|
ملتقى الأخت المسلمة كل ما يختص بالاخت المسلمة من امور الحياة والدين |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() الزواج كما يصفه القرآن الكريم (1-3) . فايز بن سعيد الزهراني ![]() الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى أصحابه الغرّ الميامين. حين نريد الحديث عن أمر عظيم، ونُدير النقاش حوله، ونعقد له المجالس والأبحاث؛ فإنَّنا بحاجة إلى تصدير ذلك بتعريفه وتصويره، لينجلي المفهوم لمبتغيه، وليتكون لدينا إطار شامل لكل مفرداته وعناصره، وبهذا الإطار نستطيع أنْ نعرف ما يمكن دخوله في مربع المفهوم أو خروجه منه. لكننا لا نجد القرآن ينصُّ على تعريف محدد للأشياء، وإنما ينوّع الحديث عنها وربما وصف بعض عناصرها، ويختار لها سياقات مختلفة، ونراه يضمنها جوانب أخلاقية وأبعادًا وجدانية، كل ذلك بغرض صياغة صورة كاملة للمفهوم تتسم بالشمول والوضوح، ويعلوه البهاء والجمال. والقرآن الكريم ليس لائحة تنظيمية جافَّة تُعبَّأ بالنصوص والبنود، وإنما هو كتاب إلهي، منهج هداية وإرشاد، يراعي فطرة الإنسان ويتلمّس وجدانه ويحيط أحكامه بالنُّبل والشِّيم ويزاوج بين شرائعه وأخلاقه، لذلك انتظمت تلك الهدايات في آيات وسور أعجزت الناس في بيانها وحسن سَبْكها وجميل رَصْفها وسموّ بلاغتها. وفي هذه المباحث الاجتماعية القرآنية سنحاول رسم صورة للزواج؛ نتلمّس معالمها من كتاب الله تعالى، نصًّا أو استنباطًا، ونحاول فهمها من خلال السُّنة الصحيحة، والتي هي في حقيقتها شرح وبيان لما جاء في كتاب الله تعالى، كما قال الإمام أحمد -رحمه الله-: (قواعد الإسلام أربع: دالٌّ، ودليلٌ، ومبيِّنٌ، ومُستدِلٌّ. فالدال: الله تعالى، والدليل: القرآن، والمبيِّن: الرسول صلى الله عليه وسلم ، قال الله تعالى: ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهم﴾[النحل:44]. والمستدِلّ: أولو الألباب وأولو العلم الذين يجمع المسلمون على هدايتهم، ولا يقبل الاستدلال إلا ممن كانت هذه صفته)[1]. والسيرة النبوية وهدي الصحابة الكرام رضي الله عنهم يُعدّان تطبيقًا عمليًّا لمفاهيم القرآن وأحكامه وتوجيهاته، فلذلك كان الرجوع إليهما محتمًا في فهم القرآن وتلمُّس معانيه. ولعله من نافلة القول التذكير بأنَّ القرآن الكريم استعمل أحسن العبارات وأجملها عندما ناقش موضوع الزواج، وكنَّى ولم يُصرّح حين تطلب الأمر ذلك، في إشارة إلى أنَّ المسائل المتعلقة بالعورات والمواقعة ونحو ذلك ينبغي تعلُّمها لا إهمالها، وألا يكون الحياء مانعًا من التفقه فيها، وإنما يمنع فيها نزع جلباب الحشمة والحياء، ويندب فيها الحديث المتأدب السامي. ولقد أحسن الإمام البخاري صُنعًا حين تعرَّض لهذه المسألة فقال: «باب الحياء في العلم»، وأورد قول مجاهد: لا يتعلم العلم مستحْيٍ ولا متكبِّر، وقول عائشة -رضي الله عنها-: رحم الله نساء الأنصار؛ لم يمنعهن الحياء من التفقه في الدين، وأورد حديث أم سلمة قالت: جاءت أم سليم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إنَّ الله لا يستحيي من الحق، فهل على المرأة من غُسل إذا احتلمت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إذا رأت الماء». فغطَّت أم سلمة، تعني وجهها، وقالت: يا رسول الله، وتحتلم المرأة؟ قال: «نعم، تربت يمينك، فبم يشبهها ولدها»[2]. ثم أعقبه بابًا آخر فقال: باب من استحيا فأمر غيره بالسؤال. وأورد فيه حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنت رجلًا مذَّاء، فأمرتُ المقداد بن الأسود أنْ يسأل النبي صلى الله عليه وسلم ، فسأله، فقال: «فيه الوضوء»[3]. فينبغي ألا يكون حياء المسلم مانعًا له عن التعلم والتفقه في المسائل الخاصة. وأشير أخيرًا إلى أهمية تكامل الموضوعات في مفهوم الزواج الذي بيَّنه القرآن، فلا يُكتفى بالأحكام الفقهية دون الآداب والتوجيهات، ولا يُكتفى بتلمُّس المعاني دون النظر في الأحكام العملية، وهكذا. لذلك سأحاول أنْ أنظم عددًا من الموضوعات المفاهيمية المتعلقة بالزواج في ضوء آيات الكتاب العزيز، حسب ما ييسره الله، والله المسؤول أنْ يُوفّقنا جميعًا للتجرد من حظوظ النفس ولإصابة الحق، وأن يعينني على إتمام هذه الموضوعات. وهذا الموضوع أولها، وهو وصف الزواج في القرآن، ويمكن أنْ يكون إجابة عن سؤال: كيف وصف القرآن الكريم الزواج؟ الزواج سكن جعل الله سكون الرجل إلى زوجته آية من آياته الكونية الدالة على وحدانيته وقدرته وعظمته، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21]. وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إلَيْهَا} [الأعراف: 189]. قال المفسرون: ليأنس بها ويأوي إليها[4]، يعني أنَّ آدم عليه السلام لما أسكنه الله سبحانه وتعالى الجنة؛ زوَّجه الله ليسكن، وهذه ملاحظة مهمة فإنَّ آدم -عليه السلام- كان في الجنة، والجنة فيها كل شيء من النعيم، لكن لم يكن له فيها زوجة، فلذلك كان مستوحشًا، فخلق الله تعالى حواء منه لتكون له زوجةً وليسكن إليها، عن ابن عباس وابن مسعود أنَّ الله تعالى أسكن آدم الجنة، فكان يمشي فيها وحشًا ليس له زوج يسكن إليها، فنام نومة فاستيقظ، وإذا عند رأسه امرأة قاعدة؛ خلقها الله من ضلعه، فسألها: من أنت؟ فقالت: امرأة. قال: ولمَ خُلقت؟ قالت: لتسكن إليَّ[5]. فلم يستطع آدم أنْ يسكِّن نفسه بكل ما في تلك الجنة من ملذات ومشتهيات، ولم تطمئن نفسه حتى خلق الله له حواء فتزوجها، فأنِس بها، وآوى إليها، قال الزمخشري: (ليطمئن إليها ويميل ولا ينفر، لأنَّ الجنس إلى الجنس أمْيل وبه آنس، وإذا كانت بعضًا منه كان السكون والمحبة أبلغ، كما يسكن الإنسان إلى ولده ويحبّه محبة نفسه لكونه بَضعة منه)[6]. فعند ذلك قال الله تعالى له: {يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْـجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا} [البقرة: 35]. ولهذا المعنى يحب الرجل من زوجته أنْ تنشط في خدمته، ليس فقط لأجل حاجته المحسوسة لتلك الخدمة، بل لأنه يحب قُرب زوجته منه والتصاق بعضٍ من جسدها أو لباسها أو متاعها ببعض من جسده أو لباسه أو متاعه؛ ليأنس ويطمئن، والمرأة العاقلة تعي ذلك جيدًا وتفطن له فلا تقصُر يدُها عن الحركة وإصلاح ملبس الزوج وأمتعته، وكل ما يتصل به؛ إذ تدلها الحاسة الغريزية التي وهبها الله تعالى على ذلك، روت عائشة رضي الله عنها (أنها كانت ترجِّل النبي صلى الله عليه وسلم وهي حائض، وهو معتكف في المسجد، وهي في حجرتها، يناولها رأسه)[7]، فكونه صلى الله عليه وسلم معتكفًا في المسجد يدل على أنَّ ثمة معنى آخر وراء الخدمة ووراء الشهوة أيضًا؛ ألا وهو الاستئناس والسكن. وفي موضع آخر قالت: (فَتلْتُ قلائدَ بُدْن النبي صلى الله عليه وسلم بيديَّ، ثم قلَّدَها وأشعرَها وأهداها)[8]. فإياك أنْ يقتصر فهمك للرواية على معنى الخدمة المجردة من المشاعر وحركة النفس من داخلها، ألا ترى أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبيل وفاته حين أراد السواك الذي كان يحمله عبد الرحمن بن أبي بكر سارعت عائشة إلى ترطيبه بفمها وتطييبه له؛ ليسكن إلى ذلك ولتسكن هي إليه، تقول: (دخل عبد الرحمن بن أبي بكر على النبي صلى الله عليه وسلم وأنا مُسندته إلى صدري، ومع عبد الرحمن سواك رطب يستنُّ به، فأبدَّهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بصَره، فأخذتُ السواك فقصمْتُه، ونفضتُه وطيبتُه، ثم دفعته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستنَّ به، فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استنَّ استنانًا قط أحسن منه، فما عدا أنْ فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع يده أو إصبعه ثم قال: «في الرفيق الأعلى» ثلاثًا ثم قضى، وكانت تقول: مات بين حاقنتي وذاقنتي)[9]. وقد أشار الحافظ في الفتح عند هذا الحديث إلى قوة فطنة عائشة رضي الله عنها[10]. إنها ليست صدفة أنْ يموت النبي صلى الله عليه وسلم في حِجْر زوجته، بينما مئات الرجال الأشاوس ينتظرون منه إشارة أو كلمة ليقوموا بكل أنواع الطاعة والخدمة والتطبيب والإيناس والفداء والتضحية لأجل رضاه، إنها ليست صدفة؛ فإنَّ الرجل يكون أحوج إلى زوجته في هذه المواقف الشديدة ليسكن إليها، ليرتاح رغم الآلام، لتسند رأسه وظهره على صدرها، لتمسح أوجاعه بيدها، لتلين له السواك بريقها، فيجد البرد والطمأنينة اللتين تخففان عنه ما ألمَّ به. وقد كان صلى الله عليه وسلم في حياته وفي صحته على هذا المسلك، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكئ في حجري وأنا حائض، فيقرأ القرآن)[11]. بل سجَّل القرآن إسرار النبي صلى الله عليه وسلم لبعض أزواجه الحديث، فقال تعالى: {وَإذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} [التحريم: ٣] ؛ فلاحظ كيف يتعامل الرجل مع زوجته فينظر إليها باعتبارها مأوى وسكنًا، حتى إنه ليبث إليها حديثه الخاص: شجونه وهمومه وأسراره ومعاناته، وغير ذلك. ولماذا يفعل ذلك وهو يعلم أنها في كثير من الأحيان لا تقدر أنْ تقدم له إسهامًا محسوسًا متعلقًا بموضوع بثّه وسرّه؟ إلا أنه يحب أنْ يستدفئ بتفاعلها مع حديثه وتعاطفها مع قصته، ويحب أنْ يتلمس مشاعرها بقلبه. ومن هنا قيل: لا يسكن شيء كسكون أحد الزوجين إلى الآخر[12]، ذلك أنَّ النفوس خُلقت متحركة بطبعها ومتهيجة ومستجيبة للمؤثرات المنفعلة داخلها ومن حولها، وكثير من المخلوقات على هذه الحال، فلا سكون أغزر وأحسن وأجمل من سكون الزوجين إلى بعضهما، فلله الحكمة البالغة. ولا يستطيع الإنسان أنْ يستغني عن الزواج في تسكين نفسه بأي نوع من أنواع العلاقات الإنسانية؛ المشروعة والمحرمة، ولو كان ذلك ممكنًا لاكتفى الأنبياء -عليهم السلام- بالوحي المُنَزَّل عليهم سكنًا وأُنسًا. فكيف بتلك الدعوات الآثمة التي تُحرّض على الاستكفاء بالحياة المادية والعلاقات المتنوعة عن التزويج! وكما يتحقق السكن بالقرب والمشاعر والخدمة والحديث؛ يتحقق بالمباشرة والجماع، فبهما تُشبع الحاجة الغريزية التي أودعها الله في النفوس، قال القرطبي: (فأول ارتفاق الرجل بالمرأة سكونه إليها مما فيه من غليان القوة، وذلك أنَّ الفَرْج إذا تُحمِّل فيه هيَّجَ ماء الصلب إليه، فإليها يسكن وبها يتخلص من الهياج)[13]. وهذه الحاجة الغريزية هي قوة الشهوة التي تهيج؛ فلا تسكن إلا بالجماع، وإلى هذا المعنى أشار النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى امرأة، فأتى امرأته زينب، وهي تمعس منيئة لها، أيْ تدلك جلدًا في أول دَبْغه، فقضى حاجته، ثم خرج إلى أصحابه، فقال: «إذا أبصر أحدكم امرأةً فليأتِ أهله، فإنَّ ذلك يردُّ ما في نفسه»[14]، أيْ من غليان الشهوة واضطراب النفس الناتج عنها. هكذا تسكن غريزة الرجل، ويسكن بصره، ويسكن سمعه، ويسكن وجدانه، وتطمئن نفسه، وهكذا تصبح الزوجة مأوى، وهذه فخامة المرأة: أنْ يجعلها الله -سبحانه وتعالى- سكنًا لهؤلاء الرجال الأشاوس الذين منهم القادة والوجهاء، والذين منهم الجبابرة والزعماء الذين تخضع لهم قامات وكيانات... فتجدهم مرهفي الحس عند نسائهم، مسارعين لأهوائهن، متوددين لرضاهن! وليس هذا من بدع زماننا، فالتاريخ طافح بأخبارهم. ولا تستغرب كون المرأة سكنًا لزوجها، فإنما ألفنا النظر إلى مشاهد الحياة المتكررة والمتضمنة نحوًا من هذا، فنحن نرى الأم وهي مأوى لأولادها -وإنْ كبروا- دون استغراب؛ فهذه عظمة الأم في الحقيقة، وهكذا خلق الله -سبحانه وتعالى- هذا الكون بهذا النظام، وجعل هذه الشهوة مفتاحًا لسلوك الحياة السوية.. للحياة الحقيقية. ولأنَّ التزويج بين الذكر والأنثى انعقد باسم الله، وكما يريد الله تعالى؛ فإنَّ بركته تحل في ماهيات الزواج، لذلك يحصل السكن، ولا يحصل هذا التسكين بالزنا ولا بالعلاقات المحرمة، وإنما هي لذائذ مادية مؤقتة سرعان ما تنقضي وتتبدل إلى كآبة ووجد وإلى اضطراب وحسرات. وتأمل حال المجتمعات التي أبت أنْ تعقد التزويج باسم الله، وتزاوجوا بعيدًا عن شريعة الله، تأمل كيف آل بهم الحال إلى تشريد الأبناء وتضييع الأنساب وإبادة الأخلاق وتسليع المرأة والرجل والمتاجرة بهما. ليس الزانيان -مهما غيّروا وصفهما- فحسب مَن فقد السكون والطمأنينة، بل المجتمع في عمومه تحوّل إلى غابة وحشية، يعتدي القوي فيه على الضعيف، وينزو الرجل فيه على المرأة كالحيوانات؛ أجلَّكم الله. الزواج لباس في موضع آخر من القرآن الكريم نجد الله تعالى يصف كلًا من الزوجين بأنه لباس لزوجه، فيقول الله -عز وجل-: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} [البقرة: 187]؛ فوصْفُ الزوجين باللباس وصف عجيب، فإنَّ أصل اللباس هو ما يشتمله الإنسان على جسده من ثياب. وكلام أهل التفسير في هذه الآية يدور حول ثلاث معانٍ متقاربة[15]: الأول: بمعنى أنَّ كل واحد منهما جُعل للآخر لباسًا لتجردهما عند النوم، وانضمام جسد كل واحد منهما لصاحبه والتصاقهما؛ بحيث يصبح كل واحد منها في منزلة الثوب الذي يلبسه، قال الربيع بن أنس: هنَّ فراش لكم وأنتم لحاف لهنَّ. وهذا معروف في لغة العرب، لذلك استشهد أهل اللغة والتفسير بقول نابغة بني جعدة: إذا ما الضجيع ثنى عطفها تثنَّت فكانت عليه لباسا فكل واحد منهما لباس للآخر يشتمل به حين المواقعة. الثاني: بمعنى السكن، فيكون كل واحد منهما لباسًا لصاحبه بمعنى سكونه إليه، وهو قول مجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وغيرهم، كحال الإنسان إذا اشتمل ثوبًا؛ فإنَّ هذا الثوب محيط به فكأن اللابس استقر في ثوبه، وأبين ذلك حالًا حين المواقعة، وقد أشار إلى ذلك عبد الرحمن بن زيد. الثالث: بمعنى الستر، فكل واحد من الزوجين ستر لصاحبه عما يسوء، لما يُكسبه الزواج لكل من الزوجين من العفة والشرف ورفيع الأخلاق والتسامي عن الرذائل ودنيء الخلاق، وستر لهما أثناء الجماع والمواقعة والملاعبة. ذلك، واللباس يحمل كل هذه المعاني، والعرب تسمي الزوجة لباسًا وإزارًا، لما يتضمنه من كثرة الالتصاق والمخالطة والسَّتر، والعرب تصف الناس بأنواع اللباس، بحسب موقع ذلك الوصف، بل إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته للأنصار عقب حنين: «الأنصار شعار والناس دثار»[16]. والشعار والدثار أثواب تُلْبَس؛ فالشعار الثوب الذي يلي الجسد، والدثار الذين يكون فوق الشعار، ومعنى الحديث: الأنصار هم البطانة والخاصة والأصفياء وألصق بي من سائر الناس[17]. فانظر كيف أعلى من شأنهم بتشبيههم باللباس الملاصق للبدن. ولا نزال نسمع هذا الحرف في القبائل العربية إلى اليوم، فيقولون: فلان لباس جنب، وفلان عصابة رأس، ويقصدون بذلك الثقة في صحبته وقُربه، وأنها محل الثناء والإعلاء. ووصف الزوجين باللباس ينبئ عن روح العلاقة الزوجية وجمالها وامتزاج كل من الزوجين في الآخر، جسدًا وروحًا ومشاعر. وقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} [البقرة: 187]؛ نزلت في سياق أحكام الجماع في رمضان، فالرفث: الجماع[18]؛ أحله الله تعالى للزوجين في الليل من رمضان، وبيَّن أنه تعالى أحلَّه رحمةً بهم؛ لأنهما لشدة مخالطتهما ببعضهما في هذا الوقت يشقّ عليهما التحرز منه، فلذلك شبَّههما باللباس لبعضهما، فكل من الزوجين ستر للآخر حين الجماع، وستر له عن الآخرين، وستر للشهوة أنْ تطفو فتظهر أعراضها للآخرين، وهي حال لا يليق بها إلا الستر، ومِن ثم جاءت آدابٌ في الاستئذان، كما جاءت تحذيرات من وصف المواقعة لما فيها هتك الستور، وكثير من شؤون الحياة الزوجية ينبغي أنْ يكتنفه الستر والخفاء وعدم إظهاره للناس. وإنما تساهل بعض الناس بهذا تأثرًا بحال النصارى -بعد أنْ حرَّفوا دين الله- الذين يغلب عليهم التهتك والدياثة والشيوع وإباحة الفروج، وتأثرًا بالدعوة الهدامة التي تُعلن بأنَّ جسد المرأة حقّ لها ولها حرية التصرف فيه مطلقًا. نسأل الله العافية لنا ولكم وللمسلمين. [1] العدة في أصول الفقه 1/135. [2] أخرجه البخاري ح130. [3] أخرجه البخاري ح132. [4] معالم التنزيل 3/313. [5] جامع البيان 1/548. [6] الكشاف 2/ 186. [7] أخرجه البخاري ح2046 ومسلم ح297. [8] أخرجه البخاري ح1696 ومسلم ح1321. [9] أخرجه البخاري ح4438 [10] فتح الباري 8/139. [11] أخرجه البخاري ح297 ومسلم ح301. [12] معالم التنزيل 1/207. [13] الجامع لأحكام القرآن 14/17. [14] أخرجه مسلم ح1403 [15] تفسير الطبري 3/231، تفسير ابن أبي حاتم 1/316، تفسير البغوي 1/207. [16] أخرجه البخاري ح4330، ومسلم ح1061. [17] شرح النووي 7/157. [18] جامع البيان 3/229.
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() الزواج كما يصفه القرآن الكريم (2-3) . فايز بن سعيد الزهراني ![]() الزواج فِطْرَة القرآن يتحدَّث عن الزواج باعتباره فِطرةً جُعلتْ في الناس في أصل خلقتهم؛ حيث يقول الله -سبحانه-: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21]؛ خلق لكم وجعل بينكم، فلستم أنتم الذين اخترتم هذا الشيء من بين بدائل متنوعة، ولا أنتم الذين ابتدعتموه نظامًا اجتماعيًّا، أيْ أنه لم يصدر قانون صنعته البشرية باستحداث علاقة إنسانية -على سبيل المثال- تسمى الزواج، ولم يكن الزواج نتاجًا فكريًّا أنتجته أُمَّة من الأمم أو حضارة من الحضارات القديمة، وإنما هو فِطْرة جعلها الله في الأحياء. ومنذ أنْ خلق الله -تعالى- آدم؛ خلَق في نفسه الحنين إلى الزواج، قال -تعالى-{يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28]، قال طاووس: «في أمور النساء، ليس يكون الإنسان في شيء أضعف منه في النساء»[1]. ولذلك كان آدم -وهو في الجنة- يشعر بالوحشة؛ لأنَّ الله فطَره على ألا يأوي ولا يسكن إلا إلى زوجة، فالزوجة إذًا هي السكن الكبير فطرة وأصلاً، والناس حين يتزوجون ويحافظون على تنمية الزوجية في مجتمعاتهم إنما يعملون بالأصل المشترك بين البشرية، يعملون بالفطرة؛ والفطرة هي لُبّ الدِّين. وبالتالي فإنَّ الدعوات المنادية بالاستغناء عن الزواج والاستعاضة عنه بأنماط متنوعة من العلاقات -ليس منها تزويج الذكر بالأنثى بعقد صحيح-؛ إنما تريد أنْ تنقض هذه الفطرة، وتريد أنْ تُخرِّب غرائز الناس وتُشوِّه تكوينهم، وفي هذا إفساد للحياة والأحياء، وقضاء على الأنساب وحرمان من الذرية المؤنسة والأجيال البانية، فكيف يتحقق السكن والاستقرار للأفراد والمجتمعات حين يُفْضِي اللوطيون «الشواذ» بعضهم إلى بعض؟ وكيف يمكنهم الوصول إلى روح الزوجية وحقيقتها الإنسانية؟ وأولئك الذين يمتنعون عن الزواج رغبةً عنه، أو اكتفاءً ربما بالصداقات المُحرَّمة التي تكون بين الجنسين، أو استحسانًا لما هم عليه من حال وظيفية أو مالية، أو خوفًا من تبعاته... كلهم قد خالف الفطرة الصحيحة، حتى تلك الفتاة التي استغنت بوظيفتها أو بما تحصل عليه من مرتبات مالية، بل حتى تلك المرأة التي اكتفت بانشغالها بطلب العلم والدعوة إلى الله عن قبول الزواج بِمَن لا يُرَدُّ شرعًا؛ قد انحرفت عن طريق الفِطْرة. وتُخْتَرع اليومَ أفكارٌ تُؤدِّي إلى الاستغناء التامّ عن الحياة الزوجية، أو عن جزءٍ منها، بوحي من الشيطان الذي يهمّه هذا الأمر كثيرًا، ثم تُصدر إلى الأجيال عبر قنوات الاتصال والإعلام. لا شك أنَّ هذه الدعوات والاستحسانات من كيد الشيطان وخطواته التي أقسم على أنْ يُغَيِّر بها فطرة الناس التي يدينون بها، فقد أخبرنا الله -تعالى- عن قَسَمه؛ فقال -تعالى-: {وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا 198 وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا} [النساء: 198، 199]؛ وتغيير خَلْق الله يعني تغيير فِطْرته؛ فإنَّها مِن خَلق الله، ودليل ذلك قوله -تعالى-: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِـخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30]؛ فسمى الفطرة هنا خَلْق الله. والمقصود أنَّ الشيطان لا يألو جهدًا في تطوير أدواته وتسخير جُنْده لصَرْف الناس عن فطرة الزواج. إنَّ إقبال الرجال والنساء على الزواج عمل آدمي صحيح فطرة وشرعًا وصحةً واجتماعًا، فيه تحقيق للفطرة، وانسجام مع نظام مخلوقات الله -تعالى- المذكورة في قوله -تعالى-: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات: 49]، وفيه أيضًا مراغمةٌ للشيطان وإغاظةٌ له، ودَفْعٌ لصائلته، وردٌّ لكيده، وإفسادٌ ليمينه، قال ابن القيم: «فهذا الوصال لما كان أحبَّ شيءٍ إلى الله ورسوله؛ كان أبغض شيء إلى عدو الله، فهو يسعى في التفريق بين المتحابين في الله المحبة التي يحبّها الله، ويُؤلّف بين الاثنين في المحبة التي يبغضها الله ويسخطها. وأكثر العشاق من جنده وعسكره، ويرتقي بهم الحال حتى يصير هو من جندهم وعسكرهم، يقود لهم، ويزين لهم الفواحش، ويؤلف بينهم عليها»[2]. وهو يشير في هذه المقارنة إلى ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنَّ إبليس يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، يجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا، فيقول: ما صنعت شيئًا، قال ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرَّقت بينه وبين امرأته، قال: فيُدنيه منه ويقول: نعم أنت»، قال الأعمش: أراه قال: «فيلتزمه»[3]. والحب بين الزوجين فِطْرة كذلك، ولذلك امتنَّ الله بأنْ جعله بينهما في قوله -جل شأنه-: {وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21]. والمودة هي المحبة، قال البغوي: «ما شيء أحب إلى أحدهما من الآخر»[4]؛ أي أنَّ كل واحد من الزوجين قد أحبّ الآخر أشد ما يكون الحب بين الناس، ولذلك لما سأل عمرو بن العاص رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحب الناس إليك؟ قال: «عائشة»[5]. وهذا حُبّ فِطْري محمود. لكنها ليست كأي محبة، بل هي خالصها وأجملها وأرقّها، وهي التي تحمل في طياتها معاني الخير، لذلك عرّفوا الوُدَّ بأنه: الحب يكون في جميع مداخل الخير[6]. وقد اختار الله هذا الوصف في سياق الامتنان، ومن ذلك أنك تجد كلاً من الزوجين قبل الزواج ولا رابطة قلبية بينهما، فإذا ما عُقِدَ النكاح انعطفت القلوب على بعضها مودةً ورحمةً، وانعقد الحبّ بين قلبيهما، خلافًا للحب الناتج عن علاقة محرمة تكون بين الرجل والمرأة؛ فإنه لا يصل إلى سمو محبة الزوجين ولا إلى جمالها ورقّتها، بل هو حبّ مَبتور سرعان ما تتقطع وشائجه وتنحسر ظِلاله. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُصرّح بحبّه لأزواجه، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: ما غِرْت على نساء النبي صلى الله عليه وسلم إلا على خديجة وإني لم أُدركها، قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذبح الشاة يقول: «أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة»، قالت: فأغضبتُهُ يومًا فقلتُ: خديجةَ! فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إني قد رُزِقْتُ حُبّها»[7]. وعنها أيضًا قالت: استأذنتْ هالةُ بنت خويلد، أُختُ خديجة، على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعرَف استئذان خديجة فارتاع لذلك، فقال: «اللهم هالة!» قالت: فغِرْتُ، فقلتُ: ما تَذْكر من عجوز من عجائز قريش، حمراء الشدقين، هلكتْ في الدهر، قد أبدلك الله خيرًا منها!»[8]. وسبب الحب فِطريّ راجع إلى أصله، وهو التجانس، وكون المرأة خُلِقَت من الرجل الأول آدم، قال ابن حزم: «فجعل علة السكون أنها منه، قال الله -تعالى-: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إلَيْهَا} [الأعراف: 189]. ولو كان علّة الحبّ حُسْن الصورة الجسدية لوجب ألا يُستحسن الأنقص في الصورة، ونحن نجد كثيرًا ممن يُؤثِر الأدنى ويَعلم فَضْل غيره ولا يجد محيدًا لقلبه عنه. ولو كان للموافقة في الأخلاق لما أحبّ المرء مَن لا يساعده ولا يوافقه، فعلمنا أنه شيء في ذات النفس. وربما كانت المحبة لسببٍ من الأسباب، وتلك تَفْنَى بفناء سببها، فمن وَدَّك لأمرٍ ولَّى مع انقضائه، ومما يؤكد هذا القول أننا علمنا أنَّ المحبة ضروب، فأفضلها: محبة المتحابين في الله -عز وجل- إما لاجتهاد في العمل، وإما لاتفاق في أصل النِّحْلة والمذهب وإما لفضل عِلْم يُمنحه الإنسان، ومحبة القرابة، ومحبة الألفة في الاشتراك في المطالب، ومحبة التصاحب والمعرفة، ومحبة لبرٍّ يضعه المرء عند أخيه، ومحبة الطمع في جاه المحبوب، ومحبة المتحابين لسِرّ يجتمعان عليه يلزمهما ستره، ومحبة بلوغ اللذة وقضاء الوطر، ومحبة العشق التي لا علة لها إلا ما ذكرنا من اتصال النفوس. فكلّ هذه الأجناس منقضية مع انقضاء عِلَلها، وزائدة بزيادتها وناقصة بنقصانها، متأكدة بدُنُوّها فاترة ببُعدها، حاشا محبة العشق الصحيح المتمكِّن من النفس؛ فهي التي لا فناء لها إلا بالموت»[9]. وعليه فإنَّ علاقة الرجل بزوجته ليست علاقة شراكة، كما يقال أحيانًا: «شريكة الحياة» و«شريك الحياة»، فهما أكثر من كونهما شريكان، فالمرأة جزء رئيس من حياة زوجها، وهو لا يستطيع العيش بدونها، إلا إذا قِيلَت تجوُّزًا وتقريبًا للمعنى لا تحقيقًا له. هكذا يُعلّمنا القرآن أنَّ أصل المسألة فطريّ، لذلك قال ابن حزم: «فصحَّ بذلك أنه استحسان روحاني وامتزاج نفساني»[10]. وبناء الزوجية ليس كبناء الشركات والمؤسسات كما تريد الثقافة الغربية أنْ تُصدِّره لمجتمعاتنا، فتُمثِّل الحياة الزوجية بالشراكة المبنية على المحاصصة واستقلال القرار الفردي فيها، ففي الوقت الذي يرغب فيه الشريك بالانفصال عليه أنْ يؤدّي ما عليه من حقوق، وأنْ يفي بما عليه من اشتراطات الشراكة، ثم ينفصل دون مراعاةٍ لكثيرٍ من الأمور، إلى غير ذلك من تعقيدات الشراكة. الزوجان ليسا في شركة أو مؤسسة، الزوجان أسَّسا حياتهما الجديدة كاملة، وامتزجا ببعضهما، فهذه فطرية الحب وبالزواج اكتمالها، كما في الآية: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} [البقرة: 187]. والمرأة تميل إلى الرجل وتُحبّه للغاية، وتنتقل من بيت أبيها إلى بيته ومن بلدة أبيها إلى بلدته، وتُفضّل العيش معه في بيته وبلدته، وتتخلَّى عن أهلها لأجل ذلك، بل وتجدّد لأجل ذلك برنامجها ونظام معيشتها وطريقة حياتها، لتبدأ من جديد مع زوج لم تتصل به من قبل، ولا خالطته، فكيف تقبَّلت نفسُها هذا التغيُّر الجذريّ في حياتها لولا أنَّ فِطرتها تُوافقها على ذلك؛ فهي منذ لحظة الزواج الأولى وثَّقت وأحبَّت وأفْضَت وفوَّضت.. إنَّ ذلك دليل فطرية الحب والزواج الصحيحين، بل يصير مما تُمدَح به المرأة في سوائها النفسي والشخصي. ولذلك فالحب لا يُصْطَنع، إنما هو شيء يهبه الله -تعالى-، قال -تعالى-: {وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21]؛ فهو الجاعل -سبحانه- لذلك، ومقتضى ذلك أنْ نتوجَّه إلى الله فنطلب منه نماء هذا الحب، ألا ترى أنَّ عباد الرحمن الذين أثنى الله -تعالى- عليهم يفعلون ذلك، قال -تعالى-: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إمَامًا} [الفرقان: 74] ؛ كما أنَّه يستلزم شكر نعمة الله -تعالى- علينا بأنْ جعل لأنفسنا ما يُسكنها من المحبة الزوجية. الزواج ميثاق قال الله -تعالى-: {وَإنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإثْمًا مُّبِينًا 20 وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 20، 21]. فما الميثاق الذي أخذه النساء على أزواجهن؟ قال مجاهد: «كلمة النكاح التي استحل بها فروجهن»[11]، يعني قولهما في العقد: زوَّجْتُك، وقَبلتُ على الإمساك بالمعروف إمساكًا صالحًا، أو تسريحها بالإحسان وبخير فراق، هذا هو الميثاق الغليظ، فتصبح المرأة بعد هذا الميثاق في أمان واطمئنان، قال قتادة: «وكان في عقدة المسلمين عند نكاحهن: أيم الله عليك لتمسكنَّ بمعروف، ولتسرحنَّ بإحسان»[12]. والمواثقة مسؤولية؛ حيث الكلمة العظيمة التي نطق بها كل من الزوج والزوجة وولي الزوجة حين قال الولي بعد موافقتها: زوَّجْتُك موليتي، فقال الرجل: قبلتُ. وهي كلمة من الكلمات التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم : «جدّهن جدّ، وهزلهن جدّ»[13]؛ وما ذلك إلا تعظيمًا لشأن عقد النكاح، ورفضًا لأي تلاعُب أو استخفافٍ به. وهذا الأسلوب القرآني بالغ البيان عن المراد من تغليظ مسؤولية عقد النكاح، فهو يُذكِّر الرجال بالكلمة التي أعطوها حين العقد، وما ترتَّب عليها من استحلال الأبضاع، فيقول الله -سبحانه-: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 21]؛ والإفضاء هو المباشرة والجماع؛ كما قال ذلك ابن عباس ومجاهد، وغيرهما[14]؛ فكأنه -سبحانه- يقول: إنَّ المهر الذي بذلتموه أيها الرجال لكي تُصبح أزواجَكم حلالاً لكم؛ لا يحل لكم أنْ تسترجعوه بعد أنْ قبلتم الزواج بهن، وكان بينكم من المواثقة والمباشرة والمُواقَعة ما كان.. إنه لا ينبغي لكم استرجاعه في حال أردتم الطلاق، وإنكم إذا استرجعتموه فقد فعلتم منكرًا وقبيحًا؛ وذلك لأنَّ ميثاق الزواج ميثاق عظيم ينبغي الالتزام به بأقصى الطاقة. وبهذه الآية تُحَمِّل الشريعةُ الرجلَ مسؤوليةً أخلاقيةً كبيرةً في تكميل متطلبات العقد والحرص على توثيقه، يدلُّك على ذلك أيضًا ما شرعه الله من عقوبة للذين يتهاونون بكلمة النكاح، فيُصدرون -في حالة مزاجية متعكرة- كلمات يَنفُون بها معنى الزوجية، كقول أحدهم: «أنتِ عليَّ كظهر أمي»؛ أيْ أنك محرمةٌ عليَّ كتحريم أمي عليَّ، وهي عقوبة مغلظة تكافئ هذا الخطأ، قال -تعالى-: {وَإنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة: ٢]؛ فهؤلاء الذين يتلاعبون، والذين يُشغّبون على عقد النكاح؛ إذا أرادوا مُباشَرة نسائهم بعد قولهم ذلك فإنَّ عليهم أنْ يقدموا دليلاً واقعيًّا على احترامهم وتقديرهم لهذا العقد، فعليهم أولاً أنْ يُحرِّرُوا رقبةً، فإنْ لم يتمكنوا من ذلك فعليهم أنْ يصوموا شهرين متتابعين، فإنْ لم يستطيعوا فعليهم أنْ يُطْعموا ستين مسكينًا، عقوبةً رادعةً لهم وتأديبًا على استخفافهم بكلمة النكاح. قال -تعالى-: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِـمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: ٣]، تقول الآية: كيف تُحرِّمها على نفسك أيها الزوج؟ وأنت إنما أخذتها بعقدٍ وبكلمةٍ! وأخذتها بميثاقٍ غليظٍ! فتأمَّل حجم العقوبة المكافئ لحجم العقد والميثاق. القرآن يُربّينا على أنَّ الزواج مسؤولية، ويذكِّرك بأنَّ المرأة التي نكحتها بكلمة الله كانت في بيتٍ كما هي الآن عندك في بيتك، وكان يحيط بها رجال كما تُحيط بها أنت الآن، وإنما انتقلتْ إلى بيتك وأحبَّتك وأحببتها وأفْضَتْ إليك وأفضَيْتَ إليها بموجب هذا العقد المبارك؛ فيجب عليك تعظيم هذا العقد والالتزام بمسؤولياته وتَبِعاته. وحين يريد أحدٌ الزواج؛ فعلى أبيه وإخوته وعصبته وأصحابه أنْ يُفْهموه هذا الأمر، ومن هنا يأتي اشتراط قُدرة الخاطب ومريد الزواج على تحمُّل المسؤولية؛ لأنها تُعبِّر عن التزام أخلاقيّ ومعنى رجولي متمكِّن فيه، فهذا ميثاق عظيم يتطلب ذلك. والحق أنَّ المسؤولية ليست مقصورةً على الرجل، فكذلك المرأة حين تَقبل الزواج؛ عليها أنْ تتحمَّل تَبِعَة قَبُولها زوجة، وعليها أنْ تُعظِّم في قلبها شأن العقد، وأنْ تعتني بالرجل الذي قَبِلته عشيرًا لها تُفْضِي إليه ويُفْضِي إليها. وقد حكى الله -تعالى، في هذا السياق- قصة امرأة فرعون، وهي امرأة مؤمنة في عصمة زوج كافر، وأيُّ زوج! فهو الطاغية الجبار العنيد، المحارب لله ولرسله وللذين آمنوا، وقد آمنت خفيةً، فصبرت على البقاء معه لما يحمله قلبها من تعظيم حال الزوجية لا حبًّا في الزوج الكافر، فلما علم بأمرها تناولها بالتعذيب فصبرت أيضًا، قال -تعالى-: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْـجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِـمِينَ} [التحريم: ١١] ؛ فهي -وهي في هذه الحال- لم تسأل طلاقًا ولم تهدم بيتًا، وإنما فوَّضت أمرها إلى الله -تعالى- في اختيار الطريقة التي تنجو بها من تلك الحال، فاكتفت بسؤال الله النجاة، فكان لها ما أرادت من هدوء الانفكاك من عصمة الزوج الكافر الجبار، فماتت بعد دعائها، ثابتةً مُعظِّمَةً لعقد الزوجية كرامةً من الله. والمؤمنة لا تبادر إلى الاختلاع من زوجها أو مفارقته إلا في أضيق الظروف؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : «أيما امرأة سألت زوجها طلاقًا في غير ما بأس، فحرام عليها رائحة الجنة»[15]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «المنتزعات والمختلعات هن المنافقات»[16]. والمقصود اللاتي يطلبن الخلع والطلاق من أزواجهن بغير عذر[17]؛ فإنَّ هذا الصنيع المُستقبَح يدلّ على ما تُخفيه نفوسهن من استخفافٍ بأحكام الله وتضييع للمواثيق الغليظة وتقطيع لما أمر الله بوَصْله. ومن الأفكار المخترعة والتي أوحاها الشيطان إلى أوليائه منذ زمن «زواج المساكنة» الذي يعيش فيه «الشريكان» في بيت واحد بلا عقد شرعي هروبًا من الحقوق والالتزامات الزوجية، ويظل الرجل والمرأة يزنيان الدهر وربما أنجبا الأولاد. وهو نَمَط معيشي اخترعه الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يُقرّون بالرسالات، وأقرَّته مواثيق دولية، وجعلت له حقوقًا والتزامات هي أقل درجة من حقوق الزواج والتزاماته، وأصبح جزءًا من تعريف الأسرة في الغرب. فإذًا على المجتمعات أنْ تُعظِّم عقد النكاح، وأنْ تبذل وُسْعها في رعايته وحمايته وإصلاحه وتهذيبه، ومن هنا جاءت الشريعة بالإصلاح بين الزوجين؛ قال الله -تعالى-: {وَإنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْـحًا وَالصُّلْـحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإن تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا 128 وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْـمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْـمُعَلَّقَةِ وَإن تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا} [النساء: 128، 129]. وعلى المجتمعات أنْ تمنع وتحارب تلك الدعوات، الظاهرة والمبطنة، التي تدعو إلى هدم بيوت الزوجية لأسباب تافهة أو غير مشروعة، والتي تُزيِّن للمرأة وتحضُّها على الاختلاع من زوجها، فإنها نذير شؤم على المجتمعات والبيوت، وكل عمل يقوِّي ميثاق الزوجية ويحافظ على كيانها يدخل في فروض الكفايات، والتي هي من أجلِّ الأعمال الصالحة وأعلاها وأكثرها ثوابًا، لما يتحقَّق بها من الفضائل، ولما يدفع بها من الشرور. [1] جامع البيان 6/625. [2] روضة المحبين ص317. [3] أخرجه مسلم ح2813. [4] معالم التنزيل 6/266. [5] أخرجه الترمذي ح3886 وابن حبان ح7107، وصححه الألباني في التعليقات الحسان ح7063. [6] لسان العرب (مادة: ودد)، وانظر: روضة المحبين ص74. [7] أخرجه مسلم ح2435. [8] أخرجه البخاري ح3821 ومسلم ح2437. [9] طوق الحمامة ص6. [10] طوق الحمامة ص7. [11] جامع البيان 6/544. [12] جامع البيان 6/544. [13] أخرجه أبو داود ح2194، والترمذي ح1184، وقال: «هذا حديث حسن غريب، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وغيرهم». [14] جامع البيان 6/541. [15] أخرجه أبو داود ح2226، والترمذي ح1187، وصححه الألباني في صحيح الجامع ح2706. [16] أخرجه النسائي ح3461 وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة ح632. [17] النهاية في غريب الحديث 2/65.
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() الزواج كما يصفه القرآن الكريم (3-3) . فايز بن سعيد الزهراني ![]() الزواج عبودية لله حين نتأمل الآيات القرآنية فإننا نجدها تَعْبُرُ بفطرية الحُبّ وحاجيَّة الزواج إلى جانب التعبُّد لله به؛ لأنَّ الحفاظ على «الميثاق الغليظ» يستلزم من الرجل ومن المرأة أنْ يكونا أوفياء بهذا العقد. يدل على ذلك التوجيهات الربانية التي عالجت أخطاء الاستهانة بعقد النكاح، ومن ذلك ما رواه هشام بن عروة[1] عن أبيه قال: كان الرجل يُطلِّق ما شاء، ثم إنْ راجع امرأته قبل أنْ تنقضي عدّتها كانت امرأته، فغضب رجل من الأنصار على امرأته، فقال لها: لا أقربك ولا تَحلِّين مني! قالت له: كيف؟ قال: أُطلِّقك، حتى إذا دنا أجلك راجعتك ثم أطلقك، فإذا دنا أجلك راجعتك. قال: فشكت ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى الآية: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسَانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إلَّا أَن يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِـمُونَ 229 فَإن طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإن طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 229، 230]؛ وذلك كان سبب نزول الآية. أما ما يعنيه ويرمي إليه قوله تعالى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِـمُونَ﴾؛ فكما يقول الطبري: «هذه الأشياء التي بيَّنْتُ لكم حلالها من حرامها: حدودي، يعني به معالم فصول ما بين طاعتي ومعصيتي فلا تعتدوها؛ يقول: فلا تتجاوزوا ما أحللته لكم إلى ما حرَّمته عليكم، وما أمرتكم به إلى ما نهيتكم عنه، ولا طاعتي إلى معصيتي؛ فإنَّ مَن تعدَّى ذلك؛ يعني مَن تخطَّاه وتجاوزه إلى ما حرَّمتُ عليه أو نهيتُه؛ فإنه هو الظالم»[2]. فأنت تلاحظ اعتناء القرآن بحيثيات الزواج والطلاق، ثم تلاحظ أنه يُحذِّر من تعدِّي حدود الله في هذا الشأن، ويُسمِّيه ظلمًا. والصبر على تحمُّل مسؤولية الزواج من كلا الزوجين، وما في ذلك من بعض المخاشنة أحيانًا ومعاناة التربية ورعاية الأولاد وصيانة الكيان وتجاوز المشكلات.. الصبر على ذلك عبادة لله -تعالى-، وامتثال لأوامره وتحقيق لوصيته، قال -تعالى-: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْـمَعْرُوفِ فَإن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19]. وإلى هذا المعنى أشار السعدي -رحمه الله-؛ فذكر أنَّ من الخير الكثير المقصود في الآية: «امتثال أمر الله وقبول وصيته التي فيها سعادة الدنيا والآخرة، ومنها أنَّ إجباره نفسه -مع عدم محبته لها- فيه مجاهدة النفس والتخلق بالأخلاق الجميلة، وربما أنَّ الكراهة تزول وتخلفها المحبة؛ كما هو الواقع في ذلك»[3]. ويُصوِّر الإعلام اليوم ألوانًا وردية للحياة الزوجية، تُعْلِي من شأن السعادة المادية المبنية على مبدأ «الاستهلاك يصنع السعادة»، والتي لا تعْبأُ بأهمية الجانب الروحي والوجداني، فضلًا عن الاستقامة على أمر الله في الشأن الزواجي، وتُرَوِّج السينما الرومانسية وفقًا لذلك، فيأتون بأجمل الشباب، وأجمل البنات، وأجمل المساكن، وأجمل المقتنيات، ثم لا نقص في المال، ولا عناء في تربية الأولاد ورعايتهم، ولا أمراض تعترض طريقهم، مع زهاء في ألوان الشاشة واحتيال في زوايا التصوير، ليُصوِّروا للناس أنَّ ما يُعْرَض هو نَمَط الحياة الزوجية التي ينبغي أنْ يعيشها الزوجان، أيُّ زوجين، بينما لا يحصل شيء من ذلك عالم الإنسان، إلا ما ندر وشذ، فإنَّ بيوت الناس مبنية على واقع إنساني تعترضه آفات ومتاعب، وهذه هي الطبيعة البشرية؛ قال -تعالى-: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ﴾ [البلد: 4]؛ قال الحسن: «يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة». وقال قتادة: «في مشقة فلا تلقاه إلا يكابد أمر الدنيا والآخرة». وقال ابن عباس: «في شدة خلق؛ حمله وولادته ورضاعه، وفطامه وفصاله ومعاشه وحياته وموته»[4]. وبالتالي فإنَّ الصبر على تحمُّل المعاناة الزوجية صبرٌ يحبّه الله ويثيب عليه، يستوعب أنواع الصبر الثلاثة: الصبر على طاعة الله، والصبر عن معصيته، والصبر على الأقدار المؤلمة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ونساؤكم من أهل الجنة الودود الولود العؤود على زوجها، التي إذا غضب جاءت حتى تضع يدها في يد زوجها، وتقول: لا أذوق غمضًا حتى ترضى»[5]. الرجل عليه طلب الكسب والسعي للرزق، عليه أنْ يسعى في الأرض، عليه أنْ يخرج للعناء جزءًا من يومه، ليجلب الطعام والكساء والدواء، فضلًا عن إيجاد المسكن، وكل ذلك من مقوّمات القوامة والولاية على زوجه وأولاده، ويثيبه الله بقدر جهده في ذلك، فعن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجِرْت عليها، حتى ما تجعل في فيِّ امرأتك»[6]. وعن أبي مسعود البدري - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «نفقة الرجل على أهله صدقة»[7]. وعن المقدام - رضي الله عنه - أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ما أطعمت نفسك فهو صدقة، وما أطعمت ولدك وزوجتك وخادمك فهو صدقة»[8]. والمرأة تمكث في البيت فتصونه، وتُصلح الطعام، وتربّي الأطفال، وتكابد في ذلك التعب والمشقة، وتشاطر الزوج أعمال البيت؛ فيكون عليه أعمال الخارج ويكون عليها أعمال الداخل، وتنثر في جوانبه البهجة والحنان والسكينة، وتصبر على هذا البرنامج اليومي والمستمر، فتنتج الأولاد الصالحين، وتُعين الزوج فيكون لها مثل أجورهم بتعليمها ودلالتها وإعانتها.. تلك عبوديات عظيمة. في مشرق الأرض ومغربها بيوت كثيرة لا تقوم على أساس الزوجية التي شرعها الله -تعالى-، وإنما تقوم على شيوع الأعراض وإباحة الزنا، فلا أولاد ينتمون إلى سلسلة الآباء؛ أيْ أنهم هكذا بلا عصبة وبلا أسرة، ولا أمهات يحظين بالرعاية الرجولية اللازمة، فيظللن طيلة الزمان يلهثن سعيًا في طلب الرزق، ليُطْعِمْن به أنفسهن ومَن يَعُلْن، من حلال كان أم من حرام، ولربما احتجن في ذلك السعي إلى بذل أعراضهن وشرفهن. وكل ذلك تنكُّب عن طريق العبودية لله -تعالى-. فإذا صبر كلٌّ من الزوجين على صيانة الكيان بما يستطيعان، وبما شرعه الله؛ إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، واستشعرا أنهما يبنيان بيتًا مسلمًا؛ فإنَّ ذلك مدعاة إلى استقرار النفوس وصلاح المعاش، بل واستقرار المجتمع وصلاحه. ولذلك فإنَّ من أكثر الوصايا التي تُوجَّه لكلٍّ من الزوجين: اصبر على زوجتك، اصبري على زوجك، فيدركان أنهما عبدان لله، حتى في أمورهما وشؤونهما الخاصة التي هي الزواج والفطرة والنوازع والغرائز. ولذلك يُمهِّد عدد من أهل الفقه والأحكام أبواب النكاح بالحديث عن جانب العبودية في النكاح ومشروعيته، منطلقين من قول الله -تعالى-: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً﴾ [الرعد:38]. ومثال ذلك ما ذكَره المُوفّق ابن قدامة في قوله: «النكاح من سنن المرسلين، وهو أفضل من التخلّي منه لنفل العبادة؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ردَّ على عثمان بن مظعون التبتل، وقال: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء»[9]. أما الإصلاح بين الزوجين، والسعي في تزويج الرجال بالنساء؛ فيُعدّ في أبواب فروض الكفايات، قال -تعالى-: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا﴾ [النساء:35]. وقال الله -تعالى-: ﴿ وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ﴾ [النساء:128]. وقال -تعالى-: ﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [النور:32]. ثم إذا حدث طلاق؛ فإنَّ هناك عبوديات مُتعلِّقة بهذه الحالة، كالتمتيع والتسريح بإحسان، والنفقة المؤقتة، والسكنى المؤقتة على الزوج الذي طلَّق، ثم بعد ذلك تدخل المرأة في زواج جديد تتعبَّد لله -تعالى- به. حتى الاستمتاع المضمّن في الزواج لا يخلو من التعبد، قال الله -تعالى-: ﴿ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ ﴾[النساء:24]؛ قال الحسن ومجاهد: «أراد ما انتفعتم وتلذذتم بالجماع من النساء بالنكاح الصحيح»[10]. وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم : «الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة»[11]؛ فهذا الاستمتاع أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم أنَّ فيه أجرًا، وإليه أشار بقوله: «وفي بُضع أحدكم صدقة»[12]، يعني أنَّ الإنسان إذا جامع امرأته أثابه الله، وكتب له أجرًا، وقد استغرب الصحابة هذه الجملة؛ لما هو معهود في الأذهان من ترتُّب الأجر على المشاق والأعمال التي تخالف هوى النفس وليس العكس، فقالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: «أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر». هذه الحاجة الفطرية -أعني المواقعة والجماع- تلبيتها من وجهها المشروع أمر يحبّه الله ويريده قدرًا وشرعًا، فإنَّ الله -سبحانه تعالى- خلق فينا هذه الحاجة الفطرية، ثم هدانا إلى المسار الصحيح في تلبيتها؛ ونهانا عن غيره من الطرق المحرَّمة المختلفة، ولذلك فإنَّ جماع الرجل لزوجته يزيد الحب والاتفاق، قال ابن القيم: «وأما الجماع المباح فإنه يزيد الحب إذا صادف مراد المحب، فإنه إذا ذاق لذته وطعمه أوجب له ذلك رغبةً أخرى لم تكن حاصلة قبل الذوق، ولهذا لا يكاد البِكران يصبر أحدهما عن الآخر، هذا ما لم يعرض للحب ما يُفسده... والجماع الحرام يُفْسِد الحب، ولا بد أنْ تنتهي المحبة بينهما إلى المعاداة والتباغض والقلى، كما هو مُشاهَد بالعيان»[13]. وفي هذا العصر الذي تتنادَى فيه هيئات ومؤسسات عالمية إلى هدم الفطرة والاستغناء عن الزواج -الذي جعله الله مفتاحًا لبناء الأمة ومجتمعاتها-؛ فإنَّ تمسُّك المسلم والمسلمة بالزواج، والحثّ عليه، والدعوة إليه، وتنميته، وتيسير شأنه؛ يعد من العبادات العظيمة؛ لصعوبة الحال والظرف والواقع. والمرأة اليوم، على وجه التحديد، تتوجّه إليها كثير من المنصات الإعلامية والرسائل الفنية بالإلحاح عليها وإقناعها بالتخلي التام عن الزواج؛ من خلال الأفكار النسوية التي يُرَاد لها أنْ تتسرب في وجدان البنات بوعي وبلا وعي، وفي ذات الوقت يُعاد تشكيل النظم والقوانين في هذا الاتجاه، فتَصدّي المرأة لهذه الدعوات ومجاهدة النفس على قبول الزواج والإقدام عليه عبادة عظيمة وجهاد في سبيل الله، ومناكفة لأهل الباطل الذين يسعون في الأرض فسادًا، ويريدون أنْ تميل المجتمعات ميلًا عظيمًا. كما تشتد الحاجة في هذا العصر إلى تصدّي طائفة من طلاب العلم وأهل الفكر والفضل إلى تعليم الناس فقه الزواج وأحكامه، ومعالجة قضاياه المعاصرة والمستجدة، والاحتساب الفكري والفقهي للأطروحات النسوية والمنحطة التي ملأت الشاشات والصحف، وصناعة المشاريع والمبادرات التي تنمّي الزواج في المجتمعات وتُكثِّره وتصونه. ومقتضى كونه عبودية لله أنْ يبادر الزوجان إلى الاحتكام في كل الشؤون الزوجية إلى كتاب الله وسُنة نبيه صلى الله عليه وسلم ؛ ففيهما البيان الشافي لمن تعلَّم وتفقّه، ولذلك يقول الله -تعالى- في سياق الحديث عن مسائل الزواج: ﴿ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة:232]. ويقول أيضًا: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُم وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ 26 وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا 27 يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 26 - 28]. وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ونساؤهم يرجعون دائمًا في حل مشكلاتهم الزوجية، والسؤال عن الحكم فيها، إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لعِلمهم أنَّ الاحتكام في الشؤون الزوجية إلى الوحي عبادة واجبة، وقد مرَّ في هذه الصفحات شيء من ذلك. إنَّ الزواج فطرة، وشريعة، ومتاع حَسَن. وإنَّ النُّفرة منه بُعْدٌ عن صراط الله المستقيم وطاعةٌ للشيطان وإسعادٌ له. [1] جامع البيان: 4/125. [2] جامع البيان: 4/164. [3] تيسير الكريم الرحمن: 1/293. [4] معالم التنزيل: 8/430. [5] أخرجه النسائي في السنن الكبرى ح9094، وحسَّنه الألباني في الصحيحة: ح287. [6] أخرجه البخاري: ح56. [7] أخرجه البخاري: ح4006. [8] الأدب المفرد: ح195. [9] عمدة الفقه: ص89. والحديث أخرجه البخاري: ح1905، ومسلم: ح1400. [10] معالم التنزيل: 2/193. [11] أخرجه مسلم: ح1467. [12] أخرجه مسلم: ح1006. [13] روضة المحبين: ص142.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |