هناك أناس اضطرتهم الظروف إلى مغادرة أوطانهم ليجدوا أنفسهم أمام واقع آخر مختلف عما ألفوه و بالتالي فهم يحاولون أن يكونوا جزءا منه, و قد تتصف تلك المحاولات بالطرافة و قد تبدوا في ظاهرها مضحكة و لكنها لا تخلوا من القيمة الإنسانية مثل هذا المهاجر العربي ...أترككم,
منذ 15 عاما مضت كتبت مقالا تحت عنوان "رحلة داخل الصابوي" .. واصفا
ومتأملا الأربعة أنواع من البشر الذين يجلسون داخل الصابوي أولاهم .. النائمون والقراؤون .. والواجمون ورابعهم العصبيون .. وخلال الأسبوع الماضي اضطرتني الظروف لأستقل الصابوي مرة أخرى للنزول إلى وسط البلد .. وجلست فيه وأجد رغم مرور كل هذه السنوات إلا أن نوعيات البشر الأربعة كما هى .. كما لو كان الزمن لم يتحرك .. ومر أمامي شريط ذكريات في السنوات الأولى من الهجرة .. وكم كانت صعبة .. سنوات الترفيص في الهواء .. والتحسيس في هذا المجتمع الجديد .. وبداية حياة في مجتمع من اليسار إلى اليمين .. عكس المجتمع الذي قادم منه حيث كل شيء من اليمين إلى اليسار بدءا باللغة والنظام والعمل .. وتذكرت أول مرة اركب فيها الصابوي ذاهبا إلى يانج وبلور ..صرة البلد وكانت التذكرة بدولار .. فوصلت إلى المحطة المذكورة .. متوجها إلى بلور وست .. وتابعت اللافتات .. وإذا بي وجدت نفسي أمام نفس البوابة التي خرجت منها .. فدفعت دولارا ثاني .. ودخلت ومكثت ألفّ وأدور .. وإذا بي وجدت نفسي أمام نفس البوابة ثانية .. فدفعت دولارا ثالثا .. ودخلت وتكررت نفس القصة إلى أن لاحظني الرجل المسؤل عن شباك التذاكر .. وأمسك بيدي وأنا أدفع الدولار الرابع .. قائلا .. ماذا بك ؟ أين تريد أن تذهب ؟ فقلت له بلور وست .. فضحك الرجل .. وقال لي .. تعال معي . وأراني ووصف لي وقبل خروجي للشارع قال لي وإنت راجع لا تدفع مرة أخرى إذا وجدتني مازلت في مكاني .. وقد حدث عند عودتي .. إستقبلني الرجل بإبتسامة وعدت بعد قضاء مشواري .. والمثل العامي يتردد في أذني ."الغريب أعمى ولو كان بصير" .. وتذكرت أيضا .. منذ 17 سنة كانت التاكسيات في تورنتو لونها برتقالي بأسود .. وأيضا كانت سيارات البوليس نفس اللون .. وأصابني دور توهان أنا وصديق مصري .. وفقدنا اتجاهاتنا أثناء البحث عن عمل .. فقررنا أن نوقف تاكسي لتوصيلنا إلى المنزل .. فأعطينا الإشارة للتاكسي فوقف وفتحنا الباب ودخلنا وجلسنا وسألنا الرجل .. ماذا تريدون ؟ فقلنا له ماركهام روود .. فقال هل أنتم عميان ..؟ إنني راجل بوليس وهذه سيارة بوليس .. ألم تلاحظون الزي الذي ألبسه ؟ ألم تلاحظون الأجهزة داخل السيارة ؟ ألم تلاحظون الشارة التي علي كتفي.. فقمنا من أماكنا وأعربنا له عن أسفنا الشديد .. وقلنا له نحن جدد في هذه البلد .. وسامحنا .. فنحن فعلا كالعميان .. فيبدوا أننا صعبنا عليه .. وأصر الرجل أن يوصلنا وبالفعل فعل .. فتشكرنا له من أعماق قلوبنا لو تذكر كل مهاجر بداياته ومعاناته الأولى .. وكم دفع ثمن كل معلوماته .. لمدّ يد العون لكل مهاجر جديد .. قادم .. يتحسس بداية أيام الغربة .. وليكون عيون لهذا المهاجر وبقدر ما نستطيع .. أن نوفر عليه متاعب الأيام الأولى .. ويكون بخبرتنا كمهاجرين قدامى شمعة وعيون تضئ للمهاجرين الجدد بأبسط لمسات الحب وليتنا دواما وقعنا فيه .. صحيح الغريب أعمى ولو كان بصير !!
