|
ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() 2-قصَّة موسى في القرآن الكريم بقلم : مجـْـد مكَّي لقد كانت أمّ موسى عليه السلام، من المتوكلين على الله حقاً إذ استوفت كلَّ الأسباب، وفوَّضت الأمرَ لله، واستسلمت لحكمته وإرادته.فالخطوة الأولى هي إرضاع الطفل، حتى إذا خافت عليه من القتل وانكشاف الأمر تلقيه في اليم. بين يدي فرعون: ويحمل اليمُّ التابوتَ كما أمره الله تعالى: [أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي اليَمِّ فَلْيُلْقِهِ اليَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي] {طه:39}. أي: ضَعي ابْنَك موسى بعد ولادته في الصندوق الذي تُعدِّينَهُ إعداداً حسناً؛ ليطفوَ على الماء دون أن يتعرَّض للغرق، فألقيه واطرحيه بسرعة في نهر النِّيل، فسوفَ يُلقيه النِّيل على شاطئ البحر، فيأخذُهُ فرعون عَدوِّي وعدوٌّ لموسى، وأنزلت بإلقاءٍ سريع عليك محبَّةً مني، فأحبَبْتُك وَحَبَّبْتُك إلى الخَلْق، وَلِتُربَّى ويُحسَنَ إليك، وأنا مُراعيك ومراقبك بمرأى مني. ويصل الصندوق لُقَطة من غير طلب، ويؤخذ أخذ اعتناء وصيانة له من الضياع. فَوَضَعتْهُ في صندوقٍ وألقته في النِّيل، فَعَثر عليه أعوان فرعون وأخذوه، ليتحقَّق ما قدَّره الله بأن يكون موسى رسولاً مُعادياً لهم، ومثيراً لحزنهم بنقد دينهم، والطعن على ظلمهم. {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ}أي: إنَّ فرعون، ووزيره الأول هامان، وجنودهما كانوا مذنبين آثمين مُسْرفين في الطغيان والفَسَاد عن عَمْد وإصرار، اتِّباعاً للأهواء والشهوات، ومصالح الحكم والسلطان. ويفتح الصندوق، و يخرج موسى منه، ويوضع بين يدي فرعون وزوجه وثلة من زبانيته، الذين يشيرون بأن هذا الوليد من بني إسرائيل، فاقتله، ويكاد يفعل، ولكن كيف؟ والله قد وعد أمَّه بردّه إليها وهو الذي ألقى محبَّة منه، فيحبه كل من رآه لأول وهلة!. ومن كان في محبة الله وكنفه فمن ذا يملك أن يمسَّه بسُوء؟ ويتحرَّك هذا الحب في الذَّود عن الوليد ناطقاً عن لسان امرأة فرعون: [وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ] {القصص:9}والمعنى: وقالت امرأة فرعون حين رأت موسى لزوجها فرعون: هذا الطفل الذي التقطناه من اليمِّ، مَبْعثُ السُّرور لي ولك، لا تُصدر أوامرك لجندك بأن يقتلوه؛ رجاء أن ينفعنا إذا كَبِرَ وَنَمَا في قصرنا، أو نتبنَّاه، والحال أنَّ فرعون وآله لا يدركون أقلّ إدراك بما قدَّر الله في شأنه، بأن يكون هذا الصبيُّ سبباً في هلاك فرعون، وتقويض مملكته في مصر. ما أعجبها من مُقابلة، فرعون بقسوته وظلمه، والمحبَّة بشفافيتها ورقتها !! لقد كانت المحبة ستاراً للقدرة الإلهيَّة، في حماية الوليد من القتل، ولقد حقق الله رجاء امرأة فرعون، حين قالت: [عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا] {القصص:9}. لقد كانت أمور موسى تسير بتدبير الله سبحانه، ولقد دخل موسى عليه السلام قصر فرعون، رغم أنف الظالم وزبانيته، ليخرج منه حين اتَّجَه إلى مدْيَن، ثم يعود إليه مخلِّصاً أهلَه من الظلم، وشعبه من الاستعباد، وأهل مصر من الكفر والعناد... وقديماً دخل جدُّه يوسف عليه السلام قصر ملك مصر مُعزَّزاً مُكرَّماً ليخرج منه إلى السجن، ثم يعود إليه مخلِّصاً أهله كذلك من الموت جوعاً، فكان خيراً وبركة على مصر وأهلها، كما سيكون موسى عليه السلام، ذريَّة بعضها من بعض. انشغال أم موسى عليه السلام: [وأصبح فؤاد أمِّ موسى فارغاً إن كادت لتُبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين ] { القصص: 10} وأصبح عُمْق قلب أمِّ موسى بعد إلقاء وليدها في تابوته في النيل خفيفاً طائشاً، غيرَ ذي وزنٍ ثقيل يُثبِّتُه، وبخفَّته وطيْشه صار مُؤهَّلاً لأن يتأثَّر بآلام نفسها من أجل ولدها، فيُعطي توجيهَهُ لإرادتها، فتُصدر أوامرَها للسانها بأن يبوح بما فعلت سراً، أو المعنى: وصار فؤادها فارغاً من كل شيء سوى ذكر موسى عليه السلام وما حصل له. إنَّ الشأن الخطير أنَّ أمَّ موسى، كادت لتُصرِّح بأنه ابنها من شدَّة وَجَلها، وعندئذ يفتضح أمرها، ويشيع خبرها، لولا أنْ رَبَطْنا على قلبها بالعصمة والصَّبر والتثبيت؛ لتكون بخصائصها النفسيَّة من المؤمنين الصَّابرين الثابتين المتوكلين على الله من الرجال، الذين يضْبطون بإراداتهم الحازمات تصرُّفاتهم على مُقْتضى الحكمة، بخلاف النساء فإنَّ طبائعهنَّ تَغْلبُهُنَّ فتدفَعُهنَّ الخفّة إلى تصرُّفاتٍ لا تُحمد عُقْباها. قال ابن عباس رضي الله عنهما: (فإنَّه لما توارى عنها ـ موسى ـ ندَّمها الشيطان، وقالت في نفسها: لو ذبح عندي فكفنته وواريته لكان أحب إليَّ من إلقائه ) تفسير ابن كثير 3/148.
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() 3-قصَّة موسى في القرآن الكريم بقلم : مجـْـد مكَّي أخت موسى تَتَتبّع أخبار أخيها: طلبت أم موسى من أخته أن تقصَّ أثرَه وتَتَتبَّع أخباره لتعرف هل قتلوه أم ما زال حياً؟ وتخرج أخته باحثةً عنه، فبصُرت به عن بُعْد، فوجدت أهله في حيرة من أمرهم، طفل جميل مَلَكَ قلبَ امرأةِ فرعون، ولكنه لا يقبل المرضعات على كثرة من عُرض عليه ويُعرض عليه منهنَّ، رغم حرصهنَّ جميعاً على ذلك لتنال الفائزة منهم الشرف والنعيم في قصر فرعون. قال تعالى: [ وقالت لأخته قصِّيه فبصرت به عن جُنٌب وهم لا يشعرون ] { القصص : 11}. أي: وقالت أمُّ موسى عليه السلام ـ بعد أن ألقته في النيل ـ لأخته: اتَّبعي أثر موسى، حتى تعرفي خبره؟ فَتَتَبَّعت أثره، فعلمت به علماً صحيحاً مؤكَّداً حالة كونها مُتجاوزةً مكاناً يفْصل بينها وبين النيل بمقدارٍ هو في نظر الناس بعيد، لا يُعتَبَر الموجود فيه مراقباً لما يحدث في النهر، وهم لا يدركون أقلّ إدراك أنها أخته، وأنها ترقُبه. أخت موسى في قصر فرعون : وتقدَّمت أختُ موسى تعرضُ عليهم هل أدلكم على من يكفله؟. وتتوجَّه إليها الأنظار، كأنَّهم قالوا: نعم، من هم؟ فقالت: أهل بيت يكفلونه لكم، وهم له ناصحون. [وحرَّمنا عليه المراضع من قبل، فقالت: هل أدلكم على أهل بيت يكفُلونَه لكم وهم له ناصحون]{القصص:12} أي: وحرَّمنا على موسى المراضع تحريماً قدريّاً، فمنعناه أن يرضع ثَدْياً لمُرضع، من قبل وصول أخته إلى مكان طلب مُرضعٍ له؛ لنردَّه إلى أمِّه، وكانت أخته تَتَتَبَّع أخباره، فلمَّا وصلت إلى حيث يُطلب له مرضعٌ يقْبلُ ثديها، قالت للذين يبحثون له عن مرضعة تُرضعه وتكفله: هل أدلكم على أهل بيتٍ يضمُّونه ويُرضعونه، ويقومون بتربيته وحضانته لأجلكم؟ وهم له ناصحون مخلصون، ليس في كفالتهم غشٌّ ولا خيانة، فأجابوها إلى ذلك. جاءت أخت موسى عليه السلام بلفظ «بيت» نكرة، وقالت: «أهل بيت»، ولم تقل: مُرضعة، لتلاحظ مدى استجابتهم للعرض، ولتُبْعد الشُّبهة عن أن تكون أمُّه في هذا البيت، خوفاً على أخيها وأمِّها، فلما استوثقت من تلهُّفهم، وصدق رغبتهم، وأنهم لم يشعروا بأنها ذات علاقةٍ ما بالطفل. وترجع الأخت لتصحبَ أمَّها إلى القصر، وتُعطي الطفل الذي يسكت على الفور، ويلتقم ثديها يعبُّ منه برغبة تامّة ما شاء الله من اللبن المُصفَّى، ويغشى القصرَ سكونٌ رهيب، وبين دهشة الفرحة أنَّهم وجدوا من يُسْكِتُ محبوبَهم، وبين شدَّة العجب من لقاء الوليد بالمرضعة. عودة موسى إلى بيت أمِّه: ويتحرَّك أصحاب الشر، ويقولون: هي أمُّه، وهي من بني إسرائيل، وإلا لم يقبلها، فتقول: إني امرأة طيِّعة اللبن، لا أوتى طفل إلا قبلني، فيردُّ إليها الطفل مع الهدايا، وتعود به إلى بيتها، فكانت عودته مصداقاً لوعد الله، وتبشيراً بالخطوة الثانية، وهي الرسالة، ويتربَّى موسى في حِجْر أمه وحنانها، آمناً مُعزَّزاً مُكرَّماً، حتى إذا بلغ من العمر ما يكفي لردِّه إلى القصر، عاد إليه لتكمل مراحل تربيته، كما يليق بأبناء الفراعنة. قال الله تعالى:[ فَرَدَدْناه إلى أمِّه كي تَقَرََّ عينَُهَا ولا تحزنَ ولتَعلمَ أنَّ وعدَ اللهِ حقٌّ ولكنَّ أكثرهم لا يعلمون ] { القصص:13} أي: فأرجعنا الصبيَّ موسى إلى أمِّه؛ لتقوم بإرضاعه وكفالته، كي تطيبَ نفسها وتفرح بردِّ ولدها الرضيع إليها، ولئلاَّ تحزن بسبب فراقه لها، ولتعلمَ أنَّ وعد الله حقٌّ بردِّه إليها، وبجَعْله نبياً ورسولاً، ولكنَّ أكثر الناس جاهلون لا يعلمون هذه الحقيقة. إيتاء موسى الحكمَ والعلمَ: قال الله تعالى: [وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ] {القصص:14 }. أي: ولمَّا بلغ موسى الناشئ في القصر الفرعونيِّ نهاية قوَّته ونُضجه الجسديِّ والفكريِّ والنفسيِّ، واستقامَ واعتدل، وكان في سلوكه وفي نشأته وشبابه، وفي اكتمال رجولته، من المحسنين، آتينَاهُ فقهاً في الأمور، ومعرفةً للحق والباطل، والخير والشر وحدودهما، يُصدر بها أحكامه العلميَّة والعمليَّة والقضائيَّة، وآتيناه معارف دينيَّة ودنيويَّة، ومِثْلَ ذلك الإحسان الذي أحسنَّا به إلى موسى، نُكافىءُ كلَّ المُحسنين على إحسانهم.
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() 4-قصَّة موسى في القرآن الكريم بقلم : مجـْـد مكَّي بعد أن تحدثنا في الحلقات الثلاثة السابقة عن حال بني إسرائيل قبل ميلاد موسى عليه السلام ، وإرضاع أمه له، وإلقائه له في اليمّ قبل انكشاف أمره، وكيف وصل إلى قصر فرعون، وانشغال أم موسى عليه، وتتبُّع أخته لأخباره، وعودته إلى بيت أمه، وإيتائه العلم والحكمة . سبب الخروج إلى مدين: وذات يوم دخل المدينة على حين غفلةٍ من أهلها، وبينما هو يتجوَّل إذ برجلين يقتتلان هذا من شيعته، والثاني من عدوه، فيستغيثه الإسرائيليُّ على القبطيِّ، ويستجيب موسى عليه السلام له، فيتقدَّم للفصل بينهما بالحق، إلا أن يده تصيب القبطي بوكزة تقضي عليه من غير قصد لقتله، وهنا ترجع نفسه التوَّابة، وتعلن أنَّ هذا العمل من الشيطان العدو المضل المبين، ويستغفر الله تعالى من هذا الذنب ويعلن البراءة من كل ظلم وظالم. قال تعالى: [ودخل المدينةَ على حين غفلةٍ من أهلها، فوجد فيها رَجُلَيْن يَقْتَتِلان ،هذا من شيعته وهذا من عدوِّه ، فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوِّه، فوكزه موسى فقضى عليه ، قال: هذا من عمل الشيطان إنه عدوٌّ مضلٌّ مبينٌ (15). قَالَ : رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ(16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ(17) فَأَصْبَحَ فِي المَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ(18) ]. {القصص}. والمعنى: وَدَخَل موسى المدينةَ مُسْتَخفياً وقتَ غفلة أهلها، عَقِب غروب الشمس، عند دخول أول الليل، يدل على ذلك قوله تعالى :[فَأَصْبَحَ فِي المَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ ] فوجد فيها رَجُلَيْن يَتَخاصَمَان ويتضاربان تضارباً يُشبه التقاتل: هذا من بني إسرائيل من قومِ موسى، وهذا من القِبْط قومِ فرعون الذين يُسخِّرون الشعب الإسرائيليَّ ظلماً وعدواناً ويستعبدونهم، فسأله الإسرائيليُّ أن يُخلِّصه من عدوِّه القبطيِّ الظالم، وينصره عليه، فتدخَّل موسى ليُصلح بينهما، فتطاول عليه المصريُّ مُعتزّاً بعنصريَّته، فغضِبَ موسى وضربه بيده مضمومةً أصابعها في صدره، فسقط المصريُّ في الأرض قتيلاً من قوَّة الدفع، وكان موسى شديدَ القوة البدنيَّة، وكان المصريُّ يُهاجم ويُضارب، وندم موسى على تَسُرُّعه لمّا رأى المصريَّ قتيلاً، ولم يكن قَصْده القتل. قال موسى: هذا من نَزْغ الشيطان؛ بأن هيَّج غضبي، حتى ضربت هذا القبطيَّ، فَهَلَك؛ إنَّ الشيطان عدوٌّ مُضِلٌّ بيِّنُ الضَّلالة. دعاء موسى عليه السلام: [ قَالَ : رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي، فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ(16)] قال موسى داعياً ربَّه: ربِّ إني عَمِلتُ عملاً منكراً من مثلي لم تأمرني به، ولم تأذن لي به، فظلمتُ نفسي بارتكابه، فاغفر لي فعلتي، فاستجاب الله دعاءه، فَغَفَر له وستره فلم يفتضح أمره؛ إنَّ الله كثير المغفرة لذنوب عباده، يسترها لهم، ولا يُؤاخذهم عليها، عظيم الرحمة بهم، يمدُّهم بعطائه ومعونته، ويُسكِّن نفوسهم، ويُطَمْئن قلوبهم. [ قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ(17)] قال مُوسَى مُتضَرِّعاً: ربِّ بالمغفرة والسَّتْر الذي أنعمتَ عَليَّ، فلم تكشف أنّي أنا الذي قتلتُ المصريَّ، فلن أكونَ مُعَاوناً لأحدٍ من المجرمين، ولو كان من قومي وشيعتي الإسرائيليين. غفر الله لموسى ذنبه، وقبل توبته، لأنه لم يكن يقصد قتلَ القبطيّ إلا أن ذلك، وقع لأمر يشاؤه الله تعالى ويدبِّر له، حتى يكون سبباً لخروج موسى عليه السلام إلى مدين. فَأَصْبَحَ فِي المَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ: بينما موسى عليه السلام يترقَّب الأخبار، خشيةَ كيد الأعداء إن عرفوه، أو أن ينكشف السر الذي حيَّر آل فرعون؛ إذا هو برجل الأمس يستصرخه اليوم على قبطيٍّ آخر، وينفعل موسى غضباً، ويقول للإسرائيلي: " إنك لغويٌّ مبين " لأنك تقاتل من لا تطيق دفع شرِّه عن نفسك. قال تعالى :[فَأَصْبَحَ فِي المَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ] {القصص:18} والمعنى: فدخل موسى في أول النهار يسير في أسواق المدينة التي قتل فيها القبطي، حالة كونه خائفاً يترصَّد الأخبار بانتباه شديد، من جرَّاء قتله القبطي، ففوجئ مُوسى بأنَّ الإسرائيليَّ الذي طَلَب منه النُّصرة بالأمس على القبطيِّ، يستغيثُ به من قبطيٍّ آخر بصوت مرتفع. قال موسى للإسرائيليِّ: إنَّك لَضَالُّ بَيِّن الضلالة، ظاهر البُعْد عن جَادَّة الحقّ، قاتلتُ رجلاً بالأمس فقتلتُه بسببك، وتقاتل اليوم آخر وتَستغيثُني عليه. فأدرك شهودُ الحَدَث في السُّوق أنَّ موسى هو الذي اسْتغاث به الإسرائيلي بالأمس، فنصره، فقتل خصمه المصريّ، وأخذ الناس يتهامسون بهذا، ويشيعون الخبر، ووصل النبأ إلى أسماع رجال الأمن، فنقلوه بسرعة إلى رؤسائهم.
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]() 5-قصَّة موسى في القرآن الكريم بقلم : مجـْـد مكَّي نتابع في هذه الحلقة في قصة موسى عليه السلام سبب خروج موسى إلى مدين بعد أن أدرك شهودُ الحَدَث في السُّوق أنَّ موسى هو الذي اسْتغاث به الإسرائيلي بالأمس، فنصره، فقتل خصمه المصريّ، وأخذ الناس يتهامسون بهذا، ويشيعون الخبر، ووصل النبأ إلى أسماع رجال الأمن، فنقلوه بسرعة إلى رؤسائهم. قال الله تعالى: [فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ المُصْلِحِينَ] {القصص:19} أخذت موسى الغَيْرةُ والرقَّة للإسرائيليِّ، فَمَدَّ يدَه ليبطشَ بالقبْطيِّ، فظنَّ الإسرائيليُّ أنَّه يريد أن يبطش به لِمَا رأى من غضب موسى. قال الإسرائيليُّ: يا موسى أتريدُ أن تقتلني كما قتلتَ القبطيَّ بالأمس؟ ما تريد إلاَّ أن تكون مُتعاظماً في أرض «مصر»، مُتسلِّطاً بالقوَّة، وما تريد أن تكون من المصلحين بين الخصماء. وانكشف سرُّ قتيل الأمس، بثبوت التهمة التي ألقاها القبطي في وجه موسى عليه السلام. ووصل النبأ إلى مسامع فرعون، ودارت به الدنيا، لأنه رأى فيها تحركاً مضادّاً له ولحكمه، كما أنها أثارت ثائرة بطانة السوء الحاقدة على موسى وقومه، وواتتهم الفرصة للإجهاز عليه، فاجتمعت أركان الدولة لتداول الأمر. ولكم سفكوا من دماء بغير حق ، وكم قتلوا من الأبرياء بغير عدل، عن قصد وبعمد...!!، فما بالهم اليوم تهتز أركانهم لمقتل قبطيٍّ واحد! لكنها طبائع الظالمين وطرقهم في التخلص ممَّن لا يسير في ركابهم، ويهدد عروش ظلمهم وفسادهم. وجاء رجلٌ من أقصى المدينة يسعى : ولكن أين تدبيرهم من تدبير العليم الحكيم، لقد خرج في هذا الوقت الذي لا يبدو فيه بصيص أمل، رجل من آل فرعون، امتلأ قلبه بالحق والهدى والنور، كان يخفي محبته لموسى عليه السلام؛ لينقذ موسى ممَّا يدبَّر له، فينسل من بينهم، ثم يهرول مسرعاً باحثاً عن موسى صلى الله عليه وسلم . قال الله تعالى:[وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى المَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ المَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ] {القصص:20} أي: ولما فَشَا أنَّ موسى قَتَل القبطيَّ، ووصل الخبر إلى رجال القصر الفرعونيِّ، عقد وزراء القصر الفرعوني مجلس تَشَاورٍ على وجه السرعة بشأن الحدَث، واتَّجهت الآراء لإصدار الأمر بقتل موسى عقوبةً له على قتله المصريِّ، وسمع بذلك رجلٌ مؤمن من آل فرعون، فأتى إلى موسى من آخر أطراف المدينة يُسرع في مشيه، وأخبره وأنذره بما سمع. قال يا موسى: إنَّ وجوهَ القوم وكبراءَهم ووزراء فرعون ومجلس مُسْتشاريه يتشاورون في شأنك ليقْتلوك، فاخْرُج من هذه المدينة مُهاجراً، حتى لا يظفروا بك فيقتلوك، وأُؤكِّدُ لك أنَّني من المشفقين عليك النّاصحين لك في الأمر بالخروج وإرشادك إلى ما فيه الصلاح والخير. خروج موسى إلى مدين مهاجراً خائفاً على نفسه من كيد فرعون : وبسرعة يخرج موسى غير منتظر ولا متزوِّد، وهي طبيعة الخائفين دائماً، يطلب النجاة لنفسه أولاً.. توجَّه موسى عليه السلام تلقاء مَدْيَن لا يلوي على شيء، خائفاً يترقَّب، قاطعاً صحراء سيناء الواسعة على قدميه، من غير زاد، ولا رفيق، سوى الأمل بأن يهديَه ربُّه سواء السبيل، وينجيه من فرعون وقومه. قال تعالى: [فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ] {القصص:21-22} أي: فاستجاب موسى لنصح الرجل الصَّادق، فَخَرَج من المدينة حالة كونه خائفاً على نفسه من آل فرعون، ينتظر ويتوقع ويلاحظ بانتباه شديدٍ بسمعه وبصره ما يتعلَّق بالحكم عليه بالقتل، وبالقبض عليه أينما وجد، وسأل ربَّه داعياً مع أوَّل شروعه في الخروج: [قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ] {القصص:21}أي: يا ربِّ خَلِّصني واحفظني من فرعون وجنوده الظالمين بكفرهم وأعمالهم الظالمة لعباد الله.، المتجاوزين الحد ببطشهم وطغيانهم، وكفى به سبحانه منجياً وهادياً، وأنعم به دليلاً وصاحباً. [وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ] {القصص:22}أي: ولمَّا قصد موسى بوجهه مُسْتقبلاً بلادَ «مَدْيَن» فارّاً من مصر وجنود فرعون، قال: أرجو من ربِّي أن يُحقِّق لي بمعونته وتوفيقه وتسديده الطريق الوسط الذي فيه النجاة من القوم الظالمين في مصر، فأخرج عن حدود سلطانهم إلى أرض «مَدْيَن»، وذلك لأنه لم يكن يعرف الطريق إليها.
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
![]() 6-قصَّة موسى في القرآن الكريم بقلم : مجـْـد مكَّي في مَدْيَن: تحدثنا في الحلقة الخامسة عن خروج موسى عليه السلام إلى مدْيَن مهاجراً خائفاً على نفسه من كيد فرعون ، وقد خرج بسرعة غير منتظر ولا متزوِّد، وتوجَّه تلقاء مَدْيَن لا يلوي على شيء، خائفاً يترقَّب، قاطعاً صحراء سيناء الواسعة على قدميه، من غير زاد، ولا رفيق، سوى الأمل بأن يهديَه ربُّه سواء السبيل، وينجيه من فرعون وقومه. حتى إذا وصل مدين، كان أول ما لاقاه نبع الماء الذي يسقي عليه الرعاة، ورأى امرأتين تذودان غنمهما عن الماء بينما يسقي الرجال من غير التفات إليهما أو مساعدة على الأقل، فيتحرك للمساعدة في إحقاق الحق، وقال لهما مستوضحاً الأمر مُتبيِّناً السبب حتى يكون تصرُّفه صحيحاً سليماً: ما خطبكما؟ والخطب: هو الأمر العظيم. وكان جواب الفتاتين واضحاً محدَّداً مختصراً: [قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ] {القصص:23}. قال تعالى: [وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ] {القصص:23} أي: وحين أشرف موسى على الأرض التي فيها ماء آل مَدْين، وكانوا يسقون منها مواشيهم، وَجَد على الماء جماعةً كثيرة من الناس، يستخرجون الماءَ من البئر بالدِّلاء ويصبُّونَهُ في أجرانٍ، لتشربَ أنعامُهم ودوابُّهم، ووجد موسى من خلف الجماعة امرأتين تُبْعدان أغنامَهُما عن الماء حتى يفرغ الناس، وتخلو لهما البئر. قال موسى للمَرأتين: ما شأنكما لا تَسْقيان مواشيكما مع الناس؟! قالتا: إنا امرأتان لا نزاحم الرجال أدباً واستحياءً، فإذا رجع الرُّعاة عن الماء سَقَيْنا مواشينا مِنْ فَضْل ما بقيَ من الماء، والسبب في قيامنا بوظيفة سَقْيِ مواشي أبينا، أنه ليس لنا إخوةٌ ذكورٌ للقيام بهذه الوظيفة، وأبونا شيخٌ كبير لا يَقْدر أن يسقي مواشيه. [فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ] {القصص:24} فلمَّا سمع كلامَهما رقَّ لهما ورحمهما، وسقى لهما الغنم، وبعد أن ساقت المرأتان أغنامَهُما، وابتعدتا في اتِّجاه دار أبيهما، ابتعد موسى عن مكان البئر، وأوى إلى شجرة، فجلس في ظلِّها من شدَّة الحرِّ، فسأل ربَّه قائلاً: ربِّ إني لما سَبَق أن أنزلت إليَّ من النَّجاة من الظالمين، والوصول إلى ماء «مَدْين»، والاستظلال آمناً في ظلِّ هذه الشجرة، مُفْتَقرٌ إلى ما تسوقُه إليَّ من خيرٍ ورزق تفضُّلاً منك وإنعاماً، ومن ذلك: تزويجي بزوجةٍ صالحةٍ عفيفةٍ تعفُّني وتكون لي سكناً. وتأتيه الاستجابة سريعاً: [فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا] {القصص:25} أي: وصلت الفتاتان إلى أبيهما، وأخبرتاه خبرَ الرجل الغريب الذي سقى لهما، وعقب دعاءِ موسى ربَّه مباشرةً جاءت إحدى الفتاتين اللتين سقى لهما تسيرُ إليه في حياءٍ، قالت: إنَّ أبي، يطلب منك أن تأتي إليه؛ ليُعطيَكَ أجْرَ سَقْيك لنا. هكذا كلها حياء وأدب، حتى لكأنَّ الحياء طريقها على الأرض التي تسير عليها فكل خطوة من خطواتها أدب وحياء. وحين يصل موسى بيت الشيخ الصالح، ويقص عليه قصته، وما كان من أمره يبشره الشيخ بالأمان والنجاة من القوم الظالمين.. قال الله تعالى: [فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ القَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ] {القصص:25} أي: فلمَّا جاء موسى أباهما الشيخ الكبير، وأخبره بأمره أجمع، قال الشيخ أبو المرأتين لموسى: لا تَخَفْ من جنود السُّلطة الفرعونيَّة، فنحن في «مدين» نقع خارج سلطته ونظام حكمه، وبوصولك إلى هذه الأرض نَجَوْتَ من فرعون وقومه الظالمين.. وما كان أحوجَ موسى عليه السلام لمثل هذه البشرى، في مثل هذا الوقت. ويشاءُ الله تعالى أن يكمل لموسى نعمة الأمن الذي حصل عليه بنعمة الاستقرار في بيت وأسرة، فتتقدَّم إحدى المرأتين طالبةً من أبيها أن يستأجر موسى ليحلَّ مكانها في العمل: [قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيُّ الأَمِينُ] {القصص:26} قالت إحدى الفتاتَيْن: يا أَبَتِ اتَّخِذه أجيراً ليرعى أغنامنا، ويقوم على حفظها، فهو قويُّ الجسد، استخرج الماء بالدِّلاء من البئر بقوَّة وهمَّة، على الرُّغم من قدومه إلى «مدْين» ماشياً على قدمَيْه من مصر، وهو أمين، فقد اختار أن يمشي أمامنا إلى مسكننا، حتى لا تصف الريح جسدنا؛ إنَّ خير مَن استعملت مَنْ قَوِيَ على العمل وأدَّى الأمانة. والقوة والأمانة من أهم ما يجب توفره في العامل والمستأجر والموظف والمدير حتى يكون عمله نافعاً مفيدا.
__________________
|
#6
|
||||
|
||||
![]() 7-قصَّة موسى في القرآن الكريم بقلم : مجـْـد مكَّي تحدثنا في الحلقة السابقة عن وصول موسى إلى مدين، وسَقْيِه للمرأتين اللتين كانتا تمنعان أغنامهما عن الماء خوف الزحام ومنازعة الرجال، ويدعو الله سبحانه:[ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ]، وتأتيه الاستجابة سريعاً: [فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا] ويشاءُ الله تعالى أن يكمل لموسى نعمة الأمن الذي حصل عليه بنعمة الاستقرار في بيت وأسرة، فتتقدَّم إحدى المرأتين طالبةً من أبيها أن يستأجر موسى ليحلَّ مكانها في العمل : [قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيُّ الأَمِينُ] روى الحاكم في " المستدرك"2/407 عن عمر رضي الله عنه، قال: إن موسى لما ورد ماء مدين، وجد عليه أمّةً من الناس يسقون، فلما فرغوا، أعادوا الصخرة على البئر، ولا يطيق رفعها إلا عشرة رجال، فإذا هو بامرأتين، قال: ما خطبكما ؟ فحدَّثتاه، فأتى الحجر فرفعه وحده، ثم استقى، فلم يستقِ إلا ذَنوباً واحداً حتى رويت الغنم، فرجعت المرأتان إلى أبيهما فحدَّثتاه، وتولى موسى إلى الظل، فقال: [رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ] قال: [فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ ] واضعة ثوبها على وجهها ليست بسلفع ـ أي: سليطة ـ من النساء خرَّاجة ولاَّجة [قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ القَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ]، فقام معها موسى، فقال لها: امشي خلفي، وانعتي لي الطريق، فإني أكره أن يصيب الريح ثيابَك فيصف جسدك، فلما انتهى إلى أبيها قصَّ عليه، فقالت إحداهما: [قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيُّ الأَمِينُ] قال: يا بنية ما علمك بأمانته وقوته؟ قالت: أما قوته فرفعه الحجر ولا يطيقه إلا عشر رجال، وأما أمانته فقال: امشي خلفي. زواجه عليه السلام: والاستقرار في مَدْيَن كان نقلة محكمة في تربية موسى عليه السلام وإعداده للرسالة، حيث نقلته القدرة الإلهيَّة من حياة القصور وما فيها إلى حياة الرعي، لتستكمل نفس موسى عليه السلام التجارب والأحاسيس لمعرفة مستويات الناس وأحوالهم، ليكون ذلك عوناً له على أداء رسالته في المستقبل، هذا وحين أتم موسى عليه السلام السنوات العشر، في خدمة الشيخ طلب موسى الإذن ليعود لأهله في مصر.
__________________
|
#7
|
||||
|
||||
![]() 8-قصَّة موسى في القرآن الكريم بقلم : مجـْـد مكَّي مقدمات النداء: رضيَ موسى عليه السلام بعرض الشيخ الصالح بـ «مدْين»، وتزوَّج البنت التي اختارها من ابْنتيه على الشَّرط الذي عَرَضه عليه أبوها، فلمَّا أتمَّ موسى المُدَّة عشر سنين، وهي أكملُ المُدَّتَيْن، وقام بالخدمة على الوجه المطلوب المرضي، واستأذن أبا زوجته أن يسافر إلى «مصر»، مُسْتصحباً زوجته وولده، وأذن له، وأعدّ ما يلزم لهذا الرَّحيل، وسار مُصَاحباً أهله، مُتَّجهاً شطر مصر، حيث قومه بنو إسرائيل. سار موسى بأهله، عائداً إلى مصر، تدفعه يد القدرة التي كانت بالأمس تنقل خطاه، خطوة خطوة، في طريق الإعداد والتهيئة للرسالة، تحت حماية الله ورعايته، وهي ذاتها التي تقوده للعودة إلى مصر بدافع الميل الفطري للأهل والعشيرة، وتهوِّن عليه الخطر المتوقَّع من فرعون ومَلئه، وتُدْنيه من لحظات الحفاوة والتكريم المقدَّرة له في هذا الطريق ـ (في ظلال القرآن 5/3691). ها هو يسير بأهله في سيناء، من حيث قد عبرها بالأمس هرباً إلى "مدْين" وحيداً طريداً خائفاً يتلفَّت، وفي سيناء ضلَّ الطريق في ليلة باردة مظلمة ليس فيها ما يهدي فالظلمة تعمّ ما حوله، والسماء لا يرى منها شيئاً لاحتجابها بالغيوم، فآثر التوقف ريثما يشرق الصباح بضيائه فيتحقَّق الطريق. رؤية النار: قال الله تعالى: [فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آَنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ] {القصص:29}. أي: أبصر موسى من ناحية جبل الطُّور ناراً تتعالى ألسنة لهبها في الجوِّ، وكان البرد شديداً، وكان الطريق السويُّ إلى مصر غير واضح. قال موسى لأهله: تمهَّلوا وانتظروا، إني أبصرتُ ناراً، وإنِّي ذاهبٌ إلى المكان الذي هي فيه، أتوقَّع دون جزْم أنْ آتيكم من أهلها بخبر عن الطريق المُوصل إلى «مصر»، أو عودٍ من الخشب في رأسه نار، لتوقدوا منها حطباً، رجاء أن تستدفئوا بناره. وقال تعالى مخاطبا نبيَّه محمدا صلى الله عليه وسلم مشوِّقاً ومقرِّراً، وحاثّاً على الإصغاء لما سيلقى عليه: [وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى] {طه:10} أي: هل وصل إليك قصة موسى مع أهله وربه وفرعون وقومه حين أبصر عياناً في ليلةٍ شاتية شديدة البرد، وهو قادمٌ من «مَدْيَن» إلى مصر ناراً من بعيد عن يسار الطريق من جانب الطُّور، فقال لامرأته: أقيموا هنا، وانتظروا وتمهَّلوا إني أبْصَرت ناراً، أتوقَّع دون جزم أن آتيكم منها بشعلة من نار في طَرَف عود، أو أجد على المشرفين على إيقاد النار هادياً يدلُّني على الطريق الموصل إلى مصر. وقال عزّ وجل: [إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا سَآَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آَتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ] {النمل:7} أي: ضع في ذاكرتك ـ أيها المتلقِّي لهذا البيان ـ حين قال موسى وهو عائد بأهله من «مَدْين» إلى «مصر»: إنِّي أبصرت من بُعدٍ ناراً، فأنا ذاهبٌ إلى جهتها، وسائلٌ أهلها عن أخبار الطريق إلى «مصر»، وأرجو أني سآتيكم من عند أصحاب النار بخبرٍ عن الطريق الذي يُوصلنا إلى «مصر»، أو آتيكم بشعلةِ نارٍ ساطعة؛ رجاءَ أنْ تَسْتدفئوا بها من البرد. أذهبت رؤية النار وحشة الجو الذي كان يعيشه موسى عليه السلام تلك اللحظات، وآنست نفسه، وأمَّل أن يجد عند تيك النار هادياً يهديه، أو يعود منها بقبس يضيء له ظلام ليله، أو جذوة يدفئ بها نفسه وأهله. موقع النداء: قال الله تعالى: [وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا] {مريم:52} ونادَيْنا موسى حين أقْبل من «مَدْيَن» ورأى النار، من ناحيةِ جبل الطُّور اليُمنى من موسى، وقرَّبناه إلى جهة النداء، وشرَّفناه بإسماعه كلامنا سراً. وهناك عند جانب الطور الأيمن، يمين موسى وهو متَّجه إلى مصر، في صحراء سيناء على جانب الوادي المسمَّى (طوى) كانت البقعة المباركة من الشجرة ومنها كان النداء. قال تعالى: [هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالوَادِ المُقَدَّسِ طُوًى] {النَّازعات:16}. حين ناداه ربُّه بالوادي المُطهَّر «طُوى»؛ الواقع إلى جانب جبل الطُّور. طوى: اسم للوادي، وقيل: صفة له.
__________________
|
#8
|
||||
|
||||
![]() 9-قصَّة موسى في القرآن الكريم بقلم : مجـْـد مكَّي المناداة: وصل موسى عليه السلام إلى جهة النار، وكله أمل بأن يجد الهادي عندها، أو يعود منها بقبس يُعينه على قضاء ليلته، ولم يخيِّب الله رجاءه، فلقد وجد الهادي، وعاد بالضياء، وعاد بنور النبوَّة والرسالة. قال الله تعالى:[فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الوَادِ الأَيْمَنِ فِي البُقْعَةِ المُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ] {القصص:30}. أي: فلمَّا أتى موسى عليه السلام النار التي أبصرها، ناداه الله تعالى من جانب الوادي الذي عن يمين موسى في القطعة من الأرض المتميِّزة ممَّا حولها، التي جعل اللَّهُ عزَّ وجلّ فيها الزيادة من الخير والنَّماء، من ناحية الشجرة: أنْ يا موسى، أُؤكِّد لك ما أقول لك: أنا الله الذي تُؤمن به، أنت وآباؤك المؤمنون الموحِّدون، وأنا خالق الكائنات كلها، والمُتَصرِّف فيها بحكمته دواماً، وبسلطان ربوبيَّته الشاملة لكلِّ ما في الكون من حوادث وتصاريف. وقال سبحانه: [فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى(11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالوَادِ المُقَدَّسِ طُوًى(12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى(13) إِنَّنِي أَنَا اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي(14) إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى(15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى(16)]. {طه: 11-16}. أي: حين أتى موسى إلى قُرب موقع النَّار، ناداهُ اللَّهُ تعالى: يا موسى، إنّي أنا الذي أُكلِّمك من وراء حجاب خالقُك ومُمِدُّك بعطاءات ربوبيَّتي دائماً. ثم بيَّن له ما ينبغي أن يفعله تأدباً مع الله تعالى:[فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ]أي: فاخْلَع ما تلْبَسُ بقَدَمَيْك، وألْصق قدميك حافيتَيْن بترابه ورماله، وقفْ موقفَ الخضوع والتواضع والأدب الجمّ، فَخَلَع موسى نعليه، وألقاهما من وراء الوادي استعداداً لمناجاة ربِّه. . ثم عرَّفه في أيِّ مكان هو: [إِنَّكَ بِالوَادِ المُقَدَّسِ طُوًى]أي: إنَّك بالوادي المُطَهَّر من الأرجاس الماديَّة والمعنويَّة؛ «طوى» المتَّصل بحبل «الطُّور» . ويأتيه النداء: [وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى] {طه:13}. أي: وأنا اصْطَفَيتُكَ ـ يا موسى ـ برسالاتي وبكلامي، لقد جاءك أمرٌ عظيم، فتأهَّب له، واسمع بإصغاءٍ كامل، ووعيٍ تامٍّ لما يُوحى إليك منِّي. فهي الرسالة والنبوة، إنها منَّة كبرى، وسعادة وتشريف، ودلَّت الآية على أن النبوة لا تكون اكتساباً، بل هبة من الله عزَّ وجل . نداءات الله تعالى لموسى في البقعة المباركة: حين وطئ موسى عليه السلام البقعةَ المباركة نُودي بهذه النداءات حيث عرَّفه ربُّه تعالى من هو المنادي له: [إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ] {القصص:30} . أي: أُؤكِّد لك ما أقول لك: أنا الله الذي تُؤمن به، أنت وآباؤك المؤمنون الموحِّدون، وأنا خالق الكائنات كلها، والمُتَصرِّف فيها بحكمته دواماً، وبسلطان ربوبيَّته الشاملة لكلِّ ما في الكون من حوادث وتصاريف.. [فلمَّا جاءها نُوديَ أن بُورك من في النار ومن حولها وسبحانَ الله ربِّ العالمين يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللهُ العَزِيزُ الحَكِيمُ] {النمل:8-9}أي: فلما جاء موسى المكان الذي رأى النار تشتعل فيه، ناداه الله تعالى بأنه ثَبَتَ واستقرَّ وكَثُرَ خَيْرُ مَنْ في مكان النار من الملائكة، وموسى والملائكة الذين حَوْل النار. وحتى لا يشتبه على أحدٍ من الخلق أن الله تعالى يحدّه زمان أو مكان أو جهة قال تعالى: [وَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ العَالَمِينَ] {النمل:8}أي: وتنزَّه اللَّهُ خالق العالمين ورازقهم ومالكهم ومُربِّيهم عن كلِّ سوء ونقص ومُمَاثلةٍ للحوادث. [ يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللهُ العَزِيزُ الحَكِيمُ] {النمل:9}أي: إنَّ الشأن العظيم الجليل الذي أُطالبك بأن تدركه، أنْ تؤمن بأني أنا الله القويُّ الغالبُ، ذو الإرادة الحكيمة النافذة، فلا تُفارق مشيئتي المُطلقة حكمتي في تصاريفي. يا موسى إنَّ الشأن العظيم الجليل الذي أُطالبك بأن تدركه، أنْ تؤمن بأني أنا الله القويُّ الغالبُ، ذو الإرادة الحكيمة النافذة، فلا تُفارق مشيئتي المُطلقة حكمتي في تصاريفي.
__________________
|
#9
|
||||
|
||||
![]() 10-قصَّة موسى في القرآن الكريم بقلم : مجـْـد مكَّي مضمون الرسالة: قال الله تعالى: [إِنَّنِي أَنَا اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي(14) إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى(15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى(16)] {طه:14-16}. أي: اعلم بتأكيد شديد ـ يا موسى ـ إنَّني أنا اللَّهُ الأزليُّ الأبديُّ، خالق الأكوان والمُتصرِّف فيها، لا معبود بحقٍّ في الوجود كلِّه إلا أنا، فاعبدني، ولا تعبد غيري، وَأَقم الصَّلاةَ بإتمام حقوقها، والمواظبة على أدائها في أوقاتها؛ لتذكرني فيها. إنَّ الساعةَ التي يُبعث فيها الناس للحياة الأخرى آتيةٌ لا محالة، أقرُب أن أُزيل خفاءَها، وأكشف غطاءَها، وأظهر علاماتها وأشراطها الكبرى، فكونوا على حذرٍ منها كل وقت؛ إنها آتية لتُجزى يوم الدين كل نفس موضوعة للاختبار في الحياة الدنيا بما تعمل من خير أو شر على تَتَابع الزمن في هذه الحياة الدنيا. فلا يَصرِفَنَّك ـ يا موسى ـ عن السَّعي للظفر بأعظم الجزاء في جنَّات النعيم يوم الدين بعد قيام الساعة، مَنْ لا يُؤمنُ بالجزاء الربَّاني، واتَّبع ما تميل إليه نفسه، وخالف أمر الله، فَتَسْقُطَ في أودية الآثام والجرائم، إن أنت انصرفت عن ذكرها ومراقبتها والتأهُّب لها هذه هي مادة الوحي وأصول الرسالة التي سيحملها موسى عليه السلام : الاعتقاد بالوحدانيَّة، والتوجُّه بالعبادة، والإيمان بالساعة والمعاد، وخصَّت الصلاة بالذكر لأنها أكمل صور العبادة، وأعظم وسيلة من وسائل الذكر. وجاءه النداء: [وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى] {طه:17}، وكان السؤال يتضمَّن التنبيه وجمع النفس لتلقي ما يرِد عليها، فلما سمع موسى عليه السلام السؤال، أجاب بما يعرف من خواصِّها، وما يعلم منها بالتجربة: [قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى] {طه:21} المعجزات مؤيِّدات الرسالة: بعد أن عرَّف الله سبحانه موسى بمضمون الرسالة، عرَّفه بوسائل تأييدها، وهي (العصا، واليد). العصا: قال تعالى: [وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى(17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى(18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى(19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى(20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى(21){ طه} سال الله موسى عليه السلام: وما تلك بيدك اليمنى ـ يا موسى ـ؟ قال موسى عليه السلام: هي عَصَايَ أعتمدُ عليها إذا مشيت، وإذا عييت، وأهزُّ بها الشجر؛ ليسقط ورقها على غنمي، فتأكل منه، ولي فيها حاجاتٌ ومنافعُ أخرى. والذي دعا موسى عليه السلام إلى بسْط الكلام، وإطالة الحديث، رغبةُ التشرُّف والاستئناس والتلذُّذ بطول المحادثة مع الربِّ عزَّ وجلّ. قال الله تعالى لموسى عليه السلام: ألْقِ عَصَاك. فطرحها موسى على وَجْهِ الأرض، ثمَّ حانت منه نظرة، فإذا هي حيَّةٌ من أعظم ما تكون من الحيَّات، تمشي بسرعة على بطنها، فولّى موسى مُدْبراً وهرب. قال الله تعالى لموسى: خُذ الحيَّة بيمينك كما لو كانت عَصَا، ولا تَخف، سنُرجعها بعد أن تُمْسكَ بها وهي حيَّة إلى هيئتها السابقة التي كانت عليها؛ عَصَا لا حياة فيها ولا حَرَكة. يا موسى هذا مثال من الأمثلة على قدرتنا على التصرف بالجمادات من وضع الحياة فيها وسلبها، وسنريك قدرتنا على التصرف بالأحياء أنفسهم. لقد تحوَّلت العصا - بقدرة الله تعالى- إلى حيَّة تسعى في سرعة الجانّ من الحيات. وما أعظم المعجزة.. إنَّ التي يهشُّ بها على غنمه هي اللحظة حيَّة تسعى! وإنَّ التي يتوكأ عليها في عمله اليومي، ستصبح تكأة دعوته في المستقبل ودليل صدقها!. وقال سبحانه: [وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآَمِنِينَ(31)]{القصص31-32} وأن ادفع عَصَاك من يدك إلى الأرض رَمْياً، فرماها، فلمَّا رآها تتحرَّك بشدَّة واضْطراب كأنَّها في سرعة حركتها وخفَّتها كالحيَّة الصغيرة، انهزم مُبْتعداً، مُعطياً ظهره لجهة العَصَا التي انقلبت حيَّةً مخيفة تسعى، ولم يرجع من شدَّة خوفه على نفسه، فناداه ربُّه عند ذلك: يا موسى أقْبل على النداء، وعُد إلى مكانك الذي فَرَرت منه خوفاً من الحيّة، ولا تَخَفْ أن تُؤْذيَكَ؛ إنَّك من الآمنين من كلِّ مكروه بتأمين ربِّك لك. ولما رأى موسى عليه السلام عصاه قد تحوَّلت إلى حيَّة تسعى بسرعة الجانِّ ولم يكن تعوَّد مثل هذا الأمر، ولَّى هارباً ولم يُعَقِّب ـ يرجع ـ ولكن إلى أين يا موسى؟ [يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ المُرْسَلُونَ] { النمل: 10} قال الله تعالى: يا موسى لا تَخَف، وكُن آمناً فلن يُصيبك مكروه من هذا الثعبان الذي يسعى ويهتزُّ بقوة ونشاط وسرعة حركة؛ إنِّي لا يخاف لديَّ المُرسلون إذا أمَّنتهم، لكن مَنْ ظلم بمخالفة أمري أو نَهْيي، فإنَّه يخاف عقابي، فإنْ تاب وجاء بعملٍ فيه حُسنٌ من بعد عملٍ فيه سوء، فإني كثير السَّتْر، واسع الرحمة بعبادي المؤمنين، أشملهم بعطاءات رحمتي دواماً. [أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآَمِنِينَ] {القصص:31}. لقد أعطي الأمان... بل إن الأمن محيط به من كل جانب... فلمَ الخوف؟! [وألقِ عَصَاك فلمَّا رآها تهتزُّ كأنَّها جَانٌّ ولَّى مُدْبرا ولم يُعقِّب يا موسى لا تخف إنه لا يخاف لدي المرسلون (10)] {النمل} أي: وادفع عَصَاك إلى الأرض دفعةً واحدة؛ لتعلم معجزتَك فتأْنَسَ بها، فألقاها، فلمَّا رآها موسى عليه السلام تتحرَّك وتَضْطرب، كأنها في شدَّة حركتها واضطرابها مع عِظم جثّتها: حيَّةٌ سريعة الحركة، انصرف مُبتعداً، وأدار ظهره، ولم يرجع ويلتفت. قال الله تعالى: يا موسى لا تَخَف، وكُن آمناً فلن يُصيبك مكروه من هذا الثعبان الذي يسعى ويهتزُّ بقوة ونشاط وسرعة حركة؛ إنِّي لا يخاف لديَّ المُرسلون إذا أمَّنتهم، لكن مَنْ ظلم بمخالفة أمري أو نَهْيي، فإنَّه يخاف عقابي، فإنْ تاب وجاء بعملٍ فيه حُسنٌ من بعد عملٍ فيه سوء، فإني كثير السَّتْر، واسع الرحمة بعبادي المؤمنين، أشملهم بعطاءات رحمتي دواماً.
__________________
|
#10
|
||||
|
||||
![]() 11-قصَّة موسى في القرآن الكريم بقلم : مجـْـد مكَّي أحوال العصا وتحوُّلاتها: لقد كان لعصا موسى - عليه السلام - دور كبير في حياته، قبل الرسالة، وبعدَها، كما كان لها دورٌ كبير في حياة بني إسرائيل وحياةِ فرعون ومماته. قبل الرسالة كان موسى عليه السلام يهشُّ بها على غنمه وله فيها مآرب أخرى، وبعد الرسالة أصبحت معجزة رسالته. أما مع بني إسرائيل فقد ساهمت في إجابة طلباتهم، ودلَّت على صدق نبوَّة موسى عليه السلام، وذلك حين ضرب البحر فانفلق كل فرق كالطود العظيم، وحين ضرب بها الحجر فانبجس منه الماء ليشرب بنو إسرائيل. وكذلك مع فرعون حين أراه إيَّاها كدليل صدق له، ثم حين أبطلت كيد الساحرين، فآمنوا وخاب فرعون بما افترى. ونلخص هذه الاستعمالات والتحولات مرتبة حسب وقوعها: 1 ـ في ساعة المناداة : تحوَّلت إلى حيّة تسعى وتهتز كأنها جانّ. 2 ـ في ساعة المحاورة مع فرعون: تحوَّلت إلى ثعبان مبين. 3 ـ في ساعة المباراة مع السحرة: تلقفت ما يأفكون، وأبطلت ما صنعوا من سحر. 4 ـ في ساعة الخروج : ضرب بها البحر فانفلق لينجو بنو إسرائيل ويغرق فرعون. 5 ـ في سيناء : ضرب بها الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم. آية اليد: ومن المؤيِّدات التي أيَّد الله بها موسى – عليه السلام – قبل إرساله إلى فرعون : آية اليد : قال الله تعالى: [وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آَيَةً أُخْرَى(22) لِنُرِيَكَ مِنْ آَيَاتِنَا الكُبْرَى(23)]. {طه}. أي: واضْمُمْ يَدك اليمنى إلى إبْطك وأخرجها، تخرج بيضاء حسناء نيِّرةً مُشْرقةً من غير بَرَص، حالة كون هذه التحويلة في اليد دلالةً أخرى على صِدْقك، غيرَ آيةِ العصا وتحويلها إلى حيّةٍ تسعى. فعلنا ذلك؛ لكي نُرِيَك ـ يا موسى ـ بعض آياتنا الكبرى، الدالَّة على عظيم قُدرتنا، وصحَّة نُبُوَّتِكَ. ولقد أصابت موسى عليه السلام الخشية من الله تعالى حين رأى ما رأى، وسمع ما سمع من الله تعالى، فأمره الله تعالى أن يضمم إليه جناحه، أي: يضع يديه تحت إبطيه كأنه يحتضن نفسه حتى يطمئنَّ قلبه ويذهب ما به من الرهب والخوف. وهكذا كانت (العصا واليد) برهانان من ربِّ موسى على رسالته لفرعون و قومه وإلى بني إسرائيل. قال سبحانه:[اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ(32)]{ القصص}. أي: أدْخِل يَدَك في فتحة قميصك، وأوصلها إلى إبْطك، وأخرجها بعد ذلك، تخرُجْ شديدةَ البياض متلألئةً مضيئةً من غير مَرَض ولا بَرَص، واضْمُمْ يَدَكَ اليُسرى إلى جانب صَدْركَ الأيسر، حيث قلبك، فيذهب ما نالك من أثر الخوف، فهاتان المُعجِزَتان الخارقتان العجيبتان: قلب العصا حيّةً مخيفةً، وقلب اليد السَّمراءِ بيضاء تبرُق كالبرق، حُجَّتان بيِّنَتَّان من ربِّك إلى فرعونَ وأشرافِ قومه ووزرائه ومسْتشاريه، وحاشية قصره؛ إنَّهم كانوا زمناً طويلاً عاصين، وما زالوا قوماً خارجين عن طاعة الله، تاركين لأوامره. وقال تعالى: [وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ]{ النمل} وأدْخل يَدَكَ اليمنى في فتحةِ قميصك من جهة الرأس، وضعها تحت عَضُدك الأيسر، وأخرجها تخرج بيضاء تبرق مثل شعاع الشمس من غير بَرَص، خذ هاتين الآيتين: آية العصا التي تنقلب ثعباناً، وآية اليد التي تخرج بيضاء من غير سوء، في جملة تسع معجزات، قدَّرت منحك إيَّاها، دليلاً على أنك رسولي، وأنك صادق فيما تبلِّغ عني، أنت مُرسَلٌ بهنَّ إلى فرعون وقومه؛ إنَّهم كانوا قوماً خارجينَ عن الطاعة
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |