكون الاحتِساب على عصاة المسلمين بإعانتهم على شياطينِهم وأنفُسِهم الأمَّارة بالسوء، وذلك بحجْزِهم عن المعاصي وأسبابِها؛ لتحصيل مصالحِهم العاجلة والآجلة، فإنَّ معصية الله تعالى تكون وبالاً على أصحابها في الدنيا والآخرة، وأيضًا لحفظ المجتمع من عوامل التحلل والانهيارِ وأسبابِ العقوبات؛ فإنَّ الله - تعالى - يغار على مَحارمه، وقد يُنْزِل عقوبته بأمم يجاهر فيها بمعصيته سبحانه.

ونبيُّنا محمد - صلَّى الله عليْه وسلَّم - قد احتَسب على أصناف أهْل الكفر الذين عاشوا معه وخالطوه وساكنوه بلادًا واحدة:
ففي مكَّة احتسب على المشْركين في شِرْكهم، ونَهاهم عمَّا يقع منهم من مُنكرات في حقِّ الله تعالى، وذلك أكثر من أن يُحصر، بل إنَّه - عليه الصلاة والسلام - كان ينكر عليهم خطأهم في عبادةٍ أصلُها صحيح، فقريش ورِثت الحجَّ من دين الخليل - عليه السلام - وبقيت شعائره فيهم، إلا أنَّهم حرَّفوا بعضَها، فكان النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - يُنْكِر عليهم ذلك، كما أنْكر عليهم تلبِيَتهم التي فيها شرك.

روى ابنُ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: "كان المُشرِكُون يَقولونَ: لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لك، قال: فيقول رسولُ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((وَيْلَكم قَدٍ قَدٍ)) فيَقولونَ: إلا شَرِيكًا هو لك، تَمْلِكُهُ وما مَلَكَ، يقولُونَ هذا وهُمْ يَطوفونَ بِالبَيْتِ"؛ رواه مسلم.

فكان في تلبيتهم شركٌ أنْكره النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم -، وأمرهم بالاقتصار على ما فيها من توحيد.

ولما هاجر - صلَّى الله عليْه وسلَّم - إلى المدينة، وجاوره اليهود فيها، وكتب الميثاق بينهم وبين المسلمين؛ أنكر - صلَّى الله عليْه وسلَّم - على اليهود بقاءَهم على يهوديتهم، ولم يترك الاحتِساب عليهم مع إقْرارهم على دينهم؛ كما في حديث أبي هُرَيرةَ - رضي الله عنه - قال: "بَيْنَما نَحْنُ في المَسجِدِ إذْ خَرَجَ عَلَيْنَا رسولُ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - فقال: ((انْطَلِقُوا إلى يَهُودَ)) فَخَرَجْنَا معه حتى جِئْنا بَيْتَ المِدْراسِ، فقامَ النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - فناداهُمْ: ((يا مَعْشَرَ يَهُودَ أسْلِمُوا تَسْلَمُوا)) فقالوا: قد بَلَّغْتَ يا أبا القاسِمِ، فقال: ((ذلك أُرِيدُ)) ثُمَّ قالها الثَّانِيةَ، فَقَالُوا: قد بَلَّغْتَ يا أبَا القَاسِمِ، ثُمَّ قال الثَّالِثَةَ"؛ رواه الشيخان.

فكان النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - قدوةً لِمن يخالطون الكفَّار من الوثنيِّين أو أهل الكتاب، سواء في الدول الإسلامية أو دول الكفر، في أن يَحتسبوا عليهم، ويدعوهم للإسلام بالَّتي هي أحسن، ويبيِّنوا لهم خطأَ ما هم عليْه من الاعتِقاد والأعْمال، كما دعا النبيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - اليهودَ إلى الإسلام، ونَهى قريشًا عن شركها في التلبية.

وبعد غزْوة بدْر ظهر النِّفاق في هذه الأمَّة، وأظهر أقوامٌ إيمانهم، وأبطنوا كفرهم، وعاملهم النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - بظاهر حالهم، ووكل سرائرهم إلى الله تعالى، وقد أخبره ربه - سبحانه - خبر المنافقين، ومع ذلك لم يترك - صلَّى الله عليْه وسلَّم - الاحتساب عليهم بحجَّة أنهم منافقون، بل كان يعاملهم في الظَّاهر معاملة المسلمين، وينكر عليهم ما يصدر منهم من مخالفات، ومن ذلك أنَّ أبا عامر الفاسق المنافق أمر ببناءِ مسجد الضرار؛ ليضارَّ به مسجد قباء، وليفرِّق كلمة المسلمين، وزعم أنَّه إنَّما ابتناه للمرضى والضعفاء ممن يعسر عليهم الوصول إلى مسجد قباء، وطلب من النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - أن يصلي فيه؛ ليحتجُّوا بصلاته فيه على إقْراره وإثباته، ولكنَّ الله تعالى أخبر نبيَّه - صلَّى الله عليْه وسلَّم - بِمقصد المنافقين، فلم يُجامِلْهم بصلاته فيه، بل لم يكتَفِ بتَرْك الصَّلاة فيه، وأرْسل مَنْ يَهْدِمه ويحرقه؛ إنكارًا لهذا المنْكَر العظيم وإزالةً له.

وهذا دليلٌ على أنَّه يَجب الاحتِساب على أهْل النِّفاق والزَّندقة، وإفْشال محاولاتهم في الكيد للإسلام، والنَّيل من شعائِره وأحكامه، وبيان حالِهم ومقولاتهم لعامَّة النَّاس؛ ليتَّقوا شرَّهم، ويحذروا كيدهم ونفاقهم.

ولا يجوز مُجاملتهم بِحضور مجالسهم ومنتدياتهم، إلا لدعوتِهم ووعظهم وتذكيرهم بالله تعالى، والإنكار عليهم، فمن لم يطق ذلك لضعفه، وجب عليه مفارقتهم، ويتأكَّد ذلك إذا احتوت مجالسهم على سخرية بدينِ الله تعالى، أو قولٍ عليه بلا علم، أو إذابة لأحكامه، ومسخٍ لشريعته، بإباحة المحرمات والتَّقليل من شأن الواجبات، ومحاولة انتِزاع النَّاس من عبوديَّتهم لله تعالى إلى عبوديَّة أهوائِهم تَحت ما يُسمَّى بالحريَّة.

ويدخل في معنى تلك المجالس القنوات الفضائيَّة والصحف والمجلات التي تفسد العقول والفطر، وتدعو إلى التحلُّل والكفْر، فلا يجوز إقرارُها، ولا إسلامُ الأهْل والولَد لها لتمسخ فطرهم، وتفسد دينهم وأخلاقهم.

وكما شمل احتِساب النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - الرجال؛ فإنَّه - عليه الصلاة والسلام - احتسب على النِّساء والأطْفال، ومن ذلك أنَّه لما ضرب عددٌ من أزواجه - رضي الله عنهنَّ - أخبيتهُنَّ في المسجد للاعتكاف، وعلم - صلَّى الله عليْه وسلَّم - أنَّه ما حملهنَّ على ذلك إلا الغيرة والقرب منه، وخاف عليهِنَّ الرياء والسمعة، ترك الاعتِكاف في ذلك العام مع مداومته عليه؛ إنكارا عليهنَّ - رضي الله عنهن - وقال- صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((ما حَمَلَهُنَّ على هذا؟ آلبِرُّ؟ انْزِعُوهَا، فلا أراها))، فنُزِعَتْ فلم يَعْتَكِفْ في رَمَضانَ حتى اعْتَكَفَ في آخِرِ العَشْرِ من شَوَّالٍ"؛ رواه الشيخان.

وأنكر - صلَّى الله عليْه وسلَّم - على عائشة - رضي الله عنها - صورًا في بيتها، كما قالت: دخل عَلَيَّ النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - وفي البَيْتِ قِرامٌ فيه صُوَرٌ، فتَلَوَّنَ وَجْهُهُ، ثُمَّ تَناوَلَ السِّتْرَ فهَتَكَهُ، وقالَ: ((من أَشَدِّ النَّاس عذابًا يوم القِيَامَةِ الَّذينَ يُصَوِّرونَ هذه الصُّوَرَ))؛ رواه الشَّيخان.

والاحتِساب على الأطفال مطلوب ولو كانوا غير مكلَّفين؛ وذلك لتربيتهم على الصواب، ولئلا يقع الحاضرون في إثم إقرارِ منكرٍ لم ينكروه؛ ولذلك أنكر النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - على بعْضِ الأطفال مع أنَّهم غير مؤاخذين شرعًا بأفعالهم، كما في حديث أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قال: "أخَذَ الحَسَنُ بن عَلِيٍّ - رضي الله عنهما - تَمْرَةً من تَمْرِ الصَّدَقَةِ، فجَعَلَها في فيه، فقال النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((كِخْ كِخْ)) لِيَطْرَحَهَا ثُمَّ قال: ((أما شَعرْتَ أنَّا لا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ!))؛ رواه الشيخان.

وقال عُمَرُ بن أبي سَلَمَةَ - رضي الله عنه -: "كنت غُلامًا في حجْرِ رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - وكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ في الصَّحْفَةِ، فقال لي رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((يا غُلامُ، سَمِّ الله، وكُلْ بِيَمِينِكَ، وكُلْ مِمَّا يَلِيكَ)) فما زَالَتْ تِلْكَ طعْمَتِي بَعْدُ"؛ رواه مسلم.

فاستفاد هذا الغلام من هذا الإنكار بأن تعلَّم آداب الأكل، واستمرَّ عليْها.

وهكذا كانت حياة المصطفى - صلَّى الله عليْه وسلَّم - كلها احتساب على أمته بتعليم جاهلهم، وردْع مكابرهم، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وهو أسوتنا في إقامة هذه الشعيرة العظيمة.

نسأل الله تعالى أن يوفِّقنا لفعل الخيرات، وترك المنكرات، وإقامة دينه في شئوننا كلها، وأقول ما تسمعون.



الخطبة الثانية

الحمد لله حمدًا طيِّبًا كثيرًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، نَحمده على نِعمه وآلائه، ونشكُره على فضلِه وإحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحْده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

أمَّا بعد:

فاتقوا الله تعالى وأطيعوه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 – 71].

أيها المسلمون، من طالع سيرة النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - فيما يتعلق بالاحتساب، وجد أنه - صلَّى الله عليْه وسلَّم - قد احتسب على كل الناس، قريبهم وبعيدهم، صغيرهم وكبيرهم، رجالهم ونسائهم، مسلمهم وكافرهم، مؤمنهم ومنافقهم؛ وذلك امتثالا لأمر الله تعالى حين خاطبه - سبحانه – بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28].

ومن أراد التَّأسِّي به فليَكُنْ من المحتسِبين، الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فيرشدون النَّاس إلى ما ينفعُهم، ويحذرونَهم مما يضرهم.

إن شعيرة الحسبة هي من أعظم شعائر هذا الدين، بل إنَّ قيام الدين لا يكون إلا بها، ولو عُطلت لكان ذلك سببًا لاندراس الإسلام، وإبطال الشريعة، وذهابِ أثرها من قلوب الناس، ومع ذلك فإنَّ كثيرًا من المسلمين قد يَضيق ذرعًا بهذه الشعيرة، ويجِدُ حرجًا في نفسه منها، وودَّ لو أن الله - تعالى - ما فرضها، وهذا من الاعتِراض على دين الله تعالى، وعدم التسليم لأمره سبحانه، ومن الافتيات عليه، والاستدراك على شريعته، والله تعالى يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36].

وهذا الحرج الذي يجِدُه بعض الناس في شعيرة الحِسْبة، سببه كثرة الطعون الدوليَّة والإعلاميَّة على شعيرة الحسبة ومَن يقومون بها؛ فإنَّ الكفَّار والمنافقين قد جعلوا من أهمِّ أهدافهم القضاء على الحسبة؛ وذلك لنقل النَّاس من عبوديتهم لله تعالى، والتِزام دينه، إلى عبوديَّة أهوائهم، والانسياق خلف شهواتِهم على الطريقة الإلحاديَّة الغربيَّة، التي بُهر بها كثير من الناس في زمننا هذا.

وهذه الحملة الشرسة على الحسبة والمحتسبين قد أثَّرت في كثير من الناس، وانخدع بها الجهلة والرعاع، فَكَرِهوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع أنَّه قِوام الدين، وهو السبب الأهم لحفظ المجتمعات من أسباب التحلل والانهيار.

إنَّ ضيق الغربيِّين بشعيرة الحسبة نابعٌ من فِكْرة خاطئة، ملخَّصُها أنَّ البشريَّة قد بلغتْ سنَّ الرشد، وليست مُحتاجة لوصاية دينيَّة عليها، وأنَّ الناس يجب أن تترك لهم حريَّتهم بعيدًا عن أيِّ قيْدٍ ديني أو أخْلاقي، لكنَّ الغرب لا يأخُذ بِهذه الفكرة في أمور الدنيا، ولأجْل ذلك سنَّ مُشَرِّعوه القوانين، ووضعوا الأنظمة، وقرَّروا عقوبات رادعة على مَن يتجاوزها، فصارت دعوى بلوغ البشريَّة سنَّ الرشد دعوى كاذبة، لا يُمكن العمل بمقتضاها وإلا لسادت الفوضوية وشريعة الغاب في النَّاس.

أفإنْ عمل المسلمون بشعيرة الحسبة - وهي شعيرة ربَّانيَّة - لضبط دينهم وأخلاقِهم حُوربوا بدعوى أنَّ البشريَّة قد بلغت سنَّ الرشْد، وأنَّ الإنسان قد بلغ من النضج ما لا يحتاج معه إلى وصاية دينية، فلماذا إذًا يعملون عليه وصاية دنيوية، ويلزمونه بالقوانين والأنظمة، ويحكمون فيه بعقول البشر؟! أيستكثِرون عليْنا عبوديتنا لله - تعالى - ويرضون هم بعبوديتهم لبشر مثلهم؟!

إنَّ الغرب قد اختار اطِّراح دينه وراءه ظهريًّا؛ لأنَّه دين لا يُصْلِحُ دنيا ولا آخرة، قد لعبت فيه أيْدي الرهبان بالتحريف والتبديل، ولكن ما عُذْر المسلمين أمام ربِّهم إنْ هم عطَّلوا شعيرة الحسبة، وهي منزَّلة عليهم من ربهم - سبحانه وتعالى - وهي سبب خيريَّتهم وتفضيلهم على سائر أُمم الأرض.

إنَّ الذين يطعنون في الحسبة والمحتسبين لا يريدون إلا أن نسير سيرة الغرب، فنعطِّل دينًا صحيحًا قد ضمن لنا مصالح الدنيا والآخرة؛ لنرتكس في زبالات أفكار الغرب التي كانت سبب شقاءٍ لأفراده في الدنيا، وعذابُ الآخرة أشدُّ وأبقى.

وليعلم كلُّ مَن حارب الحسبة والمحتسبين أنَّه لن يخرج عن واحدٍ من اثنين:

إمَّا صاحب هوى يُريد إخراج النَّاس من دينهم إلى أهْواء البشر، وكفى بهذا إثما وضلالا؛ {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ الله إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 50].

وإمَّا جاهل؛ يقول على الله - تعالى - بلا علم، ولا يدري أنَّه بفعله يسعى لإبطال دين الإسلام، ونزْع هذه الأمَّة من سبب خيريَّتها، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والله - تعالى – يقول: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36].

وصلُّوا وسلِّموا على نبيِّكم...




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 24-06-2020, 03:19 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 153,816
الدولة : Egypt
افتراضي رد: احتساب النبي صلى الله عليه وسلم

احتساب النبي صلى الله عليه وسلم(6)
الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل



مجالات احتسابه - صلَّى الله عليه وسلَّم - (أ)


الحمد لله العليِّ الأعلى، خلق فسوَّى، وقدَّر فهدى، وكل شيء عنده بأجل مسمَّى، نحمده حمدَ الشاكرين، ونستغفره استغفار المُذنبين، ونسأله من فضله العظيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له؛ ابتلى عباده بالدين، وبه قسمهم فريقَيْن: فريقًا في الجنة وفريقًا في السعير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ أعظم المحتسبين، وأفضل الخلق أجمعين، احتسب على أُمَّته، فهداهم إلى الحقِّ، وحذَّرهم من الباطل، ومات يوم مات وقد تركنا على بيضاءَ نقيَّة، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، أعلى هذه الأُمَّة منزلة وفضلاً، وأزكاها علمًا وعملاً، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أمَّا بعد:
فاتقوا الله - تعالى - وأطيعوه، وقَدِّموا في دُنياكم ما تجدونه غدًا أمامكم، واعملوا في حياتكم ما يكون أنيسًا لكم في قبوركم، واعلموا أن الأيام تمضي، وأن الأعمار تنقص، ولا ينفع العبدُ إلاَّ الإيمان والعمل الصالح؛ {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} [البقرة: 197].

أيُّها الناس:
بعث الله - تعالى - رسوله محمدًا - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى الناس كافَّة؛ ليُخرجهم من الظُّلمات إلى النور، فيهدي ضالهم، ويعلِّم جاهلهم، ويأخذ على أيدي السُّفهاء والمفسدين منهم؛ لئلا يهلك الناس بسببهم؛ فإنَّ من سنة الله - تعالى - في عباده أنَّ المنكر إذا فشا فيهم، وأُعلن بينهم، ولم ينكره أحدٌ منهم، فقد استوجبوا العقاب، واستحقُّوا العذاب؛ {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ} [الأنفال: 25].

لقد كانت حياة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - كلها احتساب على الناس في تصحيح عقائدهم وعباداتهم ومعاملاتِهم، وتهذيب أخلاقهم وتقويم سلوكياتهم، وهدايتهم إلى ما يُصلحهم في الحال والمآل؛ {يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 16]، وما من مجال من مجالات حياة الناس وشؤونهم إلاَّ وللنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيه احتساب، يصوِّب خطأهم فيه، ويُقوِّم اعوجاجهم، ويدلهم على الصواب فيه.

لقد شمل النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - باحتسابه كافَّة شرائح الناس، فاحتسب على المشركين، وعلى المنافقين، وعلى أهل الكتاب، كما احتسب على المؤمنين، واحتسب على الرِّجال والنِّساء، والكبار والصِّغار، وأشراف الناس وعامتهم؛ فهو رحمةُ الله - تعالى - المهداةُ للعالمين، وهو نعمته المسداة للناس أجمعين؛ {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].

وكما وسع - صلَّى الله عليه وسلَّم - باحتسابه النَّاس كلهم، فإنَّه كذلك شمل كافَّة المجالات المتعلقة بالدِّين والدُّنيا، فاحتسب على الناس في عقائدهم وعباداتهم يصححها، ويهديهم إلى أصوبها، واحتسب عليهم في أخلاقهم وسلوكياتهم يُقوِّمها ويهذبها، واحتسب عليهم في اقتصادهم وسياساتِهم ومعاملاتهم؛ ليرفعَ ظلم الظالمين، وينصف المظلومين، وكان - عليه الصلاة والسلام - قدوة للمصلحين المحتسبين من أمته.

لقد وقف - عليه الصلاة والسلام - في وجوه المشركين يَنهاهم عن الشرك، ويدعوهم إلى التوحيد، وضُرب في سبيل ذلك وجُرِحَ وأُدْمِي وخُنق، وأُخرج من بلده مهاجرًا إلى الله - تعالى - وأمضى - صلَّى الله عليه وسلَّم - عمره كله يُصحح العقائد، ويَدعو إلى التوحيد، وينهى عما يُذْهبه أو يذهب كماله.

وفي غزوة حُنَيْنٍ رأى أصحابه - رضي الله عنهم - سدرة للكفار يعكفون عندها، ويعلقون أسْلِحَتهم عليها، تُسمَّى "ذات أنواط"، فقالوا: يا رَسُولَ الله، اجْعَلْ لنا ذَاتَ أَنْوَاطٍ، فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((قُلْتُمْ والذي نفسي بيده، كما قال قَوْمُ مُوسَى: اجْعَلْ لنا إِلَهًا كما لهم آلِهَةٌ، قال إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ، إنها لَسُنَنٌ، لَتَرْكَبُنَّ سُنَنَ مَن كان قَبْلَكُمْ سُنَّةً سُنَّةً))؛ رواه أحمد، وحضر - صلَّى الله عليه وسلَّم - المشركين، وهم يشركون في تلبيتهم، فكان - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُنكر عليهم، ويقول ((وَيْلَكُمْ قَدٍ قَد)).

وما كان - صلَّى الله عليه وسلَّم - يرضى بالغُلُو، ولو في مدحه - عليه الصلاة والسلام - وأخطأت امرأةٌ، فقالت: "وَفِينَا نَبِيٌّ يَعْلَمُ ما في غَدٍ"، فنهاها - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن ذلك، ولما أشركه رجلٌ مع الله - تعالى - في اللفظ، وقال: "ما شَاءَ الله وَشِئْتَ"، غضب النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقال له: ((أجعلتني وَاللهَ عَدْلاً، بَلْ ما شَاءَ الله وَحْدَهُ))؛ رواه أحمد.

ومن احتسابه - صلَّى الله عليه وسلَّم - في العبادات: أن رَجُلاً تَوَضَّأَ فَتَرَكَ مَوْضِعَ ظُفُرٍ على قَدَمِهِ، فَأَبْصَرَهُ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: ((ارْجِعْ فَأَحْسِنْ وُضُوءَكَ))؛ رواه مسلم، وأنكر - صلَّى الله عليه وسلَّم - على المسيء في صلاته عدمَ طمأنينته فيها، وأمره بإعادتها حتَّى أحسنها.

وأمَّا ما يتعلق بمعاملات النَّاس وعقودهم وتجاراتهم، فإنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنكر ما فيه ظلم منها، ونهى عن الغَرَر والغِشِّ والاحتكار، وعن كل ما يسبب الضرر للناس، وله - عليه الصلاة والسلام - مواقفُ عملية احتسب فيها على الغشاشين في بيوعهم، ومن ذلك ما رواه أبو هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسُولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - مَرَّ على صُبْرَةِ طَعَامٍ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فيها، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلاً، فقال: ((ما هذا يا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟! قال: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يا رَسُولَ الله، قال: أَفَلاَ جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ؛ كَيْ يَرَاهُ الناس؟! من غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي))؛ رواه مسلم.

بل إنَّ الاحتسابَ على النَّاس في مُعاملاتهم، وإنكار ما يقع من المنكرات في أسواقهم، ومعاقبتهم على المنكر بالضرب - كان سلوكًا عامًّا، ونظامًا ظاهرًا في عهد النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - كما دلَّ عليه حديثُ ابن عُمَرَ - رضي الله عنهما -: "إنَّهُمْ كَانُوا يُضْرَبُونَ على عَهْدِ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذا اشْتَرَوْا طَعَامًا جِزَافًا أَنْ يَبِيعُوهُ في مَكَانِهِمْ، حتى يؤوُوه إلى رِحَالِهِمْ"؛ رواه البخاري ومُسلم.

وأورد البُخاري - رحمه الله تعالى - عقب هذا الحديث حديثَ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قالت: "ما انْتَقَمَ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لِنَفْسِهِ في شَيْءٍ يُؤتى إليه، حتَّى تنتهك من حُرُمَاتِ الله فَيَنْتَقِمَ لله".

وإنَّما فعل البخاري ذلك؛ لِيُدلل به على أنَّ من هدي النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - معاقبةَ أهل المنكرات الذين ينتهكون مَحارم الله - تعالى - بما يردعهم عن غَيِّهم، ويحفظ المجتمعات من مُنكراتهم، خلافًا لما يدعو إليه المفسدون في الأرض، من ترك الناس أحرارًا يفعلون ما يشاؤون، زاعمين أن هيئات الحسبة تضايق النَّاس في أسواقهم، يقولون ذلك بدعوى الحرية الغربية التي أسكرتهم، وأفقدتهم صوابهم، وما هيئات الاحتساب في الأسواق وغيرها إلاَّ لحفظ أمن المسلمين وأعراضهم، ورَدْع أهل الغَيِّ والفساد؛ ولكن المفسدين يقدمون أهواءهم على شريعة ربِّهم - تبارك وتعالى - ويركبون من أهوائهم ما يشاؤون؛ {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ الله إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 50].

يقول الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى - تعليقًا على حديث الضرب على الغِشِّ في الأسواق: "ويُستفاد منه جواز تأديب مَن خالف الأمرَ الشرعي، فتعاطى العقود الفاسدة بالضَّرب، ومشروعية إقامة المحتسب في الأسواق".

ويقول العلامة السندي - رحمه الله تعالى -: "هذا أصل في ضرب المحتسب أهل الأسواق، إذا خالفوا الحُكم الشرعي في مُبايعاتِهم ومعاملاتهم".

واحتسب النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - على النَّاس في إصلاح أخلاقهم وسلوكياتِهم وعاداتهم، كيف وهو القائل - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ صَالِحَ الأَخْلاَقِ))؛ رواه أحمد؟!

ومن احتسابه - صلَّى الله عليه وسلَّم - في ذلك: ما رواه ابن عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: "كان الْفَضْلُ رَدِيفَ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ من خَثْعَمَ، فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَتَنْظُرُ إليه، فَجَعَلَ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إلى الشِّقِّ الْآخَرِ))؛ رواه الشيخان، وجاء في رواية أخرى عند أحمد من حديث علي - رضي الله عنه -: فقال له الْعَبَّاسُ: "يا رَسُولَ الله، ما لك لَوَيْتَ عُنُقَ ابن عَمِّكَ؟ قال: ((رأيت شَابًّا وَشَابَّةً، فَخِفْتُ الشَّيْطَانَ عَلَيْهِمَا)).

وكان - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُنكر على الأفرادِ ما يَقع منهم، من خللٍ في الآداب والأخلاق والسُّلوك؛ كما في حديث المِسْوَرِ بن مَخْرَمَةَ - رضي الله عنه - قال: "أَقْبَلْتُ بِحَجَرٍ أَحْمِلُهُ ثَقِيلٍ، وَعَلَيَّ إِزَارٌ خَفِيفٌ، قال: فَانْحَلَّ إِزَارِي وَمَعِيَ الْحَجَرُ، لم أَسْتَطِعْ أَنْ أَضَعَهُ حتى بَلَغْتُ بِهِ إلى مَوْضِعِهِ، فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ارْجِعْ إلى ثَوْبِكَ فَخُذْهُ، ولا تَمْشُوا عُرَاةً))"؛ رواه مسلم.

وأنكر - صلَّى الله عليه وسلَّم - على مَن أكل بشماله، ولما أَصرَّ على ذلك بدعوى أنَّه لا يستطيع، دعا عليه، فشلَّت يده،ولما رأى الغلامُ تطيش يده في الصَّحْفَة علمه كيف يأكلُ، ورأى رجلاً قد لبس خاتمًا من ذهب، فنزعه من يده وطرحه، ولم يستأذنه، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يَعْمِدُ أحدكم إلى جَمْرَةٍ من نَارٍ فَيَجْعَلُهَا في يَدِهِ))؛ رواه مسلم.

فأين دُعاة الحرية الشخصيَّة من هذه الأحاديث التي تدخَّل فيها النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في خصوصيَّات الناس، وهذَّب سلوكيَّاتِهم، ودلَّهم على ما ينفعهم، وحجزهم عمَّا يضرهم؟!

وهو يفعلُ ذلك عن الله - تبارك وتعالى -: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النَّجم: 3-4]، والإسلام دين العبودية لله - تعالى - والاستسلام له بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشِّرك، والبراءة منه ومن أهله، وما الحُرِّية الغربية التي طار كثيرٌ من النَّاس بها إلاَّ وثنًا يُعبد من دون الله - تعالى - وهي تُعارض الاستسلامَ له - عزَّ وجل - كفى الله المسلمين شرَّها وشر دُعاتِها، وردَّهم على أعقابهم خاسرين، وحفظ بلادَنا وبلاد المسلمين من ضلالِهم وإفسادهم؛ إنه سميع مجيب.

وأقول ما تسمعون وأستغفر الله...

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، نحمده ونشكره، ونتوبُ إليه ونستغفره، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

أما بعد:
فاتقوا الله تعالى - أيها المسلمون - وأطيعوه؛ {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 131 - 132].

أيُّها الناس:
حملات أهل الفساد، وأرباب المنكرات على أهل الصَّلاح والإصلاح - قديمةٌ في البشر، منذ أنْ كان فيهم إيمان وكفر، وخير وشر، وحق وباطل، وقديمًا قال المفسدون من قوم لوط - عليه السلام -: {أَخْرِجُوا آَلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل: 56]، وما سبب هذا الإخراج إلاَّ لأنَّ لوطًا - عليه السلام - نهاهم عن الفواحش التي كانوا يأتونها، ودعاهم إلى الطهر والنقاء والعَفاف، فكانت دعوته هذه هي الجريمةَ التي أرادوا إخراجه - عليه السلام - بسببها.

لقد غدا الطُّهر والعَفاف عندهم جريمة يُؤخذ بها من دعا إليها، وفي زمننا هذا نرى أبواقَ قوم لوط في الصَّحافة والإعلام تعود من جديد؛ لتؤصل للفواحش والمنكرات، وتنشرها في النَّاس، وتيسر الوصول إليها بنشر ثقافة الاختلاط والتبرُّج والسُّفور، وفرضها على النَّاس عبر إعلامهم المُضلل، مع مُحاربة دُعاة الطهر والعفاف، والافتراء عليهم، وتنفير النَّاس منهم، بالدعايات الزائفة، والقصص الواهية، واختلاق الأكاذيب والأساطير على الحسبة والمحتسبين، ولو جُمعت كذبات دُعاة الرذيلة من الصَّحفيين والإعلاميين في الحسبة والمحتسبين في السنوات الأخيرة، لبلغت مجلدات من كثرتها، فما أكثر كذبهم! وما أشدَّ افتراءَهم! وما أعظم جرأتَهم على الله - تعالى - وشريعته!

إنَّه لا يُعادي الحسبة والمحتسبين إلاَّ مرضى القُلُوب، وصرعى الشَّهوات، وعبيد الملذات، يُعادونهم؛ لأنَّهم حالوا بينهم وبين شهواتهم المحرمة، إنَّهم يريدون هتك الأعراض، واللعب بالحرائر بلا رادع يردعهم، ولا وازع يمنعهم، ولا سلطان يزعهم، وسلوا المدمنين على المُخدِّرات: هل يُحبون أجهزة مُكافحتها أو يكرهونهم؟!

إنَّه لا يُعادي دُعاة الطُّهر والعفاف إلاَّ أرباب الرذيلة والشَّهوات، كما أنه لا يُعادي أجهزة مُكافحة المخدِّرات إلاَّ مهربوها ومُروِّجوها ومُتعاطوها، والمعادون للحسبة والاحتساب ما هم إلاَّ مُتعاطون للرذيلة ويروجون لها، كما عادى قومُ لوط لوطًا - عليه السلام - على طُهره وعَفافه، وفتِّشوا عن سير المعادين للحسبة والمحتسبين وجلسائهم، ورحلاتهم تُنبِئكم عن أحوالهم في خلواتهم.

ولكن العتب كلَّ العتب على عامَّة الناس، الذين يرون المُنافقين والشهوانيين يُحاربون الحسبة والمحتسبين، ويَتسلَّقون على الناس بيوتهم بأفكارهم الضَّالة، وآرائهم الكاسدة عبر الإعلام المفسد؛ ليهتكوا حرمات البيوت الآمنة، بعد أن انتهكوا حرمات الله - تعالى - وجاهروا بمنكراتهم، ولا ينكرون ذلك عليهم، ولا يظهرون ولاءهم للحسبة والمحتسبين، وهم مُحتاجون إليهم في رفع العقوبات، وردع المجرمين الشهوانيين عن محارم المسلمين، وكأنَّ الأمر لا يعنيهم؛ وربنا - جل في علاه - يقول: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ القُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 116 - 117].

ولا ينجو من عذابِ الله - تعالى - إلاَّ مَن انْحاز إلى المصلحين على المفسدين؛ كما قال الله - تعالى -: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 165]، فليخترْ كلُّ عبدٍ لنفسه، ولْينظر أين نفعه، وغدًا عند الله - تعالى - تجتمع الخصوم.

وصلوا وسلموا على نبيكم...




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 24-06-2020, 03:20 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 153,816
الدولة : Egypt
افتراضي رد: احتساب النبي صلى الله عليه وسلم

احتساب النبي صلى الله عليه وسلم(7)
الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل




مجالات احتسابه - صلَّى الله عليه وسلَّم - (ب)




الحمد لله الولي الحميد، العزيز المجيد، شرع لنا من الدين أكمله، وأنزل علينا من الحديث أحسنه، وجعل أُمَّتنا خير الأمم؛ {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِالله} [آل عمران: 110]، نحمده على ما حبانا وأولانا، ونشكره على ما أعطانا وكفانا، فنحن عبيده فقراء إليه، وهو ربنا غنيٌ عنَّا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحْدَه لا شريك له، ما من شيء في المخلوقات إلاَّ وهو دالٌّ على رُبُوبيته وألوهيته وعظمته وقدرته؛ {صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [النمل: 88]، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله؛ هداه ربه وهدى به، وابتلاه وابتلى به، فمن أطاعه نجا، ومَن عصاه هلك، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

أمَّا بعد:
فاتقوا الله - تعالى - وأطيعوه، فإنكم إليه راجعون، ولدنياكم مفارقون، وعلى أعمالكم محاسبون؛ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزَّلزلة: 8].

أيُّها الناس:
حُبُّ الدنيا، والركونُ إليها، والميل إلى شهواتها، وتعلُّقُ القلب بملذاتها - غريزةٌ فطرية غرسها الله - تعالى - في النَّاس ليبتليهم بها وبشريعته؛ {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} [آل عمران: 14]، {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ العَاجِلَةَ} [القيامة: 20]، {بَلْ تُؤْثِرُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا} [الأعلى: 16]، وأنزل الله - تعالى - الشرائع التي إنْ أخذ النَّاس بها، كملت لهم الدنيا والآخرة، وإن بخسوا شيئًا منها، نَقَصَ من كمال نعيمهم في الدُّنيا والآخرة بقدر ما بخسوا من شريعة ربهم - جلَّ وعلا.

إنَّ دين الإسلام يَجمع نعيمَ الدُّنيا والآخرة، لا كما يظُنُّ كثير من الناس أنه مقتصر على الآخرة، وأنَّ رغد الدُّنيا ما هو إلا في المناهج المادية الإلحادية التي قذفت بها الحضارة المُعاصرة، ونجد في القرآن آياتٍ كثيرةً تَعِدُ المؤمنين بخيرات الدُّنيا إنْ هم أقاموا شريعة الله - تعالى - فيهم، وتتوعدهم بنقص الدُّنيا إنْ هم رغبوا عنها؛ {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [المائدة: 66]، {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف: 96]، فإقامة الدين باب للرفاهية في الدُّنيا، وتتابع الخيرات على العباد.

ولما كان دينُ الإسلام يَجمع لمن أقامه بين نعيم الدُّنيا والآخرة، فإنَّه جاء مُنظمًا لحياة الناس، مصلحًا لشؤونهم كلها، ولا يقتصر على جوانب العبادات فقط، كما يُريد المفسدون حصره فيها، وكانت شعيرة الحسبة مثالاً بيِّنًا على تدخُّل الإسلام في شؤون الناس كلها، وتنظيمه لحياتهم، وعدم السماح بأي تجاوُز لشريعة الله - تعالى - سواء على مستوى الأفراد، أم على مستوى الجماعة والأمة؛ لأنَّ الخلل يوجب نقص الدين والدُّنيا، فتتأثر به سلبًا الخيرات العاجلة والآجلة.

وكان تطبيق النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لشعيرة الحسبة برهانًا ساطعًا، ودليلاً قاطعًا على ذلك؛ إذ احتسب - صلَّى الله عليه وسلَّم - على الناس في تصحيح عقائدهم وعباداتهم، وتصويب ما أخطؤوا فيه من مُعاملاتهم، وتقويم أخلاقهم وسلوكيَّاتِهم، حتى إن الشؤون العامَّة في السياسة والولاية والأموال والتِّجارة وغيرها نالت نصيبَها من احتساب النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأمثلة ذلك قولاً وتطبيقًا كثيرة مبثوثة في سنته العطرة.

ومن احتسابه - صلَّى الله عليه وسلَّم - في جوانب الإصلاح الأسري، وضبط البُيُوت المسلمة من الانفلات، وتخليصها من الظلم: ما جاء في حديث إِيَاسِ بن عبدالله - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا تَضْرِبُنَّ إِمَاءَ الله))، فَجَاءَ عُمَرُ إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: يا رَسُولَ الله، قد ذَئِرَ النِّسَاءُ على أَزْوَاجِهِنَّ، فَأْمُرْ بِضَرْبِهِنَّ، فَضُرِبْنَ فَطَافَ بِآلِ مُحَمَّدٍ - صلَّى الله عليه وسلَّم - طَائِفُ نِسَاءٍ كَثِيرٍ، فلَمَّا أَصْبَحَ قال: ((لقد طَافَ اللَّيْلَةَ بِآلِ مُحَمَّدٍ سَبْعُونَ امْرَأَةً، كُلُّ امْرَأَةٍ تَشْتَكِي زَوْجَهَا فلا تَجِدُونَ أُولَئِكَ خِيَارَكُمْ))؛ رواه ابن ماجه، وصححه ابن حبان.

ففي هذا الحديث نهى - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن ضرب النِّساء، ثم رخَّص فيه؛ لتأديبهن، لَمَّا أخبره عمر بتمرُّدهن، فلما أسرف الرجال في ضرب النساء، احتسب عليهم، وبيَّن أن من ضرب امرأته، فليس من خيار الرجال، ومن نظر إلى سنته وجد كثرة وصاياه - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالنساء، وكثرة وصاياه للنساء بأزواجهن؛ مما يكون سببًا في إصلاح البيوت واستقرارها.

وفيما يتعلَّق بالأولاد، احتسب النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في رفع الظُّلم عنهم، وتمييز بعضهم على بعض، وأمر بالعدل فيهم؛ لئلا تقع الضَّغائن بينهم، فتشتعل البُيُوت بالإحن والأحقاد، فيُؤدي ذلك إلى الخصام وقطيعة الأرحام؛ روى النُّعْمَانُ بنُ بَشِيرٍ - رضي الله عنهما - قال: "سَأَلَتْ أُمِّي أبي بَعْضَ الْمَوْهِبَةِ لي من مَالِهِ، ثُمَّ بَدَا له فَوَهَبَهَا لي، فقالت: لَا أَرْضَى حتى تُشْهِدَ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فَأَخَذَ بِيَدِي وأنا غُلَامٌ، فَأَتَى بِيَ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: إِنَّ أُمَّهُ بِنْتَ رَوَاحَةَ سَأَلَتْنِي بَعْضَ الْمَوْهِبَةِ لِهَذَا، قال: ((أَلَكَ وَلَدٌ سِوَاهُ؟))، قال: نعم، قال: فَأُرَاهُ، قال: ((لَا تُشْهِدْنِي على جَوْرٍ))، وفي رواية: ((لَا أَشْهَدُ على جَوْرٍ))؛ رواه الشيخان، وفي رواية لمسلم قال: ((أَيَسُرُّكَ أَنْ يَكُونُوا إِلَيْكَ في الْبِرِّ سَوَاءً؟))، قال: بَلَى، قال: ((فلا، إِذًا)).

وأَمَّا احتسابه - صلَّى الله عليه وسلَّم - في جوانب الفساد المالي لإصلاحها، فإنَّه يدخل في عموم النَّصيحة التي شرعها لأُمَّته، وجعلها تفسيرًا للدين كله؛ لأنَّها تشمل خصالَ الإسلامِ والإيمان والإحسان، ومعلوم أنَّ النصيحة شعبةٌ من شعب الاحتساب على النَّاس، ولم يقصرها النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - على العامَّة دون الخاصة، بل أمر بها الجميعَ للجميع؛ حتى تكون الأمة أمة واحدة، يُنكِر ما فيها من فساد جميع أفرادها؛ كما في حديث تَمِيمٍ الدَّارِيِّ - رضي الله عنه -: أَنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((الدِّينُ النَّصِيحَةُ))، قُلْنَا: لِمَنْ؟ قال: ((لله وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ ولأئمة الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ))؛ رواه مسلم.

وأمَّا التطبيق العملي للحسبة في جوانب الفساد المالي مع الولاة والعُمَّال والموظفين في الدَّولة، فمثاله حديثُ أبي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ - رضي الله عنه - قال: "اسْتَعْمَلَ رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - رَجُلاً على صَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْمٍ يُدْعَى ابنَ اللَّتَبِيَّةِ، فلَمَّا جاء، حَاسَبَهُ، قال: هذا مَالُكُمْ، وَهَذَا هَدِيَّةٌ، فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((فَهَلَّا جَلَسْتَ في بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ حتى تَأْتِيَكَ هَدِيَّتُكَ إن كُنْتَ صَادِقًا))، ثُمَّ خَطَبَنَا فَحَمِدَ الله وَأَثْنَى عليه، ثُمَّ قال: ((أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أستعمل الرَّجُلَ مِنْكُمْ على الْعَمَلِ مِمَّا وَلَّانِي الله، فَيَأْتِي فيقول: هذا مَالُكُمْ، وَهَذَا هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لي، أَفَلَا جَلَسَ في بَيْتِ أبيه وَأُمِّهِ حتى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ، والله، لَا يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْكُمْ شيئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ إلا لَقِيَ الله يَحْمِلُهُ يوم الْقِيَامَةِ، فَلَأَعْرِفَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَقِيَ الله يَحْمِلُ بَعِيرًا له رُغَاءٌ، أو بَقَرَةً لها خُوَارٌ، أو شَاةً تَيْعَرُ))، ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ حتى رُئي بَيَاضُ إِبْطِهِ يقول: ((اللهم هل بَلَّغْتُ بَصرَ عَيْنِي وَسَمْعَ أُذُنِي))؛ رواه الشَّيخان.

فتأمَّلوا - عباد الله - عظيم اهتمامه - صلَّى الله عليه وسلَّم - بهذا الأمر، وتشديده فيه، حتَّى خطبهم على المنبر لأجله؛ مِمَّا يدلُّ على أهمية الاحتساب في مسائل الأموال؛ ذلك أنَّ الفساد فيها يُؤدِّي إلى ظُلم الناس وإفقارِهم، ورفع أمنهم، وهو منكر يجب إنكاره، والاحتساب على أهله، وإلا فسدت أحوال الأمة.

ولما رأى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - من بعض أصحابه - رضي الله عنهم - استشرافًا للمال، وتطلعًا للحصول عليه، وسُؤالاً له - خشي عليه من فتنة المال، وخاف تعلُّق قلبه به فيهلك، فاحتسب عليه في ذلك؛ مَحبةً له، وشفقة عليه، وهدايةً للأمة، وتعليمًا لها، وكان احتسابه - صلَّى الله عليه وسلَّم - على هذا الصحابي من أعظم النَّصائح التي استفاد منها، ولزمها إلى موته - رضي الله عنه - كما في حديث حَكِيمِ بنِ حِزَامٍ - رضي الله عنه - قال: "سَأَلْتُ رَسُولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ قال لي: ((يا حَكِيمُ، إِنَّ هذا الْمَالَ خَضِرٌ حُلْوٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ، بُورِكَ له فيه، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ، لم يُبَارَكْ له فيه، وكان كَالَّذِي يَأْكُلُ ولا يَشْبَعُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ من الْيَدِ السُّفْلَى))، قال حَكِيمٌ: فقلت: يا رَسُولَ الله، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شيئًا حتى أُفَارِقَ الدُّنْيَا، فَكَانَ أبو بَكْرٍ يَدْعُو حَكِيمًا؛ لِيُعْطِيَهُ الْعَطَاءَ، فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَ منه شيئًا، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ دَعَاهُ؛ لِيُعْطِيَهُ، فأبى أَنْ يَقْبَلَهُ، فقال: يا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، إني أَعْرِضُ عليه حَقَّهُ الذي قَسَمَ الله له من هذا الْفَيْءِ، فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ، فلم يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا من الناس بَعْدَ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - حتى تُوُفِّيَ رَحِمَهُ الله"؛ رواه الشيخان، وفي رواية لابن راهويه: أنَّه - رضي الله عنه - ما أخذ من أبي بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا معاوية ديوانًا ولا غيره حتى مات.

وما ضرَّه ذلك، بل أغناه الله - تعالى - ببركة وفائه بوعده للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - حين احتسب عليه لما كرر مسألته، قال الذهبي - رحمه الله تعالى -: "فمات حين مات، وإنه لمن أكثر قريش مالاً".

فعُلم بذلك أنَّ دينَ الإسلام هو دينُ الاحتساب على النَّاس في إصلاحِ أحوالهم في الحال والمآل، وعلى مُستوى الأفراد والجماعة والأُمَّة، وأنَّ دعوات ترك الاحتساب بحجة عدم التدخُّل في الخصوصيَّات ليس من دين الإسلام في شيء؛ بل إنَّ ذلك سبب لسلب خيريَّة الأُمَّة، كما سلبت الخيرية والتفضيل عن بني إسرائيل، ولعنوا بسبب كفرهم وتعطيلهم لشعيرة الاحتساب؛ {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 79]، فالحذرَ الحذرَ من طاعة المفسدين المبطلين الذين يَسعَوْن في الأرض فسادًا، ويستميتون في إبطال شريعة الله - تعالى - بتعطيل شعيرة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، كفى الله - تعالى - البلادَ والعبادَ شرَّهم، وردهم على أعقابهم خاسرين، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.




الخطبة الثانية


الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مُباركًا فيه، كما يُحب ربنا ويرضى، نحمده على ما أعطى، ونشكره على ما أَوْلى، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحْدَه لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

أمَّا بعد:
فاتقوا الله - تعالى - وأطيعوه، وأحيوا شعيرةَ الحسبة فيكم، فإنَّها سبب خيرية أمتكم، وتفضيلكم على من سواكم؛ {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِالله} [آل عمران: 110].

أيها المسلمون:
إنَّ من أعظمِ أسباب الوَهن والضَّعف الذي ابتليتْ بهِ أُمة الإسلام في أزمانها المتأخرة: تعطيلَ شعيرة الحسبة بمفهومها الشَّامل الكامل، وحصرها في جوانب العبادة والأخلاق والسُّلوك، ثم قصرها على جهات مُعينة دون سائر النَّاس، وهذا الخلل في فهم وظيفة الحسبة أدَّى إلى تقليصها وضَعْفها، وسنحت الفُرصة لأهل الفساد والإفساد بالنُّمو بين الناس، وتعطيل مصالحهم، وإفساد أخلاقهم، ولو نظرنا إلى القرآن، فإنَّنا نجد أن نبي الله شعيبًا - عليه السَّلام - قد احتسب على قومه في كفرهم وفيما حلَّ بهم من فساد مالي، حتى كانوا ينكرون عليه تدخله في كيفية تنمية أموالهم، ويزعمون أنهم أحرار فيها، يفعلون ما يشاؤون، وهي ذات الحجة التي يحتج بها المفسدون في عصرنا هذا؛ {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} [هود: 87].

يقول العلامة ابن عاشور - رحمه الله تعالى -: "على عقلاء الأقوام، وأصحاب الأحلام منهم، إذا رأوا دبيبَ الفساد في عامَّتهم أن يبادروا للسَّعي إلى بيان ما حلَّ بالنَّاس من الضلال في نُفُوسهم، وأنْ يكشفوا لهم ماهيته وشبهته وعواقبه، وأنْ يَمنعوهم منه بما أوتوه من الموعظة والسُّلطان، ويزجروا المفسدين عن ذلك الفساد حتَّى يرتدعوا، فإنْ هم تركوا ذلك وتوانوا فيه، لم يلبث الفساد أن يسريَ في النفوس، وينتقل بالعدوى من واحد إلى غيره، حتَّى يعم أو يكاد، فيعسر اقتلاعه من النُّفوس". اهـ.

إن الله - تعالى - قد أمرنا بالاقتداء بالمرسلين - عليهم السلام -: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90]، وقد كانوا من المحتسبين على النَّاس، يأمرونهم بالمعروف الذي أمر الله - تعالى - به، وينهونهم عن المنكر الذي نهى الله - تعالى - عنه، وأُمرنا كذلك بالتأسي بالنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، ورسولنا محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - هو إمام المحتسبين، والاقتداءُ به في الحسبة اقتداء به في الوظيفة العُظمى، والمهمة الكُبرى التي لأجلها بعث الله - تعالى - الرُّسل - عليهم السلام - لأقوامهم، وأنزل بتفاصيلها كتبه السماوية، وقسم النَّاس فَريقين: فريقًا في الجنَّة، وفريقًا في السَّعير، فلا يقوم بالحسبة إلاَّ أتباع الرسل، وأتباعهم هم خيار النَّاس، ولا يستنكف عنها أو يُحاربها إلاَّ أعداء الرسل، وأعداؤهم هم شرارُ الناس؛ فليخترْ كل عبد لنفسه ما شاء، فبعمله يُجزى يوم القيامة؛ {لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الحِسَابِ} [إبراهيم: 51]، {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدَّثر: 38].

وصلُّوا وسلموا على نبيكم...




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 24-06-2020, 03:21 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 153,816
الدولة : Egypt
افتراضي رد: احتساب النبي صلى الله عليه وسلم

احتساب النبي صلى الله عليه وسلم(8)
الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل





مجالات احتسابه - صلى الله عليه وسلم - (ج)







الحمد لله العليمِ الخبير، خَلَقَ الخلْق لعبادته، وأمَرهم بطاعته، ونهاهم عن معصيته؛ {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، نحمده على نِعَمه التي هي تَتْرى، ونشكره على آلائه التي لا تحصى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ عمَّ فضلُه على عباده فهداهم لما ينفعهم، واختصَّ بفضله أهلَ الإيمان فوفَّقهم لطاعته، وله الحكمة والحُجة فيما قضى وشرع؛ {وَاأَلَا لَهُ الخَلْقُ لأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ العَالَمِينَ} [الأعراف: 54]، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله - صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

أما بعد:
فأوصي نفسي وإياكم - عبادَ الله - بتقوى الله - تعالى - وطاعته؛ ففي تقواه وطاعتِه السعادةُ والهناء في الدنيا، والفوزُ والفلاح في الآخرة؛ {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ المِيعَادَ} [الزُّمر: 20].

أيها الناس:
كانت حياة الرسل - عليهم السلام - جهادًا ومجاهدة، وصبرًا ومصابرة، ومرابطة على طاعة الله - تعالى - والقيامِ بأمره، وهداية الناس لدينه، والاحتساب عليهم؛ لتصحيح عقائدهم وعباداتهم، ومعاملاتهم وأخلاقهم، لقد كان احتسابهم - عليهم السلام - على الناس لحجزهم عن ظلْم أنفسهم، ومنْعِهم من ظلم بعضهم بعضًا؛ قال نوحٌ - عليه السلام - لقومه: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح: 13، 14]، وقال شعيبٌ - عليه السلام -: {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا المِكْيَالَ وَالمِيزَانَ بِالقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [هود: 85]، لا يبتغون جزاءً ولا شكورًا على احتسابهم إلا من الله - تعالى - ولذا قال كلُّ واحدٍ منهم لقومه: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ العَالَمِينَ} [الشعراء: 109]، فكانت دعواتُهم احتسابًا لله - تعالى - هدفُه وغايته إصلاحُ الحال والمآل للأفراد والجماعات.

ونبيُّنا محمد - صلى الله عليه وسلم - هو إمام المحتسبين، شرع الاحتسابَ لأمَّته، ومارَسَه عمليًّا في حياته، وما انتقلتِ العربُ من جاهليتِها وضلالها إلى العلمِ والهدى إلا بدعْوته - صلى الله عليه وسلم - واحتسابِه؛ إذ أقام التوحيد، وهدم صروحَ الشرك، وصحَّح العقائدَ والعباداتِ والمعاملات، وهذَّب الأخلاق والسلوك، وما من شأنٍ من شؤون الناس إلا وله فيه احتساب؛ لأن الدِّين الذي جاء به، ودَعَتْ إليه الرسلُ قبله، إنما يقوم على شعيرة الحِسْبة، كما أن دين المشركين قديمًا وحديثًا يقوم على تعطيلها وإبطالها.

وكان من احتساب النبي - صلى الله عليه وسلم - في مجالات السياسة الشرعية، والعلاقةِ بين الراعي والرعية:



فرضُ العدل، والقيامُ به ولو على النفس والأقربِينَ، ورفضُ الظلم تحت أي مسوغٍ أو تعليل؛ لأن الظلم سببُ خرابِ العالم، وفسادِ الذمم، وانهيارِ الدول.

ومن احتساب النبي - صلى الله عليه وسلم - في إقرار العدل، ورفضِ الحيف في الحكم، والوقوفِ مع صاحب الحق ولو كان خَصمًا للنبي - صلى الله عليه وسلم -:



ما روى أبو سعيدٍ الخدري - رضي الله عنه - قال: "جاء أعرابيٌّ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يتقاضاه دَينًا كان عليه، فاشتدَّ عليه حتى قال له: أُحَرِّجُ عليك إلاَّ قَضَيْتَني، فانتهَرَه أصحابُه وقالوا: ويحَك، تدري مَن تُكلِّم؟! قال: إني أطلبُ حقِّي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((هلاَّ مع صاحب الحقِّ كنتم))، ثم أرسل إلى خولةَ بنتِ قيسٍ فقال لها: ((إن كان عندك تمرٌ فأقرِضِينا حتى يأتيَنا تمرُنا فنقضيَك))، فقالتْ: نعم، بأبي أنت يا رسول الله، قال: فأقرضتْه، فقضى الأعرابيَّ وأطعمه، فقال: أوفيتَ أوفى الله لك، فقال: ((أولئك خيار الناس، إنه لا قُدِّسَتْ أمَّةٌ لا يأخذ الضعيفُ فيها حقَّه غيرَ مُتَعْتَعٍ))؛ رواه ابن ماجه.

وكان - صلى الله عليه وسلم - يربِّي أصحابَه - رضي الله عنهم - على إيقاع العقوبة على من يستحقُّها، ويحتسب عليهم إذا أرادوا الإخلالَ بذلك، ولا يحابي أحدًا في ذلك ولو كان من أشراف الناس وكُبرائهم، فلا محاباةَ في دين الله - تعالى – وحدوده.

روتْ عائشةُ - رضي الله عنها -: "أن قريشًا أهمَّتْهم المرأةُ المخزومية التي سَرقتْ، فقالوا: مَن يكلِّمُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ومن يجترئُ عليه إلا أسامةُ حِبُّ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فكلَّم رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((أتشفع في حدٍّ من حدود الله؟!))، ثم قام فخطب، قال: ((يا أيها الناس، إنما ضلَّ من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سَرَقَ الشريفُ تَرَكوه، وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحدَّ، وايم الله لو أن فاطمةَ بنتَ محمدٍ سرقتْ، لقَطع محمدٌ يدها))؛ رواه الشيخان.

فتأمَّلوا كيف ردَّ - صلى الله عليه وسلم - شفاعةَ حِبِّهِ وابنِ حِبِّه، وخطَبَ الناسَ يحذِّرُهم من المحاباة في حدود الله - تعالى - ثم يُقسِم أنه يقيم الحدَّ على ابنته - رضي الله عنها - لو استحقَّتْه، ومن نَظَرَ إلى الفساد المالي والإداري في العالم الإسلامي، وتأمَّلَ أسبابَ تخلُّف المسلمين عن غيرهم من الأمم في مجالات الدنيا، تبيَّن له أن أهمَّ سببٍ لذلك هو الظلم والمحاباة؛ حتى صارتِ الأنظمةُ والقوانين هي الاستثناءَ، وصار خرقُها وتجاوزها هو الأصلَ، والدول التي تقدمتْ في أمور الدنيا كان أهمَّ سببٍ لتقدُّمها إقامةُ العدل في داخلها، وعدم محاباة أحد في النظام والقانون مهما علَتْ منزلتُه، وليس طرحُ الدين وإلغاءُ الحِسبة سببًا للتقدم، كما يزعم الأفَّاكون، ولكنه العدل.

ولأهمية إقامة حدود الله - تعالى - فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحتسب فيها على غير المسلمين، ويُلزمهم بشريعتهم المنزلة، ولا يحابيهم في ذلك؛ كما احتسب - صلى الله عليه وسلم - على اليهود في إقامة الحدِّ الذي جاءتْ به التوراة في حق الزانيينِ، وأمَرَ برجْمهما مع حرْص اليهود على إخفاء ما جاءت به التوراة مِن رجمِهما، وعزمِهم على عدم إقامة الحد.

ومن احتسابه - صلى الله عليه وسلم - في مجال السياسة الشرعية:



أنه إنْ رأى مِن بعض أصحابه - رضي الله عنهم - ميلاً إلى ولاية أو وظيفة لا يَقدِر على القيام بها، بيَّن له ضعْفَه فيها، وعجْزَه عن القيام بها، وخطورةَ تحمُّلها، ولم يصانِعْه فيها على حساب الأمَّة؛ لئلا تفسد أحوالُ المسلمين بسبب المصانعة في ذلك أو الاستهانة به، ومن ذلك حديث أبي ذَرٍّ - رضي الله عنه - قال: "قلتُ: يا رسول الله، ألا تستعملُني؟ قال: فضرب بيده على منكبي ثُم قال: ((يا أبا ذر، إنك ضعيفٌ، وإنها أمانةٌ، وإنها يوم القيامة خزيٌ وندامةٌ، إلاَّ مَن أخَذَها بحقِّها، وأدَّى الذي عليه فيها))، وفي رواية قال - صلى الله عليه وسلم -: ((يا أبا ذر، إني أراك ضعيفًا، وإني أُحبُّ لك ما أُحب لنفسي، لا تَأَمَّرَنَّ على اثنين، ولا تَوَلَّيَنَّ مالَ يتيمٍ))؛ رواه مسلم.

فإن وقع مِن بعض وُلاته أو عُمَّاله خطأٌ، لم يُقرَّه على الخطأ، أو يسكت عنه محاباةً له؛ بل يحتسب عليه فيه، كما احتسب على ابن اللُّتْبِيَّة لما استعمله على الصدقة، فقال: هذا مالُكم، وهذا أُهْدي لي، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((أفلا جلس في بيته، حتى تأتيه هديتُه؟!)).

واحتسب على خالد بن الوليد لما استعجل في قتْل ناسٍ ظنَّ أنهم من المشركين، ولم يتحقَّق من ذلك؛ كما روى ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "بَعَثَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - خالدَ بن الوليد إلى بني جذيمة، فلم يُحسِنُوا أن يقُولُوا: أسْلمْنا، فقالُوا: صَبَأْنَا صبأنا، فجعل خالدٌ يقتُلُ ويأسرُ، ودفع إلى كل رجُلٍ منا أسِيرَهُ، فأمَرَ كلَّ رجُلٍ منا أن يقتُلَ أسيرَهُ، فقلتُ: والله لا أقتُلُ أسيري، ولا يقتُلُ رجُلٌ من أصحابي أسيرَه، فذكَرْنا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((اللهم إني أبرأُ إليك مما صنع خالدُ بن الوليد - مرتين))؛ رواه البخاري.

ولم يقتصر احتسابُه - صلى الله عليه وسلم - على داخل الدولة المسلمة؛ بل لو وقع خطأٌ خارجَها فإنه ينبِّه عليه؛ ليحْذَرَه المسلمون، فلا يقعوا فيما وقع فيه غيرُهم، ومن ذلك نهيُه - صلى الله عليه وسلم - عن التشبُّهِ بغير المسلمين، سواء في عقائدهم وعباداتهم، أو فيما اختصوا به من عاداتهم وأخلاقهم.

ومنه أيضًا:



ما جاء عن أبي بَكْرَةَ - رضي الله عنه - قال: لقد نَفَعَنِي اللهُ بكلمةٍ أَيَّامَ الجَمَلِ، لَمَّا بَلَغَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ فَارِسًا مَلَّكُوا ابنةَ كِسْرَى، قال: ((لن يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً))؛ رواه البخاري، وكان هذا الاحتساب والبيان منه - عليه الصلاة والسلام - سببًا في انتفاع أبي بكرة - رضي الله عنه - بعد ذلك، والذين يحتسبون بتحذير الأمَّة المسلمة من تولية المرأة ولاياتٍ عامةً هم مقتدون بالنبي - صلى الله عليه وسلم - حين انتقد ذلك، وناصحون لأمَّتهم؛ لأنهم يخافون عليها الخسرانَ وعدم الفلاح؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذَكَر أن مَن يُولُّون النساءَ هذه الولاياتِ لا يفلحون، وهو - صلى الله عليه وسلم - لا ينطق عن الهوى؛ {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النَّجم: 4].

وبهذا يُعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يسكت إذا رأى معروفًا عُطِّل، أو وقع خطأ في فعلِه، حتى يحتسب على صاحبه، فيأمره به، أو يصحح له خطأه فيه، ولا يسكت عن منكرٍ أُظهر، حتى يحتسب على صاحبه بالقول، أو الفعل، أو بهما معًا، مع مراعاته - صلى الله عليه وسلم - للمصالح والمفاسد في احتسابه، وهو قدوتنا في هذه الشعيرة العظيمة التي يريد الكفار والمنافقون وأْدَها، ويفرضون مذهبَ المشركين في عدم الاحتساب على الناس، وترْكهم أحرارًا ينتهكون حُرُمات الله - تعالى - كما يشاؤون، ويقولون كما قال الله - تعالى - حكايةً عن قوم شعيب - عليه السلام -: {يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} [هود: 87]، كفى اللهُ البلادَ والعباد شرَّهم، وردَّهم على أعقابهم خاسرين، إنه سميع قريب، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم.



الخطبة الثانية


الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحبُّ ربُّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

أما بعد:
فاتَّقوا الله - تعالى – وأطيعوه؛ {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 131، 132].

أيها المسلمون:
شعيرة الاحتساب على الناس - بأمرِهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر - هي سببُ بقاء الدين، وبها تُحيا السُّننُ، وتَندثِر البِدَعُ، ويضمحلُّ الفساد، ويتوارى المفسدون، وتعطيلُ شعيرة الحسبة هو سببُ غربة الدين، وإضلالِ الناس، وإماتةِ السنن، وتفشِّي البدع، وانتشارِ المنكرات، وعلوِّ أهلها؛ ولذلك يستميت المفسدون في محاولة إلغاء هذه الشعيرة الربانيَّة العظيمة، التي نالتْ بها هذه الأمةُ الخيريةَ، وفُضِّلتْ بها على غيرها من الأمم؛ {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِالله} [آل عمران: 110].

وما الهجوم المتتابِعُ المتنوع من الكفار والمنافقين والشهوانيين على الحسبة والمحتسبين، إلا محاولةٌ منهم في هدم هذا الرُّكن من الدين؛ لتحقيق أهدافهم الخبيثة في إفساد الناس وإضلالهم، ونشرِ المنكرات فيهم، يريدون بكثرة الطَّرْقِ الإعلامي إلغاءَ الأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر الذي فرَضَه اللهُ - تعالى - على عباده، وجعَلَه من أخصِّ شعائر شريعته الغراء.

إنهم يكذبون على المحتسبين في صُحُفهم، وينسجون القصصَ والروايات الوهمية فيهم، ويضخِّمون أخطاءهم، ويَسخَرون بهم وبعملهم في مقالاتهم ورسومهم، ومَن سَخِرَ بالحِسبة والمحتسبين فهو يَسخَر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه إمام المحتسبين وقُدْوتهم، ويسخر بالله - تعالى - ويعترض على دينه؛ لأن الله - سبحانه وتعالى - هو الذي شرع الحسبة وفرَضَها وأَمَر بها، ورتَّب الوعيد الشديد على ترْكها.

ومن رَضِيَ السخرية بالحسبة والمحتسبين، ولم يُنكر ذلك ولو بقلبه، فلْيعلم أنه قد رضي السخرية بالله - تعالى - وبنبيِّه محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وبدينه الذي بلَّغه عن ربِّه - جل جلاله - فالأمرُ خطير، والخطبُ كبير، ولو كثر الوالغون فيه من الكفار والمنافقين والشهوانيين وجهلة الناس ورعاعهم.

فحريٌّ بكل مسلم أسلم وجهَه لله - تعالى - ورضي بدينه ألاَّ يُصغي للمفسدين في الأرض، الداعين إلى تعطيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وألاَّ يقبل سخريتهم بالحسبة والمحتسبين؛ بل ينكرها بما يستطع، ولو بقلبه، وذلك أضعف الإيمان، كما يجب عليه أن يحيي هذه الشعيرةَ في الناس، كما أحياها الرسل - عليهم السلام - في أقوامهم، وكما أحياها خاتَمُهم - صلى الله عليه وسلم - في مكة والمدينة، وقد قال الله - تعالى -: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَاليَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].

وصلوا وسلموا على نبيكم...





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 200.55 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 195.65 كيلو بايت... تم توفير 4.90 كيلو بايت...بمعدل (2.44%)]