|
ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() هل من مُدَّكر؟![1] عبدالله بن عبده نعمان العواضي إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِهِ الله، فلا مضلَّ له، ومن يضلل، فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]. ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]. ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]؛ أما بعد: فيا أيها المسلمون، بين أيدينا نور مبين، وحبل من الله متين، ودستور جامع، وشفاء نافع، من تمسَّك به سعِد ونجا، ووجد من كل ضيق مخرجًا، ومن كل همٍّ فرَجًا. ﴿ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [المائدة: 15، 16]. ومن أعرض عن اتباعه ضلَّ، ومن ترك الاهتداء به زَلَّ، ومن لم يجعله إمامه تاه في أودية الهلَكة، وفُتح له إلى الشقاء مسلكه. ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ﴾ [طه: 124 - 127]. هذا القرآن كتاب الله الخالد الذي أنزله العليم الحكيم؛ ليكون مجمعًا لأنوار الهدايات، ومنبعًا للخيرات، فـ"من تركه مِن جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلُق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي لم تنتهِ الجن إذ سمعته حتى قالوا: ﴿ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ ﴾ [الجن: 1، 2]، من قال به صدق، ومن عمِل به أُجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم". عباد الله، إن من أعظم دعوات القرآن إلى الخير: دعوته إلى الاتعاظ، وحثَّه على الاعتبار، وإجالة الفكر المتأمل فيما يذكر من القصص والأخبار، والآيات التي تُورِث متدبرها الوصول إلى الادكار. ومن تلك المواعظ التي يذكرها، ويرغب في الاتعاظ بها: بيان عواقب العاصين، ومصارع المعرضين، الذين جاءهم الحق فلم يستجيبوا لدعوته، وطال عليهم حبل الإمهال، فلم يستفيدوا من إطالته. فانظروا - رحمكم الله - في سور القرآن وآياته، كيف ينوِّع الله تعالى الحديث فيه عن تلك العِظات، ويتابع ذكر العواقب لأولئك الحائدين عن سواء السبيل في مضامين الآيات. فتارة يبين إهلاكه للظالمين؛ ثم يقول للناس ليأخذوا العبرة: ﴿ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ﴾ [يونس: 39]. وتارة يخبر عن عقوبته لأهل الفساد في الأرض؛ ثم يقول عقب ذلك واعظًا: ﴿ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [النمل: 14]. وتارة يتحدث عن مصير من كذب دعوة الرسل؛ ثم يقول مذكرًا: ﴿ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ﴾ [الصافات: 73]. وتارة يسطِّر بيان عقوبته لأهل الإجرام، وراكبي صهوات الآثام، وبعد ذكر عذابه لهم يقول: ﴿ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ﴾ [الأعراف: 84]. وتارة يخبرنا عن الذين جاءهم الرسل بالإنذار فلم يستجيبوا لهم، حتى حلَّت عليهم عقوبة الملك الجبار؛ ثم يقول للناس: ﴿ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ﴾ [يونس: 73]. وتارة يطلعنا على النهاية البائسة لمن مكر بالحق وأهله؛ فيقول: ﴿ وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [النمل: 50، 51]. أيها الإخوة الفُضلاء، لقد كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يعظ مشركي قريش الذين لم يستجيبوا لدعوته، ولم يؤمنوا برسالته، ويتخذ من ذكر مصارع الأمم المكذِّبة المدوَّنة في القرآن مادة وعظية لتذكيرهم بها، فيقص عليهم القصص لعلهم بها يعتبرون، وبسماعها يدَّكرون. فكان مما يتلوه عليهم: قصة يوسف التي كان فيها النجاة ليوسف عليه السلام من كيد الكائدين، والذل والهوان لمن تربص به الدوائر من الأقربين والأبعدين؛ وفي نهايتها يقول الله تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [يوسف: 111]. وكان رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام يأمر المشركين بالسير في الأرض متأملين؛ لينظروا في عواقب المكذبين حتى يكونوا من المعتبرين؛ فيقول لهم: ﴿ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾ [آل عمران: 137]. وأحيانًا يلومهم على عدم الاعتبار عندما يمرون بمهالك سابقيهم من الكفار ولم يتعظوا بها؛ قال الله تعالى: ﴿ وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [الصافات: 137، 138]. وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: ((اجتمعت قريش يومًا، فأتى عتبة بن ربيعة بن عبدشمس النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، أنت خير أم عبدالله؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفرغتَ؟ قال: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ [فصلت: 2]، حتى بلغ: ﴿ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ﴾ [فصلت: 13]، فقال له عتبة: حسبك حسبك، ما عندك غير هذا؟ قال: لا))[2]. ويوم كان مشركو قريش عربًا فصحاء، وذوي لسان بُلغاء، فقد تعارفوا على أن التكرار ولا سيما إذا جاء في قالب الاستفهام له فائدة كبيرة في التأثير على المخاطب؛ فقد أنزل الله تعالى سورة القمر في مكة، وكرر فيها الأمر بالادِّكار مما جرى للأمم المكذبة، وما يقصه القرآن عنها؛ فذكر مرات عدةً قوله: ﴿ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾ [القمر: 15]؛ كقوله: ﴿ وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾ [القمر: 15]، وقوله: ﴿ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾ [القمر: 51]. وقوله أربع مرات: ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾ [القمر: 17]. إخوة الإسلام، إن تلك العِبر والعِظات، التي قصها الله للناس عما لقِيَ العصاة من هجوم العقوبات، وحلول الْمَثُلات - تمر على كثير من المجرمين دون أن يعتبروا، ويعرفونها من غير أن يدَّكروا. فلماذا لم تجد تلك المواعظ إلى قلوبهم طريقًا، وإلى تغيير مسارهم المنحرف سبيلًا؟ والجواب عن هذا في كتاب الله؛ فقد قصَّ علينا أن المتأثر بالعِظات إنما هم أصحاب العقول المستنيرة، والقلوب الحية، وأما المعرِضون فإنهم لا عقول لهم؛ قال الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الرعد: 19]، وقال: ﴿ أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى ﴾ [طه: 128]، وقال: ﴿ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [الحشر: 2]، وقال: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ [ق: 37]، ولكون الآثام قد طمست بصائرهم، وصنعت على قلوبهم حجابًا سميكًا، ففقدوا الخشية من ربهم، فإنهم لم يُلقوا بالًا إلى تلك العِبر البليغة؛ قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى ﴾ [النازعات: 26]. معشر المسلمين، في هذه الأيام تعيش الولايات المتحدة الأمريكية أسوأ الأيام في تاريخها؛ فقد حدثت فيها كوارث من الحرائق والعواصف؛ حيث اشتعلت الحرائق المدمرة في مدينة لوس أنجلوس الأمريكية، فالتهمت آلاف المنازل والمباني العامة والخاصة، ونزح للخوف منها عشرات الألوف إلى خارجها، وتضررت ونُهبت الممتلكات فيها، واحترقت أراضٍ زراعية شاسعة، وراح ضحيتها عشرات الأشخاص، وتوقفت الحياة في تلك المدينة المترفة التي يوجد فيها عقارات عالية الثمن، وقصورُ مشهوري السينما والفن، وغدت الخسارة المالية بسبب ما حدث بمئات المليارات. ولقد رأيتم - أيها الكرام - كيف لم تقدر أمريكا بكل قواها على إخماد جميع الحرائق، وقطع طريق امتدادها المتواصل. وفي ولاياتٍ أخرى هبَّت عواصف ثلجية، ورياح وأعاصير عاتية، فأحدثت كثيرًا من الخراب، وإيقاف حركة الحياة مدة من الوقت، ومثلها حصل في بريطانيا، وفي بعض الدول الأوروبية. فهل هذا – معشر المسلمين - قد حصل بمحض الصدفة كما يقولون، أو بسبب غضب الطبيعة كما يزعمون؟ لقد اندلعت تلك الحرائق في فصل الشتاء البارد، ولم تشتعل في صيف حارٍّ، كما هي العادة في حدوث الحريق الممتد في أي مكان، أليس في ذلك عِبرة؟ إنها آية من آيات الله التي لا يرى حقيقتها إلا القلة من الناس. انظروا - رحمكم الله - وتأملوا بعين الإيمان، واقرؤوا الأحداث بنور القرآن؛ قال الله تعالى: ﴿ وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا ﴾ [الإسراء: 59]، وقال الله: ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الروم: 41]، وقال الله: ﴿ وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ ﴾ [الأعراف: 4]، وقال الله: ﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ ﴾ [القصص: 58]، وقال الله: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ * وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴾ [الشورى: 30، 31]. إنها الذنوب دمار الشعوب يا عباد الله. لقد كثُر الظلم والفساد في هذا العالم، وامتدَّ حبل الفجور، وكثُر الإعراض عن رب العالمين، وتمادى أكثر الناس في الخطايا، وجاهروا بها، وشجعوا الناس عليها، وحاربوا من يقف في طريقهم إليها. وغرَّهم حِلم الله عليهم، وتأخيره عقوبته على جرائمهم: ﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا ﴾ [فاطر: 45]. لكنه سبحانه وتعالى قد يرسل بين الفينة والأخرى تنبيهاتٍ للغافلين، وموقظات للسادرين؛ لعلهم يرجعون إلى رشدهم بعد الغواية، وينكفون عن سلوك سُبُل الضلالة. فكم مسرف على نفسه، معرِض عن ربه، معتدٍ على خلقه، لم يُصغِ سمعَه للآيات المسطورة، ولم تؤثِّر في قلبه المواعظ المسموعة، إذ تأتيه عِظات الواقع الذي يشاهده، فيرى فيه المصائب تهجم فجأة على الأمان فتحوِّله إلى خوف كبير، وإلى العيش السعيد فتقلبه إلى عيش مرير، وإلى غِنى الأغنياء فيصيرون في عيشة وضحاها فقراء، يبحثون عن لُقمة يسدون بها الرمَق، ومأوى يكُنُّهم من الحرِّ والقرِّ! وقد رأيتم ذلك في أماكن حلَّت فيها الزلازل والفيضانات، والحرائق والأعاصير، والحروب والصراعات، ينتهي هناك كل شيء من مباهج الدنيا، والسعيد من أهلها من نجا بجلده تاركًا خلفه كل راحات دنياه، لكنه يحمل معه فقط آلامَ ما مرَّ به الأهوال. فالحذر الحذر – يا عباد الله - من الاغترار بحلم الله وطول السلامة، وعدم معاجلته بالعقوبة؛ فإن الأيام لا تبقى على حال، وإن ليل الذنوب سيبغته صبح المؤاخذة مهما طال. عن أبي موسى رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لَيُملي للظالم حتى إذا أخذه، لم يُفلته، قال: ثم قرأ: ﴿ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾ [هود: 102]))[3]. قال بعض الصالحين: "يا أهل المعاصي، لا تغتروا بطول حلم الله عليكم، واحذروا أسفَه - أي: غضبه - بسبب المعاصي؛ فإنه قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ ﴾ [الزخرف: 55]"[4]. وقال أحمد بن عاصم الأنطاكي: "قلت لعابد: يرحمك الله، أخبرني ما دليل الخوف؟ قال: الحذر، قلت: فما دليل الشوق؟ قال: الطلب، قلت: فما دليل الرجاء؟ قال: العمل، قلت: رحمك الله، نحن أين جاء ضعفنا؟ قال: لأنكم وثقتم بحلم الله عنكم، وستر الله عليكم على معصيته، ثم أنشأ يقول: إن كنت تفهم ما أقول وتعقل ![]() فارحل بنفسك قبل أن بك يُرحل ![]() وذرِ التشاغل بالذنوب وخلِّها ![]() حتى متى وإلى متى تتعلل[5] ![]() نسأل الله أن يجعلنا بالعظات متعظين، وألَّا يجعلنا من الغافلين الشاردين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. الخطبة الثانية الحمد لله على حلمه وغفرانه، والشكر له على فضله وإحسانه، ونعوذ به من تحول عافيته، وفجاءة نقمته، وجميع سخطه، ولقاء نيرانه، والصلاة والسلام على نبينا محمد الداعي إلى دينه ورضوانه، وعلى آله وأصحابه؛ أما بعد أيها المسلمون:فإن العقوبات الجماعية عِظة للمتعظين، وعبرة للمعتبرين، غير أن الإعلام المضلِّل لا يصور للناس وجوه الاعتبار، ولا يدعوهم إلى التوبة والادِّكار، وكثير من اللاهين تمر بأعينهم وأسماعهم تلك الكوارث المفزِعة، دون أن تقرع أبواب قلوبهم بزواجرها، وتصحح مسار حياتهم المعوج بفواجعها؛ وحالهم كما قال الله: ﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ﴾ [البقرة: 18]؛ يعني: هم لا يسمعون الحق سماع انتفاع، ولا ينطقون به، ولا ينظرون إليه نظر اعتبار، ولا هم يرجعون إلى الإيمان لينتفعوا بجوارهم التي تعطلت عن قبول الحق. وقال الله: ﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 171]. يعني: صفة المعرضين عن الاستجابة إلى الحق متى سمعوا داعيَ الحق، كصفة البهائم التي تسمع صوت الراعي دون فهم معاني كلامه. غير أن هناك مشاهدَ فردية واعظة، وقصصًا حية زاجرة، يراها الإنسان أو يسمعها عن بعض المفرطين الذين لجُّوا في طغيانهم يعمهون، وظلوا في ظلمات خطاياهم يتخبَّطون، حتى نزلت بهم العقوبة من حيث لا يتوقعون. فيا من فرط في حقوق الله أو في حقوق عباده، تنبَّه بالتوبة، قبل أن تفجأك العقوبة على حين غِرة، وتنزل بك الأخذة في ساعة غفلة؛ وحينها تقول: ﴿ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ﴾ [الفجر: 24]، ولن تُعطى حينئذٍ مُناك، بعد أن تودِّع دنياك. فليعتبر العاصي المتمادي بما جرى لأمثاله من المذنبين، وما حل من المثلات بغيره من المفرطين. ألَا من كان مقيمًا على المعاملات الربوية فليتركها؛ فكم أهلك الله من أموال لأهل الربا في لمحة عين! ﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ﴾ [البقرة: 276]. ومن كان عاقًّا لوالديه أو أحدهما، فليعتبر بما جرى ويجري للعقَقَة من العقوبات العاجلة، والبلايا النازلة، فقد "كان جرير بن عطية الخطفي الشاعر المشهور من أعق الناس بأبيه، وكان ابنه بلالٌ أعق الناس به، فراجع جريرٌ بلالًا في الكلام، فذكر لأبيه كلامًا سيئًا، فأقبلت عليه أمه وقالت: يا عدو الله، تقول هذا لأبيك؟! فقال لها جرير: دَعيه؛ فوالله لكأني أسمعها وأنا أقولها لأبي"[6]. ومن كان ظالمًا للناس من الأقارب أو الجيران أو العمال، أو غيرهم من الناس، فَلْيَتُبْ من ظلمه؛ ففي مصارع الظالمين عِبرة، وفي تعجيل الأخذ للباغين عِظة؛ وقد قيل: البغي يصرع أهله ![]() والظلم مرتعه وخيمُ ![]() ![]() ![]() عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بابان مُعجَّلان عقوبتُهما في الدنيا: البغي، والعقوق))[7]. ومن كان غاشًّا ماكرًا بالناس، يصنع لهم العثرات، ويطلب لهم المهالك، فليعتبر بما صنع الله بأهل الغش والمكر؛ قال أبو بكر الصديق العتيق رضوان الله عليه: "ثلاث من كُنَّ فيه كن عليه: المكر، والبغي، والنكث؛ قال الله تعالى عز اسمه: ﴿ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ ﴾ [الفتح: 10]، وقال عز من قائل: ﴿ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ﴾ [فاطر: 43]، وقال عز جده: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ ﴾ [يونس: 23]"[8]. ألَا فلْنَتُبْ - يا عباد الله - إلى ربنا، ونؤدِّ ما له علينا، ولنعتبر بما نرى في واقعنا، فالسعيد من وُعظ بغيره، والشقي من لا يتعظ إلا بنفسه. ألَا إنما الدنيا لذي العقل عبرة ![]() وموعظة تُملي عليه عظاتها ![]() فكم معرض عنها وآخر سامع ![]() نجا يوم هلك الناس في غمراتها ![]() نسأل الله أن يجعل لنا في غيرنا عِبرة، وألَّا يجعلنا لغيرنا عِبرة. هذا، وصلوا وسلموا على خير الورى محمد. [1] أُلقيت في مسجد الشوكاني في: 1/ 8/ 1446هـ، 31/ 1/ 2025م. [2] رواه الحاكم في مستدركه وقال: "هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ"، ووافقه الذهبي. [3] متفق عليه. [4] الزواجر عن اقتراف الكبائر (1/ 24). [5] الزهد الكبير للبيهقي (ص: 260). [6] العقد المفصل (ص: 12). [7] رواه الحاكم، وقال: "هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ"، ووافقه الذهبي. [8] التمثيل والمحاضرة (ص: 473).
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |