مراحل النقل والترجمة - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         الموسوعة التاريخية ___ متجدد إن شاء الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 221 - عددالزوار : 21867 )           »          الفرق بين الفقه وأصول الفقه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          هل يقتضي النهي فساد المنهي عنه (الاتجاهات، المآخذ) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 3 - عددالزوار : 25 )           »          الشرح الممتع للشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-(سؤال وجواب) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 53 - عددالزوار : 40989 )           »          سِيَر أعلام المفسّرين من الصحابة والتابعين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 109 - عددالزوار : 69012 )           »          شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 64 - عددالزوار : 34446 )           »          متابعة للاحداث فى فلسطين المحتلة ..... تابعونا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 14646 - عددالزوار : 868491 )           »          شرح سنن أبي داود للعباد (عبد المحسن العباد) متجدد إن شاء الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 617 - عددالزوار : 199908 )           »          كبر الهمَّة في العلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          علماء الحديث مهرة متقنون/ الإمام البخاري وشيخه أبو نعيم نموذجا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > الملتقى العلمي والثقافي
التسجيل التعليمـــات التقويم

الملتقى العلمي والثقافي قسم يختص بكل النظريات والدراسات الاعجازية والثقافية والعلمية

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 16-01-2025, 11:46 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,489
الدولة : Egypt
افتراضي مراحل النقل والترجمة

مراحل التجسير الحضاري العلمي

أ. د. علي بن إبراهيم النملة

عند الحديث عن ظاهرة التجسير الحضاري العلمي من خلال النقل والترجمة إلى اللغة العربية نجد أن في الأمر سعة، بحيث نستطيع أن نجزئ هذا القسم إلى أطوار عصرية، نبدؤها بالعصر الجاهلي ثم عصر صدر الإسلام ثم العصر الأموي فالخلافة العباسية، ويمكن البسط في هذه العصور بحسب ما أسهمت به في ظاهرة التجسير الحضاري من خلال النقل والترجمة،ويرجع في هذا البسط إلى كتاب المؤلِّف: النقل والترجمة في الحضارة الإسلامية، الذي تعتمد هذه الورقة عليه[1].

العصر الجاهلي:
كان هناك في العصر الجاهلي نقل إلى اللغة العربية، ويذكر المستشرق الألماني كارل بروكمان أن أقدم ترجمة عربية ربما كانت ترجمة الإنجيل، التي نشأت في بطريركية أنطاكية، ثم نقلت إلى بطريركية القدس أورشليم، قبل حرب الإمبراطور هرقل ضد القدس،وربما وجدت إلى جانب هذه الترجمة ترجمة للإنجيل في الجاهلية، نقلت عن الآرامية الفلسطينية المسيحية[2].

كانت هناك تبادلات تجارية استدعت معرفة اللغات، وربما النقل منها[3]،إلا أنه ربما قيل: إن هذا النقل جاء عفويًّا، اعتمد فيه عرب الجاهلية على الذاكرة والتطبيق؛ إذ إن العرب أصحاب حفظ ورواية، أكثر من اعتمادهم على الكتابة[4]،وكان هناك حنفيُّون ونصارى عرب شمال الجزيرة وجنوبها،كما كان هناك يهود عربٌ يقرؤون التوراة بالعربية[5].

عصر صدر الإسلام ( - 40هـ/ 661م):
في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين زاد حجم التجسير بالأمم الأخرى، وأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم الوفود تحمل رسائل منه، تدعو ملوك الأمم الأخرى إلى الدخول في الإسلام،وكانت الرسائل باللغة العربية، فتنقل إلى اللغات المرسلة لأهلها عن طريق المترجمين[6]،وفي لسان العرب لابن منظور إشارة لهذا[7].

يذكر أحمد أمين في كتابه: فجر الإسلام رواية عن زيد بن ثابت الأنصاري أنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: ((إني أكتب إلى قوم فأخاف أن يزيدوا عليَّ أو أن ينقصوا؛ فتعلَّمِ السريانية))، فتعلمتها في سبعة عشر (17) يومًا[8]،وفي: أسد الغابة في معرفة الصحابة: "...وكانت ترِد على رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب بالسريانية، فأمر زيدًا فتعلَّمها، وكتب (زيد) بعد النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر، وكتب لهما معًا معيقب الدوسي أيضًا"[9]،يوحي هذا ببواكير النقل والترجمة في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، ويمكن أن يقال: إن زيدًا كان ترجمان الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر[10]،ومن هنا يمكن أن يقال: إن النقل والترجمة، وقبلها تعلم اللغات، قد تكون ضرورة دينية، كما هي ضرورة دنيوية[11].

يذكر أنه قامت صداقة وطيدة بين الوالي العربي المسلم عمير بن سعد بن أبي وقاص الأنصاري (توفي سنة 26هـ/ 646م)، والبطريق يوحنا الثاني (10 - 28هـ/ 631 - 648م)، الذي قام اعتمادًا على طلب الوالي بترجمة الأناجيل إلى العربية، فندب لهذه المهمة مترجمين من بني عقيل وتنوخ وطيئ، وتمت أول ترجمة عربية للعهد الجديد في أديرة الرقة والجزيرة سنة 143هـ/ 760 م[12].

على أي حال، كان القرن الأول الهجري، السابع الميلادي، لا سيما النصف الأول منه، يمثل مرحلة أولى من مراحل الاستقبال أو الأخذ، ولم يمضِ وقت طويل على مرحلة الأخذ، التي نتجت عن طريق التجسير البشري حتى ابتدأت حركة نقل الكتب وترجمتها في القرن الأول نفسه،يقول فؤاد سزكين: "كانت الترجمات الأولى من اللغة الإغريقية أو الفهلوية (البهلوية) والفارسية المتوسطة، وبعدها ترجمت بعض الكتب من السريانية، ثم ابتدأت عملية الترجمة من السنسكريتية"[13]، وهذا خلاف الانطباعة التي تركتها بعض الدراسات من أن النقل والترجمة من اللغة السريانية إلى اللغة العربية قد سبقت النقل والترجمة من اللغة الإغريقية إلى اللغة العربية[14].

العصر الأموي (40 - 132هــ/ 660 - 749م):
يُغفل بعض المؤرخين أثر الأمويين في التجسير الحضاري بأنواعه، ومنها حركة النقل والترجمة، ويذكر أنها كانت في عهدهم مهجورة،وينقل هذا الزعم حاجي خليفة في كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون،ويرد عليه بما سيتم توثيقة أدناه وغيره[15].

بدأ التجسير الحضاري من خلال حركة النقل والترجمة في هذا العصر مع الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما (توفي سنة 60هــ/ 679م)، وكان محبًّا للاطلاع على سياسات الملوك وسِيَرهم، وكان لديه من ينسخون له الكتب التي يبدو أنها كانت مترجمة عن اللغات الإغريقية واللاتينية والصينية، على إثر تسلمه لهدية من ملك الصين كانت كتابًا ترجم في عهده أو بعيد عهده[16]،ثم تتواتر الروايات حول خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان (توفي 85هــ أو 90هــ)، الذي أطل على الخلافة ثلاثة أشهر فقط، ثم آثر التفرغ للعلم، فكان مولعًا بالصنعة/ الكيمياء[17].

من هنا يمكن أن تعد مكتبة معاوية بن أبي سفيان بدمشق في المركز الأول من مراكز التعريب أو النقل أو الترجمة إلى اللغة العربية، وأن خالد بن يزيد قد طور هذه المكتبة/ المركز، الذي يذكر أنه كان يدعى بيت الحكمة، فأغناها بكتب الحديث وكتب الكيمياء والفلَك والطب والفلسفة، وأنشأ فيها حركة لنقل الكتب الأجنبية وترجمتها من اللغات السريانية والإغريقية والقبطية واللغات الأوروبية الأخرى، إلى اللغة العربية[18]،وجمع لها العلماء في مجالات شتى، فأعطى بيت الحكمة في دمشق طابعه الخاص[19].

كان مروان بن الحكم (توفي سنة 65هـ/ 684م)، مشغولًا بقمع الفتن فلم يلتفت إلى أن بعض الدواوين في الدولة قد طغت عليها السريانية والفارسية، فحاول ابنه عبدالملك بن مروان (توفي سنة 86هـ/ 705م) لفت نظره إلى هذا، ولكنه لم يوفق إلا عندما أصبح خليفة، فعمد إلى تعيين سليمان بن سعد الخشني على ديوان الشام خلفًا لرئيس الديوان الراحل سرجون بن منصور الرومي،وكلفه بنقل الديوان إلى اللغة العربية،وكذا فعل الحجاج بن يوسف الثقفي (توفي سنة 95هـ/ 713م) والي العراق حينما طلب من صالح بن عبدالرحمن تعريبَ ديوان الطرق.

طغى هذا الاهتمام بالتعريب - بالإضافة إلى تعريب العملة وسكها ونقشها - على حياة الخليفة[20]،وقد عمد الخليفة عبدالملك بن مروان إلى ذلك؛ بسبب "تهديد قيصر الروم له بأن ينقش على الدنانير التي يتداولها أهالي دار الإسلام ما يُكره عن النبي صلى الله عليه وسلم"[21]،ويذكر القفطي في: أخبار الحكماء أنه زمن خلافة مروان بن الحكم نقل أول كتاب طبي إلى العربية، هو كناش القس أهرن (هارون) بن أعين، نقله الطبيب البصري ماسرجويه من اللغة السريانية إلى اللغة العربية[22].

استمر الوليد بن عبدالملك (توفي سنة 96هـ/ 714م) على خطى أبيه عبدالملك بن مروان في تعريب الدواوين وتعريب الدولة[23]،وقد اعتنى بتموين مكتبة ضمت إلى جانب المصاحف والأسفار والقصص كتبًا أجنبية، كان ولاتُه وقُواده يعودون بها بعد الفتوح، ومنها ما عاد به القائد طارق بن زياد (توفي سنة 102هـ/ 720م) بعد فتحه للأندلس من كتب في النصرانية والكيمياء والعلوم الطبيعية[24].

كان عمر بن عبدالعزيز (توفي - رحمه الله تعالى - سنة 101هـ/ 719م) قد وجه الخلافة الوجهة التي كان ينبغي أن تستمر عليها، على غرار ما كان عليه الخلفاء الراشدون،وكان لظاهرة التجسير الحضاري من خلال النقل والترجمة في عهده نصيب يكاد يأتي بالمقام الثاني بعد اهتمام خالد بن يزيد، ويذكر ابن أبي أصيبعة أن عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله تعالى - وجد ترجمة كتاب أهرن في الطب في خزائن الكتب، "فأمر بإخراجه، ووضعه في مصلاه، واستخار الله في إخراجه إلى المسلمين للانتفاع به، فلما تم له في ذلك أربعون صباحًا أخرجه إلى الناس وبثه في أيديهم"[25].

تستمر ظاهرة التجسير الحضاري في عهد الخليفة هشام بن عبدالملك (توفي سنة 125هـ/ 742م)، فيترجم له أكثر من كتاب[26]، وكان لديه من يترجم أو يراجع الترجمات، مثل أبي العلاء سالم بن عبدالملك، ويذكر أنه سالم بن عبدالله[27]، ومثل جبلة بن سالم[28].

مع هذه الجهود القيمة في التشجيع على النقل والترجمة من اللغات الأخرى يظهر رأي يقول: "ولم يسجل الخلفاء الأمويون عناية كافية بالترجمة العلمية، بسبب ما كان يغلِب عليهم من الشغل السياسي والعسكري، واستهلاك الجهد العلمي في تدوين السنن وتحرير العلوم الشرعية، ورغم هذا فإنه لا يستبعد حصول ذلك على نطاق محدود، حيث كانت مدن الشام خصوصًا لا تزال تعِجُّ بالجاليات اللاتينية البيزنطية"[29].

نُظر إلى حركة النقل والترجمة في هذا العهد على أنها "محاولات فردية ولم تتخذ شكل حركة علمية منظمة كتلك التي حدثت في العصر العباسي"[30]،ورغم هذه النظرة للعصر الأموي نجد من لا يُغفل الجهود التي قام بها بنو أمية، فيقسم حركة النقل والترجمة إلى أربعة أدوار، الدور الأول منها حركة النقل والترجمة في العصر الأموي[31].

العصر العباسي (132 - 656هـ):
العصر العباسي على العموم هو عصر ازدهار العلوم في الخلافة الإسلامية، وهذا ما حدا ببعض الباحثين إلى الذهاب إلى أن ظاهرة التجسير الحضاري من خلال النقل والترجمة قد بدأت مع بداية العصر العباسي، الذي انطلق سنة 132هـ/ 749م،وحيث إن الخلافة العباسية ممتدة من حيث الزمان فقد قسمت حركة النقل والترجمة فيها على ثلاثة أطوار أو أدوار، يقول أحمد بن محمد بن عبدالله الدبيان: "اعتاد كثير من الباحثين ومؤرخي العلوم تقسيم حركة النقل والترجمة العربية إلى ثلاثة أدوار ذات بداية ونهاية معلومة...وهذا التقسيم تنقصه الدقة الكافية؛ لأنه يصعب إقامة فواصل دقيقة بين أدوار الترجمة، أو تحديدها بسنَة معينة، كما أنه قد أغفل الترجمة في العصر الأموي، كما هو ظاهر"[32].

يُسهم شحادة الخوري في هذا التوجه؛ حيث يكتفي بتقسيم العصر العباسي، بالنسبة إلى حركة النقل والترجمة، إلى دورين اثنين فقط: يمتد الدور الأول من قيام الخلافة العباسية إلى بداية عهد الخليفة عبدالله المأمون، ويبدأ الدور الثاني بتولي الخليفة عبدالله المأمون الخلافة، وينشط طيلة عهده، ويستمر بعده على وهن وضعف[33].

الذين ذهبوا إلى تقسيم حركة النقل والترجمة في العصر العباسي إلى أطوار ثلاثة يقسمونها على النحو الآتي:
الطور الأول: يبدأ بالخليفة أبي جعفر المنصور (توفي سنة 158هـ/ 774م)، والخليفة هارون الرشيد (توفي سنة 193هـ/ 808م) بين سنتي 136 و193هـ/ 753 و808م.

الطور الثاني: يبدأ في عهد الخليفة عبدالله المأمون؛ أي: من سنة 198هـ/ 813م إلى سنة 300هـ/ 912م، ويغطي هذا الطور قرنين من الزمان، هما أجلُّ الأطوار الثلاثة، بل وأجلُّ حركة النقل والترجمة في الحضارة الإسلامية، على الإطلاق.

الطور الثالث: يبدأ من سنة 300هـ/ 912م إلى نهاية الخلافة العباسية سنة 656هـ/ 1258م، ورغم طول هذا الطور الزمني، إذ امتد ثلاثة قرون ونصف، فإنه كان يمثل مرحلة النزول في المنحنى الذي بلغ أوجه ارتفاعًا على عهد الخليفة عبدالله المأمون[34].

الطور الأول (136 - 193هـ/ 753 - 808م):
يتميز هذا الطور بأنه بداية مرحلة التأصيل والانتقال من مرحلة الأخذ أو الاستقبال إلى مرحلة التمثل[35]، وهو البداية فقط؛ إذ لا زال يشهد هذا القرن الثاني الهجري حال التلميذ النجيب الذي يتلقى العلم والمعرفة؛ قصدًا إلى أن يتكوَّن فينطلق[36]، لقد أنشأ الخليفة أبو جعفر المنصور ديوانًا للنقل والترجمة، وأرسل إلى ملك الروم يطلب منه كتب الحكمة، فأرسل له الملك شيئًا منها، كما حصل على مخطوطات إغريقية بعد فتحه لعمورية[37]، وفي بداية هذا الطور انطلقت حركة تعريب الكنائس المسيحية في الأمصار الإسلامية[38].

برز عبدالله بن المقفع في عهد الخليفة أبي جعفر المنصور كأحد أعمدة النقل والترجمة من اللغة الفارسية إلى العربية، فترجم كتاب كليلة ودمنة، وترجم كتبًا ثلاثة لأرسطو عن الفارسية، هي المقولات والعبارة أو القضايا التصديقية والقياس وصورة إنتاجه، وهو الذي أعطاها أسماءها العربية[39]، ويذكر عمر فروخ أنه لعل "هنالك رجلًا آخر اسمه عبدالله بن المقفع (بن ساويرس) نقل كتب الفلسفة والمنطق والطب التي ينسب نقلها وهمًا إلى عبدالله بن المقفع صاحب كتاب كليلة ودمنة"[40]، وذكره جورج طرابيشي في معرض حديثه عن تاريخ العلمانية[41]، وقد عاش في القرن الرابع الهجري، العاشر الميلادي، وهو صاحب كتاب في اللاهوت المسيحي عنونه: مصباح العقل[42].

كلف الخليفة أبو جعفر المنصور إبراهيم بن حبيب الفزاري بالاشتراك مع أحد علماء الهند الذين قدموا على الخليفة بترجمة كتاب برهم كبت: سد هانت؛ أي: كتاب سد هانت للمؤلف العالم الهندي الكبير برهم كبت، أو براهم غبت، الذي عاش في القرن الخامس الميلادي.

استقدم الخليفة بأبو جعفر المنصور الطبيب جرجيوس بن بخيتشوع، ولم يقتصر استقدامه على تطبيبه فقط، بل كان هذا الاستقدام منطلقًا لحركة نقل كتب الطب وإنشاء المكتبات في البيمارستانات، ووقف المترجمين لنقل التراث الذي قدم به القواد والفاتحون، فبدأت المسيرة في التوسع والانطلاق به وبأمثاله لإحياء العلوم بمختلف فروعها[43]، وقد قيل: إن الخليفة أبا جعفر المنصور هو الذي أنشأ بيت الحكمة ببغداد[44]، وقيل عنه أيضًا: إنه هو الذي يعرِّض الأموال العامة للخطر عندما كان "يدفع لهؤلاء العلماء (النقَلة والمترجمين والمؤلفين) أثمان المؤلفات الجديدة (منقولة أو مترجمة أو مؤلفة ابتداءً) بما يساوي أوزانها ذهبًا"[45].

يأتي عهد الخليفة هارون الرشيد امتدادًا لعهد الخليفة أبي جعفر المنصور بعد أن انشغل كل من الخليفة المهدي (توفي سنة 169هـ/ 785م) والخليفة الهادي، (توفي سنة 170هـ/ 786م) في التخلص من حركة الزندقة التي يمكن أن تعد أثرًا من آثار حركة النقل والترجمة؛ إذ لم تقتصر هذه الحركة على نقل التراث العلمي فحسب، ولكن كان للزندقة والأفكار الدخيلة نصيب في النقل، مما كان له الأثر على المجتمع المسلم في عقيدته[46].

بالإضافة إلى امتداد شهرة آل بختيشوع في مجال التجسير الحضاري من خلال الترجمة والنقل في عهد الخليفة هارون الرشيد[47]، اشتهر النقلة والمترجمون من الأفراد والأسر، مثل: يوحنا ابن ماسويه والحجاج بن يوسف بن مطر، وينظر إلى ابن ماسويه على أنه أول عربي تولى النقل والترجمة والتأليف والعلاج، وإن لم يبلغ في أيها مبلغًا كبيرًا[48]،وأسرة بني موسى بن شاكر محمد وأحمد والحسن الذين خصصوا دارًا (مركزًا) للنقل والترجمة ببغداد، وأسرة المنجم، بداية من يحيى بن أبي منصور المنجم[49]، وكانت للبرامكة إسهاماتهم في هذا المجال؛ إذ كانوا يسعون إلى إشاعة الثقافة الفارسية في البلاد الإسلامية، فشجعوا النقل والترجمة، وأمروا بنقل الذخائر الفارسية النفيسة إلى اللغة العربية[50]، وكذلك محمد بن عبدالملك الزيات وزير المعتصم والواثق، وكان يقارب عطاؤه للنقلة والنساخ ألفي (2000) دينار في الشهر، وإبراهيم بن محمد بن موسى الكاتب، وكان حريصًا على نقل كتب اليونان وترجمتها إلى اللغة العربية، وتادري أو تادرس الأسقف في الكرخ، وعيسى بن يونس الكاتب الحاسب من أهل العراق، وشيرشوع بن قطرب من أهل جُندَيسابور وغيرهم.

لم يشتهر في عهد الخليفة الأمين (توفي سنة 198هـ/ 813م) في هذا المجال شيء يذكر سوى اهتمامه بالطب امتدادًا لاهتمام والده فيه[51]، ومن أبرز من عملوا مع الخليفة الأمين جبريل بن بختيشوع، حفيد جورجيوس بن بختيشوع[52].

الطور الثاني (197 - 300هـ/ 812 - 912م):
يَشغَل هذا الطورُ قرنين من الزمان يعدان قرني النقل والترجمة، ويتوج هذا الطور الخليفة عبدالله المأمون الذي كان شغوفًا بالعلم والعلماء والحكمة، وصل فيها إلى درجة نظر إليها على أنها ضرب من الإفراط المحبب، الذي نالت فيه الحضارة الإسلامية نصيبًا وافرًا من الالتفات إلى الحضارات الأخرى شرقيها وغربيها، وذلك من خلال جلب الكتب العلمية المخطوطة من الشرق والغرب ونقلها وترجمتها إلى اللغة العربية.

كما هي الحال مع الخليفة هارون الرشيد في توجه الأُسر والموسِرين من أهل الخلافة، كان عهد الخليفة عبدالله المأمون يزخر بالأُسر التي عُنيت بالنقل والترجمة والعلوم والآداب واستقطاب النقلة والمترجمين والورَّاقين، يقول جرجي زيدان في هذا: "واقتدى بالمأمون كثيرون من أهل دولته، وجماعة من أهل الوجاهة والثروة في بغداد، فتقاطر إليها المترجمون من أنحاء العراق والشام وفارس، وفيهم النساطرة واليعاقبة والصابئة والمجوس والروم والبراهمة، يترجمون من اليونانية والفارسية والسريانية والسنسكريتية والنبطية واللاتينية وغيرها، وكثر في بغداد الوراقون وباعة الكتب، وتعددت مجالس الأدب والمناظرة، وأصبح همُّ الناس البحث والمطالعة، وظلت تلك النهضة مستمرة بعد المأمون إلى عدة من خلفائه، حتى نقلت أهم كتب القدماء إلى العربية"[53]،ويبرز في هذا الطور الجنوح إلى العمل المؤسسي في النقل والترجمة، من حيث إنشاء مراكز للنقل والترجمة، مثل: بيت الحكمة ببغداد[54].

الذي يُهمنا هو القول بأن عهد الخليفة المأمون يعد أرقى مراحل التجسير الحضاري من خلال النقل والترجمة من حيث الكم ومن حيث الكيف، ففي عهده كثر النقلة والمترجمون، وكانوا قسمين:
قسم ينقل من اللغات الأخرى إلى اللغة العربية، وقسم آخر ينقل من لغة أجنبية إلى لغة أجنبية أخرى، كأن يترجم من اللغة اليونانية إلى اللغة السريانية، أو من اللغة السريانية إلى اللغة الفارسية، "حتى إذا انتهى هؤلاء من ترجماتهم تولى مترجمون غيرهم (من الفريق الأول) نقل تلك الترجمات إلى اللغة العربية"[55].

المأمون هو الذي جعل من شروط الصلح مع أعدائه أن يزودوه بما لديهم من كتب؛ فقد حصل هذا مع حاكم صقلية، تردد الحاكم في تلبية الطلب إلى أن أشار عليه المطران الأكبر بقوله: "أرسلها إليه؛ فوالله ما دخلت هذه العلوم في أمة إلا أفسدتها"، فأرسلها إليه[56]، وحصل هذا مع الإمبراطور البيزنطي ميخائيل الثالث؛ إذ كان من شروط الصلح أن ينزل ميخائيل الثالث للخليفة المأمون عن إحدى المكتبات الشهيرة في القسطنطينية[57]،على أي حال كانت الكتب قد ألقيت في السراديب عندما انتشرت النصرانية في اليونان، وكان ملوك الروم قد جمعوا الكتب من أيدي الناس، وجعلوها في هيكل قديم، وأغلقوا عليها بابه، ففتح ملك الروم توفيل هذا الهيكل، وأرسل خمسة أحمال من كتب الحكمة إلى الخليفة المأمون لتكفيه مؤونة إرسال الأموال[58]،وقد قيل: خمسة يوضعون في قمة قيادة الحركة العلمية في العصر الإسلامي الزاهر: المأمون ونظام الملك ونور الدين زنكي والحاكم بأمر الله وصلاح الدين الأيوبي[59].

في هذا الطور تبدأ مرحلة الإبداع والتأصيل التي مهدت لها مرحلتا الأخذ والتمثُّل[60]،فظهر في هذا الطور العلماء المؤصِّلون، فأضحت الترجمات في معظمها خالية من العيوب، "بل يمكن عدها آثارًا شامخة تدل على عناية وإخلاص وصدق في عملية الترجمة"[61].

كانت حركة النقل والترجمة عن اللغة الإغريقية مباشرة في عصر الخلافة الأموية شبه معدوم، ثم صار في المنزلة الثانية في الطور الأول من العصر العباسي، فأصبح ندًّا في بداية الطور الثاني، وتغلَّب على النقل السرياني في النصف الثاني من الطور الثاني، حيث أصبح النقل والترجمة من السريانية في المنزلة الثانية بعد اليونانية[62].

يبرز في هذا الطور يعقوب بن إسحق الكندي، الذي يمثل نقطة التحول في هذا المجال، مع أنه لم يترك الترجمة، إلا أنه كان ينتقد أصحاب الكتب المترجمة ويخطئهم، ويعد واحدًا من أربعة حذاق الترجمة في الإسلام: حنين وثابت بن قرة وعمر بن الفرخان والكندي"، هذا بالإضافة إلى سعة إسهاماته الإبداعية التأصيلية في فروع شتى[63]،كما يبرز يوحنا بن البطريق والحجاج بن يوسف بن مطر وقسطا بن لوقا وعبدالمسيح بن ناعمة الحمصي وحنين بن إسحاق وإسحاق بن حنين بن إسحاق وثابت بن قرة الصابئ وحبيش بن الأعسم وغيرهم، وقد قيل عن حنين بن إسحاق: إنه يمثل العصر الذهبي للنقل والترجمة[64].

يتبع


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 122.35 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 120.63 كيلو بايت... تم توفير 1.72 كيلو بايت...بمعدل (1.40%)]