|
|||||||
| ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة |
|
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
|
شم العرار من إيثار النبي المختار السيد مراد سلامة الخطبة الأولى الحمد لك يا ألله؛ جعلت الفردوس لعبادك المؤمنين نُزُلًا، فلك الحمد أولًا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا، الحمد لله الذي يسَّرها لنا، ويسَّر الأعمال الصالحة لنا، فلم يتَّخذ السالكون إلى الله سواها شغلًا، وسهَّل لهم سبلَها، فلم يَسلكوا سواها سبلًا، خلَقها قبل أن يَخلقهم، وأسكنهم إياها قبل أن يُوجِدهم، وحفَّها بالمكاره ليَبلوهم أيُّهم أحسن عملًا، وأودَعها ما لا عين رأتْ، ولا أذن سمعت، ولا خطَر على قلب بشر، وفوق ذلك: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا﴾ [الكهف:108].أشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، شهادة أدَّخرها لي ولكم إلى يوم المصير، شهادة عبده وابن عبده وابن أَمَتِه، ومن لا غنى به طرفة عين عن رحمته وفضله ومنِّه وكرمه، ولا مطمع له في الفوز بالجنة والنجاة من النار إلا بمنِّه وكرمه ورحمته. وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، ومحجة للسالكين، وحجة على العباد أجمعين، شرح الله به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعينًا عميًا وآذانًا صمًّا وقلوبًا غلفًا: قدْ كانَ هذا الكونُ قبلَ وُصولِه ![]() شُؤْمًا لظالِمِهِ وللمظلوم ![]() لَمَّا أَطَلَّ محمدٌ زَكَتِ الرُّبا ![]() واخضرَّ في البُسْتانِ كلُّ هشيم ![]() صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، وسلم تسليمًا كثيرًا؛ أما بعد: فتعريف الإيثار: معنى الإيثار اصطلاحًا: (الإيثار أن يقدِّم غيره على نفسه في النفع له والدفع عنه، وهو النهاية في الأخوة). وقال ابن مسكويه: (الإيثار: هو فضيلة للنفس بها يكف الإنسان عن بعض حاجاته التي تخصه؛ حتى يبذله لمن يستحقه). • وقال بعضهم: الإيثار لا يكون عن اختيار، إنما الإيثار أن تقدِّم حقوق الخلق أجمع على حقك، ولا تميز في ذلك بين أخ وصاحب ذي معرفة. فضل الإيثار: الإيثار خلق إسلامي رفيع، دعا إليه ربنا سبحانه وتعالى، وحث وأثنى على أهله في غير ما آية من كتابه، فقال الله تعالى مادحًا أولياءه: ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9]. قال الطبري: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَهُوَ يَصِفُ الأَنْصَارَ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِ الْمُهَاجِرِينَ، وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ؛ يَقُولُ: وَيُعْطُونَ الْمُهَاجِرِينَ أَمْوَالَهُمْ إِيثَارًا لَهُمْ بِهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ؛ يَقُولُ: وَلَوْ كَانَ بِهِمْ حَاجَةٌ وَفَاقَةٌ إِلَى مَا آثَرُوا بِهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ. وقال ابن كثير: أي: يقدمون المحاويج على حاجة أنفسهم، ويبدؤون بالناس قبلهم في حال احتياجهم إلى ذلك. ويقول ابن تيمية: (وأما الإيثار مع الخصاصة، فهو أكمل من مجرد التصدق مع المحبة، فإنه ليس كل متصدق محبًّا مؤثرًا، ولا كل متصدق يكون به خصاصة، بل قد يتصدق بما يحب مع اكتفائه ببعضه، مع محبة لا تبلغ به الخصاصة). أحباب رسول الله: لن تصلوا إلى ذِروة الإيمان إلا عن طريق سُلَّم الإيثار؛ قال العزيز الغفار: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 92]. يقول السعدي: يعني: (لن تنالوا وتدركوا البر الذي هو اسم جامع للخيرات، وهو الطريق الموصل إلى الجنة، حتى تُنفقوا مما تُحبون من أطيب أموالكم وأزكاها، فإن النفقة من الطيب المحبوب للنفوس، من أكبر الأدلة على سماحة النفس، واتصافها بمكارم الأخلاق، ورحمتها ورقتها، ومن أدل الدلائل على محبة الله، وتقديم محبته على محبة الأموال التي جُبلت النفوس على قوة التعلق بها، فمن آثَر محبة الله على محبة نفسه، فقد بلغ الذروة العليا من الكمال، وكذلك من أنفق الطيبات، وأحسن إلى عباد الله، أحسن الله إليه ووفَّقه إلى أعمال وأخلاقٍ لا تحصل بدون هذه الحالة). والله تعالى أعدَّ النعيم المقيم والدرجات العلى لمن اتصف بالإيثار، فقال الرحيم الرحمن: ﴿ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ﴾ [الإنسان: 6 - 9]. وقال الله تبارك وتعالى: ﴿ وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا * مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا ﴾ [الإنسان: 12، 13]. قال الفخر الرازي: (والمعنى: وجزاهم بصبرهم على الإيثار وما يؤدي إليه من الجوع والعري بستانًا فيه مأكل هنيء، وحريرًا فيه ملبس بهي). ولقد رغب نبينا صلى الله عليه وسلم في الإيثار، وحثَّ أصحابه ومدح أهله، فها هو - بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم، يمد الأشعريين؛ عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قلَّ طعام عيالهم بالمدينة، جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثَمَّ اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسَّويَّة، فهم مني، وأنا منهم)). يقول الإمام العيني: (فيه مَنقبة عظيمة للأشعريين من إيثارهم ومواساتهم بشهادة سيدنا رسول الله، وأعظم ما شُرِّفوا به كونه أضافهم إليه ... وفيه فضيلة الإيثار والمواساة). وقال أبو العباس القرطبي: (هذا الحديث يدل على أن الغالب على الأشعريين الإيثار والمواساة عند الحاجة، كما دلَّ الحديث المتقدِّم على أن الغالب عليهم القراءة والعبادة، فثبت لهم بشهادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّهم علماء عاملون، كرماء مؤثرون). والإيثار سبيلُ البركة في الطعام؛ كما خبَّرنا نبينا الهمام - صلى الله عليه وسلم - وعن أبي هريرة - رضي اللّه عنه - قال: قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم -: ((طعام الاثنين كافي الثلاثة، وطعام الثلاثة كافي الأربع)). وفي لفظ لمسلم: ((طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية)). قال المهلب: والمراد بهذه الأحاديث الحض على المكارمة في الأكل والمواساة، والإيثار على النفس الذي مدح الله به أصحاب نبيه، فقال: ﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾ [الحشر:9]، (ولا يراد بها معنى التساوي في الأكل والتشاح؛ لأن قوله عليه السلام: (كافي الثلاثة)، دليل على الأثرة التي كانوا يمتدحون بها، والتقنع بالكفاية، وقد هم عمر بن الخطاب في سنة مجاعة أن يجعل مع كل أهل بيت مثلهم، وقال: (لن يهلك أحد عن نصف قوته). وأعظم أنواع الصدقة صدقةُ الإيثار التي يؤثر بها المرء، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أعظم أجرًا؟ قال: أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان)). شم العرار من إيثار النبي المختار - صلى الله عليه وسلم -: إيثار النبي - صلى الله عليه وسلم - بالبردة: لقد كان رسولنا - صلى الله عليه وسلم - الأسوة والقدوة الحسنة في كل عمل يحث عليه ويدعو إليه، وهاك مشهد من مشاهد الإيثار مشهد ينبض الإيثار؛ عَنْ سَهْلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -بِبُرْدَةٍ مَنْسُوجَةٍ، فِيهَا حَاشِيَتُهَا، أَتَدْرُونَ مَا الْبُرْدَةُ؟ قَالُوا: الشَّمْلَةُ، قَالَ: نَعَمْ. قَالَتْ: نَسَجْتُهَا بِيَدِي فَجِئْتُ لِأَكْسُوَكَهَا، فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، فَخَرَجَ إلينا وإنها إزاره، فحسنها فلان فقال: اكسينها، مَا أَحْسَنَهَا، قَالَ الْقَوْمُ: مَا أَحْسَنْتَ، لَبِسَهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، ثُمَّ سَأَلْتَهُ، وَعَلِمْتَ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ، قَالَ: إني والله، ما سألته لألبسها، إِنَّمَا سَأَلْتُهُ لِتَكُونَ كَفَنِي، قَالَ سَهْلٌ: فَكَانَتْ كفنه[1]. إيثار النبي - صلى الله عليه وسلم - بالطعام المهاجرين والأنصار: المشهد الثاني مشهده - صلى الله عليه وسلم - وقد ألَمَّ به التعب والإرهاق، وظهرت على وجهه الكريم علامات الجوع، فيذهب جابر - رضي الله عنه - ليعد له طعامًا، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يأبى إلا أن يأكل الجميع من ذلك الطعام؛ عن جابر بن عبد الله رضي اللّه عنهما قال: «إِنَّا يَوْمَ الْخَنْدَقِ نَحْفِرُ، فَعَرَضَتْ كُدْيَةٌ شَدِيدَةٌ، فَجَاءُوا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا: هَذِهِ كُدْيَةٌ عَرَضَتْ فِي الْخَنْدَقِ، فَقَالَ: أَنَا نَازِلٌ. ثُمَّ قَامَ وَبَطْنُهُ مَعْصُوبٌ بِحَجَرٍ، وَلَبِثْنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا نَذُوقُ ذَوَاقًا، فَأَخَذَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مفَضَرَبَ، فَعَادَ كَثِيبًا أَهْيَلَ، أَوْ أَهْيَمَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، ائْذَنْ لِي إِلَى الْبَيْتِ، فَقُلْتُ لِامْرَأَتِي: رَأَيْتُ بِالنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - شَيْئًا مَا كَانَ فِي ذَلِكَ صَبْرٌ، فَعِنْدَكِ شَيْءٌ؟ قَالَتْ: عِنْدِي شَعِيرٌ وَعَنَاقٌ، فَذَبَحْتُ الْعَنَاقَ، وَطَحَنْتُ الشَّعِيرَ حَتَّى جَعَلْنَا اللَّحْمَ فِي الْبُرْمَةِ، ثُمَّ جِئْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَالْعَجِينُ قَدِ انْكَسَرَ، وَالْبُرْمَةُ بَيْنَ الْأَثَافِيِّ قَدْ كَادَتْ أَنْ تَنْضَجَ، فَقُلْتُ: طُعَيِّمٌ لِي، فَقُمْ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ، وَرَجُلٌ أَوْ رَجُلَانِ، قَالَ: كَمْ هُوَ. فَذَكَرْتُ لَهُ، قَالَ: كَثِيرٌ طَيِّبٌ، قَالَ: قُلْ لَهَا: لَا تَنْزِعِ الْبُرْمَةَ، وَلَا الْخُبْزَ مِنَ التَّنُّورِ حَتَّى آتِيَ، فَقَالَ: قُومُوا، فَقَامَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ قَالَ: وَيْحَكِ جَاءَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَمَنْ مَعَهُمْ، قَالَتْ: هَلْ سَأَلَكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: ادْخُلُوا وَلَا تَضَاغَطُوا، فَجَعَلَ يَكْسِرُ الْخُبْزَ، وَيَجْعَلُ عَلَيْهِ اللَّحْمَ، وَيُخَمِّرُ الْبُرْمَةَ وَالتَّنُّورَ إِذَا أَخَذَ مِنْهُ، وَيُقَرِّبُ إِلَى أَصْحَابِهِ ثُمَّ يَنْزِعُ، فَلَمْ يَزَلْ يَكْسِرُ الْخُبْزَ، وَيَغْرِفُ حَتَّى شَبِعُوا وَبَقِيَ بَقِيَّةٌ، قَالَ: كُلِي هَذَا وَأَهْدِي، فَإِنَّ النَّاسَ أَصَابَتْهُمْ مَجَاعَةٌ»[2]. إيثار النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل الصفة: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: وَاللَّهِ إِنْ كُنْتُ لَأَعْتَمِدُ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْجُوعِ، وَإِنْ كُنْتُ لَأَشُدُّ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِي مِنَ الْجُوعِ، وَلَقَدْ قَعَدْتُ فِي طَرِيقِهِمْ يَوْمًا، فَمَرَّ بِي أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَا أَسْأَلُهُ إِلَّا لِيَسْتَتْبِعَنِي فَمَرَّ وَلَمْ يَفْعَلْ، حَتَّى مَرَّ بِي رَسُولُ اللَّهِ وَعَرَفَ مَا فِي وَجْهِي، فَقَالَ: «أَبُو هُرَيْرَةَ»، فَقُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاسْتَأْذَنْتُهُ فَأَذِنَ لِي فَدَخَلْتُ، فَوَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ لَبَنًا فِي قَدَحٍ فِي أَهْلِهِ، فَقَالَتْ: «مِنْ أَيْنَ لَكُمْ هَذَا اللَّبْنُ؟» قَالُوا: أَرْسَلَ بِهِ إِلَيْكَ فُلَانٌ، قَالَ: «أَهْدَاهُ لَنَا فُلَانٌ»، فَقَالَ: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، انْطَلِقْ إِلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ، فَادْعُهُمْ»، قَالَ: وَكَانَ أَهْلُ الصُّفَّةِ أَضْيَافَ الْإِسْلَامِ لَا أَهْلَ وَلَا مَالَ، إِذَا أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَدَقَةٌ أَرْسَلَ بِهَا إِلَيْهِمْ وَلَمْ يُصِبْ مِنْهَا شَيْئًا، وَإِذَا جَاءَتْهُ هَدِيَّةٌ أَصَابَ مِنْهَا وَأَشْرَكَهُمْ فِيهَا، فَسَاءَنِي إِرْسَالُهُ إِيَّايَ، فَقُلْتُ: كَيْفَ أَرَاهُ أُصِيبُ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ شَرْبَةً أَتَقَوَّى بِهَا، وَمَا هَذَا اللَّبْنُ فِي أَهْلِ الصُّفَّةِ؟ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - بُدٌّ، وَكُنْتُ أَنَا الرَّسُولُ، فَأَتَيْتُهُمْ فَأَقْبَلُوا مُجَنَّدِينَ، وَاسْتَأْذَنُوا فَأَذِنَ لَهُمْ، وَأَخَذُوا مَجَالِسَهُمْ مِنَ الْبَيْتِ، وَقَالَ: «خُذْ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ فَأَعْطِهِمْ»، قَالَ: فَجَعَلْتُ أُعْطِي الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يُرْوَى، حَتَّى أَتَيْتُ عَلَى جَمِيعِهِمْ فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ وَفِي الْإِنَاءِ فَضْلَةٌ، فَأَعْطَيْتُهُ الْقَدَحَ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَنَظَرَ إِلَيَّ مُبْتسِمًا، فَقَالَ: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ بَقِيتُ أَنَا وَأَنْتَ»، قَالَ: قُلْتُ: صَدَقْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «فَاشْرَبْ»، قَالَ: فَشَرِبْتُ، قَالَ: «اشْرَبْ» فَشَرِبْتُ، فَمَا زَالَ يَقُولُ: «اشْرَبْ» وَأَشْرَبُ، حَتَّى قُلْتُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَجِدُ لَهُ مَسَاغًا، قَالَ: فَأَخَذَ فَشَرِبَ مِنَ الْفَضْلَةِ[3]. وفي الحديث تربية غيره على الإيثار؛ لأن أبا هريرة رضي الله عنه هو الذي تعرَّض للرسول لشدة جوعه، يريد الحصول على ما يقيم صلبه، فجعله ينادي أهل الصفة، وطلب منه أن يسقيهم كلهم قبله - وهذا ما كان يخافه أبو هريرة - ولكنه خاف نفاد اللبن، فكثَّره الله تكريمًا لنبيه - صلى الله عليه وسلم. وهكذا سما مجتمع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى خُلق الإيثار، فضربوا أروع الأمثلة للبشرية في هذا الخلق، وهذه التربية العملية التي يُربي فيها بقوله وعمله؛ إذ يريهم من نفسه أجملَ صورة للإيثار، فنتج عن هذه التربية وهذا الأدب النبوي شخصيات ذات عمل وسلوك وأثر. إيثار الصحابة الأطهار رضوان الله عنهم أجمعين: الصحابة - رضي الله عنهم أجمعين - جيلٌ فريد تخرَّج في أعظم جامعة عرَفتها الدنيا، إنه تخرج من الجامعة المحمدية، مَن ربَّاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على عينه، فنهلوا مِن مَعين أخلاقه وأفعاله - صلى الله عليه وسلم. ضرب الصحابة أروع أمثلة الإيثار وأجملها، ومن يتأمل في قصص إيثارهم، يحسب ذلك ضربًا من خيال، لولا أنه منقول لنا عن طريق الأثبات، وبالأسانيد الصحيحة الصريحة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم. الخطبة الثانية أما بعد:فضيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: • عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَبَعَثَ إِلَى نِسَائِهِ فَقُلْنَ: مَا مَعَنَا إِلَّا الْمَاءُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ يَضُمُّ أَوْ يُضِيفُ هَذَا فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: أَنَا فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى امْرَأَتِهِ، فَقَالَ: أَكْرِمِي ضَيْفَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ: مَا عِنْدَنَا إِلَّا قُوتُ صِبْيَانِي، فَقَالَ: هَيِّئِي طَعَامَكِ، وَأَصْبِحِي سِرَاجَكِ، وَنَوِّمِي صِبْيَانَكِ إِذَا أَرَادُوا عَشَاءً. فَهَيَّأَتْ طَعَامَهَا، وَأَصْبَحَتْ سِرَاجَهَا، وَنَوَّمَتْ صِبْيَانَهَا، ثُمَّ قَامَتْ كَأَنَّهَا تُصْلِحُ سِرَاجَهَا فَأَطْفَأَتْهُ، فَجَعَلَا يُرِيَانِهِ أَنَّهُمَا يَأْكُلَانِ، فَبَاتَا طَاوِيَيْنِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: ضَحِكَ اللهُ اللَّيْلَةَ، أَوْ عَجِبَ، مِنْ فَعَالِكُمَا فَأَنْزَلَ اللهُ: ﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9]»[4]. إيثار منبعه الإيمان: المال للرجل الكريم ذرائعٌ ![]() يبغي بهن جلائل الأخطار ![]() والناس شتى في الخلال وخيرُهم ![]() مَن كان ذا فضلٍ وذا إيثار ![]() أقبل المهاجرون إلى المدينة لا يَملِكون من أمر الدنيا شيئًا، قد تركوا أموالهم وما يَملكون خلف ظهورهم، وأقبلوا على ما عند الله عز وجل، يرجون رحمته ويخافون عذابه، فاستقبلهم الأنصار الذين تبوَّؤا الدار، وأكرموهم أيَّما إكرام، ولم يبخلوا عليهم بشيء من حطام الدنيا، بل قاسموهم الأموال والزوجات ... في صورة يَعجِز عن وصفها اللسان، ويضعف عن تعبيرها البيان؛ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ الْمُهَاجِرُونَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا رَأَيْنَا مِثْلَ قَوْمٍ قَدِمْنَا عَلَيْهِمْ أَحْسَنَ مُوَاسَاةً فِي قَلِيلٍ، وَلَا أَحْسَنَ بَذْلًا فِي كَثِيرٍ، لَقَدْ كَفَوْنَا الْمَؤُونَةَ، وَأَشْرَكُونَا فِي الْمَهْنَأِ، حَتَّى لَقَدْ حَسِبْنَا أَنْ يَذْهَبُوا بِالْأَجْرِ كُلِّهِ قَالَ: "لَا، مَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ، وَدَعَوْتُمُ اللهَ لَهُمْ"[5]. عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، فَآخَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَهُ، وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَكَانَ كَثِيرَ الْمَالِ، قَالَ: فَقَالَ سَعْدٌ: قَدْ عَلِمَ الْأَنْصَارُ أَنِّي مِنْ أَكْثَرِهَا مَالًا، فَسَأَقْسِمُ مَالِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ شَطْرَيْنِ وَلِيَ امْرَأَتَانِ فَانْظُرْ أَعْجَبَهُمَا إِلَيْكَ حَتَّى أُطَلِّقَهَا، حَتَّى إِذَا حَلَّتْ تَزَوَّجْتَهَا، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، دُلُّونِي عَلَى السُّوقِ قَالَ: فَلَمْ يَرْجِعْ يَوْمَئِذٍ حَتَّى أَفْضَلَ شَيْئًا مِنْ سَمْنٍ وَأَقِطٍ، فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى جَاءَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَعَلَيْهِ وَضَرٌ مِنْ صُفْرَةٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -«مَهْيَمْ؟» قَالَ: إِنِّي تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: «مَا سُقْتَ إِلَيْهَا؟»، قَالَ: وَزْنُ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ، أَوْ نَوَاةً مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ»[6]. إيثار حتى عند الموت: أُسد ولكن يؤثرون بزادهم ![]() والأُسد ليس تدين بالإيثار ![]() يتزيَّن النادي بِحُسن وجوههم ![]() كتزيُّن الهالات بالأقمار ![]() أمة الإسلام، لقد ضرب صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - ورضي الله عنهم - أروع الأمثلة في مواطن لا يتخيَّلها إنسان، بل هي أروع من الخيال؛ إنه الإيثار عند الموت، لنترككم مع المشهد وهو يُلهب مشاعرنا؛ يقول حذيفة العدوي: انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عمٍّ لي ومعي شيء من ماء، وأنا أقول: إن كان به رمق سقيته ومسحتُ به وجهه، فإذا أنا به، فقلت: أسقيك؟ فأشار إليَّ أن نعم، فإذا رجل يقول: آه، فأشار ابن عمِّي إليَّ أن انطلق به إليه، فجِئته فإذا هو هشام بن العاص، فقلت: أسقيك؟ فسمع به آخر، فقال: آه، فأشار هشام: انطلق به إليه، فجئته فإذا هو قد مات، فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات؛ رحمة اللّه عليهم أجمعين[7]. إيثار أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: لم يكن الإيثار في يوم من الأيام مقصورًا على الرجال، وإنما يوجد الإيثار حيث يوجد الإيمان؛ لذا ضربت السيدة عائشة - رضي الله عنها - أروع الأمثلة في الإيثار، ولنُذكركم بطرف من إيثارها: إيثارها - رضي الله عنها - عمر - رضي الله عنه - على نفسها: • عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الْأَوْدِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، اذْهَبْ إِلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَقُلْ: يَقْرَأُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَيْكِ السَّلَامَ، ثُمَّ سَلْهَا أَنْ أُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَيَّ، قَالَتْ: كُنْتُ أُرِيدُهُ لِنَفْسِي، فَلَأُوثِرَنَّهُ اليوم على نفسي، فَلَمَّا أَقْبَلَ، قَالَ لَهُ: مَا لَدَيْكَ؟ قَالَ: أَذِنَتْ لَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: مَا كَانَ شَيْءٌ أَهَمَّ إِلَيَّ مِنْ ذَلِكَ الْمَضْجَعِ، فَإِذَا قُبِضْتُ فَاحْمِلُونِي ثُمَّ سَلِّمُوا، ثُمَّ قُلْ: يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَإِنْ أَذِنَتْ لِي فَادْفِنُونِي، وَإِلَّا فَرُدُّونِي إِلَى مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ[8]. إيثارها الفقير على نفسها: دخل عليها مسكين فسألها وهي صائمة، وليس في بيتها إلا رغيف، فقالت لمولاة لها: أعطيه إيَّاه، فقالت: ليس لك ما تفطرين عليه؟ فقالت: أعطيه إيَّاه، قالت: ففعلت، قالت: فلمَّا أمسينا أهدى لنا أهل بيت أو إنسان ما كان يهدي لنا: شاة وكفنها، فدعتني عائشة فقالت: كلي من هذا، فهذا خير من قرصك)[9]. اللهم استُرنا ولا تفضَحنا، وأَكرِمنا ولا تُهنا، وكُن لنا ولا تكُن علينا. اللهم لا تدَع لأحدٍ منا في هذا المقام الكريم ذنبًا إلا غفَرتَه، ولا مريضًا إلا شفيتَه، ولا دَينًا إلا قضيته، ولا همًّا إلى فرَّجته، ولا ميتًا إلا رحمته، ولا عاصيًا إلا هديته، ولا طائعًا إلا سدَّدته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتَها يا رب العالمين. اللهم اجعل جَمعنا هذا جمعًا مرحومًا، وتفرُّقنا من بعده تفرقًا معصومًا، ولا تجعل فينا ولا منا ولا معنا شقيًّا أو محرومًا. اللهم اهدِنا واهدِ بنا واجعلنا سببًا لمن اهتدى. اللهم إن أردتَ بالناس فتنةً، فاقبِضنا إليك غيرَ خزايا ولا مفتونين، ولا مغيِّرين ولا مبدِّلين، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم احمِل المسلمين الحُفاة، واكسُ المسلمين العراة، وأطعِم المسلمين الجياع. [1] رواه البخاري 3 / 113 في الجنائز، باب من استعد الكفن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليه، وفي البيوع، باب ذكر النساج، وفي اللباس، باب البرود والحبرة والشملة، وفي الأدب، باب حسن الخلق والسخاء وما يكره من البخل، والنسائي 8 / 204، 205 في الزينة، باب لبس البرود. [2] أخرجه أحمد 3/ 300 (14260)، و3/ 301 (14269، والدارمي" 42 والبخاري" 4101. [3] أخرجه: البخاري 8/ 119 (6452). [4] البخاري 7/ 119 (3798)، وأخرجه مسلم 3/ 1624، 1625 (2054). [5] وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (217)، وأبو داود (4812)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (181)، والحاكم 2/63، والبيهقي 6/183. [6] والبخاري (2049)، و(2293)، و(3781)، و(5153)، و(6082)، ومسلم (1427) (81). [7] إحياء علوم الدين للغزالي (1/ 258)، وتفسير ابن كثير (4/ 338). [8] رواه البخاري (1392). [9] أخرجه الموطأ بلاغًا، 2 / 997 في الصدقة، باب الترغيب في الصدقة، وإسناده منقطع.
__________________
|
| الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
| أدوات الموضوع | |
| انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |