|
فتاوى وأحكام منوعة قسم يعرض فتاوى وأحكام ومسائل فقهية منوعة لمجموعة من العلماء الكرام |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() حكمة الإسلام في العزائم والرخص فضيلة الشيخ محمد الخضر حسين خلقَ الله الإنسانَ وبين جنبيه نفسٌ تقلب يميناً تارةً، ويساراً تارةً أخرى، إذ يريد أن يعرف حاله كيف يكون إذا فارقت رُوحُه جسدَه. وقد أرسل الله نبيَّه محمداً صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليه شريعة عزائمها حَزْم، ورُخَصُها رفق، فاستقرَّت النفس على حال، واطمأنَّت إلى عقيدة. وللتشريع أحكام شُرعت ابتداءً، بتوجيه الخطاب فيها لجميع المكلفين كالوضوء والصلاة والصيام، ويسمى هذا النوع فرضَ عين، لأنه فَرِض على كل شخص بعينه، وأحكام يتوجَّه فيها الخطاب إلى الأمة على أن يقوم به طائفة من القادرين عليه كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقيام بشؤون الجنائز، وهذا النوع يسمى فرضَ الكفاية، فإنَّ قيام طائفة به يكون كافياً؛ وأحكام يتوجه الخطاب فيها إلى قوم من المكلفين كل واحد بعينه كالأحكام الخاصَّة بالنساء: كإرضاع الولد، والفطر في أيام الحيض والنفاس في رمضان، أو الأحكام الخاصَّة بالرجال: كدفع المهر للزوجة والإنفاق عليها، وتحريم لبس الذهب والحرير، وهذه الأنواع الثلاثة تسمى عزائم. والعزم في اللغة: قطع الأمر. والعزيمة إذا نسخها نص فالناسخ هو العزيمة، وإن كان أقلَّ مشقةً من العزيمة المنسوخة كوقوف العشرين من المسلمين في وجه المائتين من العدو، وهو الأصل، فإنَّه نسخ بالنص، أعني قوله تعالى: [فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ] {الأنفال:66}. والرُّخَص: جمع رُخْصة، وهي السهولة واللين، ويخاطب بها من يشق عليه الشدة التي تقع في العزائم، كالتيمم لمن يشقُّ عليه الوضوء، أو الصلاة من جلوس لمن يشقُّ عليه الصلاة قائماً. وأصل الرخصة في حكم الشرع: الإباحة، ولا تبلغ بصفتها رخصة أن تكون مستحباً أو واجباً، فإن تجاوزت الرخصة أصلها، وبلغ الداعي إليها حد الإشراف على الموت كأكل لحم الميتة للمضطر إليه، فتصبح الرخصة عندئذ عزيمة؛ لأنَّ تركها يؤدي إلى قتل النفس، وهو محرمٌ بالإجماع. والعزيمة قد تكون فيها مشقَّة عادية يحتملها الإنسان راضياً محتسباً أن الله يحفظه من الهوان والخزي في الدنيا، ويجزيه بالحسنى في الآخرة. والعزيمة قد تسقط إذا ترتَّبت على فعل خطأ في حق الله كمن باشر أجنبيةً يظنُّها امرأتَه، فتسقط عنه العزيمة، وهي حد الزنا بسبب هذا الخطأ؛ لأن الحدود من حقوق الله. ولا تسقط العزيمة في حق المخلوق، ولو كان الفعل خطأ؛ كوجوب الدية على القاتل خطأ، أو ضمان المال الذي أتلفه. وقد تسقط العزيمة بالنسيان كمن أفطر يوماً في رمضان يظنه من شعبان. وحديث: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان» يروى عن أحمد بن حنبل ومحمد ابن نصر المروزي أنه غير صحيح. وقال الإمام النووي: هو حديث حسن. وعلى فرض صحته فيراد منه الخطأ في حق من حقوق الله. وتسقط العزيمة عمن أكره على كلمة الكفر، قال الله تعالى: [إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ] {النحل:106}. والظاهر من الآية الكريمة ـ في سورة البقرة ـ أن الله علم من المؤمنين القائلين في دعائهم: [لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا] {البقرة:286} أنهم قصدوا حقوق الله في مثل عقوبة القتل الخطأ، والأكل في رمضان نسياناً، وأما ما يتعلق به حق المخلوق فهو باقٍ لا يسقط. وتسقط عزيمة الطلاق والبيع بالإكراه، كما تسقط عزيمة الكفر بالإكراه. ولا تسقط العزيمة عمن أكره على قتل شخص أو غصب ماله؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: [وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ] {المائدة:2}. والجهل بالحكم ليس بعذرٍ تُنتهك معه العزيمة، فإنَّ مخالفة المكلف لحكم الشارع بسبب الجهل تعد انتهاكاً للشرع لا يُقبل فيه عذر بسبب جهالته. وقد تخفف العزيمة بتغيير صورتها كصلاة الخوف، فالأصل فيها أن يقسم القائد العام المجاهدين طائفتين: طائفة تقف أمام العدو، وطائفة يصلي بهم ركعة، ثم تذهب الطائفة التي صلى بهم ركعة إلى مقابلة العدو، وتأتي الطائفة الأخرى، فيصلي بهم الركعة الثانية. وقد تخفَّف العزيمة بجمع التقديم كجمع صلاة العصر مع صلاة الظهر، وصلاة العشاء مع صلاة المغرب، وجمع التأخير كتأخير صلاة الظهر إلى وقت صلاة العصر، وتأخير صلاة المغرب إلى صلاة العشاء. وقد تطلق الرخصة في الشرع على معنى غير المعنى الذي ذكرناه في مقابلة العزيمة، وهذا المعنى هو: رفع التكاليف الغليظة والأعمال الشاقة التي شرعها الله للأمم السابقة المشار إليها بقوله تعالى: [رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا] {البقرة:286} مثال ذلك: نهيهم عن اصطياد السمك يوم السبت، وابتلاؤهم بمجيئه في هذا اليوم، وعدم مجيئه في الأيام الأخرى. ولم يقع في الشريعة الإسلامية مثل هذا التكليف الذي وقع في الشرائع السابقة؛ فإنَّ الأمم السابقة كُلفت بهذه المشاق عقاباً لها على عتوها وبغيها، كما قال تعالى بعد ذكر تلك التكاليف: [ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ] {الأنعام:146}. وفي الآية الأخرى: [كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ] {الأعراف:163}. أما شريعة الإسلام فشريعة عامة في مختلف المواطن والعصور؛ فمن المناسب ألا يكون فيها حرج، قال تعالى: [وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ] {الحج:78}. وقد تُطلق الرخصة على أمور تناولتها قاعدة المنع، ولكن وجد في تلك الأمور وجهٌ يقتضي إباحتَها واستثناءَها من قاعدة المنع؛ مثل ذلك: أن يعطي صاحب بستان ثمر نخلة أو نخلات شخصاً مجاناً، فإذا أراد صاحب البستان أن يشتري هذا الثمر بتمر يابس، فقاعدة منع بيع الرطب بالتمر خَرصاً ـ تقديراً ـ تُحرِّم على صاحب البستان شراءه بتمر ممن أعطاه إياه، لكن استثنى هذا من التحريم، والوجه في استثنائه من القاعدة تضررُ صاحب البستان من دخول صاحب الثمر في بستانه، وهو وجه يدعو إلى إباحة شرائها. والفرق بين هذا المعنى للرخصة، والمعنى الذي ذكر مقابلاً للعزيمة، أن سبب الإباحة في الوجه الأول متحقق في كل فرد من الأفراد المستثناة من الأصل. أما الوجه الثاني: فلا يلزم أن يكون سبب الإباحة متحققاً في جميع الأفراد، فينبني عليه جواز شراء صاحب البستان للعارية، وإن لم يتحقق تضرره فعلاً بدخول صاحب العاريَّة في بستانه. وإنَّ مشقة التكاليف لا تبلغ كثيراً من مشقَّات الدنيا، ولاسيما إذا نظر إلى ما في التكاليف من الخير الدنيوي والثواب الأخروي. وإننا نرى من غلبت عليه الأهواء لا يطمئن إلى حكمة ما جاء به الشرع من الأحكام إلا إذا ذكر له ضرر خاص يلحقه من مخالفة الشرع. حكي أن أحد الحكام طلب من عالم من العلماء فتوى تخالف الشرع، فأبى أن يفتي بذلك، وقال: هذا مخالف للإسلام، فألحَّ عليه الحاكم وأشار إلى عقوبته إذا لم يفته، فقال الشيخ: أنا أستطيع أن أفتيك بما تريد، ولكن في بلاد الإسلام الأخرى علماء للشريعة سيقولون: إنَّ الحاكم ولّى الفتوى مَن يجهلُ الشريعة الإسلامية. فقال الحاكم: أنا لا أحب أن يقول النَّاس هذا، وانصرف عنه. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |