|
فتاوى وأحكام منوعة قسم يعرض فتاوى وأحكام ومسائل فقهية منوعة لمجموعة من العلماء الكرام |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() سد باب الاجتهاد .. وما ترتب عليه بقلم: عبد الكريم الخطيب 1 - لقيت الدعوة إلى سد باب الاجتهاد في أواخر القرن الثالث الهجري استجابة من الغيورين على دين الله، وشريعة الإسلام، وذلك حين أصبح الدين نهبا مشاعا لذوي النفوس المريضة، من الذين اتخذوا من الدين تجارة رائجة في دنيا استبد فيها سعار المادة، وتكالب ذوي الأهواء على المال، والسلطان، وما وراء المال والسلطان من اقتدار على إشباع للشهوات، واقتناص اللذات .. وكان الدين في يد العابثين به، المتحللين من شريعته طريقا سهلا إلى هذه الغاية، فكثر أدعياء العلم المتزيين بزي الفقهاء، وأصحاب الفتيا في شرع الله بغير علم، وبغير دين. فكان الذين دعوا إلى سد باب الاجتهاد، والوقوف بأحكام الشريعة إلى الحق الذي انتهى عليه عصر أئمة الفقه - إنما يريدون أن يقفوا في وجه هذه الضلالات الزاحفة على الشريعة الإسلامية، وأن يوقفوا هذا النزيف الذي يمتص دم الحياة منها، وإذ لم يكن من الممكن علاج الداء، فلا أقل من أن تلتمس الوسيلة التي تقف به عند حده .. وإذ لم يكن من المستطاع مد الشريعة بدم جديد يسرى في عروقها، فليكن من الحكمة أن يحال بينها وبين تلك الدماء الفاسدة الغزيرة أن تنفذ إليها .. وسواء أنجح هذا التدبير الداعي إلى سد باب الاجتهاد، النجاح الذي كان مرجوا منه في وقف تيار المقولات المضللة المحسوبة على الدين، أم لم ينجح، فإنه - على أي حال - كان أمرا لا بد منه، إذا لم يكن من الإمكان متجه آخر غيره، حيث أنه قد سدت المسالك، وبلغ السيل الزبا .. وإنه إذا عد هذا موقفا سلبيا، فإنه على ما به قد حمل الناس على التشكك فيما يأتيهم من خارج المقولات المأخوذة من أئمة المذاهب الفقهية الأربعة، التي وثق بها المسلمون، واطمأنوا إليها، ورضوا بها .. ولكن حين ينظر إلى سد باب الاجتهاد، خارج نطاق الفترة التي اقتضتها ملابسات الظروف والأحوال التي دعا فيها الداعون إليه - يظهر الخطر الذي يتهدد الشريعة الإسلامية، بما ينضح على العالم الإسلامي من آثاره السيئة، وذلك من وجوه .. فأولا: أن الحياة في تطور وتغير، وأن الحوادث والواقعات لا تحصر .. ومن غير المعقول أن تجئ شريعة سماوية بكل كبيرة وصغيرة تقع في الحياة، وترسم الطريق، وتبين الحكم فيها، اللهم إلا إذا كانت تلك الشريعة لوقت موقوت، ولعدد من الناس محدود، - وهذا غير وارد أيضا - فكيف إذا كانت الشريعة كاملة لجميع الناس والأجناس، ممتدة في الزمان إلى آخر الحياة المقدورة للناس على هذه الأرض؟. وثانيا: إذا كان الأمر على ما ذكرنا، فقد اقتضت حكمة الله تعالى أن تجئ شريعة الإسلام بالأصول العامة للحياة من حلال وحرام أما الفروع والجزئيات، فقد ترك للناس أخذ حلالها وترك حرامها بردها إلى تلك الأصول .. فما جانس تلك الأصول وشابهها، انضم لها، وصحة نسبته إليها، فما كان من الحلال كان حلالا، وما كان من الحرام كان حراما .. وهذا ما يشير إليه الرسول الكريم في قوله: (( الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهة، فمن ترك ما شبه من الإثم كان لما استبان أترك، ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أو شك أن يواقع ما استبان )) . وكون الحلال بينا، والحرام بينا، معناه أن في كل منهما سمات تنم عليه، وتحدث عنه كالنور والظلام، لا يختلف عليهما الناس، ولا يقع في شبهة منهما إلا من فقد بصره، كذلك الخير والشر، والحق والباطل، لا يزيغ عنهما إلا من أعماه هواه، وختم الله على قلبه وسمعه، وجعل على بصرع غشاوة، ولهذا كانت دعوة الإسلام قائمة على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، كما جاء ذلك في قوله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} . وأما أن بين الحلال والحرام مشتبهات، مما لا يعلمهن كثير من الناس، فذلك هو الذي يقع الخلاف فيه، وتتعدد وجوه النظر إليه، وذلك هو الذي يحتاج إلى نظر وتدبر، يعين عليهما علم وفقه، حيث يكون الأمر في منطقة بين الحلال والحرام، فلا يستبين وجهه إلا لذي بصيرة نافذة، وقلب سليم، كإشراقة الفجر، مع غبشة الليل، لا يفرق بين الفجر الصادق أو الكاذب، إلا أهل البصر والخبرة. وثالثا: أن في الإنسان عقلا، ومن شأن هذا العقل أن يعرض فيما يعرض له، وأن يفكر فيما يفعله أو يدعه، وأن العمل الذي يأتيه من غير وعي له، وإحساس به، هو عمل آلي، لا تقوم وراءه إرادة، ولا تنفعل به، عاطفة، ولا تستجيب لندائه رغبة، وعمل كهذا لا تثبت له أصول، ولا يطلع له زهر أو ثمر .. ولهذا كانت (النية) في شريعة الإسلام أصلا من أصول هذه الشريعة، بل هي مستند كل عمل ودعامته .. وفي هذا يقول الرسول الكريم: (( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوي، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه )) . وهل تنعقد نية عن غير فهم، وتقدير، وتدبير لما ينتويه الإنسان؟ وهل الاجتهاد إلا نظر، وبحث عن الدليل الذي يأخذ منه المؤمن الحكم الشرعي لما يعرض له من أمور دينه أو دنياه؟ .. وهذا إيجاز يحتاج إلى تفصيل .. يقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} [النساء: 59] . وقد بينت هذه الآية الكريمة، أصول الدين وشريعته، والحكومة الإسلامية .. وهذه الأصول هي: الأصل الأول: كتاب الله، وهو القرآن الكريم .. والأصل الثاني: سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، القولية، والفعلية، والتقريرية .. والأصل الثالث: إجماع أولى الأمر، وهم أهل الحل والعقد، الذين تثق بهم الأمة من أهل العلم، والرأى، والخبرة .. الأصل الرابع: وهو عرض المسائل المتنازع فيها على القواعد العامة المعلومة من الكتاب والسنة. وهذا الأصل الرابع، والأصل الذي سبقه، هو الذي يجري عليه البحث والنظر، ويقع فيه الاجتهاد .. وذلك حين يعرض أمر ليس فيه نص صريح من كتاب الله، أو سنة رسول الله، إذ لا اجتهاد مع النص .. روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لما بعث معاذ بن جبل إلى اليمن، قال له: (( كيف تقضي إذا عرض لك القضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله .. قال: فإن لم يكن في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فإن لم يكن في سنة رسول الله؟ قال: أجتهد رأي ولا آلو، فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على صدره (أي صدر معاذ) وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله. وكتب عمر إلى شريح، حين ولاه القضاء، كتابا جاء فيه: (إذا وجدت شيئا في كتاب الله، فاقض به ولا تلتفت إلى غيره، وإذا أتى شيء ليس في كتاب الله، وليس في سنة رسول الله، ولم يقل فيه أحد قبلك، فإن شئت أن تجتهد رأيك فتقدم، وإن شئت أن تتأخر فتأخر وما أرى التأخر إلا خيرا لك) . وعن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: أكثر الناس يوما على عبد الله بن عمر يسألونه، فقال: أيها الناس إنه قد أتى علينا زمان، ولنا نقضى، ولسنا هناك (يشير بذلك إلى أن أمور الناس كانت معلومة لهم من الكتاب والسنة، ويقول أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ربما استحسن أمور حادثة في الحياة، فلم يكن الناس يومئذ في حاجة إلى من يقضي لهم ورسول الله معهم) ، فمن ابتلي بقضاء بعد اليوم، فليقض بما في كتاب الله، فإن أتاه ما ليس في كتاب الله، ولم يقل فيه نبيه فليقض بما قضى به الصالحون (أي أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وخلفاؤه الراشدون، لقربهم من النبي، وأخذهم عنه) ، فإن أتاه أمر لم يقض به الصالحون، وليس في كتاب الله، ولم يقل فيه نبيه، فليجتهد رأيه، ولا يقولن أني أري وأخاف (أي أرى الرأي، وأخاف أن يكون خطأ فلا يقضي به) - فإن الحلال بين والحرام بين، وبين ذلك أمور مشتبهات، فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم) .. يقول يوسف بن عبد البر القرطبي تعقيبا على هذا الخبر: (هذا يوضح لك أن الاجتهاد لا يكون إلا على أصول - من الكتاب أو السنة - يضاف إليه التحليل والتحريم، وأنه لا يجتهد إلا عالم بها، ومن أشكل عليه شيء لزمه الوقوف، ولم يجز له أن يحيل على الله قولا في دينه لا نظير له من أصل، ولا هو في معنى أصل، وهو الذي لا خلاف فيه بين أئمة الأمصار، قديما وحديثا (جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر ص 71) .. ). إن معنى إبطال الاجتهاد هو إلغاء العقل، وقتل الملكات الإنسانية، والتحول بالإنسان من كائن مكلف، أي مستقل بإرادته وتفكيره، بما يأتي وما يدع من أمور دينه ودنياه، إلى كائن آلي، يتحرك بغريزته، دون تفكير ولا تقدير!! .. على أن الإنسان مدفوع بحكم طبيعته، وما فيه من قوى عاقلة مدركة، إلى أن يعمل عقله، ورأيه في كل شأن من شئونه، وبهذا يقع الصراع بينه وبين الحياة فيما يطلبه منها، وهي تأباه عليه، فلا يهدأ حتى ينتصر، وينال ما يريد، أو يلقي الموت .. كما يقع الصراع بينه وبين الناس، فيما يختلفون فيه، ويتسابقون إليه. حيث لكل تفكيره وتقديره، ولكل حوله وحيلته، كما يقول تعالى: {ولكل وجهة هو موليها} . فالقول بتحريم الاجتهاد أو إبطاله تحت أي ظرف، ولأية داعية، هو مصادمة للطبيعة الإنسانية، وحمل الإنسان على ما لا يقدر عليه، لأنه لا يستطيع أن يكف عن التفكير، وتقليب وجوه الرأي في كل ما يعرض له من كبير الأمور وصغيرها سواء في صلته بخالقه، أو صلته بالناس، أو الطبيعة والكائنات جميعا، ولن يكف الإنسان عن هذا ما دام معه عقله، وما دام فيه نبض الحياة! .. ونحن نعلم أن القائلين بسد باب الاجتهاد، إنما يعنون بذلك الاجتهاد في أمور الدين، لا فيما يتصل بشئون الحياة وسعى الناس فيها، وتقلبهم في ميادين العمل منها .. ونحن نعلم أن سد باب الاجتهاد الذي دعا إليه الداعون منذ قرون إنما كان مرادا به ألا يفتي أحد في المسائل العارضة التي يستحدثها الناس، وألا يقول رأى الدين فيها، وأن يقف المسلمون عند ما انتهى إليه أصحاب المذاهب الأربعة: مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وأحمد بن حنبل (عند أهل السنة) .. ومعنى هذا أنه إذا عرض للمسلمين أمر، أو جد حدث غير معهود لهم، ثم أرادوا أن يتبينوا موقف دينهم منه، من الحل والحرمة، أو من الإباحة والحظر، كان عليهم أن يرجعوا إلى ما قرره أصحاب المذاهب الأربعة في هذا الحدث العارض، فإن وجدوا الجواب عندهم أو عند أحدهم، أخذوا به، وإلا توقفوا فيه، وجمدوا عنده، وأخلوا أيديهم منه .. ولقد ترتب على هذا أمور خطيرة منها: أولا: توقف الحركة العقلية عند المسلمين، إزاء كل جديد تلده الحياة، والحياة ولود، لا تتوقف عند الولادة أبدا، فهي تلد كل يوم جديدا لم تكن تعرفه الإنسانية من قبل .. وكان من هذا أن مضى الناس - من غير المسلمين - يواجهون كل جديد، ويتعاملون معه، ويستولدون منه جديدا .. وهكذا سار الناس - من غير المسلمين - قدما مع الحياة، ووقف المسلمون حيث هم لا يبرحون مكانهم الذي كان عليه الآباء والأجداد منذ بضعة قرون! .. وثانيا: أن الحياة تدور في هذا العصر، في فلك السرعة المجنونة التي لم يعرفها الناس من قبل، حيث تلبس كل يوم ثوبا جديدا، ثم لا تلبث حتى تخلعه لتلبس غيره، قبل أن تغرب شمس اليوم الذي لبسته فيه .. لا لأن هذا الثوب قد بلى، أو بهت، وإنما هي الرغبة في التحول السريع من حال إلى حال، تبعا لحركة الحياة المنطلقة انطلاق العاصفة .. إن اليوم في عصرنا هذا، ليس أربعا وعشرين ساعة، كما كنا نعهده ويعهده آباؤنا من قبل، وإنما هو عصر كامل، حيث يولد الناس كل يوم ميلادا جديدا، ويستقبلون كل يوم عصرا جديدا، كان في حساب الزمن - قبل يومنا هذا - يحسب بمئات السنين! فابن الأمس من أبنائنا ليس هو ابن اليوم، وابن اليوم لا يكون هو ابن الغد .. والمرء منا ينكر اليوم ما كان عليه بالأمس،، كما سينكر غدا ما هو عليه اليوم .. حيث استطاع العلم أن ينسخ في كل يوم آيات من آياته، ليستبدل بها غيرها من كل ما هو جديد وطريف! فمن صحب حركة العلم، عاش مع الناس في عصرهم، ولبس ثوب المدنية والحضارة الذي يلبسونه، ومن لم يصحب الحياة في حركتها المنطلقة بالناس، ظل حيث هو، مع حياة أبناء الغابات والأدغال، ثم لا على الناس بعد هذا إذا هم لم يحفلوا به، ولم يلتفتوا إليه، أو إذا هم اعتبروه أداة مسخرة لهم، كما تسخر الأنعام! وثالثا: أن دعوة الحياة إلى الناس، بالتحرك مع المتحركين فيها، قد حملت أعدادا غير قليلة من المسلمين على أن يستجيبوا لتلك الدعوة، ثم إنهم إذ لم يجدوا من دينهم - الذي سد عليهم باب الاجتهاد فيه - ما ينير لهم الطريق، انقادوا لغيرهم، غير ناظرين إلى الدين، ومن نظر منهم إليه، نظر إليه نظر مودع إلى غير لقاء، أو صحبه على دخل ونفاق!! .. - 3 - تلك هي بعض ما جنته تلك الدعوة التي سدت على المسلمين باب الاجتهاد، أرتهم في دينهم أنه في عزلة عن الحياة، وأنهم إذا تمسكوا به عزلوا عن المجتمع الإنساني، وما تزخر به الحياة في هذا العصر من مبدعات العلوم والفنون. والسؤال هنا هو: هل في الإسلام، وفي شريعة الإسلام، ما يحمل المسلم على التوقف في مسيرة الحياة عند القرن الثالث أو الرابع من الهجرة، حيث تقررت المذاهب السنية الأربعة؟ وهل لا يتعامل الدين مع الحياة إلا في إطارها الذي شهده أصحاب المذاهب الأربعة؟ وننظر فنرى أن هذا أمر أبعد ما يكون عن الإسلام، وعن شريعة الإسلام، وأن ذلك إن يكن من الإسلام أو من شريعة الإسلام، فلن يكون هذا الدين خاتم الرسالات السماوية، ولن يكون رسوله خاتم النبيين .. وننظر مرة أخرى، فنرى أن قيام هذه المذاهب، هو إعلان صريح، وشاهد ناطق، بأن تعددها والخلاف الذي بينها في الفروع، وهو الدليل على أن الاجتهاد هو الأساس الذي قامت عليه، وإلا لكانت مذهبا واحدا، وقولا واحدا في هذه الفروع الذي اختلفت الأئمة فيها، حيث كان لكل إمام اجتهاده، ورأيه في مفهوم النص الشرعي، أو الأثر الذي أقام عليه رأيه في هذا الأمر أو ذاك، بل إن تلاميذ هؤلاء الأئمة خالفوهم، وقالوا بغير ما يقولون في كثير من الأمور!! .. وننظر مرة ثالثة، فنرى أن المعلم الأول، والإمام الأول، والمبين الأول لشريعة الله، محمد - صلوات الله وسلامه عليه - قد علمنا الدرس الأول في الاجتهاد، وقياس الغائب على الشاهد، والفرع على الأصل، حتى نمضي في طريقنا مع الحياة، وعرض كل ما يجد في حياتنا من أحداث، على الأصول العامة في شريعتنا الغراء. وإنا لن نعدم أبدا من النظر، والاجتهاد، أن نجد الجواب لكل ما يعرض لنا من مشكلات الحياة، وما تلده من أحداث، إلى أن ينتهي دور الإنسانية على هذه الأرض! .. ونذكر هنا، بعض ما كان من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالوا يا رسول الله، ذهب أهل الدثور (أهل الدثور: أي أصحاب المال والثراء) بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم ولا نتصدق. قال: (( أو ليس قد جعل الله ما تصدقون؟ إن لكم بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة،، وفي بضع أحدكم صدقة (هو كناية عن مباشرة الرجل زوجته) .. قالوا يا رسول الله، أيقضي أحدنا شهوته، ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم أو وضعها - أي شهوته - في حرام، أكان عليه وزر؟ فكذلك لو وضعها في الحلال، كان له أجر )) . والشاهد في هذا المقطع الأخير من الحديث الشريف، وهو في هذا القياس بين قضاء الشهوة في حلال، وقضائها في الحرام .. ففي قضائها في الحرام وزر، وإذن يكون لقضائها في الحلال أجر .. وفي الحديث المتفق عليه أن رجلا من فزارة، جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله .. (إن امرأتي ولدت غلاما أسود!!) .. أي أنه ينكر على زوجته أن تلد هذا الغلام أسود اللون، ليس من جلد أمه، أو أبيه .. فبين له الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - أن هذا غير منكر، وضرب لذلك مثلا من الإبل، وأنها قد تنتج الأوراق (الأوراق من الإبل الأسود في غبرة) إذا نزعه عرق - أي إذا اتصل هذا المولود منها بعرق من عروق أصوله البعيدة .. وكذلك المرأة البيضاء تلد الأسود إذا نزعه عرق من أصوله البعيدة لأبيه أو لأمه! .. وفي حديث عمر رضي الله عنه، أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عن قبلة الصائم امرأته .. فلم يجبه الرسول الكريم جوابا مباشرا عن حل ذلك أو حرمته، بل ضرب مثلا يقيس عليه هذا، فيعلم الحكم فيما سأل عنه، فقل له صلوات الله وسلامه عليه: (( أرأيت لو تمضمض - أي الصائم - بماء ومجه (مجه: أي ألقاه من فمه إلى الخارج) وهو صائم؟ فقال عمر: لا بأس، فقال - صلى الله عليه وسلم - فكذلك هذا. )) وبهذا القياس يتقرر الحكم، ويتضح بأجلى صورة، وأظهر بيان. وفي حديث الخثعمية، التي سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحج عن أبيها، الذي مات ولم يحج: هل يجوز أن تحج عنه؟ فلم يقل لها الرسول - صلوات الله وسلامه عليه: حجي عن أبيك، بل ضرب لها مثلا تتبين منه أن تحج عن أبيها، قضاء لهذا الدين، الذي عليه لله، فقال لها: أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته، أكان ذلك ينفعه؟ قالت: نعم، فقال: فدين الله أحق )) !! وهكذا سلك أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، هذا المسلك الذي دلهم عليه الرسول الكريم، فقاسوا الفروع على الأصول، وردوا الخفي على الجلي، ولم يأخذوا شيئا من أمورهم من غير أن يردوه إلى دينهم، فكانت دنياهم دينا، وكانت أقوالهم وأفعالهم يتضوع منها طيب الدين، وتسرى فيها روحه، فكان الحق منطقهم، وكان العمل الصالح النافع ثمرة أيديهم، ونتاج كدهم وسعيهم، وبهذا سادوا، وشادوا، ودخل الناس في دينهم لينالوا ما نالوا من عز، وسؤدد .. فالضعيف مولع بتقليد القوي، والمغلوب مولع بمتابعة الغالب .. حتى إذا استدار الزمان، وأدارت لنا الحياة ظهرها، أصبحنا ننظر إلى الغرب، وعلومه وفنونه، نظر الصبي إلى والديه، يقلدهما، ولا يعقل مما يقلده شيئا .. وهكذا صرنا عيالا على الغرب، في ماديات حياته ومعنوياته، وهيهات أن نرشد ونبلغ مبلغ الرجال إلا إذا خرجنا من وصاية الغرب علينا، وتعلقت قلوبنا وعقولنا بديننا، وبسيرة أسلافنا الأولين. روي أن عمر رضي الله عنه، (لقي رجلا كان يسأل عن الفتيا في أمر عرض له، فسأله: ما صنعت؟ فقال قضى على بن أبي طالب، وزيد بن ثابت، بكذا، فقال عمر: لو كنت أنا لقضيت بكذا!! قال فما يمنعك، والأمر إليك (لأنه كان خليفة المسلمين) قال: لو كنت أردك إلى كتاب الله أو إلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لفعلت!! ولكني أردك إلى رأيي، والرأي مشترك). فهذا تقرير لحق الاجتهاد من أهل الاجتهاد، لا سلطان لأحد فيما يأخذ المسلم لدينه ودنياه، إلا كتاب الله، وسنة رسول الله، وما تقرر فيهما من أصول الشريعة الغراء، الخالدة، التي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها .. وروي أن عروة بن محمد السعدي، وكان واليا من ولاة عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - كتب إلى عمر يسأله عن شيء من أمر القضاء. فكتب إليه عمر: (لعمري ما أنا بالنشيط على الفتيا، إلا ما وجدت منها بدا، وما جعلتك إلا لتكفيني، وقد حملتك ذلك فاقض فيه برأيك) (جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر جزء 2 ص 74) وبهذا يتعرف المسلم إلى دينه ويفقه حقائقه، فلا يكون عالة على غيره. وقال محمد بن الحسن - صاحب أبي حنيفة: (ما كان عالما بالكتاب والسنة، وبقول أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبما استحسن فقهاء المسلمين - وسعه (أي أمكنه أن يجتهد في أمور دينه ودنياه) أن يجتهد رأيه، فيما ابتلي (أي فيما عرض له من أمر لم يحدث له من قبل) به، ويقضي به، ويمضيه، في صلاته، وصيامه، وحجه، وجميع ما أمر به، ونهي عنه .. فإذا اجتهد، ونظر، وقاس على ما أشبه، ولم يأل (أي لم يقصر في النظر في كتاب الله، وفي سنة رسول الله، وفي المأثور عن صحابة رسول الله) ، وسعه العمل بذلك، وإن أخطأ الذي ينبغي أن يقول به ... ). وهذا ما روي عن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (( إذا حكم الحاكم واجتهد وأصاب، فله أجران، وإن حكم فاجتهد فأخطأ، فله أجر )) . أي أجر الاجتهاد، وتحري الحق، إذا كان أهلا للاجتهاد، عالما فقيها، بكتاب الله، وسنة رسول الله. هذا هو ديننا، وتلك هي شريعتنا، وهؤلاء هم سلفنا - رضوان الله عليهم - لم يقفوا جامدين مستسلمين بين يدي الأحداث التي تمر بهم، ولم يعزلوا تلك الأحداث عن الدين، ولم يفروا منها،، ولم يباشروها بمعزل عن الدين آخذين طريق من سبقهم إليها من الأوربيين وغير الأوربيين. فما بالنا اليوم، وقد ملأت العلوم آفاق الدنيا، وطوع الناس فنون الحياة كلها لأيديهم - ما بالنا، نحصر ديننا في تلك الدائرة الضيقة داخل بيوت العبادة، ثم نخرج إلى الحياة فتواجهنا بما يزدحم فيها من مشكلات تعرض لنا كل يوم في حياتنا الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، ثم لا نرى للدين رأيا فيها، فيكون التعثر والتخبط والضلال. إن في ديننا الهدى من كل ضلال، والمنار على كل سبيل، والجواب على كل مشكل .. والله تعالى يقول: {ما فرطنا في الكتاب من شيء} ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (( تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا .. كتاب الله وسنتي )) .. إنهما نور من نور الله: {ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور} .
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |