|
الملتقى العلمي والثقافي قسم يختص بكل النظريات والدراسات الاعجازية والثقافية والعلمية |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() الاقتصاد الإسلامي مدخل ومنهاج للأستاذ الدكتور: عيسى عبده تحت هذا العنوان يكتب الأستاذ الدكتور عيسى عبده، سلسلة مقالات يهدف بها إلى تقريب فرع هام من فروع الدراسات الإنسانية التي ظن المسلمون - لبعض الوقت - أنها من ابتكار الغرب أو من الأمور التي يتنازع عليها الغرب والشرق دون أن يكون للأمة الإسلامية نصيب يذكر في هذا الأمر كله ... ويقول الكاتب: (إن الاقتصاد الإسلامي ينفرد بالكمال مع الثبات .. وشأنه في ذلك شأن كل الضوابط والمعايير المعروفة في الأمور الإنسانية) . وهكذا يرى القارئ أن البون شاسع بين ما يدعيه المستشرقون والمستغربون وبين ما يقوله هذا الكاتب الإسلامي المعروف .. ومن ثم كانت المجلة حريصة على التعرف بوجهة نظره، راجية من كل دارس ومن كل غيور على الإسلام أن يدلي بما عنده حول هذا الموضوع الهام. واللَّه الموفق. رئيس التحرير * * * بين يدي هذه الدراسات يود الكاتب أن يشير بالتقدير وبالثناء إلى بعض الجهود التي بذلها المؤلفون الغيورون على الإسلام حين كتبوا عن الاقتصاد الإسلامي في تاريخ قريب .. ربما كان من بعد الحرب العالمية الثانية حين هبت أعاصير الفكر الاقتصادي على بلاد المسلمين .. فظهرت دراسات شتى في فروع كثيرة .. منها الملكية وإجارة الأعيان وإجازة الأشخاص والائتمان والتأمين والفوائد والربا والزكاة .. إلى آخر ما ذهب إليه المؤلفون في اجتهادهم - جزاهم اللَّه خيرًا - ومنهم من حاز الدرجات العلمية فيما أسماه (( الاقتصاد الإسلامي )) ، ولكن مادة هذه المؤلفات مستمدة من كتب الفقه .. كما كتبها الأولون .. ومن ثم كانت المادة مهيأة لكل قارئ ولكل كاتب يقتبس منها ويزيد أو ينقص .. ولكن (( المادة الاقتصادية بخلاف ما تقدم ذكره .. ذلك أن الفقه ثروة كبيرة القدر ولكنها ليست من صميم الدراسات الاقتصادية .. وهذه نجدها في كتاب اللَّه وفي السنة الشريفة وفي مراجع متفرقة من كتب الأدب وكتب التاريخ .. ولكن لا يتسنى للكاتب أن يميز بين ما هو من صميم (( الاقتصاد )) وبين ما عداه من فروع المعرفة، إلا إذا كانت حصيلة من هذه المادة شاملة لكثير من مدارس الفكر الاقتصادي والنظرية الاقتصادية لأهم المدارس التي عاشت من عهد الإغريق إلى يومنا هذا .. مع العلم - في الوقت ذاته - بالاتجاهات المرتقبة استنادًا إلى (( مؤشرات العصر )) ، فمثلاً نرى الرأسمالية والاشتراكية والشيوعية، جميعًا يقترب بعضها من بعض .. وتكاد تتلاقى في ميادين التطبيق .. ومن خير من كتب في هذا الموضوع الأستاذ (( هالم )) إذ رأى في كل هذه المذاهب ظاهرة واحدة .. هي (( تكتل القدرات المالية والبشرية في تجمعات يحكمها إطار جامع، واتجاه هذه التكتلات إلى سحق الفرد أو النزول به إلى مستوى الأداة الصماء )) . وعلى كثير من الصبر والأناة في دراسة متصلة لعشرات السنين .. رأى الكاتب بوضوح أن الإسلام نسق مميز وليس له ضريب .. لأن قواعده الكلية وحي من عند اللَّه .. وما هي فكر ولا تحليل ولا رأي ولا إرادة فرد .. وشتان بين ما كان وحيًا من عند اللَّه وما كان اجتهادًا من عند الناس. فالناس قد تهتدي للصواب بالفطرة. وقد لا تهتدي. كما أنها قد تثبت على ما اقتنعت به. وقد تعدل عنه رغبة أو رهبة. هذا ويرجو الكاتب أن يصبر القارئ طويلاً .. حتى يحيط بشيء من أوليات الاقتصاد فيما يقال له: (( المدخل )) قبل أن يصل إلى طلبته من المادة الإسلامية التي تبحث في أمور ثلاثة هي: الطيبة، والخدمة، والزينة، فهذا هو ميدان الاقتصاد الإسلامي .. وهذا ما لم يدركه الأولون والآخرون. وإنما تفرد به القرآن الكريم، في قوله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عند اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} . ولقد يعجب القارئ حين نقول له: إن المدارس الاقتصادية التي فرضتها المناهج في جامعاتنا وفي معاهدنا قد جهلت حقيقة الميدان الذي تقع فيه جملة هذه الدراسات. ثم يتقضى العجب حين يعلم بأن الإسلام وحده هو الذي أحاط .. ولا نريد أن نستعجل من المادة الاقتصادية ما يجيء دوره بعد المدخل .. ولكننا نريد وحسب أن نذكر القارئ بأن فيوض المعرفة التي احتواها التراث الإسلامي جديرة باتخاذ الأسباب .. ومن الأسباب أن نلم إلمامة سريعة بالقليل من العلوم الخادمة التي توضح لنا، فيما بعد، ماهية الاقتصاد الإسلامي. وهذه هي الحلقة الأولى من سلسلة المقالات. واللَّه المستعان. عيسى عبده الحقيقة الاقتصادية وعلم الاقتصاد لقد أجمع الثقات من الباحثين في هذا الميدان من كتاب الغرب الصناعي المتقدم بوجه خاص على اتخاذ عام 1789 تاريخًا للبداية المبكرة لظهور الدراسات الاقتصادية بالمنهج العلمي .. ولهم في هذا الاختيار أقوال يجيء ذكرها في مناسبته. كذلك أجمعوا على أمور جديرة بالتركيز والإحاطة قدر المستطاع في هذه الكلمات: - يقولون بأن الأصول القديمة لدراسة الثروة ومشكلاتها مستقرة في التراث الإنساني القديم من غير شك .. ويذكرون من فلاسفة الإغريق ومشرعي اليونان طائفة اشتهر أمرها بين الدارسين كأفلاطون وأرسطو وأكسنافون وصولون، ثم يفصلون بين هذا القديم وبين العصر الذي بدأ مع الثورة الصناعية ومع الثورة الفرنسية في وقت معًا، ويمرون مرورًا سريعًا على ما بين هذين التاريخين ويكتفون بالقليل من البحث فيما صاحب الرسالات السماوية تباعًا وما كان في العصر الوسيط .. ويقفون عند مائتي عام مضت، ويقولون: من هذا التاريخ بدأت بواكير علم الاقتصاد. - والأمر الثاني الذي يجمع عليه الثقات هو أن الاقتصاد فرع من جملة دراسات متكاملة منها الأخلاق والمنطق، ومنها الفلسفة والاجتماع والنفس والسياسة ونظم الحكم .. وعلى الرغم من أن الاتجاه التحليلي وإدخال الرياضيات في دراسة الظاهرة الاقتصادية يتزايد .. فإن فريقًا من الباحثين من ذوي السمعة العالمية، يضيقون بهذا الاتجاه وينكرون جدواه .. بل إن منهم من يسميه ترديًا علميًا ويشدد في تغليب القول بأن الاقتصاد من الدراسات الإنسانية أساسًا .. وإن إدخال الرياضيات في هذا النوع من المعارف، لم يبرر الجهد المبذول في عشرات السنين، على خلاف الحال في علوم الجوامد والطاقات حيث العناصر الفزيائية الثابتة هي الغالبة أو هي الوحيدة في الميدان. - ومن الأمور المتفق عليها كذلك أن طائفة من الحقائق العلمية والظاهرات الاجتماعية التي أثرت في سلوك الأفراد والجماعات خلال مائتي عام مضت قد سارت معا في موكب واحد. منذ أن سقط الباستيل وبدأ تاريخ الثورات القريبة والمعاصرة، وفي شئون الطاقة والموارد الطبيعية وانتفاع الناس بهذا التقدم التكنولوجي الذي بدأ عندئذ في صورة غير مسبوقة ولم يتوقف. وهكذا ترى ظاهرات يتأثر بعضها ببعض .. وقد تتقارب المسافات أو تتخلف بعض الشيء .. وإنما موكب التقدم الاجتماعي والصناعي لا ينفصل بعض مفرداته عن بعض. ويذكرون على سبيل المثال: المزيد من الإفادة بموارد الطبيعة مع خفض التكاليف والتوسع في الأسواق وتقدم وسائل المواصلات والنقل. يذكرون هذا كله مع ارتقاء الوعي عند الفرد والجماعة وحصول الناس على حقوق سياسية، منها تكوين الجماعات والنقابات ثم الأحزاب والحكومات .. ومنها كسب المرأة لما يوصف بأنه جديد من الحقوق، كأن تجمع بين شئون الدار وكسب المعاش .. ويذكرون أيضًا ما استجد من الروابط بين الأفراد والجماعات على غير ما كان معهودًا قبل هذه الثورات .. والجدل حول الملكية الفردية والجديد في حجوم المشروعات وصورها والقيود التي أدخلها عليها الفكر. هذه كلها مفردات قليلة من جملة القضايا التي يجمع الكتاب على أن بينها تماسكًا يفرض على الدارسين أن يتبينوه، لكي يروا الصلة بين القيمة المضافة إلى المواد بفضل العمل وبين مطالبة العمال بأن يكون لهم رأي ثم صوت في الشئون العامة ثم تكون لهم مقاعد في المجالس النيابة فالحكومات وحيث اجتمعت السلطات التشريعية والتنفيذية في ظل فكر اقتصادي معين أو فلسفة بذاتها .. فإن أمورًا قد كانت تبدو من قبل ماسخة هبت عليها أعاصير التغيير .. كحرية اختيار العمل وحصانة الملكية الخاصة وحق الميراث .. وكذلك يذكر الباحثون تلك الروابط المباشرة بين المنافسة على الأسواق من جهة وتتطور الدبلوماسية الدولية وصور التعاون في ناحية أو التكتل والخلاف والنزاع المسلح في ناحية أخرى ومن ثم توجيه المزيد من الموارد والطاقات (التي كانت أصلاً لرفاهية الإنسان) إلى أبواب أخرى من التقدم التكنولوجي في إنتاج وسائل التدمير. - وكذلك يجمع الباحثون _ الأماندر) على أن الدراسات الاقتصادية منقطعة الصلة بالدين، وهذا أمر يعنينا - هنا في الشرق العربي خاصة وفي الأمة الإسلامية عامة - أن نشير إليه منسوبًا إلى قائله، ويجمعون أيضًا على أن الحقيقة الاقتصادية غير قابلة للتحديد الدقيق، فهي خيال محبب إلى كل باحث، ولكنه لا يقدر على تقريبه إلى الدارسين. هذا ما يزعمه الباحثون في الاقتصاد معزولاً عن الدين، ولكن .. نحن نقول: ما كانت الألفاظ لتنوء بحمل المعاش. ولكن النفوس هي التي تضيق بالحق ولا تطيقه .. حين يستقل العقل البشري بوضع القواعد الآمرة للناس. من دون رب الناس نستغفر اللَّه، ولكن هكذا كانت البداية مع الثورة الفرنسية وما تلاها على توسع في الرقعة التي هبت عليها الأعاصير. إن الحقيقة الاقتصادية ليست من عالم ما وراء الطبيعة. إنها من هذا العالم الذي نعيش فيه. ويجب أن نكون على بينة من أنها تفر من المجتمع الإنساني كلما حاول التقرب منها .. على حين أن المعادلات الرياضية والقوانين الطبيعية وخصائص الأشياء تزداد تحديدًا واقترابًا من العقل البشري ومن اليد الماهرة ولذلك خيل للإنسان في زمننا هذا أنه ساد الأرض واقترب من سيادة الفضاء. أما الحقيقة الاقتصادية التي فنيت في سبيلها الأعمار خلال بضعة أجيال مضت. فلا يزال وصفها يتعثر على الشفاه. نقول بأنها تحقيق لرفاهة الكثرة الغالبة من الناس بأقل التضحيات، وبأنها التوازن الإنساني الذي لا يلتزم بميزان تجاري أو حسابي أو ميزان للمدفوعات. ونقول بأنها الثمن العادل والأجر الذي يحفظ على الأجير كرامته كإنسان. وهي كفالة فرص العمل لكل قادر عليه راغب فيه. وهي رعاية المجتمع للأسرة إن هلك عائلها، لأنه في حياته قد أسهم في تشييد البناء وتعبيد الطريق، أو أسهم في زيادة العمران بما أنتج من خدمة أو سلعة. وهي توفير الأمن على المال والعرض والولد وعلى جملة الحريات التي يستوي فيها كل العباد. ولكن هل يستطيع الإنسان أن ينصف غيره من الناس!؟ هذا هو السؤال الذي تصدى له الباحثون أو نقول: هي هذه التجربة التي مرت بها الإنسانية مائتي عام وفاضت المكتبات بالملايين من الصفحات في صور شتى من مقالات ومحاضرات وإحصاءات يجمعها الهواة. وبرامج لجماعة من المصلحين والساسة ودعاة الفتح وغصب موارد الآخرين. والخطب الانتخابية وبرامج الأحزاب وسياسات الدول. وأخيرًا المراجع العلمية ومناهج البحث في الجامعات!! وهذا الحشد كله. يسمى (( علم الاقتصاد )) إلى حد أن بعض المفكرين ضاق به ضيقًا شديدًا. ومن ثم كانت ثورة الشرق على النظريات الغربية وكان إنكار الغرب للفكر الناهض له. ثم نجيء نحن في هذه البيئة الغنية بتراثها ونتساءل كما يتساءلون: أين يبدأ هذا العلم وأين ينتهي ومتي يستقر؟ وللإجابة عن هذه الفقرات الثلاث التي تتكامل في سؤال واحد. نقول بأن الأمر يستقر حين نفصل العلم مع الفكر والرأي. إن للعلم خصائص تكفل له الثبات والثراء بإضافة قدر منه جديد إلى أصول معلومة من قبل، أما الفكر فقد يسير مع الهوى ومع السلطان ومع البغى ثم يزول. فيكون الفراغ (كما يقولون) ويملأ الفراغ جديد من الأهواء والآراء. ولذلك قلنا بإنها دراسات تتناول المدارس المشهورة وأفكارها وآراءها. وما يعرف بالعقائد والمذاهب والسياسات في مائتي عام خلت. هي الأصل فيما تعانيه الإنسانية إلى يومنا هذا. أما الحقيقة الاقتصادية فقد زادت على هذه الجهود بعدًا وغموضًا لأنها غرقت في مواكب الزحام. زحام البشر الذي أراد أن يضع للأمور الإنسانية قواعد من عنده وأراد أن ينكر رسالة السماء.
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() الاقتصاد الإسلامي مدخل ومنهاج بقلم: دكتور عيسى عبده المقال الثاني الاقتصاد المعاصر يحفظ الدارسون عن ظهر قلب .. إن المدارس التي تابعت وتركت لنا هذا القدر الهائل من الفكر والرأي هم التجاريون، فالطبيعيون فأنصار الرأسمالية فخصومها .. وخصومها هؤلاء يقال لهم (( اشتراكيون )) على التعميم، وهم فرق .. بعضها مشهور وبعض آخر لا يستوقف النظر عند غير المتخصصين كالتعاونيين .. ذلك أن التعاون في الفكر الاقتصادي .. قد بدأ في صورة حركة مضادة لبعض الرأسمالية حين اتخذ البعض صورا خاصة من التجارة ثم الصناعة .. وهكذا بدأ التعاون. ومن الفرق المناهضة للرأسمالية أيضا .. جماعات لا تدل أسماؤها على المبادئ لأول وهلة .. كدعاة الإصلاح .. فهؤلاء اشتركيون بدورهم. ومن المذاهب ما يتخذ اسما له تاريخي يلقي ضوءا كاشفا على اختيار اللفظ وعلى مصدر الفكر والرأي .. كالماركسية والشيوعية .. ولكن حتى هذه المذاهب الصريحة يطيب لها أن تدعى بأنها وحدها تعمل على نشر الاشتراكية وأن ما عدها هو جهد العقل أو هو مرحلة تؤدي إلى ما بعدها. ولعرض هذه المادة في إطار العام أساليب متفق عليها .. منها اتخاذ الأحداث التاريخية أساسا للتقدم من خطوة لأخرى .. ومنها اتخاذ الفكر أصلا والأحداث تبعا، ولكن الصواب هو اعتبار كل من الفكر والرأي ووقائع التاريخ مفردات تدور مع الزمن، فبعضها يكون السبب أحيانا ويكون النتيجة أحيانا أخرى .. فارتقاء الوعي بين جماعات العمال مثلا، قد كان سببا في حركاتهم وما وصلوا إليه من المركز المميز في بعض المجتمعات .. ومن هذا المركز بدأت حركات أخرى تلتها أحداث .. ولذلك يتعذر القول بأن التقدم التكلنولوجي كان سببا في زيادة الحقوق السياسية للأفراد، أم أن هذا التقدم كان من نتائج التحرر والمساواة في مجتمعات كان ترسف في العبودية ألف عام في أدق التقديرات التي سجلها التاريخ. نقول بأنه يتعذر القطع بواحد من الرأيين .. وما بنا من حاجة إلى ترجيح قول على قول لأن النقاط الواقعة على دائرة (هكذا عجلة الزمان) تدور وتتباول مراكز التقدم والتبعية مع الدوران، وهذه من طبائع الأشياء .. إذن من الصواب أن نقول بتكامل الآراء والأحداث وتلاحقها في ترابط دائري. ومن أساليب عرض المادة أيضا .. اختيار الأشخاص الذين عاشوا زمنا وجمعتهم فكرة ومجموعة من الآراء .. ولهم في حياتهم أنصار ولهم بعد ذلك تابعون .. كما كان لهم خصوم. وأسلوب ثالث يقوم على التصنيف .. فيميز الفكر والرأي والنظام والسياسة والعقيدة والمذهب. ويضع هذا كله في موضعه المنفصل عن علم الاقتصاد إذ العلم لا يضع (( الفكر )) للآراء والأهواء وتتابع الأحداث وإنما يتألف العلم من مفردات ثاتبة تقوم بينها نسب وصلات ولا يملك الإنسان بكل ما أوتي من حيله أن ينال من هذه الأوضاع .. ونجد هذا واضحا في النظرة الاقتصادية التي تقوم على الحقائق المجردة من الفكر والرأي .. كنظرية النقود مثلا وفعل التضخم في مستويات الأسعار .. هذا من علم الاقتصاد .. وقد ينجح التدخل المقصود (استنادا إلى السلطة) في تعطيل بعض الآثار أو إخفائها عن الأنظار أو تلطيفها زمنا، ولكنها واقعة حتما إذا اجتمعت أسبابها وليس للإنسان رأي في هذا. وإنما يطول الجدل أحيانا حين يغيب عن الباحث أن حياة المجتمع الإنساني وما تزخر به من ظاهرات معلنة أو خفية .. تخضع لقوانين ثابتة تفرض سلطاتها ولو في المدى الطويل .. ولا تختلف هذه القوانين عن نظائرها التي تحكم الجوامد والطاقات .. من حيث الثبات والترابط التام بين المقدمات والنتائج. ومن أسلوب التصنيف أيضا أن يدور البحث في ميدان محدد بمعالمة الخاصة به .. كالبحث في التجارة الخارجية وحدها أو السكان أو المصارف .. غير مراحل التاريخ وفي ظل النظم والسياسات على ما بينها من تشابه أو افتراق. وباختلاف أساليب العرض كان التكرار في الأمر الواحد من زاية وثانية وثالثة، وقد أتاح هذا التكرار فرصة الموازنة ومن ثم الوضوح، ولكن الإسراف في أي شيء يقلب الأوضاع، ولذلك يقال بأن الكثير من قضايا الفكر الاقتصادي لم يزد على وفرة العرض لا غموضا وبخاصة حين يتوسع الباحث ليربط الاقتصاد بجملة الدراسات الإنسانية. سنذكر هذا كله، إذن، بأبسط الأساليب وأكثرها أمنا .. سنعرض للأحداث والوقائع والأشخاص جميعا في تتابع زمني مع أحكام الربط بين هذه المفردات على مراحل مميزة ولئن كان اختيار الثورتين الصناعية والفرنسية بداية للدراسات الاقتصادية على نهج علمي .. أمرا مسلما .. إلا أنه من المتفق عليه أيضا أن مقدمات هامة قد وقعت قبل ذلك ببضعة قرون، وبخصاة تلك الكشوف الجغرافية التي توالت من القرن الخامس عشر وكانت لها آثار مباشرة على الفكر الاقتصادي عند الأفراد والجماعات .. وعند رجال الحكم والسياسة .. وهذا ما نعرض له بالإشارة البعيدة فيما يلي .. لمجرد التنبيه إلى ما قبل القرن الثامن عشر من أحداث لها صلة بالدراسات الاقتصادية من عهد آدم سميت فنقول: كان الدافع الأكبر لتنظيم التجارة إلى القرون الوسطى هو توفير الثراء لكل من الفرد والمجتمع .. وتركز مفهوم الثراء في المعادن النفيسة لأنها مقبولة عند كل مجتمع في المبادلات العادية، ولأنها صالحة لدفع رواتب الجند وشراء أسرار الأعداء ورشوة القواد، وهكذا كان موضع التجارة ثانويا بالنسبة لموضع المعادن النفيسة .. ولكن كشف الأمريكيتين وطريق رأس الرجاء الصالح في ختام الخامس عشر أعطى للتجارة وزنا لا عهد للناس به، في غرب أوروبا وفي انجلترا بوجه خاص. وهكذا بدأ الاهتمام بالتجارة كفرع مميز من فروع النشاط الاقتصادي .. يأخذ سمته نحو الصدارة ومن أجل التجارة وعلى أساس المصالح التي يمكن أن تحققها وضعت السياسات وأبرمت العهود والمواثيق وقامت الحروب وتحركت أفاج من البشر في هجرات متلاحقة في أكثر من اتجاه، كل ذلك سبيل الإثراء السريع عن طريق التجارة إذ تبين بوضح أن مضاعفة القيم بهذا الأسلوب وفي هذا العهد بالذات قد كان فريدا وغير مسبوق. كان طبيعيا أن تمتد آثار هذه الأفكار الحديثة عندئذ إلى مراكز الإنتاج فخضعت السلعة في مواصفاتها وفي كمياتها إلى ما يمليه الطلب في الأسواق الجديدة وبخاصة في أمريكا الشمالية والأجور بدورها .. وضعت في إطار يحفظ على التجارة إزدهارها .. بل إن سلوك الفرد في إنفاق دخله من العمل أو من غيره خضع للقواعد الآمرة التي كانت تجيء من السلطات على النحو الذي يكفل للتجارة استمرار الرواج .. وهكذا تكاثرت الأوامر والتوجيهات .. وتوافرت القواعد الحاكمة للنشاط الاقتصادي في أكثر من مجال، بعد أن كان المجال الوحيد الذي يتسع لهذا النشاط الذهني هو مجال المعادن النفيسة. وبهذا التوسع في دراسة سلوك الناس في كل من الإنتاج والاستهلاك بقصد تحقيق الثراء الكبير للأفراد والشعوب عن طريق التجارة، بدأت الدراسات العلمية المبكرة التي ميزت جماعات من الساسة والحكام والتجار .. ومن جملة هذه الآراء والقواعد الآمرة تألفت مادة الاقتصاد في عهد التجاريين، واتسع مجال التطبيق حتى شمل حياة الفرد والشعب وسياسة الدولة في السلم والحرب، كما امتد سلطان هذه المدرسة الهامة من مدارس الفكر الاقتصادي إلى الهجرات التي نشطت من بعد القرن الخامس عشر .. ثم بقيت قبضة التجاريين شديدة نسبيا زهاء قرنين ونصف قرن .. أعني من السادس عشر إلى أواسط الثامن عشر .. وكان الميراث الفكري الذي عاش كل هذه المدة يلتزم بالخط الرئيسي لهذه المدرسة، وو يقضي بتحصين المصالح القومية عن طريق رواج التجارة وأن ترتب على ذلك تتابع الأوامر والنواحي الحاكمة لسلوك الأفراد وهم بسبيل الإنتاج والاستهلاك، وإن اقتضى أيضا إسقاط حكومات وإزالة دول من الجود .. على أن هذا الميراث الفكري لم يستمر خالصا كما بدأ، وإنما - مع مرور الزمن - ظهرت اعتراضات من أتباع التجاريين أنفسهم .. لا بالتنكر للمذهب الذي عرفت به مدرستهم، بل بالخلاف فيما بينهم على وسائل التنفيذ ... ومن أشهر مظاهر الخلاف .. قول بعضهم إن الهدف الأخير من ازدهار التجارة ونجاحها لا يصدم بالمعيار القديم للثراء وهو توفير المزيد من كميات المعدن النفيس داخل حدود الإقليم، ورتبوا على ذلك أمرا كان له ما بعده .. فقالوا بأن التخفيف من القيود التي أرهقت الأفراد وبخاصة التجار بشأن استيراد المعدن النفيس وتصديره، من شأنه أن يحفزهم على مضاعفة الجهد لتحقيق الريح الخاص، ومن ثم يكون الفائض من المتاجرة بالمعدن النفيس (في ظل شيء من حرية التصرف) أكبر منه في حالة الإلزام بالقيود .. ومن هذه البداية المحدودة كانت البادرة الأولى لفكرة التحرر النسبي في النشاط الاقتصادي، وقيل عندئذ بأن المرجع في هذا هو طبائع الأشياء، ثم غلبت فكرة (( الطبيعة )) كرمز للقوى التي يعيش الإنسان بها كما يعيش بفيض من مواردها وطاقاتها. غلبت هذه الفكرة على فريق من الخاصة، في أواسط القرن الثامن عشر فأقاموا منها مبدأ يدعون إليه أو مذهبا يميزهم من غيرهم فكانت مدرسة الطبيعيين. ولقد عاشت هذه المدرسة في القمة زهاء عشرة أعوام وحسب .. ومع ذلك .. يعود الكتاب (حتى في أيامنا هذه من القرن العشرين) إلى دراسة الدقائق من حول هذا الفريق الذي لم يلبث طويلا على مسرح الأحداث والفكر جميعا، وهكذا كانت نشأة الاقتصاد المعاصر بين عهد التجاريين وظهور الطبيعيين، وكان لهذه المدرسة الأخيرة آثار جديدة بمزيد من البيان في البحث التالي.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |