|
الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() أهمية أعمال القلوب (1)
من أهمّ فروع العقيدة التي تغافل الناس عن العناية بها والتذكير بها أعمال القلوب، فمن المعلوم أن الإيمان قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالجوارح والأركان، أو كما ورد عن السلف أنه قول وعمل، ثم القول قولان: قول القلب واللسان، والعمل عملان: عمل القلب وعمل بالجوارح بأن يؤدِّي العبد ما أوجبَ الله -تعالى- عليه من العبادات، وكما أنه لا يكفي إيمان المؤمن بلسانه دون أن يتبعه عمل جوارحه، فكذلك ليس الإيمان مجرَّد ألفاظ يُطلقها اللسان والقلب في معزلٍ عنها، بل لابد من أعمال القلوب من الإخلاص والخشية والإنابة والخوف والرجاء والمحبة، وليس الإيمان مجرَّد حركات للجوارح دون أن يكون القلب حاضرًا فيها، فلابد لكل عمل من نية ومن خشوع وتقوى لله -سبحانه-، وكما أن الإيمان يَزداد وينقص بأعمال الجوارح فكذلك يزداد الإيمان ويعظم بالطاعات القلبية، ويَنقص ويضعف بالآفات والذنوب القلبية من حقد وحسد ورياء وشرك وغيرها. والمقصود أن من أهم ما حصلت الغفلة عنه الجزء المتعلّق بالقلب مع أنه من أهم ما ينبغي الحرص عليه، إذ أعمال القلوب هي الأصل والأساس الذي تُبنى عليه الأعمال الأخرى من أعمال الجوارح، وصلاح القلب هو أساس الصلاح للإنسان. أهمية أعمال القلوب يكفي المؤمن أن يعرف عن مكانة أعمال القلوب أنها هي الأصل في الإيمان، وهي الأصل في العلاقة التي بينه وبين ربه ومولاه، وفي ذلك يؤكد ابن القيم -رحمه الله- بأن أعمال القلوب «إنما هي الأصل والمقصود، وأعمال الجوارح تبَعٌ ومُكمِّلة»، ثم يمثِّل لذلك بأن «النية بمنزلة الروح والعمل بمنزلة الجسد للأعضاء الذي إذا فارق الروح فموات، وكذلك العمل إذا لم تصحبه النية فحركة عابث»، فمعرفة أحكام القلوب أهم من معرفة أحكام الجوارح، إذ هي أصلها وأحكام الجوارح متفرعة عليها. الأصل عمل القلب إذًا، الأصل هو عمل القلب، وعليه تُبنى أعمال الجوارح، فكل عمل من أعمال الجوارح لا بد له من النية، وهو من أهم أعمال القلب، يقول ابنِ تيميَّةَ: «والدِّينُ القائمُ بالقلبِ مِن الإيمانِ عِلمًا وحالًا هو الأصلُ، والأعمالُ الظَّاهرةُ هي الفروعُ، وهي كمالُ الإيمان، ولا يقف الأمر على مجرد كون القلب هو الأصل، بل إن أعمالَ القلوب هي التي تجعل الإنسان منطلقًا مندفعًا صابرًا على طاعة الله -سبحانه وتعالى- بالجوارح، ذلك أنه كلما عظم الإيمان في نفس الإنسان اندفع وانطلق بقوة أكبر في الطاعات، واجتهد في عبادة الله -سبحانه وتعالى- بالجوارح أيما اجتهاد، وهو ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «ألا إنَّ في الجسَدِ مُضغةً، إذا صلَحت صلَحَ لها سائِرُ الجسَدِ، وإذا فسَدَت فسدَ لها سائرُ الجسَدِ، ألا وهي القَلبُ». صلاح أعمال الجوارح ومن هنا نعلم يقينا هذه الحقيقةَ التي أخبر عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - من أن صلاح أعمال الجوارح متلازم تلازمًا تامًّا مع صلاح القلب، وفساده مرتبط بفساده، ولا يُتصوَّر أن إنسانًا يكون قلبه صالحًا عامرًا بالإيمان والتقوى ثم هو لا يأتي من أعمال الجوارح بشيء، ولا يمكن أن يكون إنسان مجتهدا غاية الاجتهاد في أعمال الجوارح ثم لا يكون في قلبه شيء من أعمال الجوارح، يقول الحافظ ابن رجب (795هـ) -رحمه الله-: «حركات القلب والجوارح إذا كانت كلُّها لله فقد كَمُلَ إيمانُ العبد بذلك ظاهرًا وباطنًا، ويلزمُ من صلاح حركات القلب صلاحُ حركات الجوارح، فإذا كان القلب صالحًا ليس فيه إلا إرادة الله وإرادة ما يريده لم تنبعثِ الجوارحُ إلا فيما يُريده الله، فسارعت إلى ما فيه رضاه، وكَفَّتْ عما يكرهه، وعما يخشى أنْ يكونَ مما يكرهه وإنْ لم يتيقن ذلك». الإيمان قول وعمل ونية ومرد هذا التأصيل والتلازم أن الإيمان -كما دلت عليه النصوص وكما يقرر أهل السنة- قول وعمل ونية، وأن صلاح الباطن يتبعه ولا شك صلاح في الظاهر، وكلما ازداد صلاح الباطن كان ذلك زيادة في صلاح الظاهر، وهناك أدلة كثيرة أكدت هذا التلازم كحديث المضغة السابق، وكحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم». ومن هنا نجد العز بن عبدالسلام يؤكد هذا قائلا: «مبدأ التكاليف كلها ومحلها أو مصدرها القلوب، والطاعات كلها مشروعة لإصلاح القلوب والأجساد، ولنفع العباد في الآجل والمعاد، إما بالتسبب أو بالمباشرة، وصلاح الأجساد موقوف على صلاح القلوب، وفساد الأجساد موقوف على فساد القلوب؛ ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»، أي: إذا صلحت بالمعارف ومحاسن الأحوال والأعمال صلح الجسد كله بالطاعة والإذعان، وإذا فسدت بالجهالات ومساوئ الأحوال والأعمال فسد الجسد كله بالفسوق والعصيان». سبيل الفوز بالجنة ويكفي في بيان أهمية أعمال القلوب أنها هي سبيل الفوز بالجنة وعليها مدار الاعتقاد، فالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر كلها أعمال مدارها على القلب، وهي عبادات قلبيَّةٌ، وبها يكون العبد مؤمنا ويمتاز عن الكافرين، وفي التأكيد على أهمية أعمال القلوب نجد من السلف من يقول: «لأنْ أبكي من خشية الله أحبُّ إليَّ من أنْ أتصدَّق بوزني ذهبًا». العلامة الفارقة بين المؤمن والمنافق أضف إلى ذلك أن عمل القلب هو العلامة الفارقة بين المؤمن والمنافق، فالمنافق يأتي بأعمال الجوارح من صلاة وصدقة وحج وغيرها من أعمال الجوارح الظاهرة ولكن لا يُقبل منه شيء من عمله وإن عبَد وسَجد، لأنه خلوٌ من عمل القلب، بل قلبه مليء بالكفر بالله ومعاندته ومضاداته؛ ولذا قال -تعالى مبينا حال قلوبهم-: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} (النساء: 142)، ثم بين جزاءهم فقال: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} (النساء: 145). به يفضل العمل ويتغير ومما يبين أهمية عمل القلب أن به يفضل العمل ويتغير وتصبح العادات عبادات يؤجر عليها الإنسان ويثاب وإن فعلها عادة، ومن ذلك أن يقصد بنومه وأكله وشربه التقوِّي على الطاعة والعبادة، وأن يقصد بإتيانه أهله التعفّف عن المحرمات ونحو ذلك، فقد جاء عند مسلم عن أبي ذر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة»، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: «أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الأجر مترتبًا على نيته للحلال وتحرزه عن الحرام وإن كان الفعل من العادات والمباحات. العزيمة المصمّمة على المعصية القلبية! ومما يدل على أهمية أعمال القلوب أيضًا أنَّ العزيمة المصمّمة على المعصية القلبية يُعاقب الإنسان عليها ولو فترت عزيمته عنها من غير سبب منه، بل يصل الحال إلى الكفر والنفاق، وقد فصَّل القول في ذلك الحافظ ابن رجب -رحمه الله-؛ حيث قال: «إن انفسخت نِيَّتُه، وفترَت عزيمتُه من غيرِ سببٍ منه، فهل يُعاقبُ على ما همَّ به مِنَ المعصية أم لا؟ هذا على قسمين:
![]() الاهتمام بصلاح القلب إذا أدرك المؤمن أهمية أعمال القلوب، فإن من أهم ما ينبغي أن يعتني به الاهتمام بصلاح قلبه وإعماره بالصالحات، بل وتفقد حاله وصلاحه بين الفينة والفينة، واجتناب مفسداته من الانغماس في المادية والانجرار وراء الأهواء والمشتهيات، وهو دور المؤمن مع نفسه، ودوره مع أهله وولده ومع مجتمعه المحيط به تذكيرهم بذلك، ويُروى في ذلك عن الحسن أن شابا مر به وعليه بردة له فدعاه فقال: «داوِ قلبك فإنّ حاجة الله إلى عباده صلاح قلوبهم».اعداد: مركز سلف للبحوث والدراسات
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() عوامل صلاح القلب ويقظته (٢)
استكمالا لـما بدأناه في الحلقة الماضية من الحديث عن أهمية أعمال القلوب، وأنها من أهم ما ينبغي الحرص عليه؛ إذ أعمال القلوب هي الأصل والأساس الذي تُبنى عليه الأعمال الأخرى من أعمال الجوارح، وصلاح القلب هو أساس الصلاح للإنسان، ولقد نبه العلماء على الأعمال والطاعات الموقظة للقلب والمحركة له والدافعة إلى عمله، نذكرها في هذا المقال. أولا: اللجوء إلى الله -تعالى على الإنسان أن يلجأ إلى الله -سبحانه وتعالى- ويتوجه بكليته إليه، لأن قلبه فقير ومحتاج أشد الحاجة إلى الله -سبحانه-، سواء من جهة الحاجة إلى التألُّه والتعبّد، أم من جهة الحاجة إلى الاستعانة به والتوكل عليه؛ ولذا أمر الله المسلم بأن يقرر هذه الحقيقة ويكررها عشرات المرات في صلاته، فيقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5)، فطمأنينة القلب بعبادة الله واللجوء إليه، والعبد في ذلك محتاج لمعونته -سبحانه- والتوكل عليه. ومما اشتهر من هذا كلام ابن القيم -رحمه الله- قوله: «في القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار منه إليه، وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه، وفيه طلب شديد لا يقف دون أن يكون هو وحده مطلوبه، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته والإنابة إليه ودوام ذكره وصدق الإخلاص له، ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة منه أبدا». ثانيا: تدبر القرآن الكريم وضّح المولى -سبحانه وتعالى- العلاقة الطردية والعكسية بين تدبر القرآن وبين تعطيل القلوب عما خُلقت له، فقال -سبحانه-: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (محمد: 24)، فمن أراد حياة قلبه وإعماره بالصالحات فعليه تدبر كتاب الله والتأمل فيه حق التأمل؛ فإنهم لو تدبروه، صلحت قلوبهم ووجدت ما تحتاج إليه، ومُلئت قلوبهم من الإيمان، وأفئدتهم من اليقين، ومن أعرض عن تدبر القرآن فقد أغلق قلبه على ما فيه من الشر وأقفل، فلا يدخله خير أبدا، ولا يتعظ ولا يفهم ما في القرآن من محييات القلوب ومصلحاته. ومن المجرب في الواقع أن كل مؤمن تمر به أوقات الضيق والهمِّ والحزن، ولا دواء أنفع وأنجع ينشرح به صدره ويذهب به همُّه وغمُّه من تدبر القرآن والتفكر في مواعظه، قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (يونس:57)، وقال: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (الإسراء: 82). ثالثا: كثرة الدعاء والإلحاح على الله ينبغي للمؤمن أن يكثر من الإلحاح على الله بالدعاء بصلاح القلب وإعماره بالصالحات، وقد كان السلف الصالح على ما هم فيه من الصلاح والتقوى يدعون الله -سبحانه- بما أرشدهم إليه ربهم ويقولون: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} (آل عمران: 8)، بل إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكثر من دعاء الله -سبحانه- بصلاح قلبه وثباته وتصريفه إلى طاعته: «اللهم مصرِّف القلوب، صرِّف قلوبنا على طاعتك». رابعًا: مجالسة الصالحين ومجالس الذكر لا يخفى على من ذاق طعم مجالس الإيمان والذكر أهميتها ودورها في إيقاظ القلوب وتنبيهها من الغفلة والزيغ والانحراف، والإنسان كلما حضر مجالس الذكر، انشرح فؤاده واطمأن وازداد إيمانًا واندفع للعمل الصالح، وإذا كان المؤمن يسكن قلبه ويستأنس ويطمئن بذكر الله منفردًا، فمن باب أولى أن تسكن وتستأنس قلوبُ المؤمنين وهم مجتمعون على الذكر لا يجمعهم في مجلسهم إلا ذلك. ولقد ضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - مثلًا يُفرق به بين حال من يذكر الله ويُداوم على حضور مجالس الذكر ويُصغي إليها وبين من يُعرض عن ذكره -سبحانه وتعالى-، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لاَ يَذْكُرُ رَبَّهُ مَثَلُ الحَيِّ وَالمَيِّتِ»، وكيف لا تحيا قلوبهم وتتيقظ من غفلتها وتنتعش بالإيمان وهي التي تغشاها الملائكة ويذكرهم الله عنده في ملئه ويقربهم ويدني قلوبهم منه، كما في الحديث القدسي: «يَقُولُ اللَّهُ -تعالى-: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً». خامسًا: إعمار القلب بالطاعات القلبية إذا أردنا الحديث عن الأعمال القلبية الصالحة، التي تناولها المصنفون في مظانها، سيطول بنا الحديث؛ فأعمال القلوب كثيرة لا تُحصى، نذكر منها ما يلي: (1) تحقيق التقوى فالتقوى أساس الدين، ولا حياة إلا بها، بل إن الحياة بغيرها لا تُطاق، فليس صلاحٌ للإنسان إلا بالتقوى، والمتأمل في القرآن يجد أن كثيرًا من الخير عُلِّق بها، وجملة من الثواب الجزيل منوط بها، وكمّ كبير من السعادة مضاف إليها، قال القرطبي عن التقوى في قوله -تعالى-: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} (النساء:131): «الأمر بالتقوى كان عاما لجميع الأمم، وقال بعض أهل العلم: هذه الآية هي رحى آي القرآن كله؛ لأن جميعه يدور عليها، فما من خير عاجل ولا آجل ظاهر ولا باطن إلا وتقوى الله سبيل موصل إليه ووسيلة مبلّغة له، وما من شر عاجل ولا ظاهر ولا آجل ولا باطن إلا وتقوى الله -عز وجل- حرز متين وحصن حصين للسلامة منه والنجاة من ضرره. (2) التوكل على الله والتوكل على الله -سبحانه وتعالى- من أعلى المقامات وأجل العبادات القلبية، فالمرء المؤمن يؤمن بأن الأمور كلها بيد الله؛ ولذلك يتوكل عليه -سبحانه وتعالى-، ويعتمد عليه دونما سواه، ويعلم المؤمن أن كل شيء بيد الله -سبحانه وتعالى- فيتوكل عليه، ويعلم في هذه الأوقات العصيبة أن الأرزاق كلها مكتوبة ومقدّرة، فيتوكل على الله -سبحانه وتعالى- ويعتمد عليه ويلتجئ إليه، كما قال الله -تعالى-: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} (الطلاق: 2-3)، قال ابن القيم: «التوكل نصف الدين، والنصف الثاني الإنابة؛ فإن الدين استعانة وعبادة، فالتوكل هو الاستعانة، والإنابة هي العبادة، ومنزلته أوسع المنازل وأجمعها، ولا تزال معمورة بالنازلين، لسعة متعلق التوكل، وكثرة حوائج العالمين». (3) الرجاء والثقة في جود الرب -سبحانه الرجاء هو الاستبشار بجود الله وفضل الرب -تعالى- والارتياح لمطالعة كرمه ومنّته، وهو الثقة بجود الرب، ففي ظل هذا الطغيان المادي ينبغي للمؤمن أن يحيي قلبه بالرجاء، ويتذكر جزيل النعم وسوابغ الفضل الذي أكرمه الله به، ولن يخيب رجاؤنا فيه -سبحانه وتعالى- وقد وعد أهل الإيمان فقال -تعالى-: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النحل: 97)، وكيف يخيب رجاؤنا فيه وهو القائل: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (الأعراف: 156)؟! فرحمته عمت الخلق أجمعين. (4) الخوف من الله -سبحانه وتعالى والخوف هو: تألم القلب واحتراقه؛ بسبب توقع مكروه في الاستقبال، قال الله -تعالى-: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ} (فاطر: 28). وحريٌّ بالمؤمن بالله -سبحانه وتعالى- أن يحيي هذه العبادة القلبية من العبادات في نفسه مع الواقع المادي الذي نعيش فيه، فيتذكر قدرة الله -سبحانه وتعالى-، ويخنع له ويخاف من عذابه وبطشه، ويتوب ويؤوب إليه ويلجأ إليه بالتوبة والاستغفار والذكر والطاعة، قال ابن قدامة: «اعلم أن الخوف سوط الله -تعالى- يسوق به عباده إلى المواظبة على العلم والعمل، لينالوا بهما رتبة القرب من الله -تعالى-، والخوف له إفراط، وله اعتدال، وله قصور، والمحمود من ذلك الاعتدال، وهو بمنزلة السوط للبهيمة، فإن الأصلح للبهيمة ألا تخلو عن سوط، وليس المبالغة في الضرب محمودة ولا التقاصر عن الخوف أيضًا محمود، وهو كالذي يخطر بالبال عند سماع آية، أو سبب هائل، فيورث البكاء». (5) الرضا بقضاء الله -سبحانه وتعالى والمقصود: ألا يكره ما يجري به قضاؤه، وفي هذا يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط»، والمؤمن يرضى بما قدره الله ولا يجزع ولا يسخط، وأمر المؤمن كله خير كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال الشيخ ابن عثيمين: «الصبر مثل اسمه مر مذاقته، لكن عواقبه أحلى من العسل، فيرى الإنسان أن هذا الشيء ثقيل عليه ويكرهه، لكنه يتحمله ويتصبر، وليس وقوعه وعدمه سواء عنده، بل يكره هذا، ولكن إيمانه يحميه من السخط... الرضا وهو أعلى من ذلك، وهو أن يكون الأمران عنده سواء بالنسبة لقضاء الله وقدره، وإن كان قد يحزن من المصيبة؛ لأنه رجل يسبح في القضاء والقدر، أينما ينزل به القضاء والقدر فهو نازل به على سهل أو جبل، إن أصيب بنعمة، أو أُصيب بضدها، فالكل عنده سواء، لا لأن قلبه ميت، بل لتمام رضاه بربه -سبحانه وتعالى- يتقلب في تصرفات الرب -عز وجل- ولكنها عنده سواء؛ إذ ينظر إليها باعتبارها قضاء لربه، وهذا الفرق بين الرضا والصبر. (6) الشكر وهو ظهور أثر النعم الإلهية على العبد في قلبه إيمانًا، وفي لسانه حمدًا وثناءً، وفي جوارحه عبادة وطاعة، قال -تعالى-: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} (البقرة: 152)، وشكر الله -سبحانه وتعالى- إنما يكون على نعمه، ومن ذا يستطيع أن يحصي نعم الله -تعالى-، فنعم الله على العبد تترى في نفسه وأهله وماله وعلمه وعبادته وغيرها من المنن، ومراتب الإنسان أمام قضاء الله -سبحانه- ثلاثة، أعلاها شكره -سبحانه- على البلاء؛ لأنها تورث من العبادة والإنابة إلى الله -سبحانه- ما لا يحصل في غيرها، وأدناها الصبر عليه، وبينهما الرضا، قال ابن القيم: «لله -سبحانه- على عبده أمر أمره به، وقضاء يقضيه عليه، ونعمة يُنعم بها عليه، فلا ينفك من هذه الثلاثة، والقضاء نوعان: إما مصائب وإما معايب، وله عليه عبودية في هذه المراتب كلها. فأحب الخلق إليه من عرف عبوديته في هذه المراتب ووفاها حقها، فهذا أقرب الخلق إليه. وأبعدُهم منه مَن جهل عبوديته في هذه المراتب فعطلها علما وعملا. (٧) الإخلاص لله -تعالى والإخلاص عليه مدار العمل والعبادة، قال -تعالى-: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (البينة: 5)، ولا شك أن الإخلاص هو ما يتفاضل به المؤمنون فيما بينهم، فالصحابة تفاضل بعضهم على بعض بما وقر في قلوبهم من الإيمان والإخلاص والصدق، وأيضا هو ما ميز أهل الشجرة عن غيرهم حتى رضي الله عنهم وأنزل السكينة عليهم قال -تعالى-: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} (الفتح: 18). تزكية القلب إن من أصعب الأمور علاج القلب وتزكيته، كيف؟ واليوم قد تعاظمت المادية وطغت على كبيرنا وصغيرنا، والسعيد من زكى قلبه وأيقظ فؤاده وعمره بما خلقه الله له، فنَعِم باليقين وفاز بالطمأنينة والاستقرار، فالقرآن ذكرى لمن كان له قلب، «والرسل أطباء القلوب، فلا سبيل إلى تزكيتها وصلاحها إلا من طريقهم، وعلى أيديهم، وبمحض الانقياد والتسليم، والله المستعان». اعداد: مركز سلف للبحوث والدراسات
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |