|
ملتقى اللغة العربية و آدابها ملتقى يختص باللغة العربية الفصحى والعلوم النحوية |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() تجليات الحس الشعبي في رواية "لحس العتب" لخيري شلبي علاء عبدالمنعم إبراهيم غنيم "خيري شلبي" أديبٌ مسكونٌ بالرُّوح الشعبيَّة للشخصية المصريَّة، هذه الرُّوح المتَّكئة على موروثٍ باذخ من المرويَّات الشفهيَّة والمكتوبة التي نجحَت في مزْج المتخيَّل بالواقعي، وتشظية المسافة الفاصلة بين الأسطوريِّ والمعيش، وتحقيق الالتحام الداهش بين الضَّحِك والبكاء، فجمعَتْ ببراعة بين أفقي المستحيل والممكن. فـ"شلبي" - أو (العم شلبي) كما يطلق عليه مريدوه - يتمتَّع بحساسية رهيفة مكَّنَتْه من حيازة الوعي بما تنطوي عليه هذه الحكايات من طاقةٍ كامنة، يتمُّ استثارتها بشكلٍ تلقائي عبر كلِّ ممارسة تداوليَّة لها؛ وذلك نتيجةَ استناد هذه الحكايات إلى فلسفة مسبَّباتية يمكن اختزالها في كون هذا المحكيِّ ممثِّلاً لقوة الدفع الرئيسة، التي مكَّنَت الشخصيَّة المصرية من المحافظة على مَعالمِها المميزة وقسماتها الخاصة، والصُّمود في وجه العديد من التيَّارات العاتية التي حاولَت تهجينها وتدجينها، ومَسْخ ملامحها وتشويهها؛ ليغدو الحكي بالنسبة للمصري - بطبقاته المتعدِّدة - حيلةً يتوسَّل بها لحماية روحه من لفحة جمار العيش المُضْطَرمة، وليصير السَّرد هو البديل السِّحري للهزيمة أمام الواقع بسلطته القاهرة، وسياقاته القاسية، ولتصبح الروايةُ - بوجهيها الشَّفهي والمكتوب - هي الملاذَ الذي تلجأ إليه الذَّات؛ بُغيةَ النَّجاة من حمأة العجز عن المواجهة والتَّقهقر أمام شراسة العالَم. ينتمي "خيري شلبي" إلى سلالة الشخصيَّة المصرية الشعبيَّة، بحجمها الحقيقيِّ ومذاقِها الفعلي، وهو ما يتَّضح بالعروج إلى سيرته الخاصَّة التي تكشف أنَّه عمل بائعًا جائلاً في صِباه، واتَّخذ المقابر مسكنًا في شبابه، وكتبَ أعمالاً عديدة على مدار عمره المديد؛ مثل: السنيورة، والأوباش، والشُّطار، والوتد، والعراوي، وفرعان من الصبار، وموال البيات والنوم، وثلاثية الأمالي؛ (أولنا ولد - وثانينا الكومي - وثالثنا الورق)، وبغلة العرش، ومنامات عم أحمد السمَّاك، وموت عباءة، وبطن البقرة، وصهاريج اللُّؤلؤ، ونعناع الجناين، وصالح هيصة، ونسف الأدمغة، وزهرة الخشخاش، ووكالة عطية، وصحراء المماليك والأسطاسية. يَستدعي "شلبي" هذه الرُّوح الشعبيَّة بتجلِّياتها المتعدِّدة، ورَوافدها الثريَّة في عمله الرِّوائي القصير والرائق: "لَحْس العتب" - التي صدرَتْ طبعتها الأولى عام 1991م - ليقدِّم لنا نصًّا يمكن التعامل معه بوصفه وريثًا شرعيًّا لسِيَر علي الزيبق المصري، وبَنِي هلال، والزِّير سالم، وعنترة بن شدَّاد، والملك سيف بن ذي يزن، والأميرة ذات الهمة، والسلطان الظاهر بيبرس، والأمير حمزة البهلوان، وغيرها من السِّير الشعبية ذات المنشأ المصري، أو التي استقبلَتْها الثقافة الشعبية المصرية بالترحاب، فبَثَّت فيها من روحها، ومدَّتْها بجمالياتها، وغزلت فيها بلاغتها، هذه السِّير التي صاغت رؤيتها للشخصيَّة المصرية بامتداداتها القوميَّة والدينية والسياسية عبر مُمارسات إبداعيَّة جاوزَت المباشرة، واغترفت من الأبجديَّة الجمالية للسَّرد دوالَّها الخاصة، ورموزها المتألِّقة، التي حفظت لهذه النُّصوص ألقَها حتى الآن. المنضدة.. أرابيسك صناعة الأسطورة: يبدو "خيري شلبي" قادرًا على نسج خيوط الأسطورة حول مسروده، وإفعامه بمزيدٍ من الجرعات التغريبيَّة التي تَزيد من بلاغة النصِّ ومتعته، وجعله أكثر التحامًا بلحمة الوعي الشعبيِّ المغرق في عالم الغيبيَّات وملابساته التهويميَّة الثرية، يرفد "شلبي" نصَّه بهذا الوهج الأسطوري، دون أن نستشعر عبوسة النصِّ في وجه مبدعنا، واستعصاءَه عليه كممارسةٍ يلجأ إليها النصُّ لِيُعلن تمرُّده على محاولة المبدع تشويهَ ملامحه، وهو ما لم يفعله نصُّ "لحس العتب" الذي فتح مغاليقه، وفكَّ عُقدَه أمام أحد ساحري البيان السردي المعاصرين؛ ثقةً في قدراته الباذخة، ورغبةً في الاغتناء بما سيُضْفيه عليه هذا المبدِعُ من جماليات خاصة. إنَّ التغريب ممارسةٌ يلجأ إليها المبدع لتحقيق جملةٍ من الأهداف، "ويقصد من التغريب النظر إلى الأشياء برؤيةٍ جديدة"[1]، ويُمكننا أن نختبر كفاءة هذه الممارسة التقنيَّة على مستوى نصِّ "لحس العتب" بمقاربة آليَّةِ تَعامل المبدع مع أحد العناصر الرئيسة في الرواية؛ إنَّها المنضدة، أو كما يطلق عليها السَّارد - إمعانًا في التصريح بالانتماء إلى الثقافة المصريَّة الشعبية، وشفرتها العاميَّة الخاصة -: الترابيزة، وتَحْضر المنضدة داخل النصِّ منذ افتتاحيته؛ مما يطرح مؤشِّرًا أوَّليًّا حول القيمة الوظيفيَّة لهذا العنصر الحكائيِّ، ودوره الحيويّ الذي ينهض به داخل البِنْية السردية. "ليست هذه الترابيزة العجيبة هي كلَّ ما تبقَّى من آثار العزِّ و(النَّغنغة) التي كانت تتمتَّع بهما ديارنا ذات يومٍ بعيد، فهناك صيت الزعالكة نفسه، وهو وحده يكفي لجلب الاحترام عند كلِّ من يسمعه، وهناك أعمامي الكثُر، الذين تكاد تتشكَّل منهم ومن أبنائهم وأبناء أبنائهم وبناتهم بلدةٌ كبيرة جدًّا تُسمَّى بالزعالكة، لا يسكنها مخلوقٌ واحد لا ينتهي اسمه بزعلوك، كما أنه ليس في العب كلِّه من لم يحلم بالزواج من بنات الزعالكة، أو يزوِّج بناته من شبان الزعالكة، وهناك أبي نفسه الحاج "عبدالودود زعلوك" الذي عشق العلم، فتعلَّمَ حتى شهادة عالميَّة الأزهر الشريف، ثم خلع عمامة العلم، واشتغل بالفلاحة وتجارة الحبوب، نفس مهنة أبيه التي (عيَّشَتْه كالبرنس)، وكوَّنَت له ثروةً هائلة تقاسمَتْها قبائل من أولاده، غير أنَّ أبي لم يكن في براعة جدي، ولا حصافته و(نصاحته)، ولا قدرته على (التَّحويش) والادِّخار، إلاَّ أنه يرمي الذَّنب كله على اتِّضاع الزمن، ونذالة الأيام، وكثرة العيال، فكلُّ ذلك أتى على كيس نقوده، فصار مخزن الحبوب يتناقص حتَّى بات لا يحتوي على قُوتِنا الضروري، فأصبحنا نشتري القمح والذُّرة والشعير من تُجَّار كانوا صبيانًا عند أبي ذات يوم. معظم الأشياء الثمينة التي ورثها أبي عن جدي قد فرَّطنا فيها بشكلٍ أو بآخر؛ لسببٍ أو لآخر، مع أنَّ كل شيء فرَّطنا فيه لم نفرِّط فيه بسهولة، لكن الأشياء تسرَّبت في النهاية، ولم يبق مِن معالم تاريخنا أثرٌ حيٌّ إلا هذه (الترابيزة) العجيبة، ولهذا رفض أبي أن يُفرِّط فيها بأي ثمن"[2]. إنَّ المنضدة تشكِّل على المستوى الحكائي النقطةَ المركزية التي تشدُّ إليها الخيوط السرديَّة كافَّة، فالبطل الطفل الذي يسرد الحكاية من منظورٍ منفتح بعد أن صار رجلاً واتَّخذ من (الحَكْي) سبيلاً لقراءة ماضيه، ووضعه موضع المُساءلة في ضوء الخبرات المعرفيَّة والمعلوماتية التي اكتسبَها بفضل التطوُّر التاريخي للشخصيَّة، وتنامي وعيها الإدراكي، هذا الوعي القادر على حَسْم لحظات التشكُّك بحسٍّ يقيني صارم، يظلُّ هذا المنظورُ مهيمنًا على المسرود الذي يدور حول حكاية هذا الصبيِّ الصغير وعائلته الكبيرة التي كانت تحوز مكانة مميَّزة على المستويين الاجتماعيِّ والاقتصادي قبل أن تتعرَّض لأزمات متتالية حوَّلتْها إلى عائلة معدومة، لا يبقى من تاريخها الباذخِ سوى بعض دلائله، وأهمُّها هذه المنضدة العجيبة، ذات الأوصاف بالغة الدِّقة والإغراب، فالمنضدة تظلُّ حاضرةً بقوة داخل السَّرد في أثناء رحلة البطل، وانتقاله من حالة المرض المفاجئ إلى الشفاء المفاجئ كذلك. ويستند الحضور المركزيُّ للمنضدة إلى معيارين؛ كمِّي وكيفي، ويتحدَّد المعيار الأول في الظُّهور المتكرِّر للمنضدة أمام عين المتلقِّي في أثناء ممارسة الأخير دورَه القِرَائي الاستكشافي، فهذا المعيار يتعلَّق "بلحظات الظهور، التي تشكِّل دائمًا لحظة قويَّة داخل حركة الفعل السَّردي"[3]؛ فالنصوص كلُّها ترسخ لتوافر حضور شخصية المنضدة بشكل دائم في الوعي القريب - المُحِيل إلى وعيٍ أكثر عُمقًا - للمتلقِّي، الذي يلفي ذاته في مواجهة مُستمرَّة مع المُكوِّن الحكائي. أما المعيار الثاني، فهو معيار كيفيٌّ، ويُقصَد به الارتباط بين بناء النصِّ وتطوُّره وحضور المنضدة، فإذا كان النص يؤسّس حضوره الناجز عبر تتابُع عدد من المتواليات الحكائية[4] التي تنبني بدورها عبر تراكُب عدَّة أفعال تختصُّ بكل متوالية، وتندمج عبرها في بنية النصِّ الكلي، فمقاربتنا للنصِّ تكشف التعالق الحيوي بين هذه الأفعال، وحضور المنضدة المُستقطِبة لحركة السرد داخل الحكايات، فالتاريخ الحافل للعائلة وماضيها الثر، ثم حاضرها المأسوي، ومرض الصبي، ثم شفاؤه، وحضوره داخل القرية، ثم انتقاله للمدينة، وعودته للقرية مرَّة أخرى، تظلُّ جميعها أفعالاً تدخل في علاقة مباشرةٍ أو ضمنيَّة مع التوافر النصِّي للمنضدة - التي تسند إليها الحركات السرديَّة المفصلية، المُمثَّلة في الأفعال، وما تحيل إليه من أحداثٍ - داخل الرواية. إنَّ هذا الحضور القوي للمنضدة على المستويين الكمِّي والكيفي يقدِّم أسانيدَ تعامُلِنا النَّقدي معها؛ بوصفها إحدى الشخصيَّات الحكائية، وتعدُّ هذه (الشَّخْصنةُ) أوَّل الإجراءات التغريبيَّة التي تنقل عبرها الذاتُ المبدعة المتلقِّيَ من تُخوم النصِّ الواقعي، إلى أتون النصِّ البرزخي الذي يمتزج فيه الأفقان: المتخيَّل، والمعيش. "فالشخصيَّة هي أحد أهمِّ مُكوِّنَين يقوم عليهما السَّردُ، مع الوضع في الاعتبار أنَّ الأحداث هي المُكوِّن الثاني الذي لا يمكن أن يؤدِّي سردًا إلاَّ من خلال شخصيَّةٍ تقوم به"[5]، فكأنَّ الشخصية داخل النصِّ السرديِّ "هي كلُّ شيء فيه، بحيث لا يمكن أن نتصوَّر روايةً دون طغيان شخصيَّة مثيرة يُقْحِمها الرِّوائي فيها؛ إذْ لا يَضْطرم الصِّراع العنيف إلا بوجود شخصية أو شخصيات تتصارع فيما بينها، داخل العمل السردي"[6]. لا يمكننا النَّظر إلى المنضدة بعيدًا عن هذه المواصفات التنظيريَّة، وباستقبالنا هذا النَّمط التشخيصيَّ على المستوى الإبداعيِّ بممارسة تشخيصيةٍ موازية على مستوى القراءة النقديَّة؛ فإنَّه يمكننا تحديدُ هويَّة هذه الشخصية العجائبية من خلال رَصْد أفعالها، وتلقُّفِ ما يجود به السَّارد من معلوماتٍ حولها، فإذا كانت الشخصية هي التي تدفع البِنْية السرديَّة إلى التنامي والتطوُّر؛ من خلال التداخل بين أفعالها وأفعال الشخصيات الأخرى - الحاضرة ضمن شبكة العلاقات النصِّية - فإن تحديد هويَّة الشخصية يرتهن برصد ما تقوم به من أفعال، فضلاً عن المعلومات - الخاصة بالشخصية - التي يقدِّمُها السارد؛ حيث "تنسج جدائل الفعل والمعلومات والصِّفات الشخصية مع بعضها لتكوِّنَ خيط الشخصية"[7]، وهو ما يرشح للتَّعامل مع الشخصية بوصفها "دليلاً له وجهان: أحدهما دالٌّ، والآخَر مدلول، وتكون الشخصيَّة بمثابة دالٍّ من حيث إنَّها تتَّخذ عدة أسماء أو صفات تلخِّص هويتها، أما الشخصيَّة كمدلولٍ، فهي مجموعُ ما يُقال عنها بواسطة جُمَل متفرِّقة في النَّص، أو بواسطة تصريحاتها وأقوالها وسلوكها"[8]. وهنا تبدأ ملامِحُ هويَّة الشخصية في التجلِّي، وهو ما يتَّضِح في النصِّ التالي: "إنَّ هذه الترابيزة قد احتلَّتْ ركنها هذا من هذه الخزنة، قد وُضِعَتْ فوقها تلالٌ من أشياء تنوء بحملها الجبالُ، وتضيق باحتوائها دارٌ بأكملها، أكياس من قطنِ تنجيد (وسخ)، مخلوط بالتُّراب والحصى وفتات الخرق، والخيوط البالية كانت في الأصل مراتب وألحفة ووسائد، صفائح كبيرة لتخزين الملوخيَّة (الناشفة) والحلبة الحصى، وزيت وسكر التموين، تضاف إليها وفوقها صفائح أخرى لتخزين كعك العيد، صندوقٌ خشبي من صناديق الصابون النابلسي، يمتلئ بأشياء لا حصر لها من متروكاتٍ ومهمَلات، صواميل، مسامير، أغطية (كازوزة)، ركام لا حصر له من أشياء قديمة باليةٍ، لا لزوم لها على الإطلاق، ومع ذلك لا أحد يعرف لماذا نحتفظ بها؟ الذي أنا متأكِّد منه أنَّ أيَّ شيء يزحف تحت هذه الترابيزة أو يسقط سهوًا، فإنه يكون قد وُوري تحتها إلى الأبد، ولن تستطيع قوةٌ في الأرض أن تكتشف المكانَ الذي سقط فيه هذا الشيءُ أو ذاك، ومع ذلك فإنه لا يحلو لنا عدُّ القروش أو فحص بيض إلاَّ على الجزء المتبقِّي من فراغ الترابيزة، وقد تعوَّد الواحدُ منَّا أن يمسك الشيء بأعصاب متوتِّرة، فما أن يرتبك أدنى ارتباك حتَّى يسقط الشيءُ من بين يديه، فيندفع الواحدُ منا في الحال منقضًّا عليه قبل زحفه تحت الترابيزة، ولكنْ عبثًا، إنَّه لا بد أن يكون قد اختفى في لمح البصر، إذا كان قرشًا قد فرَّ ليستقر في منعطَفٍ مجهول، وإن كان (فردة حلق) فإنَّ الأرض تنشقُّ وتبلعها، وإن كان (فردة حمَام) أو دجاجة، فإن أيدي الجن نفسه لن تفلح في الإمساك بها، بل لن تعرف في أيِّ ركن تختبئ، إلاَّ أن تخرج هي بمزاجها بعد انتهاء المُطاردة، ربَّما تعطَّلت عن الخروج نهائيًّا، وإن حاول أحدٌ أن يقلَّ عقله، وينحني غاطسًا تحت الترابيزة في مُحاولة يائسةٍ للبحث؛ فإنه سيَشْعر من أوَّل نظرة أنَّ الأمر مستحيلٌ، أيُّ رجل من عائلتنا، أو أيُّ زائر يُضطَر إلى الدُّخول إلى هذه الخزنة يصيح أبي من خلفه محذِّرًا إيَّاه في جدِّية بالغة: إيَّاك والاقتراب من الترابيزة! وإلاَّ فنحن غير مسؤولين عنك"[9]. نلاحظ بدايةً هذا التدفُّق اللُّغوي الذي يقوم بتهجين الفصحى بالعاميَّة، أو اللُّغة الشعبيَّة بنظيرتها الرسميَّة، ولطمها ببراعةِ حَكَّاءٍ من طراز خاص؛ "يَعرف باقتدار بليغٍ كيف يوظِّف المعجم الشعبيَّ في بثِّ روح المكان والزمان في مناخ أعماله، وعلى ناقده أن يكون مثل عالم الحفريَّات الضَّليع في الآثار؛ كي يعرف عمر الصُّخور اللُّغوية، ويقدِّر المرحلة التي تنتمي إليها"[10]. وفضلاً عن هذه البراعة المزجيَّة، وفضلاً عن دقة الرصد والعناية المدهشة بالتفاصيل التي لا يدرك حجم واقعيَّتها إلا من عايش أجواء القرية، واندمج في مقتضيات حياة الفلاَّح المصريِّ الحقيقي، فضلاً عن هذا كله، فإنَّ "شلبي" هنا يَنْزع إلى العزف على محورَي الثابت والمتحوِّل لشخصيَّة الترابيزة، مما ينقل المتلقِّي من إطار الشكل الثابت المتعارف عليه، إلى تخوم السِّياق العجائبي المغازل لمرتكزاته الغيبيَّة؛ لتغدو الترابيزة كائنًا ينفصل عن خبرات المتلقي الذهنية، ويرتمي في أحضان الداهش، فما بين استخدام أسفل المنضدة بوصفه فضاءً للتخزين، وتَحوُّل هذا المخزن إلى عالَمٍ مفعم بالحسِّ الأسطوري القادر على ابتلاع الأشياء وإخراجها عبر إرادة خفيَّة لا يمكن فهمها أو تقديم تفسيرٍ لها، تتشكَّل ملامح المنضدة العجيبة، وتتحدَّد ماهيتها الأسطوريَّة، وما بين الحدث الواقعيِّ والآخر العجائبي تتشكَّل البِنْية الرِّوائية لنصِّ "لحس العتب". إنَّ الانتقال بالمنضدة من صورتها الاعتياديَّة إلى صورتها المؤطّرة بحدود الغرائبي - فضلاً عن دوره في التوغُّل في تضاعيف الموروث الشعبي - يُسْهِم في إدماج المتلقِّي في المَتْن السَّردي وتوثيق علاقته بالمسرود؛ وذلك من خلال الانتقال بهذا المسرود من وضعه التقليديِّ المألوف إلى وضعٍ جديد يجمع بين العالَمَين الواقعي والخيالي. فإذا ما قمنا بعمليَّة مقارنةٍ بين السِّمات المرجعيَّة للمنضدة ونظيرتها الحاضرة في نصِّ "شلبي"، سنجد أنَّ منضدة "شلبي" تثور على السِّمة الثابتة والجامدة لنظيرتها المرجعيَّة، فهي هنا تُظهر وتُخفي، تجمع وتفرِّق، تحوز وتدمِّر، تعي وتدرك، تخطِّط وتنفذ، إننا أمام شخصية لها كينونتها الخاصَّة التي تتَّكئ على فلسفةٍ بالغة العمق لا يدركها البشَر من حولها؛ لقصورهم المعرفي المُنتَج عن طبيعتهم البشرية المحدودة، هذا القصور الذي نلمحه في لهجة السارد المؤطرة بالدَّهشة والتعجُّب من قدرات هذه المنضدة، وعجزه عن إيجاد تفسيرٍ لهذه القدرات، فهذا العجيب هو الدَّليل الناجع على حدود المفارقة بين ما يستوعبه الإنسان بقدراته المحدودة، وما تستوعبه الأسطورة بتجلِّياتها المتعدِّدة، وجمالياتها الثَّائرة، فهذا التَّبايُن بين الصُّورتين المرجعية والنصيَّة للمنضدة يدعم هدف السَّارد في استقطاب المتلقِّي وحفزه على متابعة مسروده بمزيدٍ من الانتباه، وهو في هذا يستند إلى أنَّ مألوفية الشيء المُستقبَل بالنسبة للمتلقِّي - على المستوى المرجعي - تقلِّلُ من فرضيَّة تقبُّله لأيِّ انزياح في آليَّة التعامل معه، فمَدُّ خطوط التغريب في النصِّ يساعد الساردَ على تهيئة أفق المتلقِّي لاستقبال سلوكٍ مُخالف برحابةٍ تقبُّلية لا تتأتَّى إلا عبر فعل التهيئة السابق. كذلك يؤدِّي تأطيرُ المنضدة بعبق الأسطورة دَورًا جَماليًّا عبر ما يسبغه على النصِّ من بُعدٍ شعريٍّ، نابع من قدرته على استثارة الحسِّ التأويلي لدى المتلقِّي، وإغوائه بممارسة دوره في فكِّ شفرات الدَّلالات الرمزية المنطرحة عبر حضور الكائن المغرب داخل النصِّ، "والقارئ أمام هذا النص ليس مستهلِكًا، وإنَّما هو مُنتِج له، والقراءة فيه هي إعادةُ كتابةٍ له؛ فالقارئ هنا لا يقرأ، وإنما يفسِّر ويكتب؛ لأنَّ النصَّ ليس بِنْية من الدلالات، ولكنه مجرَّة من الإشارات"[11]، وتكتسب القراءة التأويليَّة مشروعيَّتَها بمعاونة المؤشِّرات التي يقدِّمُها النصُّ، والتي تغري بالاستمرار في تبَنِّيها منهجًا في القراءة، فشعريَّة المنضدة هنا تتخلَّق بإيحاءاتها ومأزقيتها، وتوزّعها بين الرمزيَّة والواقعية، فالمنضدة - في أثناء هذا التخلُّق - متفلِّتة من المرجعيَّة الواقعية. يتبع
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |