|
ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() حقوق النبي صلى الله عليه وسلم (1) لدكتور أبو الحسن علي بن محمد المطري الخطبة الأولى إن الحمد لله، نحمَده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يَهده الله فلا مُضل له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده ربي لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]، أما بعد:فإن خيرَ الكلام كلام الله، وخيرَ الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلَّ مُحدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. معاشر المؤمنين، يَمتن الله - سبحانه وتعالى - بنعمته العظيمة يوم أن بعث إلى بني الإنسان سيد الأولين والآخرين، وخاتم الأنبياء والمرسلين وخليله النبي الكريم؛ أعني بذلك محمدًا صلى الله عليه وسلم، فهو الذي بعثه الله على حين فترة من الرسل، من أجل أن يخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن دياجير الجهل والظلمات إلى مقالب الخير والسعادة لبني الإنسان في هذه الدنيا والآخرة، فيقول جل وعلا: ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [آل عمران: 164]، يعني بذلك من العرب إنه امتنانٌ يَمتن الله به أعظم من امتنان الطعام والشراب والهواء، إنه حياة الدارين، فيقول ربنا جل وعلا: ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [آل عمران: 164]، لقد كان العرب قبل البعثة النبوية يعيشون في ألوان من الضلالات في كل شؤون حياتهم، يعيشون حياة فوضوية، نظر الله إلى أهل الأرض في ذلك الزمان، فمقت كل ذلك، ما كان من المعاملات، وما كان من العبادات، فعلم الله أنه لا صلاح لهم ولا صلاح للدنيا والآخرة، إلا ببعثة هذا النبي الكريم. لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ![]() ولا سراة إذا جُهَّالُهم سادوا ![]() ![]() ![]() فبعث الله عبدًا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأُجريت له كثير من المقامات استعدادًا للمواجهة، شرح الله له صدره بأن أرسل إليه جبريل وهو يلعب مع الغلمان، فصرعه فشق صدره، ثم أخرج قلبه فغسله داخل طست من ذهب وحشاه حكمة وإيمانًا، وغسله بماء زمزم، ثم ما كان بعد ذلك من العفة والأمانة والعصمة ما عُرف به سيد الأولين والآخرين قبل البعثة، فكان هو الملقب بالصادق الأمين، ثم بعد ذلك كان له الإسراء والمعراج وكثير من الخوارق، هذا إن دل على شيء، إنما يدل على عظمة هذا الرجل، وأن الله اصطفاه لأمر عظيم لرسالة عالمية ليس للعرب وحدهم، وإنما للأمم بأسرها؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]، فأي حكم من أحكام الشريعة هو رحمة للعالمين واجبًا أو محرمًا، إن كان من الواجبات فهو رحمة، وإن كان من المحرمات فهو رحمة، وإن كان العبد يجد قليلًا أو كثيرًا من الآلام، لكن ذلك من رحمة الله بهؤلاء العباد أن جعلهم من أمة هذا النبي الكريم. ومما زادني شرفًا وفخرًا ![]() وكدتُ بأخمصي أطأ الثريَّا ![]() دخولي تحت قولك يا عبادي ![]() وأن صيَّرت أحمد لي نبيًّا ![]() كذا كان حال الناس قبل الإسلام، ثم بعد الرسالة العالمية أصلح الله أحوالهم، وزكَّى الله قلوبهم، وجمعهم على قلب رجل واحد. أتطلبون من المختار معجزةً ![]() يَكفيه شعب من الأموات أحياءُ ![]() ![]() ![]() أحياهم الله وصاغهم الإسلام صياغةً، فكانوا معدن الصدق، ومعدن الإخلاص والبذل والتضحية، تأمل في قاموس أصحاب رسول الله، ترَ أنهم ضربوا أروع الأمثلة في كل الميادين؛ أعني ميادين الخير، وذلك إن دل فإنما يدل على حسن التربية والقيادة. ![]() عبادُ ليلٍ إذا جنَّ الظلامُ بهم ![]() كم عابد دمعه في الخد أجراهُ ![]() وأُسد غاب إذا نادى الجهادُ بهم ![]() هبُّوا إلى الموت يستجدون لقياهُ ![]() هذا النبي صلى الله عليه وسلم أحيا الله به الأمم، وأسعَد الله به أهل الدنيا والآخرة، فكان نبيًّا رسولًا رحمة للعالمين، ختم به الرسالة، وأيَّده بكثيرٍ من المعجزات، وأعظم معجزة القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وضمِن الله لمن اتَّبعه أن يسعد في الدارين، وتوعد الله من خالفه أن يكون شقيًّا في الدارين، فقال سبحانه: ﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ﴾ [طه: 123 - 126]. ومعنى نسيتها: أي تركتها، فأنت تترك يوم القيامة لا يُبالي بك أبدًا؛ لأنك نسيت أمر الرسول، ونسيت دين الرسول، ولم تجعل الرسول قدوة وقيادة، هذا النبي الكريم عرف حقَّه كثيرٌ من الجمادات؛ أعني بذلك الجماد الذي لا ينطق؛ روى الإمام مسلم في صحيحه أن نبينا صلى الله عليه وسلم قال: (إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلم علي أعرفه الآن)، إذا مر الرسول بجوار الحجر قال: السلام عليك يا رسول الله، وجاء في صحيح البخاري أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يأكل الطعام والطعام يسبح بحمد الله، والحصى تكون في يده، فتُسبح بحمد الله، وجاء في صحيح البخاري ومسلم أنه صلى الله عليه وسلم كان يقوم يوم الجمعة يعظ الناس بجانب جذع من شجر، فجاءت امرأة أنصارية وقالت: أصنع لك منبرًا يا رسول الله، قال: اصنعي منبرًا، فترك الجذع واتَّجه إلى المنبر، فلما رقى الرسول على المنبر، حن الجذع حنين الصبي، وبكى بكاء الصبي المطفوح من ضرب أو غيره، فينزل الرسول فيسكنه، فيقول: إنه حن لَمَّا كان يسمع من الذكر، وهكذا على مستوى الحيوانات المفترسة، تعرف حقَّ نبينا صلى الله عليه وسلم؛ روى البخاري في صحيحه أن راعيًا كان يرعى الأغنام خارج المدينة النبوية، فوجد ذئبًا عدى على شاة من أغنامه، فانتزعها بقوة، فتكلم الذئب بلسان فصيح، قال: تأخذ رزقًا ساقه الله إلى، فقال الراعي: عجبًا من ذئب يتكلم، فقال الذئب: أعجب من ذلك محمد صلى الله عليه وسلم بين الحرَّتين يُخبر الناس بأخبار الدنيا والآخرة، ثم يأخذ الراعي أغنامه، فيضعها في زاوية من زوايا المدينة، وهي ربما تفوق الألوف من الأعداد، ثم يأتي إلى الرسول فيخبره، فيجمع الرسول الصحابة، ثم يخبر الأعرابي بما سمع، فقال رسول الله: إنها أمارة من أمارت الساعة، ويصعد الرسول مرة على جبل أحد، فقال: أُحد جبل يُحبنا ونُحبه، على مستوى الجبال وعلى مستوى الجمال، يأتي جمل فيسجد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول الصحابة: نحن أحق بالسجود منه يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد لأمرتُ المرأة أن تسجد لزوجها لعِظم حقه عليها، فكانت هذه الحيوانات تعرف حق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وعند الكفار من كان يقرأ كتبهم في التوراة أو الإنجيل، فيجد صفة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك لا يمنعهم من الإسلام إلا ما كان لهم من المكانة بين الناس، اسْمعوا إلى هذه القصة العجيبة التي رواها الإمام البخاري في صحيحه في مقدمة الصحيح؛ أعني في كتاب الوحي، لَمَّا ذهب أو سفيان قبل أن يسلم إلى هرقل ملك الروم مع جماعة من التجار، ثم قال هرقل وكان ينظر في النجوم، قال: انظروا إلى هؤلاء الذين جاؤوا من جزيرة العرب، وقدِموا إليَّ أقربَ الناس نسبًا بهذا الذي يزعم أنه نبي، فلما تقدم أبو سفيان جعل أصحابه خلفه وقال لترجمانه: قل له: سوف أسألك فإن كذب، كذبه أصحابه، فكان يسأل أبا سفيان وهو لا زال على الشرك، لكنه بعد ذلك أسلم رضي الله عنه، فيسأله عن نسب النبي، وعن أمانته، ويسأله أيضًا عما كان بينه وبين قريش، سأله عدة سؤلات، ثم بعد أن أجاب إجابات صحيحة، قال هرقل: إن كان ما تقوله حقًّا، فسوف يملك ما تحت قدمي هاتين، فيقول أبو سفيان مع أصحابه: لقد أَمَرَّ أمرُ ابن أبي كبشة عند ملك بني الأصفر، فصار يخافهم ملك بني الأصفر، ثم قال هرقل: ولو كنت أمامه لمسحت الغبار عن رجليه، ثم جمع القساوسة وقال لهم: يا قوم أدعوكم إلى خيري الدنيا والآخرة، فتنافر أولئك القوم، وخاروا خوار الحمير، ونفروا أشدَّ نُفرة من الثيران في زريبتها، فقال لهم: إنما أردت أن أنظر عِظمَ دينكم في أنفسكم، ولم يسلم هرقل إبقاءً لسيادته ومكانته، وصدق الله إذ يقول: ﴿ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ﴾ [النمل: 14]. وكان أمر هذا النبي سائرًا ذائعًا مشهورًا معروفًا، والفضل ما شهدت به الأعداء، شهد له الملأ كله بأنه سيد الأولين والآخرين، وأنه خليل رب العالمين، وأنه أفضل بني آدم ولا فخر، إنه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم يا عباد الله، لا غنى لنا عن نبينا ولا غنى لنا عن ذكر نبينا، وعن الدفاع عن عرض نبينا، وعن جناب نبينا، فهو العبد الذي علق الله به فلاح الأمة في الدنيا والآخرة بمبايعته، فقال جل وعلا: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ [الأنفال: 24]. فأُفٍّ لمن لا يعرف قدر نبينا، وأُف لمن كانت الحيات والحيوانات والجمادات أعظمَ معرفة منه بحق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا جمع الله الأولين والآخرين احتاج الناس إلى هذا النبي، لقد كان النبي حريصًا على أمته في الدنيا، وهكذا كان حريصًا عليهم في الآخرة، سوف تسمعون ما شاء الله من ذلك في الخطبة الثانية إن شاء الله، اللهم بارك لي ولكم في القرآن العظيم، وأستغفر الله لي ولكم. الخطبة الثانية الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيد الأولين والآخرين، مَن بعَثه الله رحمة للعالمين، وحجةً على الناس أجمعين، اللهم صلِّ وسلم على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.معاشر المؤمنين، يقول المولى تبارك وتعالى: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128]. فلقد كان نبينا حريصًا علينا كلَّ الحرص في هذه الدنيا، لقد أدى الأمانة، وبلَّغ الرسالة، وجاهد في الله حق جهاده، لقد أبلغ ولقد كان مثالًا عظيمًا في تأدية الرسالة العالمية لبني الإنسان، لقد أدى ذلك كله، وشهد الله عز وجل له بذلك، وشهد له أصحابه الكرام في مجمع من مجامع الخير يوم عرفة، حينما خطب الناس في تلك البلاد المقدسة، ثم قال: (اللهم هل بلغت، اللهم فاشهَد)، فشهِد له أكثر من مائة ألف مسلم من الصحابة الكرام الأجلاء الذين حجُّوا معه صلى الله عليه وسلم، فأكمَل الله به الدين، فقال سبحانه: ﴿ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]. هذا حرصُ نبينا صلى الله عليه وسلم، فما ترك من خيرٍ إلا دلَّنا عليه، وما ترك من باب شرٍّ إلا حذَّرنا منه، فأمر صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق، وحذَّر من سفاسفها، فأرانا وحثنا على كل خير، ورغَّبنا في كل خير، ونهانا عن كل ما يضر بنا أو بديننا أو بأجسامنا في هذه الدنيا والآخرة، وإن الناس إذا اجتمعوا يوم القيامة وهم في عرصات القيامة، وقد دنت الشمس من الخلائق قدرَ ميلٍ، وبلغ ما بلغ فيهم من الكرب، إنهم يبحثون عمن يشفع لهم إلى الله، من أجل أن يُريحهم من عرصات القيامة، ومن طول العرض على ربنا جل وعلا، فيذهبون بأسرهم الأولون والآخرون إلى آدم أبي البشر، يقولون: يا آدم أنت أبو البشر، خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته، ونفخ فيك من رُوحه، اشفع لنا إلى ربك، فيقول آدم: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد نهاني عن أكل من الشجرة، فأكلت، نفسي، نفسي، انظروا غيري، اذهبوا إلى نوح أول رسول إلى أهل الأرض، فيأتون نوحًا فيعتذر، ثم يُحيلهم نوح على إبراهيم فيعتذر، فيحيلهم على موسى، فيقدم اعتذارًا، ثم يحيله على عيسى ابن مريم، فيعتذر فيحيلهم على عبدٍ غفَر الله له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر، يُحيل على محمد صلى الله عليه وسلم، فيقول: أنا لها، يقول: هو لها؛ أي لذلك الموقف العظيم، لذلك يقول الله: ﴿ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ﴾ [الإسراء: 79]. هذا هو المقام المحمود، فإذا ما جاءت الخلائق باحثة عن الشفاعة، يقول: هو لها، فيَخِر تحت العرش ساجدًا، فيَحمَد الله بمحامدَ لم يكن يعلمها من قبلُ، يعلمه الله بثناء ودعاء يُثني به على الرب سبحانه وتعالى، فيقول الله: (يا محمد، ارفَع رأسك وسَلْ تُعطه، واشفَع تشفَّع، يقول: يا ربِّ أمتي، أمتي). هذا حال نبينا في الآخرة، إنه حريصٌ كل الحرص على أمته، أمة الدعوة وأمة الإجابة، إنه حريص أيضًا على اليهود والنصارى الذين تكلموا في عرضه وأساؤوا إليه، يحرص عليهم؛ لأن الأمة أمتان، أمة الدعوة وهي اليهود والنصارى، وأمة الإجابة وهي الأمة المحمدية المرحومة، وأمة الدعوة مأمورون أن يتابعوا نبينا صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أرسله الله رحمة للعالمين، بل أرسله الله للإنس والجن، الجن كانوا يحتكمون بين يديه صلى الله عليه وسلم. يا عباد الله، يا مَن بَعَثَ إليكم محمدًا صلى الله عليه وسلم بشيرًا ونذيرًا وداعيًا بإذنه إلى صراط مستقيم، هذا نبيكم صلى الله عليه وسلم يدعوكم إلى كل خيرٍ، ويُحذركم من كل شرٍّ، فمن اقترف على نفسه من السوء، فإنما قد أضرَّ بنفسه فما من خيرٍ تريده إلا قد ترك الرسول لك فيه أمرًا، وما من أمر فيه شرٌّ إلا وقد حذَّرنا منه، قال أبو ذر رضي الله عنه: مات نبينا وما طائر يطير بجناحيه بين السماء والأرض إلا ذكر لنا منه علمًا، وإن من حقوق نبينا صلى الله عليه وسلم أن نغار عليه وأن ندفَع عن عِرضه؛ إذ يقول: (من دفع عن عرض أخيه المسلم، دفع الله وجهه عن النار). يا أمة محمد، عِرض نبينا ودين نبينا ومقام نبينا، نال منه اليهود والنصارى، ونال منه الشيوعيون والحاقدون على هذا الدين، وما كان ذلك من فراغٍ، وإنما مِن ضغطة إسلامية عرَفوها وعلِموها، وعايشوها في بلادهم، فكان الرد على المسلمين أن ينشروا صورًا أساءت إلى مقام نبينا، رسموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصور مزرية جدًّا، وأنه آلة فتنة أو أنه رجل شهواني، أو أنه يعيش كما يعبرون عنه حياة إرهابية لا يعرف إلا التدمير، وحاشاه أن يكون كذلك، لقد كان صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين؛ قال جل وعلا: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [آل عمران: 159]. نشر الإسلام بكل هدوء وبكل رحمة، جاء أعرابي فانتفض من مقام رسول الله، قال: لِمَ تنتفض هذا الانتفاض، وبلغ من تواضعه أن كانت الجارية الصغيرة تمسك بيده صلى الله عليه وسلم؛ أي رئيس أو وزير يسمح لجارية من الجواري أن تقترب منه، أو لرجل عادي، وهذا أرفع من الرؤساء بل لا مقارنة. ألم ترَ أن السيف ينقص قدرُه ![]() إذا قلت إن السيف أمضى من العصَا ![]() ![]() ![]() لا مقارنة فهو العبد المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخَّر، وهو الذي جعله الله سراجًا منيرًا، وأيَّده الله بخوارق العادات صلى الله عليه وسلم، فوجب على المسلمين أن يغاروا على دينهم وعلى عرض نبيهم. إن من المسلمين من إذا سُبَّ أبوه أو أمه، لوجد في ذلك تغيظًا، فما بالك وقد سُبَّ نبيك يا عبد الله، فكن متمعِّرًا في وجهك وفي صدرك وفي قلبك، ومستنكرًا حتى يكون لك قدر عند الله، وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كثيرًا من العلماء قد ذهبوا إلى مقاطعة بعض السلع والمنتجات التي تصنعها بعض تلك الدول، فوجب على المسلمين أن ينكِّلوا بأعدائهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، على أن لهم أساليبَ خداعة، ولهم أيضًا شعارات برَّاقة، فربما غيَّروا بعض الشعارات أو أسماء بعض الصناعات، وروَّجوها في بلاد المسلمين، لكن هذا الذي يستطيع له المسلمون؛ لأننا في زمان اختلط فيه الحابل بالنابل كما يقال، وإنا نعيش فوضة صحافية، ولا سيما في بلاد الكفار، فهم ينشرون ما أرادوا ويُقرون ما أرادوا، لكن على المسلمين أن يعلموا أنه لا حياة بدون رسول الله، ولا بقاء لهم في الدنيا إذا لم يكونوا متمسكين بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. ![]() مَن حاد عن نَهج الكتاب ![]() لا خيرَ فيه وبالمذلة مُقتدِ ![]() أسأل الله بمنِّه وكرمه وبأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يَجعلنا هُداة مهتدين، وأن يرينا الحق حقًّا فيرزُقنا اتباعه، والباطل باطلًا فيرزُقنا اجتنابه.
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() حقوق النبي صلى الله عليه وسلم (2) لدكتور أبو الحسن علي بن محمد المطري الخطبة الأولى إن الحمد لله، نحمَده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يَهده الله فلا مُضل له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده ربي لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]، أما بعد:فإن خيرَ الكلام كلام الله، وخيرَ الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلَّ مُحدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. إن البرية يوم مَبعث أحمد ![]() نظَر الإله لها فبدَّل حالها ![]() بل كرَّم الإنسان حين اختار مِن ![]() خير البرية نجمَها وهلالَها ![]() لبس المرقَّع وهو قائدُ أُمَّةٍ ![]() جبت الكنوزَ فكسَّرت أغلالها ![]() ![]() موضوع خِطبتنا في هذه الجمعة من حقوق نبينا صلى الله عليه وسلم رسول الله الذي بعثه الله رحمة للعالمين، وحجة على الناس أجمعين، أنار به عقول البشرية وزلزَل به كيانَ الوثنية، فكانت أمته أمةً عريقة ذات رسالة عالمية، فاقت رسالته كلَّ الرسالات، وفاقت ذاته كل الذوات من الأنبياء والمرسلين، اصطفاه رب العالمين من بين البشر؛ ليكون قدوة وقيادة للأمة، فكان هو القدوة الذي ارتضاه الله للناس أجمعين، فقال جل وعلا: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾ [الأحزاب: 21]. والمراد بالأسوة؛ أي: إنه قدوة يتابع، فهو صاحب القرآن وصاحب الخلق العظيم؛ قال جل وعلا: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4]. سأل سعد بن هشام أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: (كان خلقه القرآن) وكفاه الله - عز وجل - بالمنة امتنَّ بها على المؤمنين بعد أن كانوا يعيشون ألوانًا من الضلالات والجهالات، فقال جل وعلا: ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ﴾ [آل عمران: 164]. لقد كان العرب قبل الإسلام يعيشون ضلالًا هو في منتهى الظلام في أمورهم وحياتهم، لا فرق بين قليل وكثير، ولا فرق بين صغير وكبير، يعيشون في ضلال عام شامل في أرقى أمورهم وأدناها، فكانت المنة ببعثة هذا النبي الكريم، زكى الله بها تلك القلوب، فصاغت تلك التزكية ذلك المجتمع صياغة عظيمة، فكان فيهم الزهَّاد والعُبَّاد، وكان فيهم الصدق والإخلاص، لقد ضربوا أروع الأمثلة في ميادين الخير كلها. كن كالصحابة في زُهد وفي ورعٍ ![]() القوم هم ما لهم في الناس أشباهُ ![]() عبَّادُ ليلٍ إذا جنَّ الظلامُ بهم ![]() كم عابدٍ دمعُه في الخدِّ أَجراه ![]() وأُسد غابٍ إذا نادى الجهادُ بهم ![]() هبُّوا إلى الموت يَسْتَجِدُّون لُقياه ![]() فمن أين أخذوا تلك العزة؟ أمن الدنيا؟ كلا والله، وإنما أخذوا ذلك كله من هذا الدين ومن رسول رب العالمين، ارتضعوا تلك الأخلاق والقيم والذل والتضحية، فإن دل ذلك فإنما يدل على عِظم تلك التربية، فما من عظيمٍ إلا وله مُربٍّ عظيم، فكان الأصحاب هم معدن الصدق والإخلاص والبذل والتضحية يوم أن قال قائلهم: نحن الذين بايعوا محمدًا على الجهاد ما بقينا أبدَا ويوم أن قال قائلهم: (والله يا رسول الله، لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: ﴿ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾ [المائدة: 24].ويخرج أحد هؤلاء يسمى بخبيب الأنصاري من قدماء الصحابة، استأسَره بعض المشركين وأخرجوه إلى رمضاء مكة من أجل أن يضربوا عنقه، فقال لهم: دعوني أُصلي ركعتين، فقالوا: صل ما شئتَ، فلما انتهى من صلاته قال: ولست أُبالي حين أُقتل مسلمًا ![]() على أي جنبٍ كان في الله مَصرعي ![]() وذلك في ذات الإله وإن يشَأ ![]() يبارك على أوصال شِلو مُمزعِ ![]() لقد جمع الأحزاب حولي وألَّبوا ![]() قبائلهم من كلِّ حَدَب ومَجمعِ ![]() إلى الله أشكو غُربتي بعد كُربتي ![]() وإلى الرحمن أَوبي ومَرجعي ![]() فظنَّ المشركون أنه يعيش في جبن وخوف وخور وبكاء على هذه الدنيا، فيقول له أبو سفيان، وكان لا زال على الشرك وأسلم بعدها أبو سفيان رضي الله عنه قال: يا خبيب أتحب أن يكون محمدًا مكانك لتُضرب عنقُه، وتكون أنت في أهلك وأولادك قال: كلا والله، لا أُحب أن يشاك محمد بشوكة، وأكون في أهلي وولدي، فمن أين جاءت هذه التربية، إنما رُبُّوا على منهج الحق والاستقامة، وعلم الأصحاب أن عزتهم وكرامتهم ما نالوها إلا عن طريق محمد صلى الله عليه وسلم، فهو صاحب الخلق العظيم، وهو الواسطة بيننا وبين الله، وهو الشفيع لنا عند الله، زكى الله صدره وزكَّى جليسه، فقال جل وعلا: ﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾ [الشرح: 1 - 4]، وقال: ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ [النجم: 3، 4]. فهذا النبي الكريم بعَثه الله لقيادة هذه الأمة، وأن من أطاعه دخل الجنة ومن عصاه دخل النار؛ قال جل وعلا: ﴿ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ﴾ [النور: 54]، وقال سبحانه: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]. حقوق نبينا كثيرة، وقد عرَف حقَّ نبينا الحجر والشجر والحيوان، والجن يعرف حقَّ محمد صلى الله عليه وسلم؛ جاء في صحيح مسلم من حديث جابر بن سمرة قال صلى الله عليه وسلم: (إني لأعرف حجرًا بمكة كان يُسلم عليَّ أعرِفه الآن)، ودعت امرأة يهودية رسول الله للطعام، وسألت هذه اليهودية: أي شيء من اللحم يُعجبه؟ فقالوا لها: الذراع، ذراع الشاة، فرشَّت سمومًا على الشاة، وزادت سمومًا على الذراع، فبينما هو يأكل؛ إذ نطق الذراع بلسان فصيح، وقال: إني مسموم يا رسول الله، و يأتي جمل، فيسجد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعلم الله نبيه حال الجمل، وأنه يشتكي أصحابه، فقال: (اتقوا الله في هذه البهيمة)، ولَمَّا سجد الجمل بين يدي رسول الله قال الصحابة: نحن أحق بالسجود منه يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد، لأمرتُ المرأة أن تسجد لزوجها لعِظَم حقه عليها، هذا حال الجمادات هذا حال الحيوان، وهكذا الأشجار والأطيار، تعرِف حقَّ نبينا؛ روى مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله قال: خرج رسول الله في سفر، فنزل واديًا أفيح - أي لا شجر فيه - ولا أحجار فيه - فأراد أن يقضي حاجته، فنادى شجرة بعيدة في شاطئ الوادي، فأقبلت حتى التحمت مع شجرة أخرى، ولما فرغ من قضاء حاجته، عادت كلُّ شجرة إلى مكانها، وكان يوم الجمعة يخطب أمام جذع من شجر، فجاءت امرأة أنصارية، وقالت: أصنع لك منبرًا يا رسول الله، قال: افعلي ما شئت، فتركه من الجمعة القادمة، فلما رقى الرسول على المنبر حنَّ الجذع وبكى بكاء الصبي، فينزل الرسول فيسكنه، قال بعض الحاضرين من الصحابة: كان يُسكِّنه كما يُسكَّن الصبي من البكاء، فيقول صلى الله عليه وسلم: إنه حن لما كان يسمع من الذكر. وروى الإمام الترمذي في جامعه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة لا يُرى فيها شيءٌ، قال: فعلمت بذلك فتبعته، قال: فلما اقتربت منه وهو يمشي نحو الغابة، فقال لي: أبا عبد الرحمن؟ قلت: لبيك يا رسول الله، قال مكانك، قال: فجاءني وفعل عليَّ دائرة من خط، ثم قال لي: يا بن مسعود، لا تترك هذه الدائرة، ثم ذهب رسول الله بعيدًا، قال ابن مسعود: فخشيت على نفسي، قال: فإذا بقومٍ ما هم والله بإنسٍ ولا من بني آدم، فكانوا يضربون من الخط ولا يتعدونه إليَّ أبدًا، قال: فخشيت على رسول الله، فتذكرت أنه قال لي: الزَم مكانك، ثم يأتي الرسول في آخر الليل قبل الفجر بلحظات، فيقول له ابن مسعود: فداك أبي وأمي، لقد خشيت عليك يا رسول الله، قال: إني كنت عند إخواننا من الجن، وقد سألوني الطعام والعلف لدوابهم، فقلت: إن طعامكم كل عظم أكله ابن آدم، ذُكر اسم الله عليه فهو لحم، وأما علف دوابهم، فهو رجيع دواب بني آدم، لذا نهى عن الاستجمار بعظم أو برجيع حيوانٍ، وقال: (إنها طعام إخوانكم من الجن)، جاءت إلى رسول الله واستمعوا القرآن؛ كما قال ربنا جل وعلا: ﴿ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الأحقاف: 29 - 32]. هذا خطاب الجن لقومهم بعد أن حضروا دروسًا لرسول الله، ثم كانوا بعد ذلك دعاة، وهكذا قال سبحانه: ﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا * وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا ﴾ [الجن: 1 - 3]. فهو رحمة للعالمين، فأُفٍّ وأُفٍّ لمن كان الجن والأحجار والأشجار والحيوانات أعظمَ معرفة منه بحقوق رسول الله، لقد عرفوا حقوق نبينا، ومن الأمة من لا يعرف حق نبينا صلى الله عليه وسلم، الكون كله يعرف مقام رسول الله، فهو سيد الأولين والآخرين، وهو خاتم النبيين والمرسلين، وهو خليل ربِّ العالمين، وهو الذي كان نورًا وبشيرًا وسراجًا وقمرًا منيرًا، وداعية إلى الصراط المستقيم، هو الذي بذل نفسه من أجل إسعاد هذه الأمة؛ كما قال ربنا جل وعلا: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128]. اللهم بارِك لي ولكم في القرآن العظيم، وأستغفر الله لي ولكم. الخطبة الثانية الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، معاشر المؤمنين، بلغ مِن حِرص نبينا علينا أن كان حريصًا علينا في الدنيا من الضياع والهلاك، وحريصًا علينا في الآخرة من النار، فقال جل وعلا: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128]. بكى رسول الله ليلة بكاءً مريرًا، فأرسل الله جبريل يسأله عن سبب بكائه وهو أعلم، فقال جبريل: يا محمد، ما يبكيك، فقال: أمتي، أمتي، فصعد جبريل إلى رب العالمين وأخبر الخبر، قال سبحانه: عُدْ إليه وقل: إنا سنُرضيك في أمتك، ها هو في عرصات القيامة البشرية كلها يبحثون عمن يشفع لهم إلى الله، فيأتون إلى آدم أبي البشر يقولون: يا آدم أنت أبو البشر، خلقك الله بيده وأسجَد لك ملائكته، ونفخ فيك من روحه، اشفع لنا إلى ربك يقول آدم: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد نهاني عن أكل من الشجرة، فأكلت، نفسي نفسي، انظروا غيري، اذهبوا إلى نوح أول رسول إلى أهل الأرض، فيأتون نوحًا فيعتذر، ثم يُحيلهم نوح على إبراهيم فيعتذر، فيحيلهم على موسى، فيقدم اعتذارًا ثم يحيله على عيسى ابن مريم، فيعتذر فيُحيلهم على عبد غفَر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، يحيل على محمد صلى الله عليه وسلم، فيقول: أنا لها فيخر تحت العرش ساجدًا فيحمد الله بمحامد لم يكن يعلمها من قبل، يعلمه الله بثناء ودعاء يثني به على الرب سبحانه وتعالى، فيقول الله: (يا محمد ارفع رأسَك، وسلْ تُعطه، واشفع تشفع، يقول: يا رب أمتي أمتي). الله أكبر، ما أبلغ حرصَ نبينا علينا في الدنيا والآخرة، وما أقل اهتمام هذه الأمة بحال نبيها وبحقوق نبيها... أعظم الحقوق - عباد الله -: طاعة الرسول فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، والانتهاء عما نهى عنه وزجر، والمراد بذلك الطاعة، فرسول الله لا يريد أن يرفع إلى حدِّ الإطراء، أو أنه يفضي به إلى مقام الألوهية، وإنما هو عبد الله ورسوله، وهكذا أيضًا إن مَسَّ جنابه بشيء من السوء أو الاستهزاء والسخرية، وجَب على المؤمن أن يغضب لرسوله. إن المسلم يغضب لنفسه ولأبيه، فما بالك إذا مسَّ عرض رسول الله، هذا حسان بن ثابت رضي الله عنه كان يذب عن حياض رسول الله، وهؤلاء الأصحاب كلهم يذبون عن عرض رسول الله، ألَّف ابن تيمية كتابًا بعنوان: "الصارم المسلول في الرد على شاتم الرسول"، في القرن الثامن ظهر رجل يسب الرسول، فرد عليه ابن تيمية بكتاب، فوجد ذلكم الرجل مقتولًا، فما انتهك أحد حرمةَ لرسول الله إلا عومل بالهلاك والدمار؛ جاء في صحيح البخاري أن كاتبًا كان يكتب لرسول الله، وبعد ذلك ارتد ذلكم الرجل، فكان على مذهب النصارى، فلما مات حفروا له في الأرض حفرة فقبَروه، فلفَظته الأرض عدة مرات في عدة أيام، والأرض تلفظه، لا تريده أن يكون في بطنها وفي جوفها، فتركوه بعدها للسباع، وما استطاعوا أن يحموه. حقوق نبينا يا عباد الله كثيرة علينا، وسوف نسأل عنها بين يدي الله؛ قال صلى الله عليه وسلم، (وستسألون عني)، نُسأل عنه في قبورنا، وفي عرصات القيامة، أما في القبر، فنسأل عن الأصول الثلاثة: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ وفي عرصات القيامة تسأل عن رسول الله وعن دين رسول الله، أنت مسؤول عن ذلك كله بين يدي الله تعالى، ومن أعظم الحقوق وتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم تعظمه في نفسك، وأن يكون له جلالة ومهابة في قلبك، تحب الرسول صلى الله عليه وسلم أعظم من حبك لنفسك وأبيك وأمك وأموالك، تحب الرسول، وتنصر الرسول، فمن أحب الرسول ووقَّره في قلبه، كان له حظ ونصيب من قوله سبحانه وتعالى: ﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾ [الشرح: 1 - 4]، فكل من عظَّم الرسول وكان له حظ ونصيبٌ مما ذكر، ومن لم يبالِ بذلك، كان له حظ ونصيب من قوله تعالى: ﴿ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ ﴾ [الكوثر: 3]، ومعنى شانئك؛ أي: مُبغضك، فمن أبغض الرسول جعله الله أبتر من الخير في أمر الدنيا والآخرة. يا عباد الله، نحن مطالَبون بأن ننصُر رسول الله في أنفسنا وفي أهلينا، وننصره أيضًا إذا مست كرامته بسوء يقول حسان: فإن أبي ووالدتي وعرضي لعرض محمد منكم وقاءُ والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿ إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ [محمد: 7].ومن أعظم الحقوق أن تصلِّي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد بذلك زيادة الثناء، تذكُره وتصلي عليه في كل مجلس، وأن تجعله قدوة وقيادة، وأن تتابع علماء الأمة فيما أفتوا به من مقاطعة البضائع المستوردة من بلاد الكفار الذين مسُّوا عرض نبينا بسوء، فأُفٍّ وأُفٍّ لمن قدَّم مصلحته وهواه، وقدَّم نفسه وبطنه وفرجه على رسول الله صلى الله عليه وسلم. لو شتمك رجل ثم جاء بشاة محنوذة معها جميع أصناف الطعام والشراب، وقد سبَّك قبلها ولم يعتذر لك بشيء، لكنه جاءك بالطعام من أجل أن تسامحه، والله ما أظن إلا أن يكون قد قل حياؤه منك فنعم، أما هؤلاء الكفار فلم يبدوا اعتذارًا ولا هم مستعدون أن يعتذروا، فإن الحق والباطل في صراع مرير، منذ أن خلق الله الأرض وأهلها والحق والباطل في صراع، فوجب على أهل الدين أن يَعرفوا قدرَ دينهم، وأن يعلموا قدر نبيهم، فأنتم أعظمُ منزلةً في الدنيا من اليهود والنصارى، ومن كل دين ملوَّث على وجه الأرض، فهو دين لا يساوي شيئًا عند الله، فأنتم أصحاب الدين المرتضى الذي ارتضاه الله لكم؛ قال سبحانه وتعالى: ﴿ اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المائدة: 3]. وإن وجدت بعض السلبيات من بعض المنتسبين للإسلام، لا يدل ذلك على فساد الدين، وإنما أبناء الدين. نَعيب زماننا والعيبُ فينا ![]() وما لزماننا عيبٌ سوانا ![]() ونَهجوا ذا الزمان بغير حقٍّ ![]() ولو نطَق الزمان لنا هجانَا ![]() فليس العيب عيب الزمان، ولا عيب الإسلام، وإنما عيب حَمَلَة الإسلام، وجدوا إسلامًا ما بذلوا فيه مهجًا ولا أرواحًا، وجدوه سهلًا ميسرًا بمثابة ورثةٍ وجدوا بيوتًا وعقارات وأموالًا وأرصدة، فعاثوا فيها هنا وهناك، بخلاف من بنى مجده بنفسه، فإنه يحمي أمواله، ويحمي تركته ويحمي جميع ممتلكاته؛ لأنه تعِب في ذلك ونحن حينما لم نتعب بهذا الدين، كان أمرًا روتينيًّا، لكن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم طعِموا حقيقة الدين، وذاقوا قبلها طعم الجاهلية المرة، شعروا بحلاوة الإسلام، فبذلوا فيه أوقاتهم وحياتهم، فكان لسان حال الواحد منهم، ﴿ وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ﴾ [طه: 84]. أسأل الله بمنِّه وكرمه وبأسمائه الحسنى وصفاته العلى - أن يجعلنا وإياكم هداةً مهتدين، وأن يرينا الحق حقًّا، فيرزُقنا اتباعه والباطل باطلًا، فيرزُقنا اجتنابه. اللهم آتِنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقِنا عذاب النار. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |