|
ملتقى الحج والعمرة ملتقى يختص بمناسك واحكام الحج والعمرة , من آداب وأدعية وزيارة |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() رحلة الروح إلى الله: تأمُّلات في مناسك الحج محمد أبو عطية في عالمٍ يموج بالضجيج واللهاث خلف المادة، تتُوق الأرواح إلى سَكينة، وإلى لحظةٍ تقف فيها مع ذاتها، بعيدًا عن صخب الدنيا وثقل الذنوب، تأتي مناسك الحج كأعظم رحلة إيمانية يمكن أن يخوضها الإنسان في حياته، ليست مجردَ انتقالٍ مكانيٍّ من بلد إلى بلد، بل هي رحلة الروح إلى الله، رحلةُ التجرد، والخضوع، والتوبة، والعودة إلى الفطرة. الحج ليس طقسًا موروثًا، ولا تقليدًا شكليًّا، بل هو مدرسة روحية عميقة، مليئة بالمعاني التي تهُز القلوب، وتُعيد ترتيب الأولويات، وتغرس في النفس روحَ التواضع والانكسار أمام عظمة الله. فلنفتح قلوبنا لهذه الرحلة، ونتأمل معًا في معانيها. التلبية: إعلان الإخلاص لله: حين يهتف الحاجُّ منذ لحظة الإحرام: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، فإنه لا يردد كلماتٍ فقط، بل يعلن الولاء التامَّ لله، ويجدِّد انتماءه للربِّ الذي خلقه وسوَّاه. "لبيك" تعني: جئتك يا رب طائعًا، خاضعًا، تاركًا أهلي ومالي وراحتي، فقط لأجل رضاك. إنها لحظة تحرُّرٍ من الدنيا، وتوجُّهٍ خالص للآخرة. في التلبية، تصمت الدنيا كلها، ويتكلم القلب. في التلبية، يقول الإنسان: أنا عبدك، ولا أريد سواك. الإحرام: لِباس التجرد والمساواة: ينزِع الحاجُّ ملابسه المعتادة، يخلع تميزه الطبقيَّ، ويفقد صفته الاجتماعية، ويرتدي قطعتين من القماش الأبيض؛ كأنه يقول: • لا فضلَ لعربيٍّ على أعجمي، ولا غنيٍّ على فقير. • كلنا عبيدٌ لله، كلنا ذاهبون إلى نفس المصير. الإحرام يذكِّرنا بكفن الموتى، لكن الفرق أننا لا زلنا نملك فرصةً للعمل والتوبة. إنه لِباس التجرد من الدنيا، والعودة للفطرة. الطواف: القلب يطوف حول المحبوب: • حين يطوف الحُجاج حول الكعبة، فإنهم يُعلنون أن الله هو مركز حياتهم. • كما تدور الكواكب حول الشمس، تدور القلوب حول بيت الله. • الطواف ليس دورانًا جسديًّا فقط، بل هو رمز لحركة القلب حول الله، وطلبه، وشوقه. في كل شوطٍ، يتجدد الحب، وتتجدد النية، ويزداد القرب. وفي الطواف، يتلاشى أنا، ويظهر هو، فلا يبقى في القلب إلا الله. السعي بين الصفا والمروة: دروس الصبر والثقة: السعيُ هو إعادة لخطوات هاجر عليها السلام، تلك المرأة المؤمنة التي تركها إبراهيم في وادٍ لا زرع فيه، فقالت بثقة: إذا كان الله أمرك بهذا، فلن يُضيِّعنا. وها هي تمشي، تركض، تبحث عن الماء لطفلها، لا تيأس، لا تتذمر، فقط تسعى بثقة في الله. في السعي درسٌ عظيم: • لا يكفي الدعاء، بل لا بد من السعي. • لا يكفي السعي، بل لا بد من حسن الظن بالله. • لا تيأس إن تأخَّر الفرَج، فقد يكون ماؤك تحت قدم طفلك وأنت لا تدري. عرفة: يوم اللقاء الأعظم: يوم عرفة هو قلبُ الحج ورُوحه، وهو اليوم الذي يُباهي الله فيه ملائكته بالحجيج، ويغفر فيه الذنوب، ويُعتق الرقاب من النار. في عرفاتٍ، لا حجابات، لا وسطاء، فقط عبدٌ بين يدي ربه، يرفع يديه، ويبكي، ويطلب. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الحج عرفة))؛ [رواه الترمذي]؛ أي: إن الوقوف بعرفة هو لبُّ الحج وجوهره؛ لأنه لحظة اعترافٍ وتوبة، وتجديد ميثاق. في عرفات، تشعر وكأن الله قريب جدًّا، وكأن السماء مهيَّأة لاستقبال كل دعاء، وكأن الملائكة تسجِّل كل دمعة، وتفرح بكل توبة. الأضحية ورميُ الجمرات: انتصار على الشيطان والهوى: الأضحية هي رمز للاستسلام الكامل لله؛ كما رفع إبراهيم عليه السلام السكين على رقبة ابنه إسماعيل، بقلوب راضية واثقة، نفعل نحن اليوم هذا الرمز لنقول: يا رب، أنت أغلى من نفسي، ومالي، وأهلي. أما رمي الجمرات، فليس مجردَ قذف بحصًى، بل هو إعلان حرب على الشيطان والهوى. إنه قول عملي: لن أخضع لوسوستك، يا عدو الإنسان! وفي كل جمرة، نتخلص من ذنب، من ضعفٍ، من شهوة، من عادة سيئة. الحلق والتحلُّل: ولادة جديدة: بعد أيام من التجرُّد والتعب والدموع، يحلق الحاج شعره أو يقصه، فيتحلل من إحرامه؛ كأنه يقول: • أنا الآن نقيٌّ من الذنوب. • أنا إنسان جديد، كما ولدتني أمي. • لقد رجعتُ إلى الله بقلب أبيضَ، وروح مطمئنة. عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حج هـذا البيت، فلم يرفُث ولم يفسق، رجع كما ولدته أمه))؛ [رواه البخاري]. بعد الحج ... هل عُدنا أم بدأنا؟ الحج ليس نهاية، بل بدايةٌ جديدة لحياة نقية. من يعُدْ بعد الحج دون أن تتغير عاداته وسلوكياته، فكأنما حجَّ بجسده فقط، لا بروحه. علامات الحج المقبول: • قلبٌ أكثر خشوعًا. • لسانٌ أكثر ذكرًا. • سلوك أكثر طهرًا. • نفس تمقت المعصية، وتستطيب الطاعة. الحج رحلة عمرٍ، لكن أثرها يجب أن يبقى حتى آخر العمر. خاتمة: الحج هو رحلة تجرد من الدنيا، وتفرُّغ لله، وتجديد عهدٍ بالعبودية الصادقة. كل ركن فيه يحمل معنًى، وكل شعيرة تحكي درسًا، وكل خطوة فيها صعود نحو النور. فلننظر إلى الحج كـمحرك للروح، لا مجرد أداء شكليٍّ. وحتى من لم يحج، يمكنه أن يحُجَّ بقلبه: • بالتوبة. • بالتكبير. • بالدعاء. • بمواسم الطاعة في عشر ذي الحجة. فليكن حجك، أو شوقك إلى الحج، نقطةَ تحول لا محطة مرور، وبدايةَ عهدٍ جديدٍ مع الله.
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |