|
|||||||
| الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة |
![]() |
|
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#741
|
||||
|
||||
|
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (مقدمة كتاب الحدود) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (531) صـــــ(1) إلى صــ(10) شرح زاد المستقنع - باب حد قطاع الطريق [3] توبة المحاربين لها شروط وضوابط بينها أهل العلم في مصنفاتهم، وبتوبتهم قبل القدرة عليهم تختلف الأحكام في حقهم، ولكن لتوبتهم شروط مختلف فيها، ويترتب عليها أحكام مختلف في بعضها عند أهل العلم. حد الحرابة على من لم يصب نفسا ولا مالا بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: يقول المصنف رحمه الله تعالى: [فإن لم يصيبوا نفسا ولا مالا يبلغ نصاب السرقة نفوا، بأن يشردوا فلا يتركون يأوون إلى البلد] . تقدم بيان عقوبة النفي، وبينا مذاهب العلماء رحمهم الله فيها، والأصل في النفي التغريب والإبعاد، وقد اختلف العلماء رحمهم الله في حقيقة النفي، فذهبت طائفة من العلماء إلى أن المراد بنفي أهل الحرابة أن يطلبهم الإمام فلا يتركهم يأوون إلى بلد، كلما استقروا في مكان طلبهم حتى لا يكون لهم قرار في الأرض، وهذا على ما اختاره المصنف رحمه الله، وهو مذهب طائفة من السلف رحمة الله عليهم أجمعين. وذهب بعض العلماء إلى أن المراد بالنفي الحبس، وأنه يحبسهم الإمام، ثم اختلفوا على وجهين: فمنهم من قال: يحبسهم في بلد غير الموضع الذي كانت فيه الحرابة، فيبعدهم عن بلادهم مسافة القصر كما يختاره المالكية، ومنهم من قال: يحبسهم حيث شاء، وهذا اختيار الحنفية رحمة الله على الجميع. والأصل أن النفي عقوبة شرعية، جاءت على قسمين في الحدود والجنايات والجرائم: القسم الأول: النفي الذي هو مقدر ومنصوص عليه كحد من الحدود. والقسم الثاني: النفي الذي يقع عقوبة تعزيرية، فنفي الحرابة من النفي الذي هو حد من حدود الله عز وجل، وإذا تعين فليس للحاكم ولا لأحد أن يسقطه؛ لأنه من العقوبة، وهذا النفي يكون في حد الحرابة واجبا، ويكون أيضا في حد الزنا واجبا، والصحيح من أقوال العلماء رحمهم الله أن النفي والتغريب ثابت في حق الزاني البكر ذكرا كان أو أنثى؛ وفي حديث عبادة في الصحيح عنه رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر، جلد مائة وتغريب عام) ، فلما قال عليه الصلاة والسلام: (تغريب عام) أثبت النفي. ولكن نفي الزنا يختلف عن نفي الحرابة، فإن نفي الزنا جاء فيه التحديد في المدة، وأما نفي الحرابة فلم يأت فيه تحديد بمدة، ومن هنا اختلف العلماء رحمهم الله، فبعض أهل العلم قال: يقاس حد الحرابة على حد الزنا، فيطلبهم الإمام وينفيهم سنة كاملة، ومن أهل العلم من قال: يطلبهم ويتابعهم ويؤذيهم ويضر بهم حتى يتوبوا ويرجعوا إلى الله عز وجل؛ لأن النص جاء مطلقا. وأقوى القولين أن النفي في حد الحرابة لا حد له، وأنه غير مقدر بسنة ولا يمكن فيه القياس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حد عقوبة الزنا ولم يحد النص الشرعي الوارد في كتاب الله عز وجل حد الحرابة. وبناء على ذلك: تبقى هذه العقوبة إلى صلاح المحاربين، فإن تابوا وأصلحوا ورجعوا إلى الله رفعت عنهم العقوبة، وإلا بقي طلب السلطان لهم حتى يتمكن منهم. ومن أهل العلم من قال: النفي أن يبعدوا إلى ديار الكفر، وهذا قول أنس بن مالك في طائفة من السلف في تفسير الآية الكريمة عنه رضي الله عنه. والصحيح أنهم لا يغربون إلى بلاد الكفر؛ لأن هذا أعظم وأشد بلاء، والأشبه فيه أنه يحتمل أن أنسا رضي الله عنه نزع إلى هذا القول؛ لأن هناك قولا أن المحاربين في الأصل مرتدون، ومن هنا ينفون عن بلاد المسلمين، بمعنى أنهم يبعدون إلى من هو مثلهم من الكفار، وحينئذ يستقيم هذا القول مع الأصول، وإلا لا يمكن أن نقول: إن مسلما ينفى إلى بلاد الكفر؛ لأنه ربما ارتد -والعياذ بالله- عن دينه، أو على الأقل يكون فيه الفساد أكثر. والذي عليه العمل عند العلماء رحمهم الله أن آية المحاربين نزلت في المسلمين، وأن قضية العرنيين كانت صورة من صور الحرابة لا تقتضي تخصيص الحكم بها، والقاعدة في الأصول: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، حتى ولو كانت سببا لنزول الآية الكريمة. والحاصل: أن النفي يفوض فيه الأمر إلى السلطان والقاضي والحاكم، فإن رأى أن المصلحة أن يسجنهم بأن قبض عليهم وأخذهم وأمر بسجنهم فله ذلك؛ لأنه مفوض للنظر في مصالح المسلمين، وإن رأى أن المصلحة أن يطلبهم فيزعجهم حتى يتوبوا ويرجعوا إلى الله عز وجل فله ذلك، ومن هنا تختلف أحوال وصور الحرابة، فيعطى لكل صورة ما يناسبها. وقد بين المصنف رحمه الله أن النفي عقوبة، وهذه العقوبة هي الثالثة، وقد نص الله عز وجل عليها بقوله في آية الحرابة: {أو ينفوا من الأرض} [المائدة:33] ، وعلى هذا النص قلنا: إن الصحيح أنه لا يتقدر بمدة معينة؛ لأن الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام لم يحدا هذا النفي حدا معينا. توبة المحاربين قبل أن يقدر عليهم وقوله: [ومن تاب منهم قبل أن يقدر عليه] . (ومن تاب منهم) أي: من المحاربين (قبل أن يقدر عليه) : هذا شرط، أنه لا يحكم بالتوبة المؤثرة في إسقاط العقوبة التي هي لله عز وجل في حد الحرابة إلا إذا كانت قبل القدرة على المحاربين، أما لو تمكن منهم المسلمون وقدروا عليهم فيستوي أن يتوبوا أو لا يتوبوا، فيقام عليهم حق الله عز وجل. ومن أهل العلم من فصل بين حقوق الله عز وجل وحقوق عباده، والصحيح: أنه إذا قدر عليهم وجب تنفيذ حكم الله عز وجل فيهم، إذ لو فتح هذا الباب ما وسع المجرمون إلا أن يفعلوا ما شاءوا ويحاربوا المسلمين، فإذا قدر عليهم قالوا: تبنا، ومن هنا لا تقبل التوبة بعد القدرة بالنسبة للحكم القضائي، وينفعهم التوبة فيما بينهم وبين الله عز وجل، أما فيما بينهم وبين الناس، وحكم القضاء بوجوب الحد عليهم ولزوم تنفيذه على الإمام، فلا ينفع فيه إلا أن يكون قبل القدرة. المعتبر في توبة المحاربين قبل القدرة عليهم والمراد بما قبل القدرة: أن يرجع هؤلاء قبل أن يتمكن منهم القاضي أو الحاكم. ومن أهل العلم من قال: إنه يجب أن تكون توبتهم بعلم الإمام، فيرجعون إلى الإمام ويسقط الإمام عنهم ذلك فتصح توبتهم، وهذا أثر عن أمير المؤمنين ورابع الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين علي بن أبي طالب، أنه جعل توبتهم مشروطة بإسقاط الوالي أو القاضي أو الإمام، كما نص عليه واختاره بعض العلماء رحمهم الله. والجمهور على أن توبتهم لا يشترط فيها أن يرفعوا أمرهم إلى الإمام، وإنما تكون توبتهم فيما بينهم وبين الله وفي ظاهر حالهم، فلو أنهم أسقطوا السلاح، ورجعوا إلى جماعة المسلمين، وظهرت عليهم أمارات الخير والاستقامة؛ فإنه يحكم بتوبتهم، ولا يشترط أن يرفعوا أمرهم، إذا ظهرت منهم التوبة والاستقامة قبل أن يتمكن منهم، وهذا هو الصحيح وهو مذهب الجمهور. ثم إذا قلنا: إن العبرة في رجوعهم وتوبتهم بصلاح حالهم، فهل تشترط مدة معينة لابد أن تمضي حتى يظهر منهم أنهم صادقون في التوبة؟ وجهان للعلماء رحمهم الله، قال بعض العلماء: لا يسقط الحد عن المحاربين إلا إذا مضت عليهم مدة من الزمان، واختلفوا في تقديرها، هل هي نصف حول؟ أو هي حول؟ قالوا: الحول يضبط حال الإنسان؛ لأن الإنسان يتحول فيه من حال إلى حال، فإذا مضى عليهم سنة كاملة حكم بتوبتهم، ومنهم من يقول حتى يمضي عليهم أكثر السنة وهو ستة أشهر فأكثر. والصحيح وهو مذهب الجمهور أنه لا يحد ذلك بزمان معين، وأن العبرة بإسقاطهم للسلاح ورجوعهم إلى جماعة المسلمين، وظهور التوبة عليهم ولو للحظة واحدة قبل أن يقدر عليهم. ما يسقط عن المحاربين إذا تابوا قبل القدرة عليهم فإذا تابوا ورجعوا وأعلنوا توبتهم لله عز وجل ورجعوا إلى جماعة المسلمين فإنه يسقط عنهم حق الله عز وجل، ولكن حق العباد من المظالم التي ارتكبوها والأموال التي أخذوها ونحو ذلك من المظالم يطلب فيها القصاص، ويؤخذون بها كما سيبينه المصنف رحمه الله. إذا: في حد الحرابة أمران: الأمر الأول: حق الله عز وجل وهو وجوب قتلهم إذا كان محكوما بقتلهم وصلبهم وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وهذا الحق يسقط إذا تابوا، ولا يتعين قتلهم ما لم يكونوا قد قتلوا أحدا، فإذا قتلوا أحدا عمدا عدوانا وتمت شروط القصاص، دفع بهذا المحارب إلى ولي الدم، ويقال له: أنت بالخيار، إن شئت أخذت حقك، وإن شئت أخذت الدية، وإن شئت عفوت، فيجري عليه ما يجري على القصاص. فإن قيل: ما الفرق؟ قلنا: الفرق أنهم لو أخذوا قبل توبتهم فإنه يجب قتلهم؛ لأنهم قتلوا، ويصلبون، ولكن إذا تابوا يجعل الخيار لولي الدم، فهنا فرق بين الحالتين. الحالة الأولى: يتعين قتلهم ولو سامح أولياء المقتول. والحالة الثانية: إذا تابوا ورجعوا وأنابوا إلى الله عز وجل وصلحت أحوالهم نقول لهم: هذا ينفع فيما بينكم وبين الله، أما حقوق العباد فواجب عليكم أن تؤدوها وتردوها، وهذا هو أصح قولي العلماء وهو مذهب الجمهور. وعن بعض السلف وهو قول الإمام مالك رحمه الله أنها تسقط عنهم جميع الحقوق من السرقة والزنا وشرب الخمر وغيرها من الحقوق، ولكن لا يسقط عنهم الدم، فإذا قتلوا أحدا فإنهم يؤخذون بالقصاص، ومذهب مالك رحمه الله من أشد المذاهب الأربعة في الاحتياط للدماء، وهذا معروف عنه، وقد تقدمت الإشارة إلى جملة من المسائل التي كان يحتاط فيها للدماء، ويرى أن دم المقتول لا يذهب هدرا. ومن هنا قال: كل شيء يسقط عنهم من الحدود وإذا تابوا نفعتهم التوبة، وأما بالنسبة للدماء فإنه لا تنفعهم التوبة في حقوق العباد، أي: لا يسقط عنهم القصاص، وإذا قلنا: لا يسقط عنهم القصاص ولا الحقوق الواجبة عليهم فإنا نطبق شروط كل حد على حدة، وحينئذ في حد الحرابة لا نعتبر المماثلة والمكافأة على التفصيل الذي ذكرناه، ولكن إذا تابوا فإنها تعتبر المماثلة والمكافأة واستيفاء الشروط المعتبرة للحكم بالقصاص. هذا الفرق بين حالة كونهم تابوا وبين كونهم أخذوا بحد الحرابة. وقوله: [سقط عنهم ما كان لله] أي: أنه لا يجب على القاضي أن يقيم عليهم الحد، والمراد به حد القتل وما تقدم من كون الحرابة لا يسقط حدها ولو عفا فيها أولياء الحقوق عن حقوقهم، لأن هذا الحق لله عز وجل. وقوله: [من نفي] (من) بيانية، والنفي يكون حقا واجبا في موضعين: في حد الحرابة، وفي حد الزنا، ويرجع فيه إلى نظر ولي الأمر إذا كان نفيا تعزيريا. والنفي التعزيري أن يجتهد القاضي فيرى من المصلحة إخراج هذا الشخص من هذا البلد، فينفيه إلى بلد ما، طلبا لاستقامته أو إبعادا له عن بيئة فاسدة تعينه على الفساد، وهذا صحيح؛ فإن النفي يعين على التوبة وعلى صلاح الحال، وهذا النوع من النفي التعزيري له أدلة صحيحة، منها: قصة التائب الذي قتل مائة نفس، فقال له العالم: (ولكن قريتك قرية سوء، وقرية بني فلان فيها قوم صالحون فاذهب إليهم) فأمره أن يترك قريته، وحينئذ يكون في الإبعاد عن مدينته وبيئته ما يعينه على الصلاح. ولذلك ثبتت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (لعن المخنثين من الرجال، ولعن المترجلات من النساء) كما في حديث ابن عباس في صحيح البخاري، وفي رواية: (ونفى فلانا وفلانا) فاستعمل النبي صلى الله عليه وسلم النفي. ومن هنا إذا وجد شخص فيه فساد وعهر بحيث ينشر الفساد بين الناس فإنه ينفى عن هذا الموضع؛ حتى لا يضر غيره، فما وجدنا طعاما فاسدا بين طعام صالح يصلحه، وإنما وجدنا أنه يسري فساده إليه. وأما بالنسبة لنفي الصحابة فقد فعل ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فنفى نصر بن حجاج حينما وقعت به الفتنة في المدينة، ونفى كذلك صبيغا حينما تكلم في آيات القرآن في المرسلات والعاصفات، وأورد الشبه، فنفاه رضي الله عنه، وهذا يسمى النفي التعزيري. والنوع الأول نفي العقوبة، وهو نفي الحرابة ونفي الزنا، والفرق بينهما: أنهما يجتمعان في شيء ويفترقان في أشياء، فيجتمعان في كون كل منهما واجبا، فيجب النفي في عقوبة الزنا للبكر على الصحيح من أقوال العلماء، ويشمل الذكور والإناث، ويجب النفي أيضا في عقوبة الحرابة على ظاهر القرآن من الأمر؛ لأن الله جعله جزاء محتما لازما ينبغي تنفيذه. ويفترقان في أن نفي الزنا محدد ونفي الحرابة غير محدد، وعند من يقول: نفي الحرابة هو الإبعاد كما يختار المصنف أنهم أن لا يتركوا يأوون إلى بلد، يختلف عن نفي الزنا، فإن نفي الزنا يكون على مسافة القصر، ونفي الحرابة يكون إلى أبعد. وبين رحمه الله أن التوبة تنفع، وهذا ظاهر القرآن؛ لقوله سبحانه: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم} [المائدة:34] فبين سبحانه وتعالى أن شرط التوبة عدم القدرة، فإذا كان الأشخاص المحاربون قد تابوا وأصلحوا قبل قدرة السلطان والوالي عليهم سقط حق الله عز وجل في وجوب تنفيذ حد الحرابة عليهم. وقوله: [من نفي وقطع] (من) بيانية (نفي وقطع) فلا تقطع أيديهم إذا اعتدوا على الأموال، ولكن يجب عليهم ضمان هذه الأموال التي أخذوها وردها إلى أهلها، فلو أنهم اعتدوا على قافلة وأخذوا منها مائة ألف ريال وجاءوا وقالوا: نحن تائبون، وتركنا الحرابة، وسلموا أنفسهم، نقول: نسأل الله أن يتقبل منكم توبتكم، وعليكم أن تضمنوا المال المسروق الذي أخذتموه كاملا. وفي قرصنة البحار لو أنهم اعتدوا على سفينة أو مركب فأخذوا منه حلي الناس وجواهرهم فإنه يجب ضمانه كاملا، ولا تسقط عنهم حقوق المخلوق، ومن هنا فإن الأصول الشرعية تقتضي أن مال المسلم له حرمة، وأن اعتداءهم على المال المحترم شرعا وهو مال المسلم يوجب عليهم الضمان، وقد تقدم معنا بيان هذه الأصول في حد السرقة، وأن السارق يجب عليه ضمان المسروق. قوله: [وصلب] أي: أنه لا تقطع أيديهم ولا يصلبون، فمثلا: لو أنهم قتلوا وتابوا، وكان المقتول مكافئا للقاتل، فحينئذ ننظر في طريقة القتل، فالحرابة لو أن ثلاثة كلهم محاربون، أحدهم أمسك السلاح لكي يمنع الشخص من أن يتحرك فهدده، والثاني ربطه وأوثقه، والثالث ضربه في موضع فقتله، فكلهم يقتلون، ويستوي من باشر ومن كان معينا على القتل. لكن بالنسبة لحد القصاص لو اجتمع ثلاثة، فكانت سببية ومباشرة على التفصيل الذي ذكرناه في باب القصاص، وكانت السببية لا تفضي إلى إزهاق الروح، فحينئذ يجب القصاص على من باشر، وتسقط السببية على الأصل الذي ذكرناه أن المباشرة تسقط حكم السببية، بشرط أن تكون السببية غير مفضية إلى الزهوق. إذا: هناك فرق بين عقوبة الحرابة وبين عقوبتهم أو أخذهم بالحقوق بعد توبتهم، فلو أن أحدهم قطع يد شخص، ففي الحرابة نقتص من هذا القاطع، ونقطع يده على التفصيل الذي تقدم معنا في القصاص في الأطراف، ولو أنه فقأ عينا فقأنا عينه، ولذلك يؤخذ بجريمته، ويقتص من الفاعل المباشر، ثم المشتركون في الجريمة ننظر إذا كان اشتراكهم يؤدي إلى الحكم بكونهم مجرمين كلهم، فإننا نحكم بوجوب القصاص عليهم جميعا، وهذا تقدم معنا في القصاص في النفس والأطراف، وأن قتل الجماعة بالواحد هو الصحيح عند العلماء رحمهم الله؛ لأن كل واحد منهم يصدق عليه أنه قاتل، وبينا وجه ذلك وخلاف العلماء فيه ووجه الترجيح لهذا القول. إذا ثبت هذا فإننا نسقط عنهم الصلب والقطع، فلا تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، ولا يصلبون. ففي قوله: [والصلب] : لو حكمنا بالقصاص بأن واحدا منهم قتل مكافئا، فقلنا له: توبتك تنفعك فيما بينك وبين الله، ولكن يجب أن يقتص منك لحق المقتول، واعترف أنه قتله، فقال أولياء المقتول: لا نسامح بل نريد القصاص، فإنه إذا اقتص منه وقتل لا يصلب؛ لأنه قد تاب، والصلب حق لله عز وجل فيما إذا كان قبل التوبة، وهذا على الأصل الذي ذكرناه أن التوبة تسقط هذه العقوبات؛ لأنها حق لله عز وجل. وقوله: [وتحتم قتل] تقدم أنه إذا ثبت أنهم فعلوا موجب القتل وعفا أولياء المقتول، لم يؤثر في الحرابة وأنهم يقتلون، وقلنا: إن الحق لله عز وجل ولو عفا أولياء المقتول، ولكن لو تابوا قبل أن يقدر عليهم سقط تحتم القتل، ونقول: لكم أن تعفوا، وإذا عفوتم سقط القصاص، إذا: يكون لهم الخيار في حال التوبة، ولا خيار في وجوب وتحتم القتل إذا لم يتوبوا. وقوله: [وأخذ بما للآدميين من نفس وطرف ومال إلا أن يعفى له عنها] أي: فلو أنه قتل يقتل. وقوله: [وأخذ بما للآدميين] هذا يجعلنا نرجع إلى باب القصاص، فإن كانت جناية الذي جنى في النفس نظرنا إلى شروط القصاص في النفس، وإن كانت جنايته على الأطراف نظرنا إلى القصاص في الأطراف، وهكذا بالنسبة لبقية الأحكام.
__________________
|
|
#742
|
||||
|
||||
|
الأسئلة حجب الدعاء بسبب الدين السؤال فضيلة الشيخ: هل يحجب الدعاء بسبب الدين، أثابكم الله؟ الجواب الدين لا يحجب الدعاء، إلا إذا ظلم الناس وأكل أموالهم، فإنه إذا أخذ الدين بنية أنه لا يرده كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله) فإذا أخذ الدين وفي نيته أنه لا يرده فحينئذ يكون قد أشبه المغتصب، وحينئذ لا يكون دينا بل يكون غصبا، ومثل هذا يحجب الدعاء؛ لأنها طعمة حرام؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله) وهو الذي يأخذ الديون، ويقول: إن شاء الله أسددك وهو يعلم جازما أنه لا يسدده، وينوي في قرارة قلبه ويقول: هذا غني شبعان لا يضره إذا أخذت منه ألفا أو ألفين أو ثلاثة آلاف، فلو أخذ منه ريالا واحدا بنية أن لا يسدده أتلفه الله -والعياذ بالله- وعلقت نفسه ورهنت بحق الناس، فالواجب الحذر من هذا، وينبغي على الإنسان قدر المستطاع أن لا يقع في الدين. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد. وجه كون الحرابة محاربة لله ورسوله السؤال ما وجه كون الحرابة محاربة لله ورسوله، أثابكم الله؟ الجواب وصف الذين يقومون بموجب الجناية بكونهم محاربين لله ورسوله بسبب الخروج عن جماعة المسلمين وحمل السلاح عليهم، وهذا لا يفعله مسلم؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من حمل علينا السلاح فليس منا) والسلاح لا يحمله الإنسان إلا إذا كان محاربا، فإذا حمله وأشهره في وجه جماعة المسلمين فإنه لم يشهره في وجه شخص، إنما هو جان على جميع المسلمين بقطعه لطرقهم وإخافته لسبلهم أو جنايته على أموالهم، على التفصيل الذي ذكرناه في الحرابة، وهذا يقتضي أنهم بتشكيل هذه العصابة وخروجهم عن جماعة المسلمين ووقوفهم في وجه مصالح المسلمين محاربين لله ورسوله، إذ هذا لا يفعله إلا العدو مع عدوه، فهذا وجه كونهم محاربين لله ورسوله. وانظر عظمة هذا الدين في تعظيمه للحرمات، وليس هناك أتم ولا أكمل من شرع الله {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم} [الأنعام:115] فإنه هذب مجتمعات المسلمين وقوم أفرادها، وجعل كل إنسان يعرف التصرف الذي يصدر منه، وأنه إذا شهر السلاح في وجه المسلمين فهو ليس من المسلمين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من حمل علينا السلاح فليس منا) فإذا جاء يحمل السلاح طمعا في المال أصبحت حرمة المال ومحبته عنده أعظم من حرمة المسلم، ومن هنا يعظم الدنيا أكثر من تعظيمه للدين، وصار مثل الذي يقف في وجه المسلمين. وفي الحقيقة أنه لا يفعل هذا إلا الكفار والأعداء مع المسلمين، لكن أن يأتي إنسان ينتسب إلى الإسلام ويحمل السلاح على المسلمين ويقطع طرقهم، ويؤذيهم في دمائهم، فيسفك دماءهم، وينتهك أعراضهم، ويخيف سبلهم، ويقطع التجارة عنهم، والتي فيها أقوات الناس ومصالحهم؛ فإذا جاء يحمل السلاح على هذه المصالح كلها، فما معنى هذا؟ هل هذا يوصف بكونه موالاة لله ورسوله؟ هل يوصف بكونه مصلحة للإسلام والمسلمين؟ هذه عداوة للإسلام والمسلمين، ومن هنا وصفها الله بأشنع الأوصاف: {يحاربون الله ورسوله} [المائدة:33] صلوات الله وسلامه عليه، وهذا يدل على أنه ينبغي على كل مسلم أن يتحفظ في معاملته لإخوانه المسلمين، وما من أحد يقرأ نصوص الكتاب والسنة إلا ويجد نصوص الشريعة كلها تدل على تعظيم الحرمات، وأن الإسلام ليس بالتشهي ولا بالتمني ولا بالتسمي ولا بالدعاوى العريضة ولا بالأشكال، ولو طالت لحية الإنسان إلى قدميه، ولو قصر ثوبه إلى أعلى جسمه، فلا ينفعه ذلك إذا لم يكن معظما لحرمات الله عز وجل: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) وقد تجد الرجل في شكل الصلاح والخير وهو عند الله في النار؛ لأنه لا يعظم حرمة، فتجده لا يبالي أن يسب عالما أو طالب علم أو صالحا، فأين الإسلام؟ الإسلام هو الاستسلام لله. وقد هذب الإسلام جماعة المسلمين وأفرادهم، وانظر إنكاره على الشذوذ عن جماعة المسلمين حتى في الصلاة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس في الحج فرأى حاجين من الصحابة رضوان الله عليهم في مسجد الخيف منفردين عن الجماعة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (علي بهما، فأتي بهما ترعد فرائصهما من الخوف، قال: ما منعكما أن تصليا في القوم، ألستما بمسلمين؟) فانظر كيف تعظيم أمر الشذوذ والخروج، فقال: (ألستما بمسلمين؟) فالإسلام يهذب الجماعة والأفراد: (قالا: يا رسول الله! صلينا في رحالنا، قال: إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما المسجد فصليا) . وقال -كما في الصحيح-: (يا أبا ذر كيف بك إذا كان عليك أمراء يؤخرون الصلاة إلى غير وقتها، قال: فما تأمرني يا رسول الله، قال: صل الصلاة لوقتها، ثم صلها معهم ولا تقل: إني صليت) كان ممكن للشخص أن يقول: أنا إذا صليتها في وقتها فقد قمت بالحق وأصبت السنة، فلماذا لم يأذن النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي ذر على الأقل أن يقول: أنا قد صليت، حتى يحيي السنة ويبين أن الناس في خطأ؟ والجواب: حتى لا يشق ولا يحدث بين المسلمين خللا في جماعتهم، ولأن الصلاة لها أول ولها آخر، فانظر كيف يحرص الإسلام على هذه القضية، فالذي يأتي ويشهر السلاح فهو كما قال الله: {إنما جزاء الذين يحاربون الله} [المائدة:33] لأنه يشهر السلاح على جماعة المسلمين، ويقطع سبلهم، حتى ولو كان في المال والتجارة. ومن هنا تعلم أن دين الإسلام ليس دين العبادة والرهبنة فحسب، نعم هو دين العبادة والطاعة والإنابة، ولكنه دين شمولي يكون مع الإنسان في متجره في بيعه في شرائه، حتى جعل التاجر وهو يسافر يبتغي من فضل الله، ومن هنا يعلم الإنسان أنه يتقرب إلى الله عز وجل حتى ولو كان في ماله ولو في تجارته. وإذا كان الأمر كذلك فمعناه أن مصالح المسلمين التي أذن الله عز وجل بها لا يجوز لأحد أن يحول بينهم وبين ذلك، {وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله} [المزمل:20] أي: يطلبون فضل الله، وقد نص جماهير المفسرين على أن المراد بها أهل التجارة الذين يريدون المال ولكنهم ينفعون المسلمين ولا يضرونهم، ينفعونهم بجلب أرزاقهم وكفايتهم مئونتهم، فإذا جاء من يحمل السلاح على هؤلاء تعطلت سبل المسلمين، فقلت الأرزاق في المدن، وانقطعت عن الناس، وغلت الأسعار، هل هذا فيه مصلحة لجماعة المسلمين؟ صحيح أن القضية مادية، لكن ما هي الآثار؟ البعض قد ينظر إلى الجريمة في عقوبتها من الشرع فيستعظم العقوبة، لكنه لا ينظر إلى حقيقة الجريمة وأثرها، بغض النظر عن آحاد الصور، خذ مثلا: السرقة، قد يقال: كيف تقطع اليد، وتسيل الدماء، ويحرم الإنسان من الانتفاع من يده؟ لكن لو تصور الإنسان أن المجني على ماله جمع مالا أفنى فيه وقته، وأعمل فيه جهده في سهر ليل وتعب نهار، حتى إذا جمعه ويريد أن يحصل مصلحة من مصالحه؛ إذا به يفاجأ بشخص يأتيه على غرة في ظلام الليل يأخذ هذا المال ويحرمه من هذا المال، وهو لا يعرف من هذا الشخص، تصور عاقبة هذه الجريمة، أولا: ما أثرها النفسي؟ فقد يفقد الإنسان عقله؛ لأن الله عز وجل يقول عن المال: {إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا} [محمد:37] والله هو رب المال وهو المنعم بالمال، لكن النفوس من الشح وتعلق النفوس بالمال تبخل، فتصور أنه قد يفقد عقله؛ لأن هذا قهر له، حيث ظل يتعب ويكدح، ثم بكل بساطة يأتيه السارق ويختله، هذه واحدة، لكن الذي أعظم منها أن تنظر إلى المسروق الذي أخذ منه المال يشك في كل من حوله -وهنا بيت القصيد- فلا يثق في أحد، وكل من يدخل داره حتى ولو كان ابنه فهو عنده في محل التهمة. ولذلك فرقت الشريعة بين من يأخذ المال علانية وبين من يأخذه خفية؛ لأنه يجني على المسلمين جماعة وأفرادا، وهذه كلها أسرار وحكم: {ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون} [المائدة:50] فليس هذا الحكم عبثا {والله يعلم وأنتم لا تعلمون} [البقرة:216] فكل جريمة إذا نظرت إلى آثارها النفسية، وآثارها على الأفراد، وآثارها على الجماعة ثم نظرت إلى عقوبتها وجدت أنها مناسبة تماما للجريمة، وقد جلست مع بعض المختصين في علم الاجتماع، يقول: إني أتعجب من تقدير الشريعة لبعض العقوبات، فإني حينما أدرس آثارها وتبعاتها النفسية، إذا بالعقوبة مناسبة تماما للجريمة، لا تستطيع أن تزيد عليها ولا تنقص منها! إنه العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض. فوصف الله قطاع الطرق بأنهم محاربون لله ورسوله؛ لأنهم يقطعون السبل، تصور أنك يوما من الأيام تريد أن تخرج من مدينة إلى مدينة، فلا تستطيع أن تخرج؛ لأن في الطريق قاطع طريق، كيف يكون أمرك؟ الذي يريد أن يعود مريضا لا يستطيع أن يعوده، والذي يريد أن يصل رحما لا يستطيع أن يصل رحمه، والذي يريد أن يجلب تجارة لا يستطيع، فتتعطل بذلك مصالح المسلمين، فإذا: وصف القرآن بأنها محاربة لله ورسوله ليس فيه مبالغة ولا هو عبث، إنما هو شيء وراءه أسرار وحكم وغايات. ومن هنا إذا أردت أن تفند شبه أعداء الإسلام فقف معهم في الجريمة نفسها، وحلل آثارها على الأفراد والمجتمعات، تجد أن الخصم يسلم لك، وإلا فإنه يدمغ بحجة الله الدامغة؛ لأنه لا يمكن أن ينظر إلى جريمة مختصة بحال أو بشخص، ومن هنا وصفهم الله بهذا الوصف {يحاربون الله ورسوله} [المائدة:33] . قد يقول شخص كما قال السائل: كيف يوصفون بهذا الوصف العظيم؟ هم لم يقولوا: نحن نحارب الله، ولا قالوا: نحارب رسوله عليه الصلاة والسلام، مثلا: الشخص إذا جاء وحمل السلاح وخرجت عصابة منظمة للسطو -مثلا- على السفن في البحر، فقد تجدهم يصلون، ولكن يقولون: نحن نحب المال، وبعضهم يعد هذا شجاعة والعياذ بالله {زين له سوء عمله} [فاطر:8] ويؤدي أعمال الإسلام، لكنه يقول: أنا مغرم بالمال، تقول له: أنت محارب لله ورسوله، يقول: لا والله، أنا لم أحارب الله ولا رسوله عليه الصلاة والسلام. لكن إذا جئت تنظر إلى قاعدة الإسلام العظيمة، وأن الرجل إذا دخل على فراش الرجل ولو كان قاتلا لابنه لا يقتله؛ لأنه دخل في حرمة بيته، وكانت العرب في جاهليتها الجهلاء وضلالتها العمياء، لو جاء الجاني ودخل على فراش الرجل وطعم من طعامه فقد أصبح في حرمته يمنعه ظالما أو مظلوما، فإذا كان هذا في المخلوق -ولله المثل الأعلى- فكيف بالخالق سبحانه الذي يقول في الحديث الصحيح: (ما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته) . المؤمن له حرمة عند الله عز وجل، فمن يحارب المؤمن فقد حارب الله، ومن والى المؤمن فقد والى الله؛ إذا كانت المحاربة والموالاة مبنية على العقيدة والإيمان، وعلى كونه وليا من أولياء الله عز وجل، ومن هنا إذا خرجوا عن جماعة الم كيفية التوبة من الغيبة السؤال هل تكفي التوبة من الغيبة لمحو الذنب أم لابد من الاستسماح من صاحبها، أثابكم الله؟ الجواب التوبة من الغيبة تنفع الإنسان فيما بينه وبين الله عز وجل، ولا يسقط حق الشخص المغتاب حتى يسامحه بطيبة نفسه، وإذا لم يسامحه فإنه سيلقى الله بذنبه ويأخذ من حسناته على قدر جرمه، حتى إذا فنيت حسناته أخذ من سيئات المجني عليه وحملها على ظهره -والعياذ بالله- ثم طرح في النار، فهذا فيه عظة للإنسان أن يتقي الله عز وجل في الغيبة. ومن أهم ما ينبغي للمسلم أن يحذره أن ينظر إلى سبب ودافع الغيبة، خاصة في هذا الزمان الذي أصبحت الغيبة من أسهل ما يكون، حتى لربما وقع الإنسان في الغيبة وهو لا يشعر، والذي يدفع الناس اليوم، إليها سببان ما اجتمعا في إنسان إلا انتهك حدود الله عز وجل في عباد الله وأولياء الله المؤمنين، ونسأل الله عز وجل أن يعيذنا منهما. السبب الأول: الاحتقار، ولذلك يجب على المسلم دائما ألا يمسي ولا يصبح، ولا تغيب عليه شمس يوم ولا تشرق إلا وهو يعرف من هو المسلم؟ وما هي حرمة المسلم عند الله عز وجل؟ وعندها لا يمكن أن يفرق بين الناس بألوانهم أو بأحسابهم أو أنسابهم أو مناصبهم ووظائفهم أبدا، تجده يخاف من غيبة الفقير أكثر من خوفه من غيبة الغني، ويخاف من الضعيف أكثر من خوفه من القوي، وذلك من شدة خوفه من الله سبحانه وتعالى. فعليك أن تعرف أن هذا المسلم له حرمة وحق عندك، وأن كونك مسلما يوجب عهدا وذمة للمسلم عندك، والله يقول: {لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة} [التوبة:10] (الإل) : القرابة، و (الذمة) العهد، وأشد ما تكون الغيبة للقرابة، قد يجلس الشخص يقول: أبي يصرف المال الكثير، فهذه غيبة يهوي بها في نار جهنم، وهذه من أسوأ أنواع الغيبة، وهي غيبة الوالدين. السبب الثاني الذي يوقع في الغيبة: النقد، فقد أولع الناس بالنقد، وحرص الناس على النقد، تجد الشخص يجلس في أي مجلس يريد أن يبدي رأيه فيه، ويشجع الصغير على أن يصبح عنده جرأة، ويعلمه كيف ينتقد، وكيف يقول الصواب والخطأ؟ وما وجدنا كيف نعلم الصغار وننشئ أبناءنا إلا على الغيبة، والعياذ بالله! فالنقد طريق الغيبة، ومن أشنع الطرق أن الإنسان إذا تعود كلما جلس مع أحد أن يراقب أخطاءه، فهذا من المحرومين -والعياذ بالله- وفي الحديث: (طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس) فالذي تجده دائما يجلس في المجلس وينتقد، وكما انتقد الناس عندك سينتقدك عند الناس، والذي تجده طويل اللسان صفيق الوجه لا يخاف الله في حرمات المسلمين، فبعض الأحيان تجده يجلس ويتكلم عن الإمام في المسجد ويغتابه، ويتكلم عن الخطيب في المسجد ويغتابه، يبدي رأيه في كل شيء، فهذا على خطر. ثم هم يقولون: نحن في زمان الحرية، وعليه فكل شخص يتكلم، وهي حرية إلى جهنم وبئس المصير -والعياذ بالله- لأنها حرية على حساب أعراض المسلمين، حرية على التهور واحتقار الناس وعدم المبالاة. فعلينا أن نهذب أنفسنا ونهذب أخلاقنا بترك احتقار المسلمين، والاحتقار كما يقع في عامة المسلمين يقع حتى بين طلاب العلم، طالب العلم القديم يحتقر طالب العلم الجديد، ويقول: من هذا حتى يأتي هنا، حتى يفعل أو يسأل أو حتى يقترب من الشيخ؟ وفلان أنا لا أحبه لأنه يسأل كثيرا ويفعل كثيرا، وما نريد كذا! فكل شخص يريد أن يقود الناس على طريقة معينة آمن بها ورضيها، لكن لو أن كل إنسان عرف قدر نفسه واشتغل بتهذيب نفسه وتقويمها، وشغلته عيوبه عن الناس لعرف أين يضع لسانه، والله ما من إنسان يراقب نفسه مراقبة تامة كاملة إلا سلم له دينه وعرضه، فتجد الإنسان الذي يعف عن أعراض المسلمين وفيه نظرة إلى عيوبه وخلله يشتغل بها عن عيوب المسلمين؛ تجده من أسلم وأحسن الناس. النفس إذا هذبها الإنسان وقومها بالخوف من الله والورع والعفة استقامت لله عز وجل، ولذلك تجد الإنسان إذا جلس في مجلس وسمع فيه غيبة يتضايق ويتذمر، وكان بعض مشايخنا رحمة الله عليهم لا يجلس في مجلس يغتاب فيه مسلم، ويقول: أنا لا أسمح بحسناتي أن يأخذها أحد، ويقول: أنا بخيل بحسناتي، أكون كريما في كل شيء إلا بحسناتي فلا أعطيها لأحد، لأنك إن سمعت النقد في الشيخ، أو في المحاضر، أو المدرس، أو المعلم، أو الملتزمين وغير الملتزمين، أو في فلان وعلان، فاعلم أنك ستنتقد كما انتقد غيرك، وقالوا: من جر إليك عيوب الناس جر عيوبك إلى الناس. لسانك لا تذكر به عورة امرئ فكلك عورات وللناس ألسن ومن هنا قالوا: من اغتاب الناس اغتابوه، ومن سب الناس سبوه، ومن أهان الناس أهانوه. فعلى الإنسان أن يعلم أن هناك ربا حكما عدلا، فينبغي علينا في ترك هذه الآفة، أن يحرص على الاشتغال بعيوبنا، وأن نترك عيوب الناس، إلا إذا كان المتكلم مصلحا هاديا يفكر كيف يقود الناس إلى الخير، أما أن تجعل لحوم المسلمين وأعراضهم رخيصة فإن من فعل ذلك سيندم، ولكن الندم في أعراض المسلمين طويل ومؤلم، حينما يجلس يكتوي ليله ونهاره يريد أن يتوب إلى الله عز وجل، فإذا به لا يسقط عنه حق أخيه المسلم ما لم يسامحه، فيأتي إلى أخيه المسلم فيصده الشيطان ويقول له: كيف تجيء تقول له: اغتبتك، فيغلبه الحياء، أو الخجل، أو يغلبه إبليس، أو النفس الأمارة بالسوء، فتأخذه الأنفة والعزة بالإثم، حتى يموت الشخص فيعجز عن طلب السماح منه -والعياذ بالله- وعندها سيقف بين يدي الله عز وجل لكي يقتص منه. فالحذر كل الحذر، ومن هنا ما من عالم ولا طالب علم ولا خطيب ولا أي إنسان يلتزم بدين الله عز وجل، ويهذب الناس ويقومهم ويقرعهم بقوارع التنزيل في حقوق المسلمين بعضهم على بعض؛ إلا نصح لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فما دمرت كثير من مصالح المسلمين إلا بسبب الغيبة، وما حرص أعداء الإسلام اليوم على شيء مثل أن يربوا في الأمة قضية النقد، فتجد الشخص ولو كان صغير السن لا يرضى عن أحد، ودائما يفكر في المثاليات وكأنه يبحث عن شيء كامل. ومن أراد أن يبحث في الناس عن إنسان كامل فلن يجده، وسيتعب ويطول تعبه ويطلب المستحيل كما ذكر الحكماء والعقلاء، لأن الكمال لله عز وجل، والله يقول: {فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون} [الأعراف:8] . فإذا عاشرت المسلمين رحمك الله، فكن من خيارهم: إن رأيت خيرا حمدته، وإن رأيت عيبا سترته، وإن رأيت فسادا أصلحته، وإن رأيت اعوجاجا قومته، وشغلتك عيوبك عن عيوب الناس، تمسي وتصبح وإذا بك تريق دمعة الندم والألم كلما آواك فراشك في الليل تفكر ما الذي قلته في المسلمين؟ وما الذي عملته مع المسلمين؟ وتفكر كيف تسعى إلى الأكمل والأفضل؟ فإذا فعلت ذلك وفقك الله، وفتح لك أبواب الرحمة. فإن المسلم دائما يوبخ نفسه ويعاتبها حتى تستقيم على طاعة الله عز وجل، والنفس إذا كثر توبيخ الإنسان لها، ومحاسبة الإنسان لها: ماذا قلت؟ ماذا عملت؟ غدا لن أعود؛ طال عمره في الخير، وحسن عمله، وصلح لله عز وجل، لكن إذا كان من الغافلين -والعياذ بالله- فإنه خاسر، والأشقى من هذا والأدهى أن يزين له سوء عمله، وأن يقال له: إن غيبة العلماء والكلام فيهم قربة وحسبة، وأن جرحهم وسلبهم وكشف عوراتهم واجب حتى لا يغتر بهم. وانظر إلى عوقب من فعلوا ذلك، ما الذي شادوا من بناء؟ وما الذي أصلحوا من فساد؟ وما الذي قوموا من اعوجاج؟ والله ما زادوا البناء إلا هدما، ولا زادوا الأمة إلا شقاء وفرقة، حتى إن بعضهم حينما تاب يقول: والله ما وجدت إلا قسوة القلب، والتسلط على أعراض المسلمين؛ لأنه إذا تسلط على الصلحاء فمن باب أولى أن يتسلط على غيرهم، فيجب أن يرتدع الإنسان بزواجر التنزيل. وانظروا كيف أن السائل أصبح في حيرة، لا يستطيع أن يتوب من ذنبه إلا إذا رجع إلى صاحب الحق. وآخر ما نختم به ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبرين، فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، ثم قال: بلى إنه كبير، أما أحدهما فقد كان يمشي بالنميمة) ومعنى: (وما يعذبان في كبير) أنه ليس كبيرا عليهما تركه ولا هو شاق، وانظر حتى شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم له جاءت محدودة، وما رفع العذاب عنه، ولكن خفف، فما بالك إذا أصبح الإنسان يغتاب الناس والعلماء، وينفر من مجالسهم، فإذا كانت النميمة بين شخصين في أمور الدنيا هذه عاقبتها، ولم يستطع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشفع في رفع العذاب، إنما قال: (لعله أن يخفف عنهما ما لم تيبسا) ، فقط، فكيف بمن يتكلم في العلماء!! لابد أن يتأمل الإنسان هذا، وسنقول ذلك ونعذر إلى الله عز وجل، والسعيد من وعظ بغيره، فقد رأينا من العواقب الوخيمة لغيبة الناس أينما كانوا، وبالأخص لأولياء الله وصالحيهم، فإننا وجدنا العواقب الوخيمة لمن يجرؤ على ذلك، ومن يستخف بذلك، والله يستدرج العبد من حيث لا يعلم، ومن حيث لا يحتسب، اللهم لا تجعلنا ممن استدرجته، اللهم لا تجعلنا من المستدرجين، وخذ بنواصينا إلى ما يرضيك عنا يا أرحم الراحمين، والله تعالى أعلم. الدخول مع الإمام في التشهد الأخير السؤال إذا حضرت صلاة الجماعة والإمام في التشهد الأخير، فهل أصلي معه أم أنتظر جماعة أخرى، أثابكم الله؟ الجواب في قول جماهير العلماء يجب عليك أن تدخل مع الجماعة الأولى، ولا يجوز أن يقف الشخص ينتظر جماعة ثانية، والحديث واضح في هذا وصريح، قال: (إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا) ومن هنا نلحظ الشذوذ عن الجماعة، وقد كان مشايخنا يقولون في هذا: إن الإنسان إذا أتى ولو قبل السلام بلحظة فليكبر ويدرك فضيلة الجماعة الأولى؛ لأن الجماعة الأولى فضيلتها في الوقت، والجماعة الثانية فضيلتها في العدد والتكثير، ويكتب لك فضيلة الخمسة والعشرين درجة مادمت قد أدركت الإمام قبل سلامه، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (صلاة الرجل في مسجده تفضل على صلاته في بيته وسوقه خمسا وعشرين ضعفا وذلك أنه إذا توضأ فأسبغ الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا كتبت له بها حسنة، وحط عنه بها خطيئة) الحديث، هذا كما في الصحيح من حديث أبي هريرة، فجعل الخمسة والعشرين درجة للخروج. ومن هنا تدرك فضيلة الجماعة الأولى، وأحد أقوال العلماء أن السبعة والعشرين درجة لمن أدرك الجماعة كاملة، والخمسة والعشرين درجة لمن أدرك الجماعة في آخرها، وأيا ما كان فإنك إذا أدركت الجماعة الأولى أدركت فضيلة الوقت، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن العبد ليصلي الصلاة وما يصليها في وقتها -أي: قد يكون بين الجماعة الأولى والجماعة الثانية ربع ساعة- ولما فاته من وقتها خير له من الدنيا وما فيها) أي: يمكن لو فاتك من أول الوقت دقيقة، فهذه الدقيقة في الثواب والجزاء خير من الدنيا كلها من أولها إلى آخرها، فقوله: (ولما فاته من وقتها) إشارة إلى أقل شيء من الوقت، (خير من الدنيا وما فيها) فتحرص على فضيلة أول الوقت في الجماعة الأولى، ولا يجوز لك أن تقف؛ لأن هذا شذوذ عن الجماعة، والواجب عليك أن تدخل مع جماعة المسجد، والله تعالى أعلم.
__________________
|
|
#743
|
||||
|
||||
|
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (مقدمة كتاب الحدود) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (532) صـــــ(1) إلى صــ(17) شرح زاد المستقنع - باب أحكام الصيال قد يهجم على الإنسان من يعتدي عليه في نفسه أو ماله أو عرضه، وقد يكون هذا الهاجم آدميا أو غير آدمي، وحينئذ قد يتمكن الإنسان من دفعه ورده عن حرمته وقد لا يتمكن، وهذا ما يعرف بمسائل الصيال، وقد فصل أهل العلم أحكامها المختلفة بأدلتها، وبينوا طريقة الدفع الشرعية، وما يترتب على ذلك من لزوم الضمان وعدمه. معنى الصيال ومتعلقه وأدلة مشروعية دفع الصائل الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه، ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف -رحمه الله تعالى: [ومن صيل على نفسه، أو حرمته، أو ماله: آدمي أو بهيمة، فله الدفع عن ذلك بأسهل ما يغلب على ظنه دفعه به] : هذه الجملة وما بعدها إلى نهاية الباب خصها المصنف رحمه الله بأحكام الصائل، ومناسبة أحكام الصائل للحرابة واضحة ظاهرة؛ لأن المحاربين إذا اعتدوا على الناس صالوا على أنفسهم، وأعراضهم وأموالهم، وقد بين حكم المحارب الذي يصول، فبقي أن يبين لنا حكم من صيل عليه. فهل يجوز للشخص إذا اعتدى عليه غيره، وأراد قتله، أو أخذ ماله، أو الاعتداء على حرمة من حرماته كعرض ونحو ذلك؛ هل من حقه أن يدفع؟ وهل هذا الدفع واجب عليه؟ وهل الأفضل أن يدفع أم لا إذا لم يكن واجبا؟ وكذا إذا قلنا بمشروعية الدفع فالدفع له مراتب وأحوال، فهل يجوز له أن يدفع بالأقوى مع إمكان الدفع بالأخف؟ كل هذا سيفصله المصنف رحمه الله في أحكام الصائل. المواطن التي يدفع عنها الصائل يقول رحمه الله: (ومن صيل على نفسه) وفي بعض النسخ: (ومن صال) وهو أوجه. الصائل: اسم فاعل من صال يصول فهو صائل، إذا وثب على الغير واستطال عليه. ويطلق الصولان على القوة والاندفاع في الشيء، وهذا الصائل على الغير: تارة يكون آدميا، وتارة يكون من غير الآدميين، وهنا المصنف -رحمه الله- يقول: (ومن صال) وبين بعد ذلك من هو فقال: (آدمي أو بهيمة) فهذا فيه عموم حيث يشمل كل من يهجم عليك، أو يهجم على الغير. فإن كان الصائل آدميا: فإما أن يكون مكلفا كالمسلم البالغ العاقل يهجم على غيره يريد أن يقتله، أو ينتهك عرضه، أو يأخذ ماله، وإما أن يكون من غير المكلفين، مثل: أن يكون مجنونا يهجم على الإنسان بالسلاح، ويفاجأ الإنسان به وقد أشهر عليه سلاحه، أو أنه سكران، أو مخدر، وقد يكون صبيا مميزا، أو غير مميز، وكل هذا يدخل في الصائل، وكذلك قد يكون بهيمة. ثم هذا الصائل إذا هجم على الغير قد يهجم بحق، وقد يهجم بغير حق، فقد يهجم الإنسان على الغير، ويهدده بالسلاح ومعه حق في هذا التهديد، كأن يكون الذي هجم عليه مطالبا بحق لله عز وجل أو بجريمة، أو أمر هذا الشخص أن يأتي بهذا الشخص الذي يصال عليه من أجل معرفة حق من حقوق الله عز وجل عليه، وهذا في حالة ما إذا كان الصائل معه حق، حتى البهيمة في بعض الأحيان تصول على الإنسان بحق، مثلا: إذا دخل اللص إلى حائط بستان، وفيه كلب للحراسة، فإن هذا الكلب إذا صال على هذا الشخص فإن هذا حق من الحقوق؛ لأن الشرع أذن باتخاذ الكلب لحراسة الزرع ولحراسة الماشية، كما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه أذن بكلب الصيد والحرث والماشية، فإذا هجم الكلب في هذه الحالة فهذا بحق. وقد يكون بغير حق كما إذا هاج البعير أو الثور، وهجم على الإنسان، وخاف على نفسه، أو خاف على أموال عنده، بأن هجم على دكانه أو متجره، وغلب على ظنه أنه سيتلف أمواله، فكل هذا يدخل في أحكام الصائل، لكن كلام العلماء ينصب على حالة ما إذا كان الصائل بغير حق، وليس المراد إذا كان بحق. فمن هجم على الغير وعنده حق في هذا الهجوم، وله إذن شرعي، فإنه يخرج من مسألتنا، ولذلك قد يكون الهجوم على الغير من الجهاد في سبيل الله عز وجل، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن الجند والشرط إذا هجموا على قطاع الطريق، أو هجموا على المجرمين، وكان المجرمون لهم سلاح وفتك، فإنهم إذا دافعوا عن أنفسهم أو طلبوا هؤلاء المجرمين يكونون كالمجاهدين في سبيل الله؛ لأنهم يحفظون دماء الناس وأعراضهم وأموالهم، ويقومون على مصالح المسلمين العامة؛ لأنه طلب بحق، فهذا الهجوم إذا كان له مبرر شرعي فإنه لا يدخل معنا في مسألة الصول. الصول المراد به هنا أن يكون بغير حق، مثل ما يقع في الحرابة وفي مسائل العصابات إذا هجمت على الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، وغير ذلك. يقول رحمه الله: (ومن صال على نفسه) الصول على النفس للقتل، ويثبت هذا بالأمارة، فيكون صائلا على نفس الإنسان إذا أشهر عليه سلاحا يقتل غالبا، أو وضع هذا السلاح على مقتل كالرأس وقال له: افعل كذا، أو ادفع لي مالك، أو يهجم على المرأة لانتهاك عرضها، أو يريد من عدو أن يقتله فيسفك دمه. وقوله: (أو حرمته) : الحرمة: كالمرأة مثلا يصول عليها من أجل أن يزني بها والعياذ بالله. وقوله: (أو ماله) : أي: يصول عليه من أجل أن يأخذه. فبين رحمه الله محل الصول، والسبب الدافع لهذه الأذية والإضرار، وهو: قتل وإزهاق النفس، والاعتداء على العرض، أو أخذ المال. وأعلى هذه الأشياء وأعظمها حرمة النفس، ثم يلي ذلك العرض، ثم يلي ذلك المال، ولذلك فإن شدد الشرع في أحكام الصائل في النفس والعرض والمال، ولم يقع خلاف في النفس والعرض، ولكن وقع الخلاف في المال، ولذلك تجد العلماء لما قالوا بوجوب دفع الصائل، لم يختلفوا في دفعه إذا كان لأجل النفس أو العرض، ولكن الخلاف في المال هل يجب أم لا يجب؟ على تفصيل عندهم رحمهم الله. لا يشترط لدفع الصائل أن يكون مكلفا وقوله: (آدمي) أي: سواء كان الصائل آدميا، ويشمل الآدمي المعصوم، لأن الآدمي إما أن يكون مكلفا، أو يكون غير مكلف، والمكلف: هو البالغ العاقل، وغير المكلف كالصبي، والمجنون، وفي حكمه السكران على الصحيح من أقوال العلماء، وقد تقدمت معنا مسائل السكر وتأثيره، وأن السكران غير مؤاخذ بأقواله وأفعاله على التفصيل الذي بيناه في طلاق السكران. وكذلك أيضا: إذا تعاطى المخدرات يكون في حكم المجنون إذا فقد عقله وإدراكه. والصائل يكون بعقله وإدراكه، مكلفا مؤاخذا، وقد يكون غير مكلف كالصبي والمجنون. وأيضا إذا كان مكلفا بالغا عاقلا: فقد يكون معصوم الدم مثل المسلم، وقد يكون غير معصوم الدم كالكافر، وهذا عام. وقوله: [أو بهيمة] : البهيمة أيضا تشمل البهائم الهائجة أو غير الهائجة، والمراد بذلك إذا كانت بدون حق. أدلة مشروعية دفع الصائل وقوله: [فله الدفع عن ذلك بأسهل ما يغلب على ظنه دفعه به] أي: للشخص الذي يصال عليه دفع هذا الصائل بأسهل ما يغلب على ظنه دفعه به، ومشروعية دفع الصائل ثبتت بها الأدلة الشرعية، أي: يشرع للمسلم أن يدفع عن نفسه وعرضه وماله. وأجمع العلماء رحمهم الله على العكس: أي أنه لا يجوز للصائل أن يصول على دماء الناس، ولا على أعراضهم، ولا على أموالهم؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت، اللهم فاشهد) . فحرم الاعتداء على هذه الأمور، وشرع للمسلم أن يدفع، ولذلك قال تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة:195] وإذا سكت الإنسان عن هذا الصائل، فمعناه أنه يسلم نفسه للهلاك، والله تعالى يقول: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما} [النساء:29] أي: لا تتعاطوا أسباب قتل النفس، فإذا سكت عن هذا الصائل فإنه سيقتله، ولا يجوز للمسلم أن يسكت عن الأسباب المفضية بنفسه إلى الهلاك، بل عليه أن يتعاطى الأسباب المنجية لنفسه من هذا الهلاك؛ ولذلك شرع له أن يدفع الصائل. كذلك السنة أكدت هذا، ومن هنا قال رجل: (يا رسول الله! أرأيت إن جاء يريد أخذ مالي، قال: لا تعطه، قال: أرأيت إن قاتلني، قال: قاتله، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: أنت شهيد، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار) فأهدر دمه وأسقط حرمته لمكان الاعتداء، فدل على حق دفع الصائل؛ لأنه جعل دم الصائل هدرا. وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون عرضه فهو شهيد، ومن قتل دون نفسه فهو شهيد) وهذا يدل على مشروعية دفع الصائل، وأن على المسلم نفسه أمانة أن يتقي الله عز وجل في حفظها بتعاطي أسباب صيانتها عن الهلاك. حكم دفع الصائل وقوله: (فله الدفع) هذا الدفع فيه تفصيل: هل هو واجب؟ أو غير واجب؟ والعلماء مجمعون: أن من حق الإنسان أن يدافع عن نفسه، وعرضه؛ لثبوت النصوص بهذا، ولكن هل هذا على سبيل الفرض؟ أو على سبيل التخيير، أعني: التوسعة؟ يرى المصنف رحمه الله وهو مذهب الإمام أحمد رحمة الله عليه أن الدفع واجب، وأن الإنسان إذا هجم عليه من أجل أن يسفك دمه، أو ينتهك عرضه، أو يؤخذ ماله بغير حق؛ أنه يجب عليه أن يدفع، إلا في زمان الفتنة. والإمام أحمد رحمه الله له مسلك عجيب في التعامل مع النصوص، وهذا المسلك له أصل عند السلف والأئمة والصحابة رضوان الله عليهم، وهو أن يعمل كل نص في مورده، ولذلك استثنى حال الفتنة، وجعل أحاديث الفتن التي ندب فيها النبي صلى الله عليه وسلم المسلم أن يكون عبد الله المقتول ولا يكون القاتل؛ جعلها محمولة على الفتن التي فيها تأويل، وما يقع بين المسلمين من الفتن، فالإنسان يحفظ نفسه فيها، وهي وصية النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي ذر رضي الله عنه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يلزم بيته، قال: (ولو دخل علي في بيتي أأحمل معهم؟ قال: إذن شاركت القوم، قال: فما أفعل. قال: الزم بيتك، قال: حتى ولو دخل علي في بيتي؟ قال: ولو دخل عليك في بيتك) فهذا كله يدل على أن الفتن مستثناة. فجعل النصوص العامة في وجوب حفظ الإنسان لنفسه وعرضه وماله على ما هي عليه، وجعل الدفع هنا على سبيل الوجوب؛ لأنها دالة على الوجوب، واستثنى أحوال الفتن. ومن دقة المصنف رحمه الله أنه جعل لكل دليل دلالته، وجعل العام على عمومه، والخاص على خصوصه، ولم يحكم بالتعارض بينها. قال رحمه الله: (فله الدفع بما يغلب على ظنه) : الشريعة كلفت المسلم بغالب الظن، بمعنى: أنه يجتهد ويقدر، فإذا غلب على ظنه أن الرجل سيقتله، ولا يمكن بحال أن يخرج من هذا القتل، وينجو منه إلا إذا قتله، فحينئذ يقتله، وغالب الظن متعبد به شرعا، ومن تأمل النصوص في العبادات والمعاملات لم يشك أن الشريعة تعبدت بغالب الظن، وعلى ذلك جرت النصوص، وللإمام العز بن عبد السلام في كتابه قواعد الأحكام كلام نفيس في أن الشريعة تبني أحكامها على غالب الظن، وغالب الظن: هو نظر الإنسان. التدرج في دفع الصائل لما قال المصنف رحمه الله: (بما يغلب على ظنه) فمعناه: أنه لو شك وتردد، فعليه أن يتوقف، ويمتنع من الإقدام على شيء لوجود الشبهة، ولا يستحل دم الصائل إلا إذا غلب على ظنه أنه سيهلك، وغلب على ظنه أنه لا يمكن دفعه إلا بهذا. فمثلا: إذا وجه السلاح عليك إنسان، في بعض الأحيان يغلب على ظنك أن السلاح فيه حشو، وتعرف الشخص أنه يحسن استعماله، وتعلم أو يغلب على ظنك أنه سيقدم مثل الفاسق المتهتك الجريء على الفعل، أو سبق له أن فعل ذلك، فحينئذ يغلب على ظن الإنسان أنه سيقدم على فعل. لكن لو كان الشخص ضعيفا، ولم يغلب على ظن الإنسان أنه سيطلق عليه سلاحا، وقد يكون من أهل المزاح والعبث، وحينئذ يصبح من غلبة الظن أنه لا يقتل، فحينئذ لا يستبيح. إذا: لابد أن يغلب على ظنه وجود استباحة النفس والدم، وأنه لا يمكن دفعه إلا بهذه الطريقة. والدفع مراتب: أقلها وأول ما ينبغي أن يفكر فيه من الدفع: الكلام، فلو هجم شخص على شخص، وأمكن أن يدفعه بالأسهل والأخف، كأن يهدده بالكلام، ويقول له: إن هذا يضرك، ويعظه، ويذكره، ويغلب على ظنه أن الوعظ والتذكير سيؤثر؛ فلا يجوز له أن يضربه فضلا عن أن يقتله، فضلا عن أن يعتدي عليه؛ لأنه متى ما أمكن درء المفسدة بما لا ضرر فيه على الطرفين وجب وتعين المصير إلى ذلك، فإذا كان الكلام مؤثرا لم يجز له أن يقدم على الضرب. كذلك أيضا إذا كان بإمكانه أن يصرخ، أو يستنجد بعد الله بجيرانه، أو يتصل كما هو موجود في زماننا فيطلب نجدة، أو يتصل بالمعنيين من أجل أن ينقذوه، فهذا لا رخصة له إذا غلب على ظنه أنه سينجو، وأن هذا سينفع، وأن هذا سيحول بينه وبين أذية الغير له في نفسه أو عرضه. كذلك المرأة إذا اعتدي على عرضها، وأمكنها أن تصرخ وتستغيث، فإنه لا يجوز لها أن تقدم على القتل. أما إذا كان الكلام لا ينفع، فقد تدرج العلماء إلى مسألة الضرب، والضرب يكون على صورتين: الضرب بالجارح، والضرب بغير الجارح. الضرب بالجارح: كالطعن بالخنجر، والجرح بالسكين. والضرب بغير الجارح أيضا على صورتين: يكون بالسوط وبالعصا، فالأشياء التي يضرب بها، إذا أمكن دفع ضرره بالضرب نظرنا: فإن أمكن دفعه بالأسهل وهو الضرب بغير الجارح، فحينئذ إن ضربه بالجارح ضمن، وإذا كان قد أمكن ضربه بغير الجارح ننظر: فالسوط أخف من العصا، ثم السوط يختلف على مراتب، فالضرب بالسوط من الجلد، ليس كالضرب بأسلاك الكهرباء، ونحو ذلك، فينظر إلى الأخف؛ لأنه لا يجوز الارتقاء إلى الأعلى مع إمكان دفع الضرر بالأخف. كذلك أيضا: إذا تعذر دفع ضرره بالضرب، كالمرأة أو الرجل إذا هجم عليه، فأمسك العصا، وهدد الذي يهدده أنه لو أقدم عليه فسيضربه بالعصا، فلا يجوز أن يمسك السلاح ويثوره عليه، كأن يطعنه بالسكين أو يطلق عليه النار؛ لأنه يمكن دفعه بما هو أخف. ثم إذا كان جارحا كالأسلحة الموجودة في زماننا، فالجارح الذي يستعمله الإنسان يفصل فيه: فإن كان قد صال عليه يريد قتله، وعنده سلاح يريد أن يدفع به، فهذا السلاح إذا أمكن أن يضرب الصائل في يده فيعطله عن قتله لم يجز أن يقتله، وإذا قتله ضمنه، ومن هنا: تفصل الشريعة ولا تعطي الإذن باستباحة دم الصائل إلا في حال التعذر، وأن جميع هذه الوسائل لا تنفع، ولا يمكن بحال دفع ضرره إلا بقتله. فلو أنه وضع السلاح على حرمة الإنسان، وهدده أنه سيقتلها، وغلب على ظنه أن الرجل سيفعل، ولا يمكنه أن يضربه في يده، وغلب على ظنه أنه لو ضربه في يده قد لا يصيبه، فوجه سلاحه إلى رأسه من أجل أن يقتله مباشرة حتى لا يستطيع أن يقتل من تحت يده؛ حل له ذلك، وينذره إن وجد مجال للإنذار. وكل هذا التفصيل محله ألا يشتبك الطرفان، فإذا اشتبك الطرفان، وكان الحال حال مغالبة، والرجل معه سلاح يقتل، وتصارع معه، وغلب على ظنه أنه إذا لم يقتله أنه سيصل إلى السلاح ويقتله؛ قتله، وارتفعت هذه التفصيلات كما نص عليها طائفة من المحققين من العلماء رحمهم الله. فالتفصيل إنما يكون إن وسع الوقت، وأمكن تلافي الضرر، وأمكن التفكير في هذه الوسائل، أما لو هجم عليه هجوما مباشرا، أو باغته وهو في بيته أو حرمته، ودخل عليه فجأة، أو دخل عليه وهو في غرفته، فلم يفاجأ إلا والرجل هاجم عليه، فحينئذ لو أخذ السلاح وقتله فله وجه عند طائفة من العلماء فيقولون: إنه يسقط التفصيل، لأنه لا يمكن؛ فهذا داخل عليه بسلاحه، وهو لا يستطيع أن تفكر أنه يقتل أو لا يقتل، ولا يدري هل هو سيبادر بالقتل أو يتأخر؟ فالظاهر أنه إذا دخل بهذه الصورة، فقد سقطت حرمته، وهو الذي أهدر دم نفسه، وحينئذ لا يودى وليس له حرمة، ودمه هدر. هذا كله إذا وقعت المباغتة أو هجم على الإنسان هجوما مباشرا، ويقع هذا في بعض الجرائم المنظمة، وقد يقع في المدن والصحاري، كل هذا التفصيل يذكره العلماء رحمهم الله متى ما أمكن للشخص أن يمعن النظر ويفكر، أما إذا لم يمكنه وباغته وهجم عليه، وغلب على ظنه أنه لا يمكن دفع هذا الضرر إلا بقتله فإنه يقتله بكل حال. وقوله: [فإن لم يندفع إلا بالقتل فله ذلك ولا ضمان عليه] . أي: فإن لم يندفع الصائل أو البهيمة: كأن هاج بعير، والبعير أو الثور إذا هاج فإنه يقتل، فإذا هجم على الإنسان، وأخذ يبطش بالناس، وأنت ترى بعينك أنه قتل هذا وقتل ذاك، أو هجم الشخص هجوما لا يمكن دفعه إلا بالقتل، كأن يكون الشخص واقفا في مجموعة من الناس، فهجمت عليهم عصابة، فابتدأت بقتل من أمامها، وغلب على ظنه أنه سيفضي إلى الهلاك، فإنه يقتل بكل حال، وحينئذ لا يمكن الدفع إلا بالقتل، وهذا يوجب الرخصة، سواء كان في الصائل المكلف، أو الصائل غير الكلف على أصح قولي العلماء رحمهم الله.
__________________
|
|
#744
|
||||
|
||||
|
الضمان في دفع الصيال إذا قتل الصائل فدمه هدر، ومن أهل العلم من قال: كل من صال لغير حق على ذي حرمة في دمه أو ماله أو عرضه، فإن دمه هدر. ومن أهل العلم من أخرج المال، وقال: إن القتل لا يكون من أجل المال، وظاهر الحديث قال: (لا تعطه قال: أرأيت إن قاتلني، قال: قاتله. قال: أرأيت إن قتلته، قال: هو في النار، قال: أرأيت إن قتلني، قال: أنت شهيد) فظاهره العموم، وهو شامل للجناية، بل إن الشخص يطمع في المال فيقتل من أجله، وعندما يأتي لطلب المال مسلحا، أو العصابة تهجم على التجار مسلحة، فالغالب أنها ستقتل من أجل المال، وحينئذ يجوز قتل من صال من أجل أن يأخذ المال. وهل يجب على الإنسان إذا هجم على ماله أو صال عليه الغير من أجل أخذ ماله؛ هل يجب عليه أن يدفع؟ أما إذا صال عليه من أجل دمه فإنه يجب في قول طائفة من العلماء رحمهم الله وهو الصحيح، ومن أهل العلم من قال: لا يجب، بل يخير، ويجوز له أن يستسلم، ولا بأس في ذلك ولا حرج، لأن الله ذكر عن قابيل وهابيل أنه قال له: {لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين} [المائدة:28] فهذا استسلم ورضي أن يقتل. ولكن رد هذا بأن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه، وقد قال الله عز وجل: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة:195] ، وقال: {ولا تقتلوا أنفسكم} [النساء:29] أي: لا تتعاطوا أسباب القتل، ولأن من سكت على الظالم أن يقتله فقد أعانه على الظلم والعدوان، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (انصر أخاك ظالما أو مظلوما، قال: أرأيت إن كان مظلوما أنصره، ولكن كيف أنصره وهو ظالم؟ قال: تحجزه وتمنعه عن الظلم، فذلك نصره) فهذا يدل على أنه يجب عليه أن يدفع، ولا يجوز له أن يستسلم. إذا أراد الإنسان أن يستسلم، ويرى أن المال أحقر من أن يقتل أخاه، فهذا رخص فيه بعض العلماء، والصحيح أنه إذا أشهر السلاح لقتله من أجل المال، أنه يجوز له أن يقاتله، وظاهر الآية الكريمة في النفس، ولكنها تعارضت مع الآيات والأحاديث الواردة في شرعنا، ولذلك لا يقوى الاحتجاج بها من الوجه الذي ذكرناه. الخلاف في ضمان الصائل غير المكلف وقوله: [فإن قتل فهو شهيد] : أي: فإن قتل الذي صيل عليه فهو شهيد، أما إذا قتل الصائل فدمه هدر، وقد اختلف العلماء رحمهم الله: هل حكمنا بكون الدم هدرا يشمل الصائل عموما أم فيه تفصيل؟ يقول بعض العلماء: يفرق بين الصائل العاقل والمجنون والصبي، فإذا كان الصائل صبيا أو مجنونا، فإن من حقه أن يقتله، مثلا: هاج عليه مجنون ومعه السكين، وجاء يريد أن يطعنه، وغلب على ظنه أنه لا يمكن بحال أن يدفع ضرره إلا إذا قتله، فقتله. فإذا قتل المجنون فإنه لا يقتص من الشخص بالإجماع؛ لأن له شبهة، والنبي صلى الله عليه وسلم درء الحد بالشبهات، وله الحق في دفعه، لكن كون هذا الشخص غير مكلف ولا عاقل، هل يوجب الضمان؟ قال بعض العلماء: يجوز له قتل المجنون والصبي، ولكن يجب عليه ضمان دمه، والصحيح أنه لا يضمن دمه، فلا تجب عليه الدية؛ لأن الشرع أذن له أن يدفع، وفي هذه الحالة يستوي أن يكون مجنونا، ويستوي أن يكون عاقلا؛ لأنه إذا سقط القصاص بإذن الشرع، سقط ما يترتب على الدم، وحينئذ لا يجب عليه ضمان النفس، ولا يعتبر ملزما بالدية. فبين رحمه الله: أنه إذا قتل فلا ضمان عليه، وهذا يشمل الآدمي والبهيمة. فلو أن بعيرا هاج، وأصبح يبطش بالناس، يكسر أيديهم وأرجلهم، ويعضهم، ولربما يبرك على الشخص فيقتله، وكان عند شخص أطفال، أو هجم عليه وغلب على ظنه أنه لو تركه فسيقتله، فأخذ السلاح فقتله، أو تمكن من عقره فعقره، بأن ضربه في رجله أو يده، وعلم أن هذا يعطله عن الصول على الناس فله ذلك ولا ضمان عليه. وعلى هذا يصبح الشخص الذي ظلم وصيل عليه غير مطالب بدم، ولا بضمان دية، ولا بقيمة، لا في الإنسان، ولا في الحيوان. مرتبة الشهادة للمقتول في الدفاع عن نفسه أو ماله أو عرضه وقوله: [فهو شهيد] : أي: لنص النبي صلى الله عليه وسلم. وسمي الشهيد شهيدا، قيل: لأن الملائكة تشهده، فإذا قبضت روحه حفته الملائكة، ففي الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله: (لما قتل أبوه عبد الله بن حرام يوم أحد، فجعل جابر يكشف عن وجه أبيه ويبكي فيمنعه قومه، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم أخته تبكي، فقال: تبكيه أو لا تبكيه، فما زالت الملائكة تظله حتى صعدت به إلى السماء) فقالوا: سمي شهيدا لأن الملائكة تشهده، أي: تحضره، والشهادة تكون بمعنى: الحضور، كما قال تعالى: {وما كنت من الشاهدين} [القصص:44] أي: من الحاضرين. وقيل في تسمية الشهيد أقوال أخرى. وقوله: (شهيد) : الشهادة على مراتب، فأعلاها وأعظمها أجرا وثوابا عند الله سبحانه وتعالى: الشهادة في سبيل الله عز وجل، أن يقتل من أجل إعلاء كلمة الله، بأن يكون القتال جهادا شرعيا ولم يقصد به الحمية، أو المقاصد الدنيوية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: (الرجل يقاتل حمية، ويقاتل للذكر، ويقاتل للمغنم، أي ذلك في سبيل الله؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) . أي: من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا، فيكون هناك غرض شرعي واضح. فراية الجهاد الشرعية من قتل تحتها فهو في سبيل الله، وإن كانت الراية عمية، فالحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من قتل تحت راية عمية فهو إلى نار جهنم) والعياذ بالله، فلا تكن الشهادة شهادة إلا إذا كانت منضبطة بأصول شرعية، وأعلاها أن تكون في الجهاد، ثم بعد ذلك من كان مبطونا فهو شهيد، ومن كان غريقا فهو شهيد، والحريق شهيد، ومن مات بالطاعون فهو شهيد، والنفساء شهيدة، ومن قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون عرضه فهو شهيد. ثم هذه الشهادة نفسها لها مراتب، أعنى الدفاع عن النفس، ومن قتل دون عرضه أيضا على مراتب، وكل هذا يختلف باختلاف الشهادة والقتل نفسه، وعلى هذا إذا ثبت أنه يشرع للإنسان أن يقاتل، ولو غلب على ظنه أنه سيقتل فإن هذا نوع من الشهادة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على هذا: قال: (أرأيت إن قتلني قال: أنت شهيد) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون عرضه فهو شهيد، ومن قتل دون نفسه فهو شهيد) فهذا نص على أنها شهادة في سبيل الله عز وجل، لكن الشهادة إذا أطلقت فهي الشهادة في سبيل الله، فيشترط فيها: أولا: أن تكون لأجل كلمة الله. ثانيا: أن تكون في المعركة. فلو أنه جرح، ثم سحب من المعركة، فأخذ يتداوى ثم مات، فهذا نوع شهادة، لكنه لا يصل إلى الشهيد الذي مات في المعركة، بل يعامل معاملة الميت: فيغسل، ويكفن؛ ولذلك فإن سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه لما انفجر عليه جرحه الذي أصيب به يوم الأحزاب، داواه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم فاضت روحه ومات، ومع ذلك غسل وكفن، وأخذ حكم الميت، لكنها نوع شهادة، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم (اهتز عرش الرحمن لموت سعد) رضي الله عنه وأرضاه، وذلك من عظيم بلائه في الإسلام. حكم قتل الصائل من أجل المال وقوله: [ويلزمه الدفع عن نفسه وحرمته دون ماله] . أي: أنه لا يجب عليه أن يقاتل من أجل المال، وهذه المسألة خلافية، وقد ذهب طائفة من العلماء إلى أنه يجب عليه أن يدفع حتى عن ماله؛ لأن سكوته يعين الظالم على ظلمه. والذين قالوا بالوجوب فرقوا بين المال القليل والمال الكثير، وقارنوا بين مفسدة الاعتداء على المال، ومفسدة الإضرار بالصائل. حكم قتل الصائل إذا هجم على منزل وقوله: [ومن دخل منزل رجل متلصصا فحكمه كذلك] . أي: من دخل منزل رجل متلصصا للسرقة، أو دخل دار رجل لهتك العرض والفساد، أو دخل دار رجل للقتل، فكله في حكم الصائل. ولو دخل من أجل المال فهو في حكم الصائل متلصصا، واللص إذا دخل فغالبا ما يكون معه السلاح، لكن لا يجوز للشخص إذا دخل أحد يريد أن يسرق من ماله أن يقدم على قتله إلا بالتفصيل الذي ذكرناه. ومحل قتله إذا كان معه سلاح ويطلب المال، وكان يقصد أن كل من يقف في وجهه ليمنعه من أن يصل إلى المال فإنه سيقتله؛ فهذا يقتل، وأما إذا أمكن دفعه بالأخف دون قتله فقد تقدم تفصيل ذلك. وقوله: (متلصصا) هذا ذكره في الآدمي، وقد تدخل البهيمة متلصصة، والبهيمة غير مكلفة، فلو دخلت البهيمة إلى دار الإنسان، كأن جاء بعير إلى التجار وهم يعرضون أطعمتهم، فهجم عليها ليأكلها وهذا يحصل كثيرا، وقد كانت هذه المسألة من المشاكل التي تشغل المحتسبين في الأسواق، حيث يأتي الناس بدوابهم، وبعضهم يعرض الطعام، فما يشعر إلا والبهيمة تهجم على الطعام، وبعض الأحيان تدخل إلى الدكان أو المتجر. إذا يحصل من الآدمي ومن غير الآدمي، لكن المكلف تستطيع أن تتكلم معه، وأما البهيمة فلا، ولذلك يشرع دفعها. وقد كان أهل العلم يذكرون بعض الطرائف في دروسهم: وقد كان معنا طالب في دراسة الابتدائي، وكان من أذكى خلق الله، وكان من بيت علم وفضل، وفيه أدب، ولا أذكر أني رأيت شيئا يعيبه في دينه أو دنياه، وكنا في السنة الثالثة الابتدائية، وكان صغيرا غير مكلف، لكن كان فيه شيء من الذكاء، فكان يأتي بعد تحضير المدرس، فإذا انتهى التحضير يأتي إلى حارس المدرسة، ويقول له: المدير يريدك، فيذهب الحارس، وقد وضع الطالب حقيبته وراء الباب، فيأخذ الشمطة ويخرج من الباب، وكان يأتي إلى الحارس في فترات حتى لا ينتبه له، وكان الحارس كبير السن، وفيه نوع من البساطة، وفي يوم من الأيام خرج بشمطته، وفعل فعلته، وشاء الله عند خروجه أن يكون أمامه ثور هائج، ومعه شمطة حمراء، والثور قد حبس الناس في الطريق، وفوجئ أن هذا خارج من المدرسة بشمطة حمراء يجري، فما كان منه إلا أن جرى وراءه، يقول: لقد جريت جريا ما جريته في حياتي، أي: قرابة كيلو، حتى نجاه الله عز وجل، وبعد ذلك حرم أن يخرج من المدرسة. وهذا شيء طيب! أنه كلما يخرج الشخص من محاضرة أو درس يجد ثورا هائجا فهو يعين على طلب العلم. وتسقط حرمة البهيمة إذا صالت بالاعتداء على النفس أو المال، وهذا شرطه إذا لم يمكن دفعها بالأخف، فلو أمكن دفعها بالصياح عليها أو بالإشارة بالعصا ونحوها دون ضربها، فلا يجوز استباحة الأعلى؛ على التفصيل الذي ذكرناه في المكلفين. الأسئلة طلب الصائل إذا قتل ثم هرب السؤل: لو قتل الصائل أحدا من أهل المصول عليه، وهرب الصائل، فهل لصاحب الدم أن يلاحقه؟ أم لا ترد مسائل دفع الصائل في هذه الحالة؟ الجواب إذا هجم الصائل يريد المال أو العرض أو النفس، فإنه إذا صد فهرب لم يجز ضربه ولا عقره ولا قتله؛ لأن الحاجة انتهت بكف شره بانصرافه، وأما إذا قتل وأزهق الروح، فإنه إذا قتله المصول عليه -أخو القتيل- وقصده أن يقتص لأخيه المقتول، فحينئذ يكون قد أخذ بحقه، ولكن يعزره السلطان؛ لأن القصاص إنما هو للقضاة والحكام، فيعزره السلطان والقاضي بعد دراسة حاله، ومعرفة السبب الذي دعاه لذلك، وقد لا يعزره، كأن يكون هذا ردعا للناس، وإذا سمع الناس ذلك خافوا، فحينئذ لا يعزره، فينظر القاضي أو الإمام في الأصلح. أما من حيث الأصل: فإنه إذا لم يفعل شيئا وهرب، فإنه لا يجوز طلبه ولا عقره بالإضرار، أما طلبه فإنه يشرع أن يطلبه من أجل أن يرفعه ليؤدب ويعزر، حتى لا يفعل مع الناس مثل فعله. أما لو قتله على أنه صائل، فهذا فيه الضمان على التفصيل الذي ذكره العلماء رحمهم الله في مسألة القتل، أما لو نوى به القصاص، فحينئذ يكون قد أخذ بحقه، وسقط القصاص في هذه المسألة. والله تعالى أعلم. الفرق بين قتل الصائل والقتل بسبب العداوة السؤال أشكل علي في مسائل دفع الصائل حديث النبي صلى الله عليه وسلم (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار) ؟الجواب هذا لا علاقة له بالصائل، فقوله: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما) المراد به: أن يحصل بين الشخص والشخص عداوة، فتأخذ الإنسان الحمية والغضب فيرفع السلاح، فيرفع عدوه السلاح ويقتتلان، إما من أجل أن يثبت أنه قوي، أو أنه أشجع من الآخر. هذه أمور تقع في الخصومات والنزاعات بين الناس، فكل منهما يريد أن يثبت أنه هو الشجاع، وأنه هو الأقوى، فما حصل من الهيشات بين الناس والخصومات والنزاعات ويقصد بها إراقة الدماء على هذا الوجه؛ فالقاتل والمقتول في النار؛ لأن المراد بهذا الحمية والعلو، وكل منهما تأخذه أنفة فيقول: لماذا يقاتلني فلان؟ أنا أقوى منه! وأكثر ضررا منه! فهذا يحمل السلاح، وهذا يحمل السلاح، فالقاتل والمقتول في النار. ثم هذا ليس غرضا شرعيا، أما أن هذا صائل فلا، وليس له علاقة بمسألتنا ألبتة، فهذا شيء، وهذا شيء آخر، فهنا وجد الموجب الشرعي للمصول عليه أن يدفع، ووجد الوصف الشرعي للصائل بالظلم، وأما إذا التقيا بسيفيهما فهي خصومة ونزاع، وقد تكون لأتفه الأسباب، وقد تكون حتى بدون سبب، بأن ينظر إليه، فيقول له: لماذا تنظر إلي؟ فيقول: ومن أنت حتى تقول: لا أنظر؟ فحمل هذا سلاحه، وحمل هذا سلاحه، وقتل كل منهما الآخر، (قال: يا رسول الله! قد علمنا القاتل يذهب إلى النار، فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه) فلم يكن قتلا لله، أو لإعلاء كلمة الله، ولا قصاصا ولا بحق، فأصبح موجبا للدخول في النار؛ لأن من أكبر الكبائر إزهاق النفس، وقتلها بدون حق. والله تعالى أعلم. حكم التشريك بين الأضحية والعقيقة السؤال ما حكم من أشرك نية العقيقة بنية الأضحية في يوم عيد الأضحى؛ لأنه وافق الأسبوع الثاني لولادة الطفل - أي: اليوم الرابع عشر- فكانت الشاتان بنية العقيقة والأضحية؟ وماذا عليه؟ الجواب لا يجزئ أن يجمع بين نيتين؛ لأن العقيقة مقصودة، والأضحية مقصودة، ولذلك لا يحصل الاندراج، فالأضحية مقصودة لدى الشرع، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (من ذبح قبل الصلاة فليذبح مكانهاأخرى) فكل مكلف قادر مطالب أن يذبح ذبيحة خاصة، شعيرة لهذا العيد، وسنة بقصد، بمعنى أنها مقصودة. وأما العقيقة فالنبي صلى الله عليه وسلم بين أنها متعلقة بالولد، فقال: (كل مولود مرهون بعقيقته، تذبح عنه يوم سابعه) فهذا يدل على أن الشرع قصد أن يذبح عن الغلام، وأن يعق عنه، وهذا لا يحصل فيه الاندراج، فلم يصح الجمع بين النيتين. والله تعالى أعلم. حكم الدخول بالمرأة المعقود عليها قبل إعلان النكاح السؤال ما حكم الرجل يباشر المعقود عليها - زوجته- قبل إعلان الدخول بها؟ الجواب هذه المسألة ينبغي التنبيه عليها، وعلى ولاة أمور النساء ألا يسمحوا للأزواج بالدخول قبل إعلان النكاح؛ لأنه يترتب على هذا مفاسد عظيمة، يأتي الزوج يزور الزوجة بعد العقد وقبل الدخول، فيدخل بها في بيت أهلها، فلو فرض أنه توفي، ولم يعلم أحد أنه دخل بها، ثم فوجئ الناس أن المرأة حامل، فكيف يكون الحال؟ وكذا لو كان رجلا فاسدا -والعياذ بالله- أو فاسقا ودخل بها، واستمتع بها، ثم قال: لا أريدها، فإن قيل: لماذا؟ قال: اعترفت لي بالحرام، ثم فوجئوا أنها حامل، وهو فاسق متهتك! فعلى أولياء أمور النساء أن يتقوا الله عز وجل، وقد حصلت مشاكل كثيرة في هذا الأمر، وكذلك ينبغي على الزوج أن يحذر من هذا؛ لأنه في بعض الأحيان قد تكون بعض النساء فاسدات، ونحن لا نتهم النساء، لكن نعرف ذلك من تنبيهات بعض العلماء والمشايخ؛ فإذا كان فيها فساد في عرضها، وقامت واستدرجت الرجل، وأحدثت له نوعا من المباشرة قبل الدخول لأجل أن لا ينتبه لبكارتها، ثم انسحبت كأنها خائفة، ثم تدرجت معه إلى ذلك حتى تستر ما بها من الفساد، فهذه أمور فيها أضرار على الزوج والزوجة. وعلى الناس أن يتقوا الله عز وجل، وألا يكون الدخول إلا على الوجه المعروف المشهور، حتى يكون أسلم للإنسان من الفتنة، وأبعد من الريبة، وقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم باتقاء ما فيه ريبة، وهذا فيه ريبة، وإن كان الأصل جوازه، لكن جرى عرف الناس على شيء، فليعمل به. ثم على الزوج أن يكون عنده حياء من الله عز وجل ثم من الناس، كيف يأتي المرأة في أهلها دون علم وإذن من أهلها، هذا أمر ممقوت لا يفعله إلا ضعاف النفوس، فالإنسان الصالح تمنعه ديانته وشيمته ويأنف من أن يأتي الزوجة عند أهلها، نعم هي زوجته ولكن ليس كل شيء مباح يباح، فمثلا: كشف الرأس مباح، لكن إتيانه على غير الوجه المعروف مسقط للمروءة، وموجب لرد شهادة الإنسان. وعلينا أن نتقي الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحي فاصنع ما شئت) فينبغي أن يكون عند الإنسان حياء من الله عز وجل يردعه ثم من الناس. فالذي يظهر منع هذه الأمور؛ خوفا من ضياع الحقوق، لكن لو حصل ترتيب، وعلم أهل الزوجة، وحفظت الحقوق، فإنها زوجته، فلو دخل عليها فليس عليه من شيء، لكن نحن نتكلم عن المفاسد والأضرار التي تنبني على الخفاء.
__________________
|
|
#745
|
||||
|
||||
|
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (مقدمة كتاب الحدود) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (533) صـــــ(1) إلى صــ(16) شرح زاد المستقنع - باب قتال أهل البغي [1] من المعلوم لدينا أننا في زمن الفتن التي حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم، ومما يميز هذه الفتن كثرة ظهور أهل البغي، الذين يتكلمون في العلماء والسلف، وقد يؤدي بهم هذا إلى فعل الخوارج، لذا لزم معرفة من هم الذين يحكم أنهم أهل بغي وما هي شروطهم، ومتى كان أول ظهور لهم في أمة الإسلام. قتال أهل البغي بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:صور الخروج على الإمام وجماعة المسلمين فيقول المصنف رحمه الله: [باب: قتال أهل البغي] . تقدم تعريف القتال، أما البغي فأصله الاعتداء، ومجاوزة الحد والعلو والاستطالة، هذه كلها معان ذكرها أئمة اللغة رحمهم الله، يقال: (بغى) إذا طغى وجاوز الحد في أذية الناس وأذية الغير، وبغى على فلان إذا استطال عليه. وقوله رحمه الله: [باب قتال أهل البغي] البغاة هم الخارجون عن إمام المسلمين وجماعته، ويوصف هذا الباب بباب قتال أهل البغي، أو باب أهل البغي، كما يعبر بذلك بعض العلماء رحمهم الله، وظاهر صنيع المصنف رحمه الله أنه ربط بين باب الحرابة وباب قتال أهل البغي، وحينئذ تكون المناسبة كالآتي: وهو أن الخروج على الإمام وجماعة المسلمين له صورتان: الصورة الأولى: أن يكون الخروج بدون تأويل سائغ، بمعنى أنه لا يكون هناك شبهة ولا تأويل، كما سيأتي تفصيله إن شاء الله. والصورة الثانية: أن يكون الخروج بتأويل وشبهة. فأما ما كان بدون تأويل وشبهة فهو خروج المحاربين، وقد بينه رحمه الله وانتهى من أحكامه التي فصلناها فيما مضى. وأما الخروج بشبهة وتأويل فهو الذي يعتني العلماء رحمهم الله ببيانه في باب قتال أهل البغي، فلما انتهى من بيان حكم الحرابة شرع في بيان قتال أهل البغي، والمناسبة من هذا الوجه واضحة، حيث يجتمع البابان في حكم الخروج، فينفرد الباب الأول بأنه خروج من دون تأويل، والباب الثاني بأنه خروج بتأويل وشبهة. ومن أهل العلم رحمهم الله من فصل بين البابين، وجعل قتال أهل البغي منفردا عن باب الحرابة، ولكن يلاحظ أن العلماء رحمهم الله ذكروا باب قتال أهل البغي في كتاب الجنايات، وجعلوه متصلا بالحدود والجنايات. والسبب في هذا أن البغاة والخارجين عن جماعة المسلمين قد جنوا جناية شرعية توجب عقوبتهم بالقتل، كما سيأتي إن شاء الله تفصيله؛ وذلك لورود النصوص في الكتاب والسنة بمعاقبتهم بذلك، قطعا لدابرهم واستئصالا لشأفتهم، ودفعا لمفاسدهم وشرورهم عن الإسلام والمسلمين؛ فهذه العقوبة تتصل بباب الجنايات من جهة المؤاخذة على الفعل في كل منهما، ومن هنا يعتني العلماء رحمهم الله بذكر قتال أهل البغي في كتاب الجنايات من هذا الوجه. فمنهم من يقدمه كما يفعل بعض أئمة الشافعية، ومنهم من يؤخره كما يفعل أئمة الحنابلة رحمة الله على الجميع. ومما ينبغي التنبيه عليه: أن الخروج على الأئمة من حيث الأصل فيه جانبان: الجانب الأول: التقعيد والتأصيل لمسألة الإمامة وشروط الإمام والإمام العدل، والطائفة المتعلقة به وهم الذي يسمون بأهل العدل. الجانب الثاني: ما يتعلق بعقوبة الخروج عن هذه الجماعة. فأما بالنسبة للفقهاء والمحدثين رحمهم الله فقد تناولوا جانب العقوبة وهذا هو المتصل بكتاب الجنايات، وهو محل حديثنا. وأما الإمامة فهذا من شأن أئمة العقيدة، يبحثونه في مسائل العقيدة تقريرا لمنهج أهل السنة والجماعة رحمهم الله في وجوب لزوم جماعة المسلمين، وعدم الخروج على الأئمة، وتقعيد ذلك وتأصيله بنصوص الكتاب والسنة. ومن هنا نجد الفقهاء رحمهم الله يبحثون في هذا الباب عن: متى تكون العقوبة؟ وما هي الشروط التي ينبغي توفرها لمعاقبة أهل البغي؟ وماذا يجب على الإمام أن يصنع؟ وكيف تتم محاورتهم؟ ونحو ذلك من الأمور المتعلقة بمواجهة هذا البلاء، ولكن لا يبحثون في باب الإمامة لاتصاله بالعقيدة أكثر من اتصاله بالفقه. ومن هنا سيكون الحديث عن موجب وسبب الجناية، ثم بعد ذلك العقوبة المتعلقة بالخروج، وهذا شأنه شأن بقية الجنايات التي ذكرناها في الحدود والقصاص. معالم أهل البغي يقول رحمه الله: [باب: قتال أهل البغي] سيذكر المصنف رحمه الله ضابط البغي، وهذا يتعلق بالتعريف الاصطلاحي، وسنؤخره إلى أن يذكره رحمة الله عليه. فالبغاة لهم ضوابط ذكرها العلماء أشبه بالتعريف لأهل البغي من جهة الاصطلاح: وهم القوم الخارجون على الإمام وجماعة المسلمين، ولهم شوكة ومنعة بتأويل وشبهة. هذه أهم المعالم التي ينبغي توفرها للحكم على من خرج بكونهم بغاة وآخذين حكم أهل البغي. قوله: [إذا خرج قوم لهم شوكة ومنعة على الإمام بتأويل سائغ فهم بغاة] ذكر أربعة شروط: الشرط الأول: الخروج على الإمام وجماعة المسلمين. الشرط الثاني: أن يكونوا قوما وجماعة ذات عدد على تفصيل عند العلماء رحمهم الله في هذا الموضع. الشرط الثالث: أن تكون لهم شوكة ومنعة. الشرط الرابع: أن يكون عندهم تأويل سائغ، أو كما يقول بعض العلماء: عندهم شبهة. فهذه أربعة شروط لابد من توفرها للحكم بكونهم بغاة. وهناك من العلماء أو الأئمة -مذهب الشافعية وغيرهم- من ذكر اشتراط أن يبايعوا إماما لهم، أي: ينفردوا بإمام، وهذا اختلفت فيه أنظار العلماء، فمنهم من اشترط ذلك لمقاتلتهم، ومنهم من قال: إنه ليس بشرط أصلا، فإن مجرد خروجهم وانعزالهم عن جماعة المسلمين، وكونهم لهم شوكة ومنعة، يكفي للحكم بأنهم أهل بغي، ولا يشترط أن يكون لهم إمام، وهذا أقوى في الحقيقة. تاريخ الإمام علي مع الخوارج قوله رحمه الله: [إذا خرج قوم] : الخروج معتبر للحكم بكونهم بغاة، والأصل في ذلك أن الخوارج خرجوا على علي رضي الله عنه وجماعة المسلمين، ومن هنا ذكر العلماء رحمهم الله أن حد الحرابة وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بالعرنيين، والبغي وقع في زمان علي رضي الله عنه بخروج الخوارج عليه، وإن كان من أهل العلم من يذكر بعض النماذج في حرب الردة تتعلق بطوائف كانوا في حكم أهل البغي، ولذلك يرون أن الخروج أول ما حدث في عهد أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه. ولكن خروج الخوارج على علي رضي الله عنه، ووصف النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الطائفة -طائفة الخوارج- بأنها مارقة، وأنها باغية، يقتضي أنهم أول من خرج. ويعتبر هذا الأمر من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أخبر عن هذه الجماعة قبل خروجها بأكثر من عشرين سنة، أو ما يقارب ربع قرن، ووصفهم بصفات وجدها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كاملة غير ناقصة، واضحة غير ملتبسة، حتى وصف منهم ذا الثدية، وقصة علي في الصحيحين معه واضحة، وأنه وجده بين القتلى، فكبر وحمد الله عز وجل. صفات الخوارج كما جاءت بها الأحاديث وقد صحت النصوص في وصفهم كما في الصحيحين من حديث علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (سيخرج في آخر الزمان ... ) قوله: (في آخر الزمان) فسره علي رضي الله عنه بالخوارج، وقال بعض العلماء رحمهم الله: إن هذا لا يختص بزمان علي، فإن عليا رضي الله عنه كانت عنده نصوص أخرى غير هذا الحديث. لكن لا ينبغي لطالب العلم أن يجعل هذه الصفة نصب عينيه، وأن يعلم الزمان الذي هو فيه، قال: (سيخرج في آخر الزمان أقوام حداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون بقول خير البرية، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) حداث الأسنان: صغار السن. سفهاء الأحلام: في عقولهم ونظرهم سفه وخفة. يقولون بقول خير البرية: أي كلهم يدعي أنه صاحب سنة وأنه صاحب حق وأنه أولى بالكتاب والسنة. يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية: في اللفظ الآخر: (يقرءون القرآن) وفي لفظ آخر: (لا يجاوز الدين حناجرهم) أي: تجده يقول لك: أنا مسلم، أنا مؤمن، أنا على مذهب أهل السنة والجماعة؛ لكن لم يدخل الإيمان في قلبه، ولا يرقب لمؤمن حرمة، ولا يرعى فيه ذمة؛ لأنه لو كان في القلب إيمان، لكان أخوف ما يخاف من حدود الله عز وجل، وأبعد ما يكون من محارم الله؛ لأنه لا يعصم الإنسان -بعد توفيق الله عز وجل- شيء مثل الإيمان، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) فبين عظيم أثر الإيمان في القلوب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن إيمانهم في ألسنتهم ولكن لم يستقر في قلوبهم. واليوم -ما شاء الله- في الإنترنت -ولا نسمي أشخاصا معينين- تجد الطفل الصغير عمره 17سنة يمسك عالما من أئمة السلف لكي يرمي به في جهنم وبئس المصير: (حداث الأسنان، سفهاء الأحلام) لأن مثل هذا لو نظر من هذا العالم الذي يكفره أو يبدعه أو يضلله، وماذا وضع الله له من القبول، وما نفع الله به أمة محمد صلى الله عليه وسلم لردعه عقله، لكن لا دين ولا عقل -نسأل الله السلامة والعافية-. هذه من صفاتهم وهذا أمر بسيط، لكن أعظم من ذلك ما كانوا عليه من الجد والاجتهاد في العبادة، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول كما في الصحيحين من حديث علي: (تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وقراءتكم مع قراءتهم) فكان الخوارج من أعبد الناس، وهم من أضل خلق الله، إذا جن عليهم الليل فما ترى منهم إلا قائما، وإذا جاء النهار لا ترى فيهم إلا صائما، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم كما في حديث علي: (تحقرون) وفي اللفظ الآخر: (ليست قراءتكم مع قراءتهم بشيء، ولا صلاتكم مع صلاتهم بشيء، ولا صيامكم مع صيامهم بشيء) نسأل الله السلامة. فلما سفهوا عليا رضي الله عنه، وأعرضوا عن علماء الصحابة، وتركوا الرجوع إلى أهل العلم، وأصبحوا يفهمون الدين بفهمهم وبأهوائهم وآرائهم؛ عندها زلت القدم، وعندها تكون العواقب الوخيمة؛ لأنه لا يمكن للإنسان أن يصل إلى الحق بدون عالم له بصيرة ونور. فالخوارج وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الصفة، مع أنهم كانوا أعبد الناس، يقول ابن عباس -وهو الصحابي الجليل العابد الذي نام على فراش النبي صلى الله عليه وسلم-: لما دخلت عليهم هالني ما رأيت، رأيت وجوها مقرحة من كثرة السجود، وأيدي قد ذهبت من كثرة الجثية عليها في السجود، والركب تكاد تنمحي. ويقول أبو حمزة الشاري: في خطبته بقديد حينما أتى إلى مكة، وكان من الشراة وهم من أشد الخوارج، وكان يقال لهم: الشراة؛ لأنهم اشتروا الآخرة كما يزعمون، وقيل: اشتروا الجنة بقتل أنفسهم والجهاد، وقيل: لأنهم شراة من الشري بمعنى البيع؛ لأنه من الأضداد، كأنهم باعوا أنفسهم لله عز وجل؛ وكان الخوارج لا يعرفون الكذب، ويرونه كفرا؛ لأنه من الكبائر وهم يكفرون بالكبائر، فيصف أصحابه هذا الوصف العجيب الغريب، يقول: يا أهل الحجاز أتعيرونني بأصحابي، وتزعمون أنهم شباب؛ شباب مكتهلون في شبابهم، غضيضة عن الشر أعينهم، ثقيلة عن الباطل أرجلهم، أنضاء عبادة وأطلاح، قد نظر الله إليهم في جوف الليل منحنية أصلابهم على أجزاء القرآن، إذا مر أحدهم بآية فيها ذكر الجنة طار شوقا إليها، وإذا مر بآية فيها ذكر النار شهق شهقة كأن زفير جهنم بين أذنيه، موصول كلالهم بكلالهم، كلال الليل بكلال النهار؛ حتى إذا رأوا السهام قد فوقت، والرماح قد أشرعت، والسيوف قد انتضيت؛ أقبل الشاب منهم قدما حتى اختلفت رجلاه على عنق فرسه، وتخضبت بالدماء محاسن وجه، فيالله، كم من عين في منقار طائر طالما بكى صاحبها في جوف الليل من خشية الله، وكم من كف زالت عن معصمها طالما اعتمد عليها صاحبها في السجود بين يدي الله. اهـ. لقد كانوا أشد الناس عبادة وقربا إلى الله عز وجل، وأمرهم في ذلك عجب، ومع ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) إذا: لا بد من العلم والبصيرة؛ كما نبه العلماء والأئمة رحمهم الله أن الفتن لا يعصم منها إلا الإيمان بالله عز وجل، والرعاية لحرمات الله سبحانه وتعالى، ورعاية حرمة المسلم وذمته والخوف من الله عز وجل، وتأدية حقوق العباد، ولا يكون ذلك إلا بالعلم والبصيرة. هذه الثلاث إذا جمعها الله للعبد سلم واستقام له دينه، خاصة في الفتن، نسأل الله بعزته وجلاله أن يعيذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن. نقمة الخوارج على علي بن أبي طالب أول ما ظهرت هذه الطائفة خرجت على علي رضي الله عنه، ونقمت عليه أمورا كفروه بها. وكان علي رضي الله عنه وأرضاه من السابقين للإسلام، ومن علماء الصحابة وفقهائهم، وهو أحد العشرة السابقين للإسلام، لقد تربى في بيت النبوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو تحت يده، وشهد المشاهد كلها، ومن العشرة المبشرين بالجنة، ومع ذلك يأتي من يقول له: أنت كافر. فانظروا كيف انطماس البصيرة، وتتبع الأهواء -نسأل الله السلامة والعافية- ولذلك كان أعظم شيء في الإنسان بصيرته، فإذا انطمست البصيرة صار كما أخبر الله: {صم بكم} [البقرة:18] ، {عموا وصموا} [المائدة:71] ولذلك لما سئل علي رضي الله عنه عن كفرهم قال: (لا، ولكنهم قوم أصابتهم الفتنة فعموا وصموا) ؛ تأتي للشخص تقول له: لماذا تتكلم في هذا العالم الجليل من أئمة السلف ومن دواوين العلم، فلا تجد عنده أذن صاغية، ولا بصيرة واعية، نسأل الله السلامة والعافية. من يستطيع أن يملك لأحد شيئا! فإذا ينبغي لكل إنسان أن يحذر هذه الفتن التي تقصم ظهور الناس، وتأخذ الإنسان أخذ عزيز مقتدر، ومن هنا قال الحكماء والعلماء: إن الفتن فيها حصاد المنافقين، ومن صفاتهم: {فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد} [الأحزاب:19] ، فهذه البصيرة تنطمس والعياذ بالله في الفتن، ومن هنا قيل لـ علي: أكفار هم؟ قال: (لا، ولكنهم قوم أصابتهم فتنة فعموا وصموا) أي: أصابهم العمى عن السبيل والصمم عن قبول الحق، نسأل الله السلامة والعافية. علي رضي الله عنه وأرضاه كان في منزلة عظيمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال فيه لما استخلفه على المدينة: (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى) أي: في هذه الواقعة تكون كما استخلف موسى أخاه هارون على قومه، وليس المراد به إلغاء خلافة أبي بكر كما يقول بعض أهل البدع، إنما المراد بيان منزلته رضي الله عنه ومكانته. ومع هذا كله يقال له: إنه كافر، وهنا وقفة لكل طالب علم، ولكل مؤمن يؤمن باليوم الآخر؛ أن أهل الفضل لا ينالون الفضل إلا بالله ثم بهذه الألسنة الحداد، ومن الأمور العجيبة الغريبة أن الله ما زاد أهل الحق إلا قوة مع ضعفهم بين الناس، ولا زادهم إلا عزة في إذلال الناس لهم، ولا زادهم إلا كرامة في امتهان الناس لهم، حتى كان بعض العلماء يقول: أتمنى دائما أن يخرج من يتكلم فينا؛ لأننا ما وجدنا أحدا يتكلم فينا إلا رفعنا الله، فأصبح يحب أن يستكثر من هذا الشيء، من عظيم ما وجد؛ لأنه ما وجد في السلف الصالح ولا الأنبياء ولا المرسلين إلا من بدع وضلل، وكفر أخرج من الملة، وكأن مفاتيح الجنة بأيدي هؤلاء. يقال لـ علي رضي الله عنه إنه كافر؟ ألا شاهت الوجوه! يدخل عليه الرجل وهو يصلي في المسجد واقف بين يدي الله، فيتلو قول الله عز وجل: {ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك} [الزمر:65] قاتله الله، كأنه يقول له: تصلي أو لا تصلي فعملك قد حبط، أعوذ بالله! بكل جرأة وبكل سفه ووقاحة؛ لأن هذا هو سبيل الشيطان. والذي لا تجد فيه أدبا، ولا رعاية لحقوق الله وحدوده، فاعلم أنه على سبيل الشيطان ولذلك قصد ذلك الخارجي عليا بقوله: {لئن أشركت ليحبطن عملك} [الزمر:65] يخاطب عليا رضي الله عنه وأرضاه وهو الذي سال دمه في سبيل الله عز وجل، وهو الذي فدى رسول الله صلى الله عليه وسلم بروحه، وهو المبشر بالجنة رضي الله عنه وأرضاه، وهذا لنعلم مدى خطورة الهوى على أهله، فنسأل الله بعزته وجلاله أن يعيذنا من هذه الفتن. وفي هذا سلوة لكل طالب علم، ولكل داعية، ولكل خطيب، ولكل إمام مسجد حينما يسمع أهل حيه يتكلمون فيه أو ينتقصون، فلا يبالي بهذا، بل يستبشر؛ لأن وجود الصفات التي تبوئ الإنسان مبوأ صدق، قد تكون إن شاء الله من بشائر القبول أو من علامات القبول: {ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة} [الأنفال:42] جعلني الله وإياكم هداة مهتدين، وأعاذنا من فتن المفتونين وإرجاف المرجفين. إرسال ابن عباس لمناظرة الخوارج إذا: هم آذوا عليا وكفروه ونقموا عليه أمورا، فأرسل إليهم حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنه وأرضاه، وناظرهم ابن عباس رضي الله عنه كما في الرواية الصحيحة فسألهم: ما ينقمون عليه؟ قالوا: حكم الرجال والله يقول: {إن الحكم إلا لله} [الأنعام:57] . وقالوا: إنه لم يسب أهل الجمل في وقعة الجمل، فإن كانوا على حق فلم قاتلهم؟ وإن كانوا على غير حق، فلم يمنع من حق الله فيهم من سبي نسائهم وذراريهم؟ وأما الأمر الثالث قالوا له: إنه محا نفسه عن إمرة المؤمنين، فهو إما أمير المؤمنين أو أمير الكافرين. قاتلهم الله! هذه ثلاثة أمور جادلهم فيها عبد الله بن عباس رضي الله عنه! ورد عليهم فقال: أما ما قلتم من تحكيم الرجال، فإن الله تعالى يقول: {فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها} [النساء:35] أكان هذا كفرا؟! الله عز وجل رضي بتحكيم الرجال، فهل تحكيم الرجال على مذهبكم كفر؟! إذا كيف يأمر الله عز وجل به. ورضي بحكم العدلين في جزاء صيد أرنبة فقال: {يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة} [المائدة:95] قال: أكان هذا كفرا؟! فما بقي على قولهم إلا أن يكفروا رب العالمين -ونعوذ بالله-! فأفحمهم بهذا ورد الأولى. أما الثانية فقال لهم: أنتم تقولون إنه كفر لأنه محا نفسه عن إمرة المؤمنين، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية قال لـ علي: (اكتب: هذا ما عاهد عليه محمد رسول الله، قال سهيل: لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك، فأمر بأن تمحى من الكتاب، وامتنع علي من محوها، فمحاها النبي صلى الله عليه وسلم بيده) أكان هذا شكا في الرسالة؟! إذا كانت محيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يطعن ذلك في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف بما هو دون ذلك، فإن ذلك لا يستلزم أن الإنسان على ضلال. وأما الثالثة: وهي قولهم: قاتل ولم يسب، فقال لهم: إن الله تعالى يقول: {وأزواجه أمهاتهم} [الأحزاب:6] فهذه أمكم بنص القرآن، إن سبيتموها فلن تكون أما، بل تكون سرية وحينئذ تكفرون، وإن لم تسبوها؛ فهذا ما فعله علي رضي الله عنه. فألقمهم حجرا. بعد أن ناظرهم عبد الله بن عباس رضي الله عنه رجع منهم ألفان، وكان ذلك من قوة حجته رضي الله عنه وعلمه بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم. وهنا وقفة أنه ينبغي على طالب العلم وعلى كل مسلم، أن يعلم أن الفتن تأتي بأمور ملتبسة، قد تسمع الدليل والحجة، وقد تسمع من يتكلم بإيراد الشبه والأدلة، ولكن لا يكشف عوار هذه الأدلة وهذه الحجج إلا أهل البصيرة كما قال الإمام ابن القيم حينما بين أسباب الهدى: نص من كتاب وسنة وطبيب ذاك العالم الرباني إذا: الكتاب والسنة تحتاج إلى طبيب، وليس كل من يحتج بالكتاب والسنة يقبل احتجاجه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول عنهم: (يقولون بقول خير البرية، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) فتبين أنه ليس كل من يحتج يقبل احتجاجه، ولا يمكن أن يكشف عوار النقص والهوى إلا أهل العلم والبصيرة، ولا يقبل الاحتجاج إلا ممن عرف منه سداد منهجه واستقامة دينه في فهم كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وعدم فهم نصوص الكتاب والسنة على وفق هواه؛ لأن الاحتجاج بالكتاب والسنة لن يصيب أحد فيه الحق إلا بالأمانة، والأمانة أن يكون تقيا نقيا ناصحا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم فيما يستدل به. مقاتلة علي بن أبي طالب للخوارج عندما خرج الخوارج عن جماعة المسلمين وإمامهم، وكانت لهم شوكة ومنعة، وحدث فيهم أنهم قتلوا وتعرضوا لحرمات المسلمين، فإن عليا رضي الله عنه استحل قتالهم وأمر بقتالهم؛ من ذلك أنهم قتلوا عبد الله بن خباب بن الأرت ابن الصحابي الجليل، وكان قد ولاه علي على النهروان، فجاءوا إلى عبد الله وسألوه عن رأيه في الشيخين، فأثنى خيرا، ثم سألوه عن رأيه في عثمان، فأثنى خيرا، ثم سألوه عن علي رضي الله عنه فأثنى عليه خيرا. ففي بعض الروايات أنهم قتلوه بعد ثنائه على علي رضي الله عنه؛ لأنهم يرون أنه كافر، وبعض الروايات أنهم قتلوه حينما مروا على خراج ظاهر النهروان، فوجدوا تمرة لمعاهد، فأراد أحدهم أن يأكلها، فقال قائل: هذه تمرة معاهد، أي: كيف تأكل تمر معاهد، والمعاهد له حرمة، فقال: ويحكم! لدمي أعظم عند الله من هذه التمرة، تتورعون عن تمرة ولا تتورعون عن دمي -نسأل الله السلامة والعافية- فغضبوا عليه وقتلوه، وهذه الرواية لـ ابن أبي شيبة في مصنفه. فالشاهد من هذا أنهم لما قتلوه آذنهم علي رضي الله عنه بحرب، وخرج لهم رضي الله عنه وأرضاه وقاتلهم، وما زال العلماء وأئمة السلف رحمهم الله على إنكار بدعتهم وخروجهم، وهذا أصل هذا الباب، وكثير من أحكام قتال أهل البغي أخذت من السنة الراشدة عن علي رضي الله عنه وأرضاه، في تعامله معهم وحكمه عليهم.
__________________
|
|
#746
|
||||
|
||||
|
الأسئلة كيفية التعامل مع كل ما يزعزع وحدة المسلمين السؤال لقد حرص الإسلام على وحدة الصف، وعدم تفرق الجماعة، ولذلك شرع قتال أهل البغي، فكيف يتأتى للمسلم أن يحافظ على جماعة المسلمين، وكيف يتعامل مع كل ما يزعزع ذلك أثابكم الله؟ الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فالنصوص في الكتاب والسنة واضحة في لزوم جماعة المسلمين، والسمع والطاعة لإمامهم، وجاءت النصوص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي من معجزاته التي تضمنت الخبر والإنشاء، حيث أخبر صلى الله عليه وسلم عما يكون بين يدي الساعة من فتن الأئمة، ومن حدوث الجور والظلم، وهضم الحقوق، ولكن أمر بالصبر ولزوم جماعة المسلمين وعدم الخروج عليهم، وهذا هو الأصل عند أهل السنة والجماعة. وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (على المرء المسلم السمع والطاعة) وقال الصحابي كما في أكثر من حديث: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، وألا ننازع الأمر أهله) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (اسمعوا وأطيعوا وإن تأمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة) ولما ذكر صلى الله عليه وسلم أئمة الجور والظلم؛ قالوا: (يا رسول الله! أفلا نناجزهم بالسيوف؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة) وهذا نص صريح واضح في عدم الخروج. ومن نظر إلى حال السلف الصالح من الصحابة رضوان الله عليهم، والتابعين لهم بإحسان، يجد هذا جليا واضحا، ولا أظن أن هذا يخفى على أحد من طلبة العلم، ولكن ينبغي على طالب العلم مع هذا كله أن ينصح وأن يبين الحق، سواء كان لمن يخطئ، أو لمن يخرج عن جماعة المسلمين، فيحرص على بيان مذهب أهل السنة والجماعة له وتوضيحه. والواجب على الناس أن يلتزموا هذا الأصل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به، وبين أن صلاح الأمة موقوف عليه، ومن نظر في تاريخ الأمة وجد أن كثيرا من الحوادث والمصائب والفتن التي وقعت كانت عواقبها وخيمة، والناس ينبغي عليهم أن يلتزموا هذا الأصل الذي أجمع عليه سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين رحمهم الله أجمعين وألحقنا بهم غير خزايا ولا مفتونين، ولا مغيرين ولا مبدلين. أما الواجب على المسلم فهو أن يثبت على الحق، وعليه أن يدرك أن إرضاء الناس غاية لا تدرك، فإذا عرف الحق عمل به ولا عليه من أحد، وعليه أن يثبت وألا يضعف ولا يصيبه الخور، ولا ينتظر أن الناس تجتمع عليه، أو يكثر سواده، فالحق لا يكثر سواده، الحق يستمد قوته من نفسه، وعلينا أن ندرك أن هذا الكتاب المنزل على رسول الهدى صلى الله عليه وسلم كان فيه رجل واحد، كان في كهف مظلم، وأشرقت به دياجير الظلم والظلم من مشارق الأرض إلى مغاربها. نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار حراء وهو وحده صلوات الله وسلامه عليه، فابتدأ بواحد وانتهى بأمم لا يحصيها إلا الله جل جلاله، فالحق لا ينصره كثرة الناس أو كثرة الأتباع والأشياع؛ لأنه يستمد قوته من ذاته، وكل من قال بالحق فقد صدق، وكل من قال به وحكم به فقد عدل، وكل من لزم سبيله فقد استقام له دينه، وعليه أن يدرك أنه ما دام على هذا الأصل الذي دل عليه نص الكتاب والسنة، وسار عليه السلف الصالح لهذه الأمة، فليس عليه بعد ذلك من شيء، بمعنى أن الفتن التي تقع والإرجاف والتشكيك والتخذيل لا يلتفت إليه، ومن المعروف دائما أن أهل الحق لا يمكن أن يخلو لهم زمان من فتن ومحن، فإن هذه الأمة ممتحنة. فعجب والله! خليفة راشد من العشرة المبشرين بالجنة هو عثمان رضي الله عنه يقتل في الشهر الحرام، في البلد الحرام، بجوار قبر النبي صلى الله عليه وسلم، صائما، وهو ابن ثمانين سنة، على كتاب الله! أمة ممتحنة لكنها والله قوية، ومن ظن أنها ضعيفة فهو الضعيف، ومن ظن أنها مخذولة فهو المخذول، الحق لا يقوى بالناس ولا يقوى بالشعبية ولا يقوى بالكثرة، الحق يستمد قوته من ذاته: {بل نقذف بالحق على الباطل} [الأنبياء:18] ما قال بأهل الحق: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق} [الأنبياء:18] . فعلى كل طالب علم وعلى كل إنسان إذا علم مذهب أهل السنة والجماعة في لزوم جماعة المسلمين ألا يلتفت إلى إرجاف المرجفين، ولا إلى تثبيط المثبطين، عليه أن يثبت وألا يبالي بأحد، وسيأتي اليوم الذي يرى فيه عاقبة ما ألهمه الله من صواب، وما حرمه من غيره. كذلك أيضا على المسلم أن يبذل ما عنده، إذا رأى إنسانا يحتاج إلى النصيحة نصحه، كم من شباب من أبناء المسلمين ينتظرون من يبين لهم الحق والصواب والرشد، فإذا وجد أحدا يحتاج إلى التوجيه وجه ولا يشتغل بأهل الفتن، ولا يضيع وقته معهم؛ لأن مناظرة هؤلاء وكثرة مناظرتهم إذا لم يكن عند الإنسان علم لا يأمن أن يقع في قلبه شيء، وكان السلف الصالح رحمهم الله يحذرون من أهل الأهواء والجلوس معهم وكثرة مناظرتهم؛ لأنه لا يأمن الإنسان أن يقذف في قلبه شيء. إذا عرفت الحق فتمسك به، وهذا الذي تعبدك الله به، ولا يمنعك هذا أن تنصح من يستنصح، أو تقيم الحجة على من يجهل، أو تهدي من ضل، وأهم من ذلك كله هو أن تتمسك بالحق، وألا تلتفت إلى من يخذلك أو يثبطك عنه، نسأل الله بعزته وجلاله أن يثبتنا على ذلك، وأن يلهمنا الرشد. جماعة المسلمين أمرها عظيم، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من فارق الجماعة وترك الطاعة فمات؛ فميتته ميتة جاهلية) فعلى الإنسان أن يسأل جماعة المسلمين وإمامهم، وقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح من حديث أبي هريرة في الأئمة والحكام: (يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطئوا فلكم وعليهم) أي: هم يتحملون الأخطاء ويسألون أمام الله عز وجل، ويحاسبون عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن على الإنسان أن يؤدي الحق الذي عليه. ومن هنا فالواجب على طالب العلم أن يتمسك بمذهب أهل السنة والجماعة، وأن يلزم هذا الأصل، وألا يبالي بمن يشككه أو يوهنه، فالحق يعلو ولا يعلى عليه، نسأل الله بعزته وجلاله أن يعيذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، والله تعالى أعلم. حكم الصلاة على بقية الأنبياء عليهم السلام السؤال إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يصلى عليه، فهل الأنبياء المتقدمون كذلك، أثابكم الله؟ الجواب مذهب العلماء وأئمة السلف رحمهم الله: الصلاة والتسليم على الأنبياء جميعا، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ولذلك يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ويصلى على الأنبياء والرسل ويسلم عليهم، كما قال تعالى: {سبحان ربك رب العزة عما يصفون * وسلام على المرسلين * والحمد لله رب العالمين} [الصافات:181 - 182] . فيسلم عليهم ويصلي عليهم، فصلوات الله وسلامه وبركاته عليهم أجمعين، ومن صلى على النبي صلى الله عليه وسلم وصلى على الأنبياء كتب له الأجر المضاعف؛ لأن صلاته على النبي صلى الله عليه وسلم بعشر، وكذلك إذا صلى على الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم كتب له الأجر الذي جعله الله لمن صلى على الأنبياء، صلوات الله وسلامه وبركاته عليهم أجمعين، والله تعالى أعلم. حكم إعادة الأذان إذا نسي المؤذن أحد ألفاظه السؤال إذا نسي المؤذن قول: (الصلاة خير من النوم) في أذان الفجر، هل يلزمه إعادة الأذان؟ الجواب يرجع إلى هذا الموضع ويقول: (الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله) بشرط ألا يطول الفاصل، طولا متفاحشا، أما لو أنه أذن ونسي (الصلاة خير من النوم) ، ثم أطفأ المكرفون ثم تذكر مباشرة، فعليه أن يشغل المكرفون ويرجع ويعيد العبارة. وهكذا لو أنه أذن وانتهى، ثم مضى أو جلس، وتذكر بعد عشر دقائق أو سبع دقائق؛ فإنه يقوم ويقول القدر الذي نسيه سواء في الشهادتين أو الحيعلة، أو الصلاة خير من النوم، يقولها تامة كاملة، ويستدرك ما فاته، وهذا مذهب البناء، وهو مذهب الجمهور رحمهم الله. ولو احتاط بإعادة الأذان فهذا أفضل، لكن المنصوص عليه في مذهب جمهور العلماء رحمهم الله أنه يعيد الجملة التي نسيها ما دام أنه لم يقع الفاصل المؤثر، والله تعالى أعلم. حكم الطلاق قبل الدخول السؤال يقول السائل: طلقت زوجتي قبل الدخول، فهل تعتبر هذه الطلقة الأولى أم هي الأخيرة، وماذا علي إذا أردت الرجوع إليها؟ الجواب إذا طلقت المرأة قبل الدخول فهذه طلقة بائنة، والطلاق ينقسم إلى قسمين: طلاق بائن، وطلاق رجعي. الطلاق الرجعي: هو الذي يملك فيه الزوج ارتجاع زوجته بدون عقد بل وبدون رضاها، وهو الطلقة الأولى والطلقة الثانية بشرط أن تكون المرأة مدخولا بها. فإذا طلقها الطلقة الأولى، أو طلقها الطلقة الثانية، ولم تخرج من عدتها، وكان قد دخل بها؛ فإنه يحق له أن يراجعها ما دامت في العدة، وهذا يسمى الطلاق الرجعي، والأصل في ذلك قوله تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا} [البقرة:228] . وأما الطلاق البائن فينقسم إلى قسمين: البائن بينونة صغرى، والبائن بينونة كبرى. البائن بينونة صغرى: هو الذي لا يملك الزوج فيه ارتجاع زوجته إلا بعقد جديد، وهو الطلاق قبل الدخول، وطلاق الخلع على الصحيح من أقوال العلماء، لقول النبي عليه الصلاة والسلام في قصة المخالعة: (اقبل الحديقة، وطلقها تطليقة) ، فإذا عقد على امرأة ولم يدخل بها ثم حصل ما حصل فطلقها، فإنها تبين منه، ولا يجب عليها أن تعتد؛ لأنه ما دخل بها، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} [الأحزاب:49] هذا طلاق قبل الدخول: {فما لكم عليهن من عدة تعتدونها} [الأحزاب:49] وهذا يسمى بالطلاق البائن بينونة صغرى. والبائن بينونة كبرى: هو الذي يطلق الطلقة الثالثة، فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره. فإذا طلقت قبل الدخول فلا ترجع إليك إلا بعقد جديد وبمهر جديد، وكأنها أجنبية منك. ولكن إذا وقعت هذه الطلقة فإنها تحتسب طلقة واحدة ولا تحتسب ثلاث طلقات، وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله، فقد أجمعوا على أن الطلاق قبل الدخول إذا كانت طلقة واحدة لم يطلق قبلها أنه لا يوجب الثلاث، وإنما هي طلقة واحدة تبين بها المرأة، ويجب عليه أن يعقد عليها من جديد إذا أراد أن ينكحها، والله تعالى أعلم. حكم طاعة الوالد في تأخير زواج الولد مع حاجة الولد للزواج السؤال إذا كان الشاب في حاجة ماسة إلى الزواج، وقال والده: اصبر بعد سنة أو سنتين، فهل يطيعه أم أنه يقدم على الزواج؟ الجواب بالنسبة لهذه المسألة فيها جانبان: الجانب الأول: إذا كان يخشى الفتنة، وغلب على ظنه أنه قد يقع في الحرام؛ وجب عليه أن يقنع والده، ولا يجب عليه أن يسمع ويطيع لوالده، وليس هذا بمؤثر في البر إذا غلب على ظنه أنه سيقع في الحرام، ففي هذه الحالة يتزوج، ولكن يحرص على إقناع والده، وعلى رضا والديه؛ حتى يبارك الله له في زواجه. وإذا أصر الوالد على موقفه، فعليه أن يشرح له بكل تفصيل، وإذا عجز عن إقناع والده؛ فليكلم أعقل الناس في أسرته، وأكثرهم تأثيرا على والده كإمام المسجد -مثلا- أو يكلم رجلا صالحا يأتي إلى والده ويشرح له ظروفه، وأنه يخاف الفتنة، فإذا بذل كل هذا وأصر الوالد على موقفه، فإنه حينئذ يجوز له أن يتزوج. وأما الجانب الثاني: أن يمكنه الصبر وأن يتحمل، فحينئذ يصبر، وإذا كان والده طلب منه الصبر، فلعل في تأخير الزواج خيرا له من الله عز وجل، فيرضى برأي والده ووالدته، فيصبر ويتصبر. وهنا تنبيه: بالنسبة للزواج هو سنة، ولكن لو أن كل طالب علم يأتي ويقول لوالده: أخاف الفتن، فإن الوالدين لهما هدف بتأخير الزواج، خاصة وأن الوالدين هما اللذان سيتحملان مسئولية الزواج، ففي بعض الأحيان قد تقع ظروف مالية فيخشى الإحراج فيها ويخشى أن يتحمل الدين، فإذا أمكن الابن أن يرفق بوالديه، وأن يتقبل من والديه تصبيره فليصبر، وهذه الفتن التي يخاف منها ما تأتي إلا لمن يشتغل بها. طالب العلم أو الإنسان في دراسته، إذا أقبل على العلم واشتغل بالعلم وأعطى العلم كليته بارك الله له، وصرف الله همته حتى يأتي الوقت المناسب لزواجه ما دام أن والديه يريدان منه أن يؤخر الزواج، فحينئذ ينال العلم، وينال رضا والديه. وأما أن يقول دائما: أنا في فتن، أنا في فتن ويكبر الأمر، فمن كبر الفتنة كبرت عليه، وعلى طالب العلم أن يشتغل بما يفيده قدر المستطاع، وطالب العلم إذا حرص على أن يكون في نهاره مراجعا للعلم مذاكرا له، وفي ليله أن يكون له قسط من قيام الليل، ويستعين بعد الله بالصيام؛ كصيام الإثنين والخميس، وثلاثة أيام من كل شهر؛ فلن تبقى أمامه فتنة، وهذه الأمور إذا أعرض عنها تعرض عنه، ولكن إذا ذهب يشتغل بها ثم يقول: عندي فتن عندي فتن، أنا لا أستطيع أن أصلي، وقد يكون في المسجد الحرام! أخي اذهب وغض بصرك، واشتغل بما يفيدك، جرب واخرج من بيتك وأنت تتلو القرآن واشتغل بمعاني القرآن، وانظر هل تجد فتنة أو لا، إذا كان هذا الطريق فيه فتن فهناك طريق آخر ليس فيه فتن. والإشكال أن البعض يضخم هذا الأمر ويحاول أن يدخل أو يقحم على نفسه الفتنة، فمن المجرب أن من اشتغل بما ينفعه وبما يفيده وانصرفت كليته لله، لا يجد ألم ولا ضرر هذه الفتن، وهل تجد نفسا زاكية راضية مطمئنة لكلام الله وكلام رسوله مشتغلة بذكر الله عز وجل تصيبها فتنة، حتى لو أصابته فتنة فعليه أن يستغفر فيحفظه الله عز وجل، وأن يستعيذ فيعيذه الله عز وجل. فعلى طالب العلم أن يكون كما ينبغي أن يكون عليه طالب العلم، ولا يعني هذا التقليل من أمر الزواج أو صرف الناس عن الزواج، فالزواج خير وبركة وسنة، ولا يلتفت لمن تركه ولو كان من أعلم الناس، وعليه أن يتبع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكما قال الإمام مالك: ليس كل الناس يستطيع أن يبدي عذره، فالإنسان يبحث عن السنة ويبحث عن العفة ويبحث عما يصونه، ويحصن فرجه، ولكن لا يبالغ في قضية الفتن، فالفتن حصاد لمن اشتغل بها، ومن قرب منها. نسأل الله بعزته وجلاله أن يصرفنا عنها وأن يسلمنا منها ومن أهلها، والله تعالى أعلم. نصيحة في كيفية استغلال العطل والإجازات السؤال كيف يستغل المسلم على وجه العموم، وطالب العلم على وجه الخصوص وقته في العطل والإجازات؟ الجواب أفضل ما تستغل به العطل طاعة الله عز وجل، وبالاختصار يكون له ورد من طاعة الله عز وجل يتبع فيه سنة النبي صلى الله عليه وسلم. بمعنى أنه إذا جاءت العطلة فليحرص الإنسان على عدم ترك أذكار الصباح والمساء؛ لأنه ما عنده شغل، فيحرص على ذكر الله عز وجل في صباحه ومسائه بجميع ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحرص على صيام الإثنين والخميس، ويحرص على صيام الأيام البيض، والثلاثة الأيام من كل شهر. يحرص بعد هذا على كثرة تلاوة القرآن، وعلى أداء الفرائض في أفضل أحواله، بمعنى أنه أيام الشغل تفوته الركعة والركعتان، ولربما تفوته الصلاة -نسأل الله السلامة والعافية- لكن عيب عليه في العطلة أن تفوته الصلاة، فمن الناس من لا يؤذن المؤذن إلا وهو في المسجد، ومنهم من يحرص على الصلوات الخمس في الصفوف الأول. وقد يقال: ما فائدة الحرص على الطاعة أثناء الفراغ؟ ونقول: الفائدة أنك إذا فعلت الطاعة أثناء الفراغ ثم شغلت؛ كتب لك الأجر كاملا؛ أي أنك إذا كنت أثناء العطلة، تري الله من نفسك قيام الليل وصيام النهار والحرص على الطاعات على أكمل وجوهها، فأنت تعلم أن الصف الأول أفضل، وأن تكبيرة الإحرام أفضل، وأن الخشوع عند قراءة القرآن أكمل وأعظم أجرا، والآن أنت في فراغ، فأثناء عملك ودراستك قد تقول: عندي شغل، وإن كان والله لا ينبغي أن يشغل عبد عن طاعة الله، ولا ينبغي أن يحجب المرء عن ذكر الله عز وجل، وألا تشغله الدنيا عن الآخرة لكن نقول لك: في أثناء فراغك إذا حرصت على هذه الأعمال الصالحة، ثم جاءك شغل عنها؛ كتب لك الأجر كاملا. ولذلك يجلس طالب العلم أو المشغول طيلة شغله وهو يتألم ويتأوه، حينما تفوته الركعة من الصلاة، بل يتأوه ويتألم إذا فاتته تكبيرة الإحرام، فإذا بالله يبلغه الأجر كاملا. ولو أن الشاب في عطله حرص على إتمام الطاعة، ثم لا قدر الله صار له حادث، فأصابه شلل؛ كتب له الأجر مدة عمره كله، من كان في صحته على طاعة واستقامة ثم مرض؛ كتب له الأجر كاملا، ومن كان في شبابه على استقامة وطاعة ومداومة على الخير، ثم هرم وكبر؛ كتب له الأجر كاملا: {ثم رددناه أسفل سافلين * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون} [التين:5 - 6] قال بعض أئمة العلم: هو الرجل يشيب ويكبر وقد كان في شبابه حريصا على طاعة الله، ومعنى (غير ممنون) : غير مقطوع، فيكتب له أجر شبابه كاملا؛ لأن الله علم منه لما جاءته القوة والصحة أنه ما فرط، ما ذهب يعبث بها في الفساد، إنما ذهب يستغلها في طاعة الله ومحبة الله. فالأصل العام أنه يجب أن يكون الإنسان كاملا أو قريبا من الكمال في الاستقامة والطاعة والخير والذكر، والبر، ومحبة الله سبحانه وتعالى. وأيضا أن يحذر من إضاعة العطل في معاصي الله عز وجل، فكما أننا ننبه على هذا الجانب من الخير ننبه على ضده من الشر، كالسفر إلى الخارج، وأعظم من ذلك أخذ الأبناء والبنات وتعويدهم على السفر إلى بلاد فيها فساد، وتعويدهم على التكشف والعري، هذا أمره خطير وشأنه عظيم، ولذلك يحمل فيه الوالد المسئولية أمام الله عز وجل، فكل خائنة عين وكل زلة قدم، وكل طيش يكتب عليه وزر ذلك: {وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم} [العنكبوت:13] . إذا ضيعوا حق الذرية في النصيحة. فحرام على الرجل أن يجر ذريته إلى الهلاك، وأن يجر عرضه وأهله إلى الفساد والدمار، فعليه أن يتقي الله عز وجل، ولذلك لا تجد العواقب الحميدة لمن أضاع وقته وفراغه في غير مرضاة الله عز وجل، وليأتين يوم يبكي فيه على هذا، حتى إن بعضهم عود أبناءه السفر في العطلة إلى الخارج، فلما كبر وشاخ أصبحوا يتركونه في البيت وحده، ثم يسافرون ولا يبالون به: {جزاء وفاقا} [النبأ:26] هذه ثمرة غرسه ونتاج فعله. فإذا: ينبغي على الإنسان أن يحرص على المحافظة على أوقات العطلة في طاعة الله عز وجل والبعد عن محارم الله عز وجل. ومن الأمور التي يوصى بها عموما أيضا: أن يبارك هذه العطلة بالعمل الصالح، السفر لزيارة الوالدين، السفر إلى الأعمام والعمات والأخوال والخالات والقرابات، تجلس بينهم وتسلم عليهم، وتصل رحمك، تسأل عن أحوالهم، حتى إذا وجدت ابن عم لك مديونا؛ تسدد دينه، أو محتاجا تسد حاجته، أو ذا فاقه تعينه وتواسيه، ونحو ذلك من الأمور الطيبة الصالحة التي تعود عليك بالخير في دينك ودنياك وآخرتك. كذلك أشغل العطلة بالسفر إلى العمرة، ونحو ذلك من الأعمال الصالحة التي يستحب للإنسان أن يعمر وقته وعمره بها. أما بالنسبة لطلاب العلم -باختصار- فليس هناك أفضل من مراجعة العلم ومذاكرته، يحاول طالب العلم أن يضع له جدولا يراجع فيه هذا العلم، ويضبطه قدر المستطاع ليكون حافظا للعلم. الأمر الثاني: أن يحرص على أن يشوب هذا العلم بشيء من العبادة، فطالب العلم أثناء السنة قد يكون مضغوطا، لكن إذا جاءت العطلة فيحرص على أن يختم القرآن كل ثلاث ليال، يقرأ القرآن ويجعل له وردا في أول النهار، أو في آخر النهار أو في وسط النهار، ويجعل له وردا في الليل، ولأنه لا يستطيع أن يقوم في السحر في غير العطل، فيعزم وينفذ ذلك في العطل، فيقوم السحر ويحاول أن يستكثر من الخير، وأن يعود نفسه على بكاء واستغفار الأسحار، وتلاوة القرآن في جوف الليل، ونحو ذلك من الأعمال الصالحة، فإذا وفق الله طالب العلم للعلم والعبادة بورك له في عطلته، ولا نستطيع أن نضع للناس منهجا معينا؛ لأن الناس تختلف، والقرآن والسنة فيهما الأمر بالقواعد العامة، ولم يفصل فيهما؛ لأن الناس تختلف أحوالهم وتختلف ظروفهم. وعلى طالب العلم أن يبحث عن شيء يصل به إلى هدف ضبط العلم، وأن يستشعر أنه مؤتمن على دين أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى علمه، فعليه أن يري الله من نفسه خيرا، فيراجع حفظ القرآن، ويحاول كل ثلاث ليال أن يختم، ويحاول أن يقرأ قراءة المتدبر المتأمل؛ لأنه خلال السنة لا يجد وقتا لتدبر القرآن، فيقتطع وقتا من يومه أو من أسبوعه لمراجعة القرآن، وإذا راجعه يراجعه ببكاء وحزن ورقة، ويقف مع القرآن، ويأخذ شيئا من تفسير القرآن أثناء العطلة، ويضع له برنامجا يقرأ فيه شيئا من التفسير ليستفيد منه لنفسه، ويفيد به غيره، ويأخذ شيئا من السنة من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، المهم أن يعمر الوقت بما يتجانس مع العلم؛ لأن هذا يقويه في العلم. وآخر شيء أوصي به طالب العلم: أن يبذل ما عنده، فإذا سافر إلى قريته وإلى جماعته واحتاجوا أن يعلمهم علمهم، إذا احتاجوا إلى نصيحة نصحهم، وإذا احتاجوا إلى توجيه وجههم، ويحرص على أن يكون على أكمل حال في هذا كله، نسأل الله بعزته وجلاله وعظمته وكماله أن يبارك لنا في أعمارنا وأعمالنا. اللهم اجعل خير أعمارنا خواتمها، وخير أعمالنا أواخرها، وخير أيامنا يوم نلقاك يا أرحم الراحمين، يا سميع الدعاء! سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
__________________
|
|
#747
|
||||
|
||||
|
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (مقدمة كتاب الحدود) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (534) صـــــ(1) إلى صــ(19) شرح زاد المستقنع - باب قتال أهل البغي [2] إن الناظر بنظرة فاحصة في أسباب الخروج على جماعة المسلمين وإمامهم يجد أن أعظم أسباب ذلك الخروج مرده إلى الهوى ومجانبة الكتاب والسنة، الأمر الذي يؤدي إلى احتقار المخالف، فيظهر ذلك أولا بالشتم والنقد ثم بالخروج بالسلاح. وقد ذكر الفقهاء الأحكام المتعلقة بذلك، واستنبطوها، وبينوا الأحوال المختلفة لهؤلاء الخارجين، وكيف يتعامل الإمام مع كل حالة. الخروج عن جماعة المسلمين فتنة عظيمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه واهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: يقول المصنف -رحمه الله تعالى-: [إذا خرج قوم لهم شوكة ومنعة على الإمام بتأويل سائغ فهم بغاة] . فقد ذكر المصنف رحمه الله في هذه الجملة الضوابط التي يمكن أن يتوصل من خلالها إلى معرفة البغاة، وقد اختلفت تعاريف العلماء رحمهم الله، ولكن هذه الصفات التي ذكرها هي من أجمع الصفات في معرفة أهل البغي، وقد قسم صفات الطائفة الباغية العلماء رحمهم الله الطوائف في هذا الباب إلى طائفتين: طائفة عادلة، وطائفة باغية. فأهل البغي ذكرهم المصنف أربعة صفات، هذه الصفات الأربع لا بد من توفرها للحكم بكونهم بغاة: الصفة الأولى: أن يخرجوا عن جماعة المسلمين وإمامهم، فيكون فيهم خروج على جماعة المسلمين وإمامهم. الصفة الثانية: أن يكونوا جماعة. الصفة الثالثة: أن تكون لهذه الجماعة شوكة ومنعة وقوة. الصفة الرابعة: أن يكون لهم تأويل سائغ. هذه الأربع الصفات لا بد من توفرها. يقول رحمه الله: (إذا خرج قوم) الخروج على الأئمة وعلى جماعة المسلمين فتنة عظيمة، ولذلك اعتنى العلماء رحمهم الله بهذا الأمر حتى ذكروا في مسائل الاعتقاد، أن مذهب أهل السنة والجماعة أنه ينبغي لزوم جماعة المسلمين، وتلك هي وصية الله عز وجل في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ودرج عليها أئمة السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان رضي الله عنهم ورحمهم أجمعين، وجعل الله الخير للأمة في اتقاء الفتنة، والبعد عنها، ولزوم الجماعة ما أمكن. ولذلك نجد في مباحث العقيدة هذا المبحث، ويعتني العلماء فيه بالتأصيل الشرعي للإمامة، ولزوم الجماعة، والسمع والطاعة، والضوابط المعتبرة في ذلك، وكلام الفقهاء في هذا الباب من الفقه إنما هو في باب الجنايات، بمعنى: في حكم من خرج، وليس في تأصيل وتقعيد هذا الأمر والكلام عليه، ولذلك يشير العلماء رحمهم الله فقط إلى أنه مذهب أهل السنة والجماعة من حيث الأصل. وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: أنه لو تغلب أحد على المسلمين بالشوكة والمنعة، وأصبح يحكم فيهم بالشرع فإنه تلزم طاعته، إذا انعقدت عليه جماعة المسلمين، ولا يشترط انعقاد الكافة عليه، بل المراد أن تنعقد كلمة أهل الحل والعقد والرأي، ولذلك جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر المسلمين كلهم في الستة الذين توفي الرسول صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، ومن هنا قالوا: العبرة بأهل الحل والعقد، وأهل الصلاح كالعلماء والفضلاء، ومن يعرف برجاحة العقل وسداده، ونحو ذلك ممن لهم رأي، وحسن نظر، والناس تبع لأمثال هؤلاء. فإذا انعقدت الكلمة من هؤلاء؛ فإنها تكون جماعة المسلمين، والمنبغي لزوم هذه الجماعة، وبين النبي صلى الله عيه وسلم أن على المسلم السمع والطاعة وإن تأمر عليه عبد حبشي؛ ولذلك جاء النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المثل، وقد كانت العرب فيهم العصبية والأنفة أن تقبل بمثل هذا الأمر، ولكنه أراد بذلك إرغام أنف المسلم لحكم الشرع. والعجيب أنك لن تجد الأمة تسير على هذا الأصل إلا وجدت غيابا لكثير من الشرور، وإن وجدت شرورا في جماعة فإنك تجد أشر من ذلك أن يخرج الإنسان عن الجماعة، ومن هنا لم تأت هذه النصوص من فراغ، ومن تأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا؛ ما أقاموا فيكم الصلاة) يجد أمرا عجيبا، وعلى هذا كان مذهب أهل السنة والجماعة في لزوم هذا الأصل. مظاهر الخروج عن جماعة المسلمين يكون الخروج أول ما يكون بالرأي؛ ولذلك نجد نصوص الكتاب والسنة تأمر المسلم بعدم اتباع بالهوى، وعدم المبالغة في تخطئة الغيره، وعدم الدعوة للشذوذ، ومن تأمل أيضا هدي السلف الصالح رحمهم الله وجد ذلك جليا ظاهرا. فيبدأ الخروج بالاحتقار، والكلام في الولاة والحكام، ثم في العلماء والفضلاء واتهامهم في الدين والرأي، حتى تنسل ثقة الناس من هؤلاء، وإذا نزعت الثقة من العلماء فإنه ينتظر الشر العظيم، والبلاء الوخيم، وهناك كلمات يقولها العلماء قد لا يلقي الإنسان لها بالا، ولكنه إذا تأملها وعاش حقيقتها أدرك ما يعنيه العلماء وأهل العلم حينما يتقون الفتنة، ويحرصون على جمع الكلمة ما أمكن، وليس معنى ذلك أننا سنصل إلى حال يشابه ما كان في عصر الصحابة أو الخلفاء الراشدين، إنما الشريعة تمشي على الأغلب، وتراعي في المصالح الأغلب، ومن هنا تجد أن المصالح في اتباع هذه السنن الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم أعظم وأكبر من أن يجتهد الإنسان عليها، أو يحاول أن يخرج عنها باجتهاد أو برأي. الخروج من حيث هو بالأصل لا يكون إلا بالرأي، وقد ضرب الله المثل للإنسان حتى في البهائم والحيوانات فقال: {إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها} [البقرة:26] فالحكيم العاقل ينتبه للأمثال، والإنسان لو أراد أن ينظر إلى جماعة المسلمين ويشذ عن رأيهم فلينظر إلى بيته، حينما يرى أنه يقوم على مصالح أولاده ورعاية أسرته، ويسهر عليهم، وفي قرارة قلبه يتمنى أن يكون أفضل بيت، وأحسن بيت، ولكنه ببشريته وضعفه تنتابه الشهوات والملهيات، حتى لربما ضيع كثيرا من حقوق أولاده، وهو في دولة صغيرة وبيئة صغيرة، لا يستطيع أن يجد فيها عشر معشار ما يجده غيره ممن هو أعظم منه مسئولية، وأكثر منه أمانة. ومن هنا: إذا أنصف الغير تمعن وتريث، ونظر إلى الأمور بأغلبها خيرا وأقلها شرا كما قرر هذا العلماء والأئمة رحمهم الله، فتجد الإنسان إذا أراد ابنه أن يشذ عنه، أو أن يتمرد عليه في بيته، أول ما يبدأ التمرد بالاحتقار، وأول ما يبدأ الابن إذا كان ابنا شاذا عن بقية الأبناء أن يذكر مثالب أبيه، وأن يحاول أن يفسر كل خير ونصيحة، وكل ما يداوي به جراحه، وكل ما يحسن به إليه، يحملها على العكس والضد. ومن هنا لا يزال الإنسان يتألم مما يرى ويسمع، وكل يوم هذا الابن يسل محبته ومودته وتقديره من آبائه ومن بقية الأسرة، حتى لربما أصبح البيت جحيما لا يطاق. فأول ما يبدأ الشر بالاحتقار، ولذلك تجد الأمور إذا قامت على حسن التقدير، وعدم الغلو في هذا التقدير، وعدم المبالغة في الإطراء والمدح، وأن يكون هناك نوع من التعقل، إلا في المواطن المحددة التي تجابه بضدها، فيقابل الإنسان بالضد من المدح والثناء، حتى يقطع دابر من هو ضده، أما في الشهادة فيشهد شهادة الحق، ويحاول قدر المستطاع أن يعذر وأن ينصف، وأن ينظر إلى غلبة الخير وغلبة المصالح، ووجود الشر في ضده. فالخروج على الأئمة والجماعة يكون بالاحتقار، ويكون الاحتقار للعامة والخاصة، فيحتقر أئمة المسلمين، ثم بعد ذلك لربما استرسل به الشيطان -والعياذ بالله- إلى أن يحتقر العوام. ومن نظر في أحوال الخارجين في القديم, وحتى في العصر الحديث، نجد أحدهم -في بعض البلدان الخارجية- ينتسب للإسلام ثم يكفر مجتمعه, ويرى أن هذا المجتمع كله كافر، وعندها لا يبالي أن يقتل الصغير أو الكبير أو المرأة أو الطفل، بل ويرى أن هذا حقا، وأن هذا يطاع به الله عز وجل، ويتقى به الله عز وجل -نسأل الله السلامة والعافية- وهذا كله كما أخبر الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان} [النور:21] والشيطان له خطوات. ومن هنا يبدأ بالاحتقار، ثم بالنقد؛ لأنه إذا بدأ الاحتقار في القلب تسلط اللسان، فبدأ بالنقد، ثم بعد النقد يبدأ يضخم هذه الأمور، ثم يصل إلى قاعدة أو أساس أن الأمر منكر، ثم هذا المنكر يوجد معه منكر آخر، ثم المنكر الثالث، حتى يصل إلى التكفير، ثم يتعدى بتكفيره إلى من رضي به ومن سكت عنه ومن مدح مدحة واحدة قد يلحق بهذا، والسبب في هذا كله الجهل بحكم الله عز وجل، وعدم الرضا بما أنزل الله، وقد يقال له: قد حث رسول الله صلى الله عليه وسلم المرء المسلم على السمع والطاعة، فيرد عليك قائلا: أنت بهذه الأفكار وبهذه الرجعية تريدنا صما بكما. فيتعالى على النص؛ لأن عقله لا يستطيع أن يتقبل مثل هذا؛ لأن عنده هوى متبعا. فيبدأ الخروج بالاحتقار والازدراء، وعدم المبالاة بجماعة المسلمين، وعدم المبالاة بعلمائهم، وعندها تزل القدم بعد ثبوتها، والله قد أعذر لهؤلاء، فنص الكتاب ونص السنة واضح، وجماعة المسملين أمامه وعلماؤهم أمامه، فمن احتقر هذا كله فلا يلومن إلا نفسه، وكل ما يأتي من تبعات، وكل ما ينجر إليه من ويلات وعواقب وخواتم، فلا يلومن في ذلك كله إلا نفسه، ولن يهلك على الله إلا هالك؛ ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يذكر المنكرات، ويذكر ما سيكون من الولاة من المساوئ والمثالب، ثم قال الصحابة رضوان الله عليهم الذين هم أغير الخلق على الحق، وأغير على هذه الأمة: (أفلا نناجزهم بالسيوف؟ قال: لا؛ ما أقاموا فيكم الصلاة) من يستطيع أن يجتهد مع هذا، هل يستطيع أحد أن يقدم على هذا أو يؤخر؟ فما على المسلم إلا التسليم. لا يعني هذا التخاذل أو التواكل، بل يعني السمع والتسليم، وهل الإسلام إلا الاستسلام، فـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقف أمام النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ويقول: (يا رسول الله! كيف نعطي الدنية في ديننا!) أي: بتلك الشروط القاسية على المسلمين، ثم هم محرمون يتحللون من إحرامهم، ويرجعون إلى ديارهم، ثم إذا أسلم أحد يرد إلى الكفار، وإذا ارتد مسلم فإنه لا يرد إلى المسلمين (أنعطي الدنية؟!) . إذا جئت تنظر إلى الظاهر وجدت الذلة والصغار في الظاهر، وأمورا لا يسلم بها العقل، لكن الشريعة تأتي لكي تحكم الإنسان بالسمع والطاعة، وتأمر بالاستسلام والتسليم الذي يأتي به الفرج والمخرج، ويظن البعض أنها أوهام وأحلام، ونحن نقول له: اتبع وسترى ما يسرك، وإن كان يظن الإنسان أنه سيجد خيرا في اجتهاده، فسيجد خيرا من ذلك الخير في اتباعه للكتاب والسنة، ولن يجد أعلم من الله بخلقه، ولا أحكم ولا أعدل من الله عز وجل في شرعه ونظامه! فلا يستدرك أحد على الله عز وجل، ولذلك تجد أعداء الإسلام يدخلون السموم على المسلمين في هذا، ويحاولون تشكيكهم، ويعتبرون أن هذا ذلة، ويعتبرون أن هذا نوع من الخور والغفلة والسذاجة، نعم؛ ذلة في مقام عزة، ومهانة في مقام كرامة، وعقل وإنصاف، وبعد نظر، ومن قرأ التاريخ يجد العبر، وكم من أشياء خرجت عن جماعة المسلمين تحت دعاوى، ثم لما تمكن أصحاب تلك الدعاوى رموا وراء ظهورهم ما كانوا يقولون. هناك أمور لا يمكن للإنسان أن يدركها، فمادام أن هناك نصا وشرعا أمر أن يسلم به فليسلم به. فالخروج لا يكون أول ما يكون إلا بالاحتقار، ولذلك يبلغ ببعض الناس في بعض الزمان أن يقول: لم يبق عالم أثق به. وإذا قال هذه الكلمة؛ فليعلم أنه قد ضل ضلالا مبينا، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله) وقد زكى حملة هذا العلم، وانظر إلى نفسك حينما تريد أن تحفظ آية من كتاب الله لا تستطيع أن تحفظها، بعض السور قصيرة لا تستطيع أن تحفظها، لتدرك أن هذا الدين عطية من الله، وأنه مادام وأنه قد زكى هؤلاء العلماء فوالله إن العالم ليخاف، ولكنه يخاف على المسلمين لا على نفسه، وينصح للمسلمين لا لذاته، ولا يدخل في جعبته شيئا، وإنما يعلم أنه إذا أصغت له الآذان، ووعت منه القلوب فإنه على شفير جهنم، وأنه إن أخذ بهم بالسلامة سلم له دينه، وإن أخذ بهم على منهج السلف الصالح ابتعد بهم عن هذه العواقب الوخيمة. بين العلماء رحمهم الله أن الشذوذ لا يكون إلا بالاحتقار، ومن هنا تجد نصوص الشريعة كلها تذم شيئين، ولو نظرت في كثير من المصائب الموجودة اليوم وجدتها بسبب هذين الشيئين: الأول: في قرارة الإنسان وقلبه. والثاني: في لسانه، في اللسان الذي يكب الناس في النار على وجوههم والعياذ بالله. أما في القلب: فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم) فما بالك إذا احتقر العلماء، واحتقار العلماء -في الخروج على الأئمة والخروج على الولاة والعلماء- لا يكون بأن يقول لك: أنا أحتقر فلانا، ولكنه كما يكون بالمقال يكون بلسان الحال. هناك نماذج، ونذكر في واقعنا ما يقوله البعض الآن عندما تقول له: الشيخ أو العالم فلان نصح بكذا، وإذا به يقول: والله ما يفقه الواقع! ولا بد من فقه الواقع! لكن ما هو فقه الواقع؟ فقه الواقع أن تعي ما تقول، والواقعة التي تتكلم فيها، وعندك فيها نص من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، أو تجتهد وعندك أمانة وورع وإخلاص، فقد فقهت في واقعك، أما فقه الواقع أن تكون بمثابة الشهادة والتزكية تعطى لمن يوافق رأيي، وتنزع ممن لا يوافق رأيي، فبهذا نصير علماء للعلماء، ومعلمين للعلماء، وأعرف من العلماء بدين وشرع الله عز وجل! ولذلك ينبغي الحذر، فقد يكون هناك كلمة حق يراد بها باطل، وقد بينت النصوص أنه لا يهلك على الله إلا هالك، فعلى كل إنسان أن يحتاط من هذه اللمزات، وهذا الاحتقار؛ لأنه يؤدي بالإنسان إلى العواقب الوخيمة. بداية خروج الخوارج على علي رضي الله عنه كان بالاحتقار الخروج على الأئمة لا يكون إلا بالاحتقار، ومن نماذج ذلك في التاريخ: أن أول فتنة وقعت للخوارج حينما خرجوا على علي رضي الله عنه فاحتقروه، واحتقروا مكانه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، واحتقروا مكانه من العلم والفقه، وقد أمنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إنه بعثه إلى اليمن قاضيا ومعلما، واستخلفه على المدينة صلوات الله وسلامه عليه وقال له:: (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى) فكان بهذه هي المنزلة العظيمة، وإذا بالخوارج يحتقرونه في ذلك، فخرجوا عليه رضي الله عنه وأرضاه، بالنقمة؛ نقموا عليه أنه قبل التحكيم، وقد بينا في المجلس الماضي كيف عتبوا عليه، وكيف أنه رضي الله عنه أقام عليهم الحجة. فأصل الخروج لا يكون إلا بالاحتقار، ومن هنا أول ما قال ابن عباس رضي الله عنهما -وهذا موضع الشاهد- أنه قال لهم: ماذا تنقمون على ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه؟ ماذا تنقمون منه وهو أسبق للإسلام وأعرف بشرع الله عز وجل وبهدي النبي صلى الله عليه وسلم؟ فهو يخاطب أناسا لو كان عندهم عقل وبصيرة، لرجعوا إلى أنفسهم، إذ كيف يحتقرون هذا الصحابي الجليل المبشر بالجنة والخليفة الراشد، ورموا بكل ذلك وراء ظهورهم، بل وصل الأمر إلى تكفيره رضي الله عنه وأرضاه. ومن هنا أول ما يكون الخروج بالاحتقار، وما وجدنا أئمة السلف رحمهم الله يحرصون على شيء مثل احترام المسلم لأخيه المسلم، فضلا عن العلماء وفضلا عمن له حق وله فضل. صفات البغاة المستحقين للقتال يقول رحمه الله: (إذا خرج قوم) أي: تميزوا عن جماعة المسلمين بمكان يتجمعون فيه، أو يتحزبون فيه، كما حصل للخوارج حينما اجتمعوا بحروراء، وهذا شرط عند بعض العلماء رحمهم الله، ومنهم من أخذ بمطلق الخروج. وقوله رحمه الله: (قوم) هذه العبارة تشير إلى أنه لا يكون الخروج من الأفراد، وأن خروج الأفراد لا يأخذ حكم خروج الجماعات، فلو أن شخصا تبنى الخروج على جماعة المسلمين، ولم يكن له أتباع أو أفراد كالاثنين والثلاثة؛ فالصحيح: أنهم لا يأخذون حكم البغاة؛ وذلك لتعبير القرآن بالطائفة، والأصل في ذلك: عمل السلف الصالح رحمهم الله. والشرط الثالث: أن يكون لهم شوكة ومنعة، أما إذا كانوا لا شوكة لهم ولا منعة، وانحصروا في مكان دون أذية للمسلمين، ودون تحريض للغير أن يخرج معهم بشق عصا الطاعة والشذوذ عن الجماعة؛ فإنهم لا يأخذون حكم الخوارج في قول جماهير السلف والخلف رحمهم الله، وإنما من حق الإمام أن يعاملهم بما يقطع شرهم وبلاءهم عن المسلمين: إما بعزلهم، وإما بمنع الناس من الاتصال بهم، أو نفيهم ونحو ذلك مما يرى فيه المصلحة. والشرط الأول دليله إجماع الصحابة رضوان الله عليهم على قتال الخوارج بالخروج، وهذا يدل على أنهم لا يقاتلون، ولا يستباح منهم القتال إلا بخروجهم، ويتحقق الخروج بالاعتداء على حرمات المسلمين، ومن هنا استدل العلماء بأن عليا رضي الله عنه كما في الرواية الصحيحة عنه: ما قاتل الخوارج إلا لما قتلوا عبد الله بن خباب بن الأرت رحمه الله ورضي عن أبيه، فلما قتلوه آذنهم علي رضي الله عنه بالقتال، فقالوا: إنهم لا يقاتلون إلا بهذا الشرط. وهناك من العلماء -وهو رأي صحيح وأميل إليه- من يقول: إنه لا يشترط أن يبدءوا بالقتال إذا غلب على الظن أنهم سيفعلونه؛ لأنه لو اشترط هذا الشرط فمعناه: أنهم لا يقاتلون إلا إذا فعلوا الضرر بالمسلمين، والواقع أنه إذا غلب على الظن أنهم أعدوا العدة يريدون التعرض أو الأذية بالمسلمين، فحينئذ يجوز قتالهم، وهذا مذهب طائفة من العلماء رحمهم الله، وهو أنه لا يشترط وجود القتال منهم، وأنه إذا غلب على ظن الإمام أنهم سيخرجون، وأنه سيكون منهم الضرر؛ فمن حقه أن يبدأهم دفعا للشر، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بادر عدوه قبل أن يأتي إلى المدينة كما صح عنه في غزواته صلوات الله وسلامه عليه، وكان من شجاعته عليه الصلاة والسلام أنه لا يسمع بقوم يريدون غزوه إلا بادرهم. وقوله رحمه الله: (بتأويل سائغ) هذا الشرط الرابع هو التأويل: أن تكون عندهم شبهة، وهذه الشبهة تكون في الرأي كما اشتبه الأمر على الخوارج، وتأولوا في قتال علي رضي الله عنه وأرضاه، فإذا تحققت هذه الأربعة الشروط فحينئذ يوصف هؤلاء بكونهم بغاة أو أهل بغي. مشروعية مراسلة أهل البغي لإزالة الشبه ورفع المظالم عنهم ليرجعوا قال المصنف رحمه الله: [وعليه أن يراسلهم فيسألهم ما ينقمون منه] . قوله: (وعليه) أي: يجب على الإمام أن يراسلهم، فيبعث إليهم أناسا من أهل العلم ومن أهل الصلاح، أو ممن يقبلون قوله ويناقشونه ويناظرونه، وقد يكون بعض العلماء أقدر على ردهم إلى الحق، والدليل على هذه المسألة فعل علي رضي الله عنه، فإنه بعث إلى الخوارج عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وأرضاهما فناظرهم، ورجع معه ألفان. وانظر كيف أن الإسلام يحفظ الحقوق ويعالج الأمور بحكمة! فلا أكمل من شرع الله عز وجل، ولا أتم من هديه، فأرسل رضي الله عنه وأرضاه عبد الله بن عباس وناظرهم؛ لأنه قد يكون هناك أناس لبس عليهم، فكم من كلمات ظاهرها السلامة وباطنها الخطأ والخلل، ويغتر بعض المسلمين من الأخيار والصالحين بظاهرها من الخير؛ ولذلك لا يكشف عوارها، ولا يبين زيفها إلا من عنده علم وبصيرة، فحينئذ يوكل الأمر إلى العلماء أن يناقشوهم وأن يناظروهم ويقيموا عليهم الحجة، وقد نص عليه جماهير العلماء رحمهم الله: على أنه يجب على ولي الأمر أو الوالي أو الإمام أن يبعث إليهم من يقيم عليهم الحجة. قوله: [فإن ذكروا مظلمة أزالها] . أي: فإن ذكر البغاة مظلمة، يعني أنهم خرجوا بسبب مظلمة؛ أزالها؛ وقد ذكر بعض العلماء أنه يجب على ولي الأمر أن ينصفهم إذا ذكروا مظلمة، ويكون معهم؛ لأنهم إذا كانوا مظلومين فالواجب عليه أن يزيل عنهم الظلم, وقد تكون في الناس عصبية، أو ضعف في الدين، فإذا حصل أقل الظلم بالغوا فخرجوا، وربما حصلت فتنة وشر، فمثل هؤلاء يبين لهم أن هذه المظلمة ستزال عنهم، ويرفع ما بهم من البلاء، ويكشف عنهم الظلم؛ لأن الله أمر بالعدل، وأوجب العدل على الحكام والولاة، ولا يجوز لهم أن يظلموا رعاياهم، ول أن يكونوا سببا للخروج عليهم بهذه المظالم. وقد يستطيل بعض العمال في عمالته، ويستغل عمله، فيظلم ويكره الناس في ولاتهم، فحينئذ يجب على الولاة أن ينصفوا المظلومين، وأن يردوا المظالم إلى أهلها، وألا يمنعهم من قبول الحق كونه أتى من هؤلاء، بل عليهم أن يقبلوا الحق، ويردوا المظالم إلى أهلها، وينصفوهم في ذلك؛ لأن الله أوجب عليهم ذلك، وما شرع الله عز وجل الإمامة إلا لهذا المقصد العظيم وهو: إقامة العدل، ومنع الظلم، وكف الظالم عن ظلمه، فإذا ذكر البغاة المظلمة فالواجب على الإمام أن ينصفهم فيها. قوله: [وإن ادعوا شبهة كشفها] . بأن يخرجوا في مدينة، ويكون سبب خروجهم في هذه المدينة كون عامل المدينة ظالما، وبعض الأحيان يكون في البوادي فيظلمهم السعاة والجباة، وأصحاب الضرائب؛ فعلى الولاة أن يزيلوا هذه المظالم كلها، وهذا واجب عليه لتزال هذه الشبهة. قوله: [فإن فاءوا] . أي: رجعوا إلى جماعة المسلمين، كف عنهم، وقبل رجوعهم؛ ولذلك قبل علي رضي الله عنه الخوارج الذين تابوا ورجعوا وكانوا قرابة الألفين، ولم يعنف أحدا منهم ولم يلمه. فإذا تبين الحق للمسلم ورجع إليه، فهذا يدل على خيره وفضله، والمسلم الحق هو الوقاف عند حدود الله، الذي إذا استبانت له المعالم، وتبين له أن الشرع يلزمه بجماعة المسلمين، وسمع من العلماء النصيحة والتوجيه وقبله بنفس مطمئنة ورجع، فهذا يدل على فضله، وأنه إنسان يريد الخير، فيقبل منه ذلك ولا يحاسب ولا يقرع ولا يوبخ، بل يثبت على رجوعه ويعان على ذلك. حكم مقاتلة الخوارج ابتداء بعد إقامة الحجة بمراسلتهم قوله: (وإلا قاتلهم) أي: قاتلهم وجوبا، أي: يجب عليه قتالهم، وهذا قول جماهير السلف والخلف؛ لأن الله تعالى يقول: {فقاتلوا التي تبغي} [الحجرات:9] فأوجب الله القتال بالأمر، ولأن عليا رضي الله عنه قاتل الخوارج، وقد أجمع أئمة السلف رحمهم الله على مشروعية قتال من خرج على جماعة المسلمين، وأن على ولي الأمر أو الإمام إذا لم يرجعوا بعد أن تقام عليهم الحجة أن يقاتلهم، واختلف العلماء رحمهم الله في كيفية القتال على وجهين: فمن أهل العلم من يقول: يقاتلون تدريجيا، فيحاول بالأخف ثم بالأقوى منه، ثم بالأقوى منه، فإن رجعوا وإلا شد وطأته عليهم حتى يكسر شوكتهم، ويستأصل شأفتهم، ويقطع دابرهم عن المسلمين. ومن أهل العلم من قال: يجوز أن يبتدئهم بالقوة والعنف. المذهب الأول للشافعية والحنابلة: أعني أنه ينبغي التدرج، والمذهب الثاني: للحنفية والمالكية. والحقيقة من حيث الأصول والأدلة: أن مذهب المالكية والحنفية أقوى دليلا؛ لأنهم قالوا: إن الله أوجب القتال وقال: {فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي} [الحجرات:9] وهذا يستلزم القوة وأن يكون حكمه حكم القتال سواء بسواء، فيهجم عليهم ويقاتلون حتى بالمنجنيق، وبالرمي بالنار ما لم يكن فيهم نساء وأطفال، على تفصيل في هذه المسألة. قالوا: لأن المراد من هذا قطع دابرهم، وفي هذا استئصال للشر، وأيضا ردع للغير أن يسلك مسلكهم. والمذهب الأول فيه احتياط، لكن من حيث الدليل فمذهب القائلين أنه يجوز له قتالهم مباشرة أقوى دليلا، وقد قاتلهم علي رضي الله عنه، والقتال الذي فعله بهم رضي الله عنه كان كسائر القتال إلا في مسائل فيما يترتب على القتال، فإن أهل البغي ليس قتالهم كقتال الكفار كما هو معلوم، فلا يجهز على جريحهم إذا كان هناك جريح ينزف بل يداوى ويعالج. وأيضا ثبت عن علي رضي الله عنه في ابن ملجم لما طعنه أنه أمر أن يسقى وأن يضاف، ولم يأمر بقتله رضي الله عنه مباشرة، وأمر بالإحسان إليه، فإذا مكن منهم فلا يعاملون معاملة غيرهم؛ ولذلك قال علي رضي الله عنه: (إخواننا بغوا علينا) ، فالأصل في هذا أنهم يقاتلون دفعا لشرهم، وما جاز للضرورة يقدر بقدرها، فقتالهم بقدر الضرورة وبقدر الحاجة ولا يزاد عليه، ولذلك قالوا: إنه لا تسترق نساؤهم، ولا يضرب عليهم الرق، ولا يجهز على جريحهم، ولهم أحكام خاصة تفصيلها في كتب الفروع، لكن من حيث أصل الحكم الشرعي: أنه يشرع له قتالهم وابتداؤهم بالقتال إذا غلب على ظنه وجود الشر منهم. وبعض مشايخنا رحمة الله عليهم يختار التفصيل: وهو أنه يرد الأمر إلى نظر الإمام، فإذا رأى أن من المصلحة أن يبادرهم بالقتال بقوة بادرهم، وإن رأى أن المصلحة أن يبدأ بالتدرج معهم فلا بأس بذلك على حسب الظروف والأحوال، ويرى أن هذا أعدل القولين وأقربهما إلى الصواب. قتال العصبية قال المصنف رحمه الله: [وإن اقتتلت طائفتان بعصبية أو رئاسة فهما ظالمتان] . بعد أن انتهى من أحكام البغاة شرع في مسألة قتال العصبية والحمية والثارات، كما يقع بين القبائل والجماعات، ويقع في العداوات والخصومات، وهذا لا يأخذ حكم قتال أهل البغي، ولذلك إذا وصفنا الفئة المقاتلة بأنهم بغاة، فهو أهون من أن يقال: إنه قتال عصبية؛ لأن أهل البغي يعاملون معاملة خاصة, ولهم أحكام خاصة، أما إذا كان قتال عصبية فالحكم مختلف، ففي قتال أهل البغي: لا يجب على أهل البغي ضمان ما أتلفوه، فلو وقع بينهم وبين جماعة المسلمين وإمامهم قتال فقتلوا وقتل منهم لم يجب الضمان، لا على الفئة العادلة ولا على الفئة الباغية، وهذا في قول جماهير السلف والخلف. وهناك رواية عند الشافعية وقول عند الحنابلة: أنهم يضمنون. والصحيح: أن الفئة العادلة لا تضمن، والفئة الباغية لا تضمن، فلا يجب عليهما الضمان إذا كان هناك إتلاف أو قتل أثناء القتال، لكن في قتال العصبية وما يقع في الثارات والعداوات، فإنه يجب الضمان, ويعاقب الإمام الطائفتين، ويصلح بينهما بالعدل، لكن يؤاخذ الطائفة الباغية الظالمة أكثر، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن النداء بالشعارات والثارات أنه يورد الإنسان يوم القيامة النار. وكان قد وقع بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء من تلك العصبية بسبب ما أثار بينهم يهود من تذاكر قتلى يوم بعاث الت يوقعت بين الأوس والخزرج، حتى قال الأوسي: يا للأوس، وقال الخزرجي: يا للخزرج، وثارت بينهم الثائرة، حتى كادت أن تحصل مقتلة عظيمة بينهم، فأنزل الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين} [آل عمران:100] ولما تلا النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآيات بكى الصحابة رضوان الله عليهم لما تبين لهم ما كانوا فيه من عظيم الخطأ والخلل. فالعصبيات موردها وخيم وعاقبتها وخيمة، ومن قاتل تحت راية عمية حشر في نار جهنم -والعياذ بالله- تحتها، وهي بعث النار، حتى لو كانت في الجهاد، قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! الرجل يقاتل حمية -بمعنى أن الدافع له هو بلده ووطنه ومكانه وأهله وعشيرته- والرجل يقاتل ليرى مكانه، والرجل يقاتل للمغنم؛ أي ذلك في سبيل الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) فكل هذا خارج عن سبيل الله، وهذا يدل على أنه ينبغي للمسلم أن يحذر من العصبيات والنعرات؛ فإنها تورد الإنسان الموارد، حتى إنه لربما استباح دماء المسلمين المحرمة. وإذا اقتتلت طائفتان وكل منهما يتعصب لطائفة فإنها ليست آخذة حكم قتال أهل البغي، فإذا انتهى القتال؛ وجب على كل طائفة أن تضمن ما أفسدته، ووجب على كل طائفة أن تضمن ما أفسدته على الأخرى، وقد قال صلى الله عليه وسلم في شأن هذا: (إذا التقى المسلمان بسيفيها؛ فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: يا رسول الله! هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه) وهذا كله يدل على خطر هذه النعرات والعصبيات. فبين المصنف رحمه الله أن القتال على هذا الوجه لا يأخذ حكم قتال أهل البغي، فقال: [فهما ظالمتان، وتضمن كل واحدة ما أتلفت على الأخرى] . (فهما ظالمتان): أي: لا يعتبر هذا من قتال أهل البغي، بل يجب على الإمام أن يوقفهما عند حدودهما، وتضمن كل طائفة ما أفسدته على الأخرى. فلو حصل إتلاف للأموال وجب عليهما ضمان هذه الأموال التي أتلفت، كما لو أحرقت منازل، أو مزارع، أو كسرت مصالح وأتلفت؛ فإنه يجب على المتلف أن يضمن، وما وقع من الدماء يجب ضمانه، فلو عرف القاتل بعينه فإنه يقتص منه؛ إعمالا للنصوص الشرعية التي تقدمت معنا، وهكذا من أتلف المال إذا عرف بعينه وجب عليه الضمان، إذا أقر وجب عليه الضمان، وأما إذا كان لا يعرف فإنه يجب عليهم جميعا أن يضمنوا ما أتلفوه.
__________________
|
|
#748
|
||||
|
||||
|
الأسئلة حكم المفاضلة بين العلماء السؤال هل يجوز لطلبة العلم أن يفاضلوا بين العلماء؟ الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: هذا سؤال غريب عجيب! لكن إن شاء الله تؤجر على اختياره. الحقيقة أن هذا أمر قد عمت به البلوى، فالمفاضلة بين العلماء وغير العلماء مسئولية، ومن قال: فلان أفضل من فلان؛ فقد زكاه، وتعتبر هذه شهادة، والله تعالى يقول: {ستكتب شهادتهم ويسألون} [الزخرف:19] إذا كان الشخص يتكلم في المفاضلة: أولا: عن علم. ثانيا: عن حاجة. ثالثا: بإخلاص. عن علم: بمعنى أن يعرف من هو العالم الذي فضله، بأن يكون قد درس عليه، قرأ عليه، ضبط العلم على يديه، ويعرف من هو العالم الآخر -المفضول- فيكون قد أدرك علم الرجلين. ووجدت حاجة للتفضيل: لأنه من اللؤم ومن نسيان المعروف والخير: أن يأتي لعالم تتلمذ على يديه ثم يجد من هو أعلم منه ليقول: فلان أعلم من فلان دون وجود حاجة، فما جزاء الإحسان إلا الإحسان، يقول: فلان عالم وفلان عالم، ولعل فلانا قد أعطاه الله علما كثيرا، فلا تقل: فلان أفضل من فلان بدون حاجة، لكن إذا وجدت الحاجة فلا بأس، كأن يأتي رجل وقال: سأمكث في مكة أو المدينة سنة، وما عندي إلا هذه السنة، وأحتاج إلى أن أضبط العلم وأتقنه في علم الحديث، علم العقيدة، علم الفقه، فسألك قائلا: دلني هل فلان أفضل أو فلان؟ هل أدرس على فلان أو فلان؟ فهنا وجدت حاجة. وأن يكون بإخلاص، أي: مراده النصيحة للأمة، وليس مراده التحقير والانتقاص، فإذا وجدت هذه الثلاثة الضوابط فلا بأس. أيضا: إذا فضلت أحدا على أحد فينبغي ألا يتضمن الأسلوب التحقير للمفضول؛ لأن من النصيحة لأئمة المسلمين ومنهم علماؤهم: ألا ينتقص قدرهم، فإذا قيل: إن فلانا أعلم من فلان على طريقة فيها تهكم بالمفضول؛ فهذا ظلم له واستباحة لعرضه، وليحذر من غيبة العلماء ومن الغيبة عموما. ولا يلام أحد خاصة إذا كان بين طلاب العلم أن يكثر من تحذير الناس أو طلبة العلم من الوقيعة في أهل العلم، وخاصة في هذا الزمان، ولو أن كل مجلس يستفتح ويختم بقرع القلوب بقوارع التنزيل في الحذر من الوقوع في أولياء الله من أهل العلم من الأموات والأحياء والتفضيل بينهم، وانتقاصهم على سبيل الانتقاص والاحتقار، لكان حسنا، ولم يلم من قال ذلك. وعلى كل حال إذا وجدت هذه الثلاثة الضوابط؛ فأرجو ألا يكون في ذلك بأس، أما أن يجلس شخصان أحدهما قرأ على شيخ، والآخر قرأ على شيخ لكي يفاضلان بين شيخيهما، فلا، أو يتناظر اثنان في مسألة فيقول أحدهما: رجحه الشيخ فلان، فيقول الآخر: رجحه الشيخ فلان، فيقول: فلان أعلم من فلان، فهذه أمور عواقبها وخيمة، وبالأخص إذا كانت في المجالس العامة، أو بين عامة الناس؛ لأن ضررها عظيم. فينبغي على طلاب العلم ألا يفعلوا ذلك. والله تعالى أعلم. حكم تأخر الإمام عن المجيء إلى المسجد إلى وقت الإقامة السؤال هل السنة لإمام المسجد أن يأتي بعد الأذان مباشرة أو ينتظر في بيته إلى وقت الإقامة؟ الجواب إذا كان بيته قريبا من المسجد مثل بيت النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل وقت الصلاة، تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم، يتأول السنة وحينئذ فلا بأس، وإذا كان بعيدا من المسجد، ولا يأمن زحمة الطريق، ولا يأمن التأخر عن الجماعة وإضرارهم فبكر فلا بأس بذلك ليحتاط للمسلمين. وهنا مسألة ننبه عليها: وهي أن الأئمة والمؤذنين عليهم مسئولية عظيمة، ولذلك تحد الناس في كثير من المساجد تتألم من حال الإمام في عدم دخوله إلى الصلاة إلا متأخرا، ومتعجلا في مبادرته بالخروج، والمنبغي تحري السنة. فكون الإمام مثلا يأتي قبل الأذان، ويتفقد أحوال مسجده، ويحس بالأمانة والمسئولية، ويجلس في المسجد ليقرأ القرآن، ويصلي، ويحيي في الناس الخير فذلك حسن. النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل وقت الصلاة، لكنه كان يجلس في المسجد، وكان يعلم الناس في المسجد، ويحرص على الجلوس في المسجد، وكثير من الأحاديث رويت عنه في مجالسه في المسجد صلوات الله وسلامه عليه، وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (إن إخواني من الأنصار كان يشغلهم الصفق في الأسواق، وكنت رجلا أصحب النبي صلى الله عليه وسلم على ملء بطني، أشهد إذا غابوا، وأحفظ إذا نسوا) فالأفضل للإمام أن يكون على حال وسمت يعطي الهيبة والمكانة للإمامة، وبالأخص المؤذنين أيضا؛ لأن بعض المؤذنين يأتي متأخرا عن الأذان، وبعد أن ينتهي من الأذان يخرج من المسجد، وبعضهم يخرج ويجلس يتحدث مثلا في مكان قريب من المسجد، وإن تيسر دخل بيته، وإن تيسر شرب القهوة في بيته حتى يأتي الوقت! ماذا نقول للناس؟! والله إنه شيء يؤذي جدا إذا لم يشعر المسلمون بعظم هذه الشعيرة العظيمة وهي الصلاة. وهل هانت الأمة وذلت إلا لما هانت شعائرها، وحينما كان يصلي بالناس الأئمة والعلماء والفضلاء كانت الأمة في أوج عظمتها وعزها وكرامتها، وأما اليوم فيبلغ ببعض المساجد أن يحضر وقت الأذان -وقد رأيت ذلك مرارا وتكرارا- ويدخل الذي يكنس في الشارع لكي يؤذن الأذان؛ لأن المؤذن وصاه جزاه الله خيرا حتى لا يضيع الوقت، ولا تسأل عن اللحن، ولا تسأل عن الكلمات المحرفة، وقد يكون أذانا باطلا من اللحن الذي يحيل المعنى، وكل هذا ولا أحد يبالي! ونحن نريد عزة وكرامة للأمة، فإذا كان أعز شيء في دينها بعد العقيدة الصلاة، والأمة بهذا الحال إلى درجة أن الإنسان مؤذنا أو إماما لا يبالي بمسئوليته وأمانته، فلما أصبحت هذه الشعائر ليس لها مكانة في القلوب ضاعت. إذا كان بيت الإمام قريبا من المسجد فينبغي أن يدخل وقت الصلاة، والأفضل أن يكون له مجالس بين الفترة والفترة لأهل الحي ينصحهم ويوجههم ويسمع ما عندهم من أحوال، يجلس معهم ويؤانسهم ويباسطهم تأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان بيته بعيدا فيأتي مبكرا ليحتاط للصلاة، انظر إلى إمام يؤذن الأذان وهو في المسجد! انظر إليه قارئا لكتاب الله، وانظر إليه متأثرا بالقرآن الذي يقرؤه، أو قائما يصلي ويذكر! وتخيل وأنت من صغرك في مسجد ترى إمام مسجدك بهذه الصفة: تاليا لكتاب الله، مبكرا للصلوات، محسنا ومتقنا فيها، محافظا على كمالها وعلى أفضل الأحوال فيها، وقد لا يؤذن الأذان إلا وهو في المسجد، كيف يكون حالك؟ كيف يكون نظرك لهذه الإمامة وهذا الإمام؟ سيكون الحال أنه إذا أمرك أطعته، وإذا جاء على المنبر يقول: اتقوا الله سمعت له، وإذا نصحك رضيت نصيحته, وإذا أردت أن تستشيره في أمر تباركت بعد فضل الله عز وجل به، فكونه مستقيما على خير؛ يجعل الله الخير على لسانه، فمثل هذا الإمام المبارك هو الذي يكون إماما بحق، أما إذا كان بعيدا عن المسجد وقال: أنا أريد أن آتي على وقت الإقامة، فلا بأس، ما دام أنه يحفظ للناس وقت صلاتهم، المهم ألا يضيع على الناس وقت صلاتهم، هذا هو المطلوب. والله تعالى أعلم. حكم كراهية الذي أنعم الله عليه بالنعم السؤال كثيرا ما أجد في نفسي -إذا تذكرت نعمة معينة في أحد- كراهية وضيقا وهما، ثم أبادر إلى ذكر الله سبحانه وتعالى، لأني لا أود أن يصاب في الحقيقة بأذى، لكن ما وجدته في نفسي هل هو حسد أعاقب عليه؟ وما هو العلاج؟ الجواب هذا على صورتين: الصورة الأولى: أن يكون حديث نفس ليس له استقرار في القلب، فلا تلبث أن تراجع دينك وشرعك وتستغفر وتذكر الله، فهذا لا يضرك إن شاء الله، واستمر على هذه الطريقة: أن تبارك وأن تستغفر الله عز وجل وترجع إليه. الصورة الثانية: أن يستقر ذلك في قرارة قلبك، وديدن نفسك، فهذا مرض، ولا شك أنه من الحسد وضعف الإيمان، أن الإنسان إذا رأى نعمة على أخيه المسلم؛ حصل له هذا البلاء العظيم. والذي أوصيك به أولا: الدعاء: أن تدعو الله عز وجل أن يرزقك قلبا سليما. وثانيا: أن تبحث عن الأسباب التي لأجلها ابتلاك الله عز وجل بهذا البلاء، فقد تكون ظلمت أحدا، أو آذيته، أو هضمته حقه؛ فابتلاك الله بفتن في قلبك، وهذه تسمى فتنة الحسد، وفتن القلوب كثيرا ما تأتي بسبب الذنوب؛ فقد يكون للإنسان ذنب فيسلط الله عز وجل عليه هذه الفتنة بسببه، فإن تاب تاب الله عليه، ورفع عنه أسباب البلاء؛ لأن الله جعل البلاء في الفتن دائما بسبب ما يكسبه الإنسان من الظلم والأذية والتعدي لحدود الله، فأوصيك بالتوبة والاستغفار وكثرة الدعاء، وليس هناك حل إلا أن تسأل ربك أن يرفع عنك هذا البلاء، فليس له من دون الله كاشفة، فعول على ربك، وأكثر من الدعاء ولا تيأس ولو استمر معك هذا البلاء سنوات، ولعل الله بدعائك أن يجعل لك فرجا ومخرجا بعد توفيقه ورحمته بعباده. والله تعالى أعلم. حكم المسبوق بركعة من الرباعية وقد زاد الإمام ركعة خامسة سهوا السؤال كنت مسبوقا بركعة في الصلاة الرباعية، وكان قد سها الإمام وزاد في صلاته خامسة فماذا علي؟ هل أسلم معه؟ أم آتي بالركعة التي كنت مسبوقا بها؟ الجواب إذا سها الإمام وأنت في نفس المتابعة وتيقنت سهوه وأنه سيسجد بعد السلام فعليك أن تنتظر، ولا تقوم مباشرة، حتى يسلم فلا تسلم، وابق على ما أنت عليه؛ لأنك معذور بالسلام، فإذا سجد تابعته، فهو مأمور بالسلام للأصل الشرعي، وأنت غير مأمور به؛ لأنك مأمور بإتمام صلاتك، ولكنك مأمور بمتابعته، فقد سها ووقع السهو في حال متابعته، وحينئذ تنتظر إلى سلامه ثم تسجد. هذا الوجه الأول عند العلماء رحمهم الله. الوجه الثاني يقول: إنه يجوز لك أن تقوم، ثم إذا انتهيت من صلاتك سجدت قضاء لهذه السجدة؛ لأنه لا يمكنك متابعة الإمام على هذا الوجه؛ لأنها سجدة بعدية، وصلاتك ليس فيها سجدتي السهو قبل الإتمام. وكلا الوجهين صحيح. والوجه الأول أقوى من حيث النص، والمتابعة أن تنتظر حتى يسلم، ثم بعد ذلك تسجد سجود السهو ثم تتم لنفسك. والله تعالى أعلم. حكم قراءة الآيات الأخر من سورة آل عمران عقيب النوم السؤال هل يستحب استفتاح اليوم بعد النوم بآخر الآيات من سورة آل عمران: {إن في خلق السموات والأرض} [آل عمران:190] كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ الجواب نعم؛ هذا من السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (بت عند خالتي ميمونة مع النبي صلى الله عليه وسلم، فبت في عرض الوسادة، وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله عليها، فلما كان هوي من الليل، قام فمسح النوم من عينيه، ثم تلا الآيات من آخر سورة آل عمران: إن في خلق السموات والأرض. [آل عمران:190] ثم قال: ويل لمن قرأهن ولم يتعظ بهن، ويل لمن قرأهن ولم يتعظ بهن، ويل لمن قرأهن ولم يتعظ بهن) فيقرأها الإنسان ويتعظ بها. والله تعالى أعلم. تعطل أجر الوقف بتعطل منفعته السؤال ما حكم توقف الوقف كتعطل برادة الماء، أو من أوقف كتابا ضاع أو تمزق؟ هل أجر هذا الشخص مستمر أم منقطع؟ الجواب من حيث الأصل: الثواب على العمل، ومن حفر بئرا، أو أجرى نهرا، أو أوقف كتابا، فمادام الخير موجودا والناس منتفعة؛ فله أجره على قدر انتفاع الناس، ثم إذا تعطلت مصالح هذا الوقف؛ فالواجب على ناظر الوقف أن ينصح للميت، وأن يبذل الأسباب لإعادته حتى ولو ببيعه ونقله إلى مكان آخر، وهذا عن طريق القاضي، حيث ينظر إلى الأصلح ويأمر بذلك. أما من حيث الثواب: فالثواب على حصول النفع عاما كان أو خاصا، فإذا أجرى نهرا وانقطع النهر؛ فالأجر موقوف على جريان النهر، فإذا انقطع النهر انقطع الأجر والثواب، فالأجر موقوف على وجود المنفعة للمسلمين ومصالحهم. والله تعالى أعلم. حكم ترك الهرولة في الطواف لمن كان معه نسوة السؤال من كان معه نسوة وكان في أثناء الطواف، هل يهرول في الأشواط الثلاثة؟ أم يسير مع النسوة سيرا طبيعيا؟ الجواب النسوة لا يهرولن، قال عبد الله بن عمر، ويروى عن عمر: (ليس على النساء رمل لا في الطواف بالبيت، ولا في السعي بين الصفا والمروة) لأنها إذا رملت تكشفت، ومن هنا فالرمل خاص بالرجال دون النساء، وهذا مما خالف سبب شرعيته تطبيقه، فإن الأصل أن الهرولة بين الصفا والمروة للنساء؛ لأن هاجر -وهي أم إسماعيل- هرولت بين الصفا والمروة، وهذا مما ذكره العلماء في اختلاف السبب عن التشريع، ومن هنا قالوا: إنه لا يشترط المطابقة في المسائل. فالحاصل أن النساء لا يهرولن، ومن كان مع نسوة فينبغي أن يتعاطى الأسباب في بعدهن عن الفتنة بأن يطفن في حاشية المطاف، وأن يطفن في وقت بعيد عن الفتنة ما أمكن، ويحرص قدر الإمكان على إبعادهن عن الزحام، ومن الأخطاء الموجودة أن البعض يدخل نساءه إلى داخل المطاف خاصة في الزحام، ثم يدفع ويؤذي الناس، وهذا لا يجوز، بل المنبغي أن يجعل النساء في أطراف المطاف، أو يختار وقتا مناسبا لطوافهن. أما لو كان معه نسوة ويخشى عليهن الضياع، فهذا يرخص له أن يهرول، وهو وجه ثان عند العلماء عندما يشتد الزحام فيهرول بقدر ما يستطيع، وهي ما يسمونها بهرولة الواقف على القول الثاني بأن الرمل هو هز المناكب وتقارب الخطى، على هذا الوجه يحتاط به، وإن شاء الله لا بأس عليه ولا حرج. والله تعالى أعلم. نصيحة للقائمين على المراكز الصيفية السؤال ابتدأت الإجازة؛ فما توجيهكم للقائمين على المراكز الصيفية؟الجواب لا شك أن الإخوة الذين يقومون على هذه المراكز من الإخوة الحريصين على الخير، نحسبهم كذلك ولا نزكيهم على الله، وعليهم مسئولية عظيمة في توجيه أبناء المسلمين, وحفظ أوقاتهم واستغلالها فيما يفيد، وعلى كل معلم وموجه أن يحرص على الأمور التي لا بد من توفرها لكي يكون توجيهه وتعليمه على السنن، فأساس الخير كله في الإخلاص لله عز وجل. فعلى هؤلاء الموجهين القائمين على هذه المراكز الصيفية أولا وقبل كل شيء أن يخلصوا لله سبحانه وتعالى، ومن أخلص لله بارك الله قوله، وبارك عمله، وأيده وأعانه ووفقه، ووضع له القبول وألهمه الرشد، وكل ذلك خير له في دينه ودنياه وآخرته. الأمر الثاني: الحرص على أبناء المسلمين وعلى أوقاتهم، بمعنى النصيحة؛ فإن أبناء المسلمين أمانة في أعناقهم، فينبغي تحبيب الخير إلى قلوبهم، والحرص على وضع البرامج المفيدة والأنشطة النافعة التي يستغل فيها الوقت في طاعة ومحبة ومرضاة الله، فيخرج النشأ ويخرج الابن من هذه الإجازة حافظا لشيء من كتاب الله، أو أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحرص على تذكيرهم بالحكم والفوائد وأقوال السلف الصالح من الصحابة والتابعين، وربط خلف هذه الأمة بسلفها، فقديم الإسلام جديد وجديده قديم، ولن يستقيم أمر هذه الأمة، ولن يصلح إلا بما صلح عليه أولها، وهي الأمة المرحومة باتباع نبيها صلوات الله وسلامه عليه، والأمة المهتدية باقتفاء أثره صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فيحرص هؤلاء الأساتذة الفضلاء على ذلك، وليعلموا علم اليقين أنه ليس لهم من هذا الذي يعملونه ويقضونه من الأوقات إلا ما أرادوا به وجه الله وأصابوا به الحق والصواب. الوصية الثالثة: الصبر؛ فإن توجيه الناس يحتاج إلى صبر، والصبر في جوانب: الجانب الأول: الصبر على إسداء الخير للغير، فإن هذا يحتم على هؤلاء القائمين أن يبذلوا أوقاتهم وأن يضحوا بكثير من مصالحهم ابتغاء النجاح في توجيه أبناء المسلمين وتعليمهم، ولا شك أن الله مطلع على ذلك كله، فهم إذا استشعروا مراقبة الله لهم، وأبدى كل واحد منهم من نفسه أن يري الله خيرا، وأن يكون بأحسن الأحوال وأفضلها، وطمع من ربه أن يكون على أحسن ما يكون عليه الموجه؛ فهذا لا يكون إلا بتوفيق الله ثم بالصبر، الصبر على هذا التعليم واحتساب الأجر عند الله سبحانه وتعالى، واستشعار المثوبة منه جل وعلا. الجانب الثاني: الصبر أثناء التعليم، فإن توجيه أبناء المسلمين والتعليم عموما يحتاج إلى صبر، لأنه يأتي الجاهل بجهله، والسفيه بسفهه، والطائش بطيشه، والضال بضلالته، فينبغي أن تكون هناك نفس طيبة زاكية كريمة سامية عالية، ترجو رحمة الله عز وجل وتمتص هذه الأخطاء والشرور، ولن تستطيع أن تكون بهذه المثابة ولا بهذه المنزلة إلا إذا تذكرت رسول الهدى صلى الله عليه وسلم في صبره وتحمله لكثير من المشاق والمتاعب، فهذا يقوي هذه النفوس الأبية الصالحة على الخير. الجانب الثالث: الصبر على الأذى؛ فإنه ربما يأتي من يشكك ومن يهول ومن يخذل ومن يتهم، وعلى كل موجه ومرب أن يعلم أن الكمال لله عز وجل، وأن الرسل وأتباع الرسل، وكل من قام بهذا الدين لا بد أن يمتحن ويبتلى فيه، ومن كان أصدق في إيمانه، وأصدق في إخلاصه، وأبلغ في الصواب فامتحانه أشد؛ ولذلك ربما يربي أحد أبنائه في هذه المراكز ثم يفاجأ به بعد فترة وإذا به قد انقلب عليه، وهذه نوعيات شاذة، لكن إذا لم يكن عنده صبر فقد يضيع أجره بكثرة غيبته وكلامه وحنقه عليه، ولكن بصبره وتحمله وتذكره لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحابة والتابعين، وكيف مرت عليهم الشدائد، وأن هذه الأمة أمة مبتلاة ولكنها مرحومة بإذن الله عز وجل، فالعاقبة للمربي بإذن الله إذا صبر ولم يبال، ولم يعرف العجز ولا الخور ولا التواني، بل عزيمته صادقة، ونفسه قوية؛ لأنه يعلم أنه على صواب وحق، ومتى ما علمت أنك على الحق؛ فلا تبال بمن اتبع ولا بمن رجع، فعليك أن تستبين الصواب وأن تعمل به، وتصبر على ما يأتيك من التهم ومن التخذيل والتشكيك ونحو ذلك. ولا مانع من الأخذ ببعض المباحات التي دلت النصوص على جوازها، ولكن ينبغي استغلال الوقت في الأهم في طاعة الله ومرضاته. والنقطة الأخيرة: نوصي الإخوان من طلبة العلم أن يشدوا من أزر هؤلاء، وأن يشيدوا بفضائلهم وأن ينصفوهم وأن يعلموهم إذا كان عندهم خطأ أو خلل، وأن يبينوا لهم الصواب، وينبغي معونتهم على ما هم فيه من توجيه أبناء المسلمين. إن الفتن قد عظمت، والمحن قد جلت وأحاطت بأبناء المسلمين من كل حدب وصوب، وإذا رأيت أحدا يتلقف أو يأخذ ابنا من أبناء المسلمين للحظات في طاعة الله، فاعلم أنه قد أحسن ولم يسئ، كأن يجعله على طريق خير أو حلقة ذكر؛ لأن أبناء المسلمين اليوم إذا لم يأخذهم الأخيار أخذهم الأشرار، ولربما ترى الابن في عز شبابه وزهرة أيامه فيتلقفه ذو شر إلى مجلس مخدرات يدمر به حياته، وذلك بمجلس واحد، ولربما تزل قدمه في الفواحش والمنكرات والمحرمات بجلسة واحدة. فعلى كل إنسان عاقل وكل إنسان يخاف الله ويتقيه أن ينظر إلى واقع أبناء المسلمين ويتألم ويشفق عليهم مما يرى من المغريات والملهيات، ومما يرى من الكلاليب التي تتخطفهم إلى المصائب والشهوات، فإذا وجد من يدعوهم إلى الخير، أو وجد المراكز الصيفية تحرص على قضاء أوقاتهم في الخير؛ كمل نقصها، وسدد خطاها، وصوب خطأها، وحرص على أن يعين إخوانه على هذه الرسالة، ومثل هؤلاء الأساتذة الفضلاء لا شك أنهم على ثغر عظيم، ونحن والله نقدر ما يكون منهم لأبناء المسلمين. نسأل الله بعزته وجلاله أن يمدهم بعونه وتوفيقه، وأن ييسر لهم الأمر، وأن يشرح لهم الصدر، وأن يجزيهم عن أبناء المسلمين بأحسن الجزاء، وأن يكثر من أمثالهم على الصواب والحق والهدى، وأن يلهمنا وإياهم الرشد، إنه ولي ذلك والقادر عليه. والله تعالى أعلم. حكم قراءة القرآن من المصحف في قيام الليل السؤال إذا كان الإنسان ليس حافظا للقرآن؛ فهل يجوز له أن يقوم الليل وهو يقرأ من المصحف مباشرة؟ الجواب لا بأس بذلك ولا حرج، وقد جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله أنها كانت تأمر مولاها ذكوان أن يقوم بها الليل بالمصحف، وجماهير العلماء على جواز ذلك وعلى مشروعية أن يحمل المصحف ويقرأ منه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
__________________
|
|
#749
|
||||
|
||||
|
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (مقدمة كتاب الحدود) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (535) صـــــ(1) إلى صــ(9) شرح زاد المستقنع - باب حكم المرتد [1] الإسلام دين رحمة للعالمين، من دخل فيه فقد فاز، ومن خرج منه فهو مفسد في الأرض يستحق العقوبة، وللردة أحكام بينها أهل العلم، وقسموا خلالها الردة إلى ما تقبل التوبة منه في الشرع وما لا تقبل. أدلة تحريم الردة من الكتاب والسنة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فقد ذكر الإمام المصنف رحمه الله هذا الباب، وترجم له بقوله: (باب حكم المرتد) وهذا الباب يتعلق بعقوبة جناية من الجنايات، وهي راجعة إلى أصل الدين، وهي أعظم جناية وأعظم حد ينتهكه العبد فيما بينه وبين الله سبحانه وتعالى، ومناسبة هذا الباب لما قبله واضحة ظاهرة، فإنه بعد أن بين حكم الخروج عن جماعة المسلمين شرع في بيان حكم الخروج عن الإسلام والدين. وهنا يعتني الفقهاء رحمهم الله ببيان عقوبة المرتد، ومتى يحكم بردة الإنسان وما يسميه أهل العلم بالموجبات وبنواقض الإسلام، ثم ما الذي يترتب على ذلك من عقوبة، ثم يبحثون في توبة المرتد. فهذه ثلاثة عناصر يبحثها العلماء والأئمة رحمهم الله في باب الردة، ويعتنون بالجانب الفقهي العملي، وإن كان تفصيل المسائل ومباحثها يعتني به أئمة الإسلام رحمهم الله في كتب الاعتقاد. وقوله رحمه الله: (باب حكم المرتد) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالردة، فهي عقوبة شرعية يستباح بها دم الإنسان وماله، ولذلك تزول عنه عصمة الإسلام، كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث -وذكر منها- التارك لدينه المفارق للجماعة) فهذا هو المرتد. والأصل أن الردة محرمة بإجماع العلماء رحمهم الله، وهي الذنب الأعظم، والخلل الذي ليس بعده خلل، ولذلك قال العلماء: ليس بعد الكفر ذنب، والأصل في ذلك قوله تعالى: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} [البقرة:217] فحرم الله الردة، وأخبر أن صاحبها قد حبط عمله في الدنيا والآخرة، وأنه قد خسر خسارة لا ربح وراءها أبدا، قال تعالى: {قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين} [الزمر:15] فهذا الخسران الذي ليس بعده خسارة. وكذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بين حكم المرتد، وأنه مباح الدم كما في حديث عبد الله بن مسعود في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) فبين حرمة الردة، وأنها موجبة لزوال العصمة عن الإنسان. وأجمع العلماء رحمهم الله على حرمة الردة عن الدين، والنصوص في الكتاب والسنة في هذا المعنى كثيرة، ولكن أردنا أن نشير إلى هذا الأصل، حيث قال العلماء إنه قد اتفقت عليه نصوص الكتاب والسنة والإجماع. ومدار بحث المصنف رحمه الله في ثلاثة جوانب: الجانب الأول: في حقيقة الردة وبم تكون؟ وهذا ما يسمى بموجبات الردة، وأسباب الردة، ويعبر العلماء عنه بقولهم: نواقض الإسلام. والجانب الثاني: عقوبة المرتد، وهذا هو الذي يركز عليه الفقهاء رحمهم الله، وأما في مسائل الاعتقاد فيركز العلماء المعنيون بها على بيان أسباب الردة على سبيل التفصيل والبيان الواضح، وقد اعتنى أئمة الإسلام رحمهم الله قديما وحديثا بهذا الباب العظيم، ومن أنفس من كتب في ذلك من العلماء المتقدمين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى، حيث بين نواقض الإسلام، ونواقض العقيدة، وكذلك أيضا اعتنى به أئمة الإسلام رحمهم الله في كتب الاعتقاد ومباحثها، حتى جاء شيخ الإسلام الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله برحمته الواسعة، وكان في عصره قد تفشى في الناس الكفر والشرك؛ حتى أصبح البعض ينسب الأمور المحرمة إلى الدين والشرع، وهو منها براء، فأصبح الناس يتخذون القبور والمشاهد والأولياء يطوفون بها، ويصرفون حقوق الله عز وجل إلى أصحابها، ومن دخل تلك الأماكن فنظر أو سمع أو شاهد أحوال أهلها بكى على الإسلام بكاء من صميم قلبه، وأحس بغربة الإسلام الحقيقية، حتى إنه ليسمع الرجل ويسمع المرأة تضفي على صاحب القبر من التقديس والمهابة والإجلال والصفات ما لا يجوز صرفه إلا لله وحده لا شريك له. كما يصرف لتلك القبور ولأصحابها من السجود والطواف والذبح والنذر ما تشيب منه الرءوس، ومن هنا سلط الله على المسلمين الذلة، وأصبحوا بحال -كما يشاهد الإنسان- يرثى له بسبب انهدام أصل الدين، ووجود هذه النواقض التي تضاد شرع الله عز وجل، وما أنزل الله كتبه ولا أرسل رسله إلا لكي يكون الناس عبادا لله لا عبادا لخلقه، وتكلم رحمه الله في كتبه عن نواقض الإسلام، وجاء العلماء من بعد ذلك فشرحوا وفصلوا ذلك وبينوه، وسيبين المصنف رحمه الله جملة من هذه النواقض، وهل للمرتد من توبة على اختلاف أنواع الردة؟ كل هذا ما سيفسره وسيبينه رحمه الله في هذا الموضع. فاعتنى في الباب الأول بالجزئيتين الأوليين: بيان حقيقة الردة وعقوبة المرتد، وذكر في الجزئية الثانية: ماذا ينبغي أن يفعل بالمرتد من تمام العقوبة، وهل للمرتد من توبة، أو ليست له توبة. تعريف الردة لغة واصطلاحا قال رحمه الله تعالى: [وهو الذي يكفر بعد إسلامه] قوله: (وهو) الضمير عائد إلى المرتد، والردة مأخوذة من الرجوع في لسان العرب، ولذلك أجمع العلماء رحمهم الله على أن الردة في اللغة هي الرجوع، فمصادر اللغة كلها متفقة على أن مادة الردة راجعة إلى مادة الرجوع عن الشيء. وأما في الاصطلاح: فاختلفت عبارات العلماء رحمهم الله في حقيقة الردة والمرتد: فبعض العلماء يقول: الردة هي الرجوع عن الإيمان كما يعبر فقهاء الحنفية رحمهم الله. وبعضهم يقول: كفر المسلم، كما عبر به طائفة من العلماء ومنهم فقهاء المالكية. وبعضهم يقول: قطع الإسلام، كما يعبر فقهاء الشافعية. وبعضهم يجمع بينها كما اختاره الإمام ابن قدامة رحمه الله فقال: المرتد هو الراجع عن الإسلام إلى الكفر، فجمع بين الاثنين، والمعنى واحد. ومن هنا نجد التعاريف الاصطلاحية تختلف ألفاظها وتتفق معانيها، فكلهم اتفقوا على وصف الردة بكونها رجوعا عن الإسلام، وهذا هو ظاهر القرآن: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر} [البقرة:217] فظاهره أنه يرجع بعد إسلامه إلى الكفر، نعوذ بالله العظيم من ذلك، ونعوذ بوجه الله العظيم أن يسلب الإسلام منا بعد أن وضعه في قلوبنا، ونسأله أن يزيدنا ولا ينقصنا منه. فتعريف المرتد بأنه: هو الراجع عن الإسلام، أو الراجع عن الإيمان، أو الرجوع عن الإيمان، أو كفر المسلم؛ المعنى كله واحد، وهذا الرجوع له أسباب ودلائل وأمارات وعلامات، منها ما يرجع إلى الاعتقاد، ومنها ما يرجع إلى الأقوال، ومنها ما يرجع إلى الأعمال، وتكون هذه الاعتقادات والكلمات والأعمال موجبة للحكم بكفر صاحبها. صور ومظاهر الردة المظهر الأول: الشرك بالله قال رحمه الله: [فمن أشرك بالله] . الفاء للتفريع، والشرك أصله مأخوذ من قولهم: شرك الشيء بالشيء إذا جمعه وخلطه به، فالشرك والشرك والشرك مثلثة هي الخلطة، والأصل أن تكون فيما فيه الاختصاص، فيجمع بين من اختص بالشيء وبين غيره، فحينئذ يكون قد شرك أو شرك به غيره. والمشرك من جعل لله ندا، سواء كان ذلك في ربوبيته أو ألوهيته أو أسمائه وصفاته، فالذي يعتقد أن هناك خالقا مع الله -تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا- فهو يقول: الله خالق، ولكن أيضا الطبيعة تخلق مع الله. فهذا جعل مع الله ندا، وهذا شرك في الربوبية، وهكذا إذا اعتقد أن هناك من يرزق، وأن هناك من يصور المخلوقات ويوجدها، ويقدر الأشياء، فإن هذا كله شرك في الربوبية. وإذا أشرك مع الله غيره في ربوبيته أشرك مع الله غيره في ألوهيته، فاستغاث بغير الله، واستجار بغير الله، واعتقد أن هناك من يصرف الكون مع الله، وأنه ينبغي الرجوع إليه والاستغاثة به، والتقرب إليه -تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا- كما يفعل البعض ممن يعتقد أن للجن نفوذا وتصرفا في الكون، ولذلك يستغيثون بهم ويستجيرون بهم ويذبحون لهم، نسأل الله السلامة والعافية. والله تعالى يقول عن خلقه الضعيف -الجن- الذين يعظمونهم ويذبحون لهم: {وأنا ظننا} [الجن:5] أي: أيقنا، وهنا استعمال الظن بمعنى اليقين والحكاية هنا عن عظماء الجن: {وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا} [الجن:12] فلا يستطيع أحد أن يخرج عن قهر الله سبحانه وتعالى؟! فالجن خلق الله ولا يجوز اعتقاد أن هؤلاء الجن يدبرون ويتصرفون. ويستوي في شرك الألوهية دعاء الجن أو دعاء رجل صالح أو طالح في قبره، أو دعاء وثن أو الاستغاثة به مع الله، نسأل الله السلامة والعافية. النوع الثالث: أن يكون شركا في الأسماء والصفات، فيجعل صفات الله عز وجل لغيره، فيصرفها لغير الله عز وجل أو يثبتها لمخلوق مع الله عز وجل، كمن يعتقد في بعض الناس أنه يعلم الغيب ويعلم ما سيكون، كما وقع في أئمة طوائف الضلال حين عظموا أئمتهم، واعتقدوا أنهم يعلمون ما يكون ويحدث في الكون، والله عز وجل أخبر في كتابه ونص على أنه لا يعلم الغيب إلا الله وحده لا شريك له: {قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله} [النمل:65] فعلم الغيب هذا مما استأثر الله به، وهو سبحانه موصوف بأنه عالم الغيب والشهادة، جل جلاله وتقدست أسماؤه، فإذا اعتقد أن الشيخ أو أن الولي الفلاني يعلم ما يكون وما يحدث؛ فإنه قد صرف ما لله لغير الله. قوله: (فمن أشرك) أي: بناقض من نواقض الإسلام، وقد قال تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء:48] وقال تعالى: {إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار} [المائدة:72] وهي الموجبة الكبرى التي توجب لصاحبها الخلود في النار، وحلول غضب الله عز وجل عليه أبد الآبدين. ويستوي في ذلك أن يجعل لله ندا من الصالحين أو غيرهم؛ كقوم نوح الذين جعلوا أندادا مع الله عز وجل، من ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، فقد كانوا قوما صالحين، فجاء الشيطان قومهم وقال لهم لما ماتوا: إنهم كانوا قوما صالحين، فلو أنكم صورتم صورهم وفعلتم لهم تماثيل تذكركم عبادتهم وصلاحهم واستقامتهم، فتجتهدون إذا رأيتموهم، ففعلوا ذلك، فاجتهد الجيل الأول في العبادة، فلما انقرضوا خلف من بعدهم خلوف، فقال لهم الشيطان: إنه لم يصور آباؤكم هؤلاء إلا ليعبدوهم، فعبدوهم، فوقع الشرك -والعياذ بالله- مع أنهم قوم صالحون. وقد قال الله تعالى عمن يشرك الصالحين مع الله عز وجل من الأنبياء وغيرهم: {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه} [الإسراء:57] أي: هؤلاء الذين تدعونهم كعيسى حين تعبده النصارى مع الله عز وجل، وتعتقد أنه ثالث ثلاثة، وأنه ابن الله وأنه هو الله، وهو أصلا يدعو ربه، ويستغيث بالله عز وجل، ويسأل الله سبحانه وتعالى، فعتب الله عليهم أن صرفوا حقه لهؤلاء الصالحين. فالشاهد أنه إذا صرف العبد حق الله عز وجل لغيره فقد أشرك، سواء كان الغير وثنا لصالح أو لطالح، كل ذلك يوجب الحكم بردته وخروجه عن الإسلام. المظهر الثاني: جحد الربوبية والوحدانية لله تعالى قال المصنف رحمه الله: [أو جحد ربوبيته أو وحدانيته] فلو قال: إن الله ليس برب. وهذا ما يعتقده الدهريون وأهل الطبيعة الذين يقولون: لا يوجد رب لهذا الوجود! والحياة أوجدت نفسها، والطبيعة هي التي أجرت الأنهار والرياح، وهي التي أخرجت الثمار، وهي التي والتي فكل شيء للطبيعة، حتى إنك تجد من بعض المسلمين من يقول: من خيرات الطبيعة! أي طبيعة يزعمون؟ أف لهم ولما يدعون. وصدق الله حيث قال: {وكان الإنسان كفورا} [الإسراء:67] يخلقه ربه ويطعمه ويسقيه، ثم يزعم أنه لا رب ولا خالق لهذا الوجود، فهؤلاء لا يريدون أن ينسبوا المخلوقات لخالقها سبحانه، والله يقول: {هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض} [فاطر:3] ؟ الجواب لا، فلا خالق إلا هو سبحانه، وهم يقولون: الطبيعة. بل انظر كيف ينزل ذلك الكفور إلى مستوى الحضيض، حيث يكرمه ربه فيهين نفسه، ويرفعه ربه فيضع نفسه، فالله عز وجل يقول: {ولقد كرمنا بني آدم} [الإسراء:70] ويأتيك بالحق على أجمل وأجل وأكمل ما يكون من إتيان، فيبين لك أن الله خلق آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد لله ملائكته، فكرمه وشرفه وفضله فيقول سبحانه: {ولقد كرمنا بني آدم} [الإسراء:70] ثم يأتي الشقي التعيس المنكوس ويقول: إن الإنسان أصله قرد! أي حضيض وصل إليه؟ {وكان الإنسان كفورا} [الإسراء:67] ، {وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا} [الأحزاب:72] هذه الجاهلية وهذا الهبوط من الكفران. ثم بين الله سبحانه وتعالى في نصوص الكتاب أنه خلق الخلق فأحصاهم عددا، وأنه قسم أرزاقهم فلم ينس منهم أحدا، وأنه تولى أمورهم فردا فردا، جل جلاله وتقسدت أسماؤه، فإذا بهم يشركون بين المخلوق والخالق، وإذا بهم يصرفون أبناء المسلمين عن هذه الفطرة إلى الكفر بأساليب شتى، وألاعيب مكذوبة وأغاليط لا تنطلي إلا على السذج، وأهواء وترهات لا تعقل، حتى إن الأرزاق التي وضعها الله عز وجل وسخرها لعباده ولإمائه ولخلقه في هذا الكون كان الأصل أن تصرفهم إلى الاعتقاد بالله، لا للاعتقاد بغير الله، وإليكم مثال بسيط على ما سبق: يقولون وهم يتحدثون عن تاريخ البترول: إنه منذ ألف مليون سنة كان هناك حيوان يقال له: الديناصور -معروف طبعا أن الديناصور انقرض- ثم توالت عليه أطباق الأرض فمات، وبفعل الحرارة ثم بفعل الضغط. إلخ فانظر ما عندهم من قياسات، وبالإمكان أن يعطوك عدد الأطباق التي نزل إليها هذا الديناصور حتى أصبح بترولا. إن الإنسان إذا جاء يكذب يأتي بشيء يستساغ كما يقولون، فالديناصور من ذكائه ما وجد مكانا يموت فيه إلا في الخليج، أو في عرض البحر، هم يقولون كل شيء إلا أن يقال: إن الله خالق كل شيء، ويجوز عندهم كل شيء إلا أن يصرف حق الله لله وحده لا شريك له، هذا حتى يعلم الإنسان مدى تمرد الكافر على ربه والعياذ بالله! وانظر إلى التشريف والتكريم الذي يكرم الله عز وجل به بني آدم، وانظر كيف ينصرف المخلوق عن خالقه، يعمل مع الشياطين {كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران} [الأنعام:71] فهو في الحيرة والضلال والحضيض؛ لأن الله يقول: {ومن يهن الله فما له من مكرم} [الحج:18] فكل من كفر بالله، وجحد ربوبية الله عز وجل، أو جحد حقا من حقوق الله عز وجل ليذيقنه الله الذلة والصغار، حيا وميتا؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يأذن أن يصرف حقه عنه جل جلاله. فهم يقولون: لا يوجد خالق! -والعياذ بالله- وكل شيء يلقن إلى أبناء المسلمين على أن الأشياء كلها طبيعة، وأنه ليس هناك إله، ومن هنا جاءت العناية في دعوة هؤلاء، والعناية بنصوص الكتاب والسنة، ومن أعظمها نصوص الآيات الجميلة الجليلة البديعة -وكل آيات الله جميلة جليلة بديعة- التي أخذت بمجامع القلوب في القرآن، فلفتت نظر الإنسان إلى السماء فوقه، وإلى الأرض تحته، وإلى الأشجار والثمار والأنهار والرياح المرسلة التي تسبح بحمد ربها، والسحاب المسخر بين السماء والأرض، تسبح بحمد ربها وتقدس له جل جلاله {وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا} [الإسراء:44] . فمن جحد ربوبيته يقول: ليس هناك خالق، ولا رازق، وينفي عن الله عز وجل أنه يخلق الخلق، أو يرزقهم، فإذا جحد بالربوبية كفر بالله عز وجل، وحكم بردته. المظهر الثالث: سب الله أو الرسول صلى الله عليه وسلم قال المصنف رحمه الله: [أو سب الله أو رسوله] السب: الانتقاص والاستخفاف، وقد تكلم العلماء في ضابط السب، وأشار إليه القاضي عياض رحمه الله في الشفا عند حكم سب النبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء، وأشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية في الصارم المسلول؛ لكن من أجمع ما ذكروه أن السب هو الانتقاص والاستخفاف، فمن انتقص إنسانا، أو استخف به؛ فقد سبه، وهذا هو ضابط السب، الذي به يحكم أن الكلام يعتبر سبا أو لا يعتبر. وسب الله عز وجل جريمة وجرأة عظيمة على حدود الله عز وجل، وما أحلم الله سبحانه وتعالى، وعزة ربي لو أذن الله للأرض أن تفتك بهذا الكافر الفاجر الظالم الذي يسب ربه ما أبقت منه شيئا، لخسفت به ولتزلزل فيها، ولو أذن سبحانه للسماء لأرسلت عليه قاصفة، فأخذت عمره، وأخرست لسانه، ولكن الله حليم، ولذلك على المؤمن إذا سبه أو آذاه أو انتقصه الناس، أن يتعزى بصفوة خلقه من الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه وبركاته عليهم أجمعين، الذين نالهم من ذلك الشيء الكثير. فموسى عليه السلام اشتكى إلى ربه حين تكلم الناس فيه، فقال الله: يا موسى! إني أنا ربهم، أطعمهم وأرزقهم، ثم يدعون أن لي صاحبة وأن لي ولدا. فهذا عزاء لكل مسلم، أن يتعزى إذا جاءه البلاء، ومن حلم الله ورحمته أن يوفق للتوبة من فعل هذا الأمر. والسب لله موجب للكفر والردة، وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله. قوله: [أو رسوله] من سب النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يحكم بكفره، وحكى الإجماع غير واحد من الأئمة والمحققين منهم شيخ الإسلام ابن تيمية وقبله القاضي عياض، وغيرهم رحمة الله عليهم، فأجمعوا على أن من سب الرسول صلى الله عليه وسلم كافر ومرتد، وانتقاص النبي صلى الله عليه وسلم وسبه ولعنه -بأبي وأمي هو صلوات الله وسلامه عليه- موجب للكفر؛ لأن هذا مضاد تماما لأمر الله سبحانه وتعالى. قالوا: لأنه يتعلق بالدين، وسبه وانتقاصه عليه الصلاة والسلام انتقاص للدين، ولذلك فالعلماء رحمهم الله يدققون في هذه المسائل، وتجد أن الكلام في الأنبياء وفي رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم محرم، وحرمتهم مبنية على حرمة الشرع؛ لأنهم رسل الله، وصفوة الله من خلقه. ومن هنا ننزل الكلام في العلماء والأئمة أنه طعن في الدين، كما يفعل بعض الفساق إذا قيل لهم: إن العلماء يفتون بكذا وكذا؛ فإنه يسبهم أو يشتمهم -والعياذ بالله- وهذا أمر خطير جدا؛ لأن هؤلاء العلماء تكلموا بالشرع، ونطقوا ونصحوا به، فالكلام فيهم يعتبر كلاما في الشرع وانتقاصا فيه، ومن هنا قال العلماء: لو أن الخصم -وسيأتينيا إن شاء الله- سب القاضي في مجلس القضاء فإنه يؤدب ولو سامحه القاضي؛ لأن هناك حقا للشرع، فإذا القاضي تسامح بحقه فقد بقي حق الله عز وجل في حرمة مجلس القضاء، ولأن انتقاص القضاة انتقاص للدين وحكمه، وكذلك انتقاص العلماء كما قال صاحب التحفة: ومن جفا القاضي فالتأديب أو لا وذا لشاهد مطلوب إذا سب النبي صلى الله عليه وسلم سبا مباشرا باللعن -والعياذ بالله- أو انتقصه، كأن يصف النبي صلى الله عليه وسلم وصفا ينتقصه به، كأن يقول: إنه بدوي يرعى الغنم، وقصد به التحقير له صلوات الله وسلامه عليه، ونحو ذلك من العبارات؛ فإنه يحكم بكفره، وقد ألف في هذه المسألة وفصل فيها العلماء رحمهم الله، ويعتبر كتاب شيخ الإسلام رحمه الله (الصارم المسلول على شاتم الرسول) صلى الله عليه وسلم من أنفس هذه الكتب، حيث فصل فيها. ومما يحكى أن شيخ الإسلام رحمه الله كان في مجلس، فسب نصراني النبي صلى الله عليه وسلم فجرد سيفه وقتله، وبعض العلماء رحمهم الله بينوا هذه المسألة وممن بينها من المتقدمين القاضي عياض في الشفا، وغيره من فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية، وحكى غير واحد الإجماع على ردة من سب النبي صلى الله عليه وسلم. [فقد كفر] جاء بـ (قد) التي تدل على التحقيق، وقوله: (كفر) أي: يحكم بكفره. المظهر الرابع: جحد ما علم من الدين بالضرورة يكون الكفر بالاعتقاد كما ذكرنا في الشرك، ويكون بالأقوال: كسب الله عز وجل وسب النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر هنا مسألة إنكار المعلوم من الدين بالضرورة، وتحليل الحرام، أي اعتقاد حل الحرام المجمع عليه، أو عكسه من اعتقاد حرمة الحلال المجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة، أو الذي قامت الحجة بتحليله أو تحريمه. يقول رحمه الله: [ومن جحد تحريم الزنا] والزنا من الأمور المعلومة الظاهر تحريمها، وقد اتفقت الشرائع السماوية على تحريم الزنا، وليست هناك شريعة تجيز الزنا، ولذلك لو قال: إن الزنا حلال، ولا شيء فيه، وبعضهم يقال له: إن هذا الرجل زنا بالمرأة، يقول: لا بأس، هذه حرية، وليفعل ما يشاء، والمرأة حرة تفعل ما تشاء، فإن شاءت أن تزني فلها ذلك، وكذلك الرجل فهذا تحليل لما حرم الله، وإذا اعتقد حل ما حرم الله فهو يكذب الله، فإن الله يقول: هذا حرام، وهو يقول: هذا حلال! وحينئذ يكون قد ضاد الله في شرعه وحكمه، وتحليل الحرام كتحريم الحلال، وإن كان الشهوات تختلف في تحليل المحرم بخلاف تحريم الحلال، فإن هذا جانب إفراط والثاني جانب تفريط، فالأول يفرط والثاني يفرط. قوله: [أو شيئا من المحرمات الظاهرة] أي: إذا كان الشيء محرما وظاهر التحريم، ولا يكون ظاهر التحريم ولا واضح الحرمة إلا بالنصوص من الكتاب والسنة، وعند اعتقاده للضد يكون -كما ذكرنا- قد ضاد الله في شرعه، وحينئذ يكون موجب التكفير تكذيبه لله عز وجل، وتكذيبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وأنت ترى الرجل حينما تقول له: إن الله حرم الزنا، قال تعالى: {ولا تقربوا الزنى} [الإسراء:32] وحرمه رسوله صلى الله عليه وسلم، وعاقب من فعله، فيقول: ليس فيه شيء. فما معنى هذا؟ معناه أنه يكذب الله ويكذب رسوله، لأنه يقول: ليس فيه شيء! والله سبحانه وتعالى يقول: {إنه كان فاحشة وساء سبيلا} [الإسراء:32] وهو يقول: لا، ليس فيه شيء، وهذه حرية، وهذا انطلاق، أو يأتي بالعكس، فيقول: هذا حكم متحجر، هذا تخلف، لكن بشرط أن يكون معلوما عنده، أي: لا يكون حاله يوجب العذر لوجود شبهة فيه. مثلا: لو أن شخصا أسلم وكان حديث الإسلام، وبيئته فيها الإباحية -والعياذ بالله- أو بيئة فيها جهل، ويقعون في المحرمات، فيشربون الخمور ويفعلون الزنا، فأسلم ثم شرب الخمر أو فعل الزنا، فقيل له: إن الزنا حرام، قال: لا، الزنا ليس فيه شيء، نقول: إن هذا معذور لجهله، فتقام عليه الحجة، ويعلم. قوله: [المجمع عليها] أي: كالخمر والربا، ونحو ذلك من المحرمات الظاهرة المجمع على تحريمها، فإذا قال: ليس فيها شيء، وكذب الله رسوله في حكمه وضادهما في الشرع؛ فإنه يحكم بردته والعياذ بالله. قوله: (بجهل) أي: إذا كان يجهل الحكم، فهذه من المسائل التي نص العلماء فيها على العذر بالجهل، وذلك أن يكون الشخص حديث عهد بإسلام وقد وقع هذا، ونعرف بعض الحوادث حيث أسلم الشخص وكان حديث العهد بإسلام، ثم قيل له بعض المحرمات الظاهرة، فقال: ليس فيها شيء، ثم قيل له: لا، إن الله عز وجل يقول، ورسوله عليه الصلاة والسلام يقول، والشرع يحرم هذا الشيء؛ فقال: سمعت وأطعت، فمثل هذا كان معذورا في جهله، وحينما نطق بحكم الحل، فإنه معذور في هذا، ولا يحكم بكفره بذلك. قوله: (عرف ذلك) أي: أقيمت عليه الحجة، وبين له نص الكتاب والسنة والأدلة التي تدل على التحريم، أو التحليل إذا حرم حلالا، كما يفعله الغلاة من الزهاد والمتنطعين والغالين في العبادة، فمن غلا في تحريم شيء ثم قيل له: هذا الشيء أحله الله، وكان حديث عهد بإسلام ولا يعلم هذا التحليل وأقيمت عليه الحجة؛ فإنه حينئذ إذا أقيمت عليه الحجة ورجع، لا يحكم بردته وكفره؛ سواء حلل ما حرم الله أو حرم ما أحل الله. قوله: [وإن كان مثله لا يجهله كفر] أي: حكم بكفره في الظاهر، كشخص يعيش بين المسلمين، وولد بينهم، ويعرف أحكام الإسلام وشرائعه، وفجأة جاء وقال: إن الزنا حلال! أو إن الخمر حلال، أو إن الربا حلال، فمثل هذا لا يجهل هذه الأمور، وليس بجاهل فيعلم، فإذا توفرت الدواعي وقامت الأمارات، وكان الظاهر على حاله وبيئته أنه يعلم أخذ بهذا الظاهر، وحكم بكفره ظاهرا، كما يقولون: حكم القضاء، وحكم الديانة. لكن لو أنه بين لنا شبهة واضحة يعذر بها عذرناه، لكن في الظاهر نحكم بكونه كافرا، فلو خرج رجل من بين المسلمين في بيئة إسلامية معلومة فيها شرائع الإسلام وقال: الزنا ليس فيه شيء! هل نقول: إن مثل هذا يعذر بالجهل، أو يؤخر حتى نقيم عليه الحجة؟ هذه أمور ظاهرة وواضحة، فمثل هذا يحكم بكفره في الظاهر. وأما إذا كان هناك ما يحتمل؛ فإنه ينتظر حتى تقام عليه الحجة، وإذا ثبت جهله، فإنه يعذر بالجهل. حكم الاستهزاء بالصالحين وشعائر الدين ذكرنا أن السب معناه: الانتقاص والاستهزاء، وهنا نحب أن ننبه على مسألة مهمة جدا وهي: مسألة الاستهزاء بشرائع الإسلام أو بالأخيار والصالحين، أو بالعلماء، وهذا لا شك أنه تفشى كثيرا خاصة في هذه الأزمنة المتأخرة، وكل من عنده ديانة واستقامة فإنه يتقرح قلبه ويتألم أشد الألم حينما يرى ويسمع من الجرأة على حدود الله عز وجل ومحارمه والاستهزاء بالدين، أو الاستهزاء بشعائر الدين، ومسألة الاستهزاء من الأمور التي يجب على طلاب العلم وعلى العلماء أن يبينوا ويكشفوا للأمة حكمها وحكم هؤلاء الذين ينتقصون الإسلام وأهله. فبعض أهل الهوى -نسأل الله بعزته وجلاله أن يهديهم ويصلحهم وإلا أن يقطع دابرهم عن الإسلام والمسلمين؛ وأن يخرس ألسنتهم- تجده إذا كتب لا يجد شيئا يكتب فيه إلا الأخيار والصالحين، فيلمزهم في سلوكهم، وينتقصهم في ديانتهم واستقامتهم، وكأنه لا هم له في صحيفته أو مقاله أو كتابته أو توجيهه إلا هؤلاء الأخيار الصالحين، فتارة يقول: إنه دخل مسجدا فرأى شخصا على صفة كذا وكذا، ويأتي بصفات أناس على خير واستقامة ثم يقول: وقال لي، وقلت له، والله أعلم بصدقه من كذبه، ولكنه سيقف بين يدي الله عز وجل، وسيعلم إذا كان ظالما أي منقلب ينقلب إليه. إن هذه الكتابات المشبوهة التي تشكك الناس في ثوابتها، وتطعن في دينها، وتريد سلخ شباب الأمة من الدين ومحبته، ومن محبة الخير والصلاح، كل هذه الأقلام المشبوهة ينبغي أن تكف وأن تتقي الله عز وجل قبل أن يعاجلها الله عز وجل بعقوبته، ووالله ما من أحد يتهكم بهذا الدين، ويستخف به، إلا أخذه الله أخذ عزيز مقتدر، وليعلم كل أحد أن الكلمة كلمة الله، وأن الدين دين الله، وأنه سيبقى ما بقي الملوان وتعاقب الزمان، بعز عزيز وذل ذليل، وإن ظن هؤلاء أنهم يطفئون نور الله عز وجل فقد ظنوا كذبا، والشيطان قد مكر بهم بهذه الظنون، وسيوردهم الموارد كما أورد من قبلهم، إذا لم يتوبوا إلى الله ويرجعوا. إن هذه الأفعال وهذه الكتابات من أسباب الإرهاب؛ لأنها تحرض الشباب وتحرض من ينتسب إلى الإسلام على أن يخرج عن طوره، حتى يشك في مجتمعه حينما يجد شخصا يتبجح في ذات الله عز وجل، ويكتب كتابا أو ينشر مقالا يطعن في الله عز وجل وفي أسمائه وصفاته، أو يعرض مسرحية، أو نحو ذلك يستخف فيها بالدين، أو يطعن بها في الدين، ولا يجد له سلعة إلا الدين، رغم كثرة الأمور التي تحتاج إلى الإصلاح والبناء، وإقامة المعوج فيها وتسديد الناس ودلالتهم على ما فيه الخير، وشباب الأمة أحوج ما يكونون إلى أيد أمينة وإلى أقلام نظيفة تبني ولا تهدم، وتصلح ولا تفسد. الدين هو صلاح كل شيء، وأساس كل خير، ومنبع كل فضيلة، من لم يعرف هذا عن الدين فقد ظلمه وجهله، فعليهم أن يدركوا إدراكا تاما أن هذا كله سيكون وبالا عليهم، وعليهم أن يعلموا أن هذا الدين كبيت الله عز وجل، وأن للبيت ربا يحميه، ودين الله عز وجل ماض. واعلموا أن الأمة عامة وشباب الأمة خاصة أحوج ما يكونون إلى إصلاحهم في مجتمعاتهم، وإصلاحهم في سلوكهم، في أخلاقهم، في توجهاتهم، في أفكارهم، لبناء أنفسهم ولبناء مجتمعاتهم وأوطانهم وشعوبهم، ولكن للأسف أن هذه الجهود والطاقات توجه كلها ضد الدين. وليعلم هؤلاء أن الله سبحانه وتعالى له سنن لا تتبدل، وله سنن لا تتحول، وكم من شقي عنيد خرج عن المنهج السوي؛ فلعنه الله لعنة دخلت معه في قبره كل شيء إلا اللعب بالدين والاستهزاء به! وإن كان هناك شيء في هذا الأمر فليس هناك أعظم من حرمة الإسلام، ومن حرمة الدين، التي من أجلها أقام الله سماواته وأرضه، وأوجد هذا الكون كله شواهد على هذه الكلمة الصادقة، فكل هؤلاء إذا عبثوا بهذا الدين عليهم أن يعلموا أن الله سيأخذهم أخذ عزيز مقتدر. وعلى الآباء والأمهات، وعلى الأسر والمجتمعات، وعلى الناس أفرادا وجماعات، أن ينتبهوا من غرس أسلوب التهكم والسخرية ولو من بدايته، فكل ما يتصل بالدين يقفل باب السخرية به ما أمكن، ويقفل باب الاستهزاء؛ لأن الشيطان يستدرج، وعلى كل إنسان أن يحذر، حتى أن بعض الصالحين يشتكي من بعض إخوانه أنه يقول له كلمات قد تكون مشابهة لكلمات بعض أصحاب تلك المقالات المشبوهة، فعلينا أن نربي أولادنا وأن نربي أنفسنا على تعظيم شعائر الله {ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب} [الحج:32] ، فالدين أشعر الله بتعظيمه، فينبغي الحذر من مثل هذا. وأذكر على سبيل المثال أن الشيخ الأمين رحمه الله كان يخرج من باب وكان يضع حذاءه عند رجل عند الباب، ويعطيه ما تيسر، وذات يوم كان الشيخ خارجا من درسه، وكان مشغولا بالإفتاء؛ يسأله سائل ويفتيه وهو في طريقه، فلما وقف بالباب وضع الرجل حذاءه، فانتعل الشيخ رحمه الله، فقال الرجل: {وأدخل يدك في جيبك} [النمل:12] يريد مالا، فغضب الشيخ غضبا شديدا وكهره وطرده، ولم يأذن له أن يأخذ حذاءه بعد ذلك اليوم، كل هذا حتى لا يستدرج الشيطان الإنسان من حيث لا يشعر. ومن هنا ينبغي تعظيم شعائر الله من الآيات والأحاديث والنصوص وكل ما يتصل بالدين، وينبغي تربية الأبناء والبنات والأفراد والجماعات على تعظيم هذا الأمر، وعلى الخطباء وطلاب العلم دائما أن يغرسوا هذا الأمر، خاصة في هذا الزمان الذي كثر فيه الاستخفاف بحرمات الدين. الخلاصة أن الاستهزاء ذكره العلماء، وبينوا أنه من موجبات الردة، قال بعض العلماء: إن الاستهزاء بالدين والاستهزاء بشعائر الدين وبالصالحين من أسباب سوء الخاتمة -والعياذ بالله- فالغالب أن صاحبها إذا استمرأ هذا وأصبح لا يجد له فاكهة، ولا يجد له لذة، ولا يجد له سوقا إلا في السخرية والاستهزاء بما ذكرنا؛ فإن هذا يقود -والعياذ بالله- إلى سوء الخاتمة. ومن قال الكلمة التي تغضب الله عز وجل وتوجب لعنته؛ لعنه الله، فإذا استدرج - نسأل الله السلامة والعافية - لعنه الله لعنة دخلت معه في قبره، وختم له بخاتمة الأشقياء، ولذلك ينبغي الحذر من هذا ما أمكن، ومعلوم لديكم قصة الذين كانوا يستهزئون بالصحابة رضوان الله عليهم حينما قالوا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا ولا أجبن عند اللقاء، فأنزل الله عز وجل: {قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} [التوبة:65 - 66] . وقال بعض العلماء: هناك من طوائف الضلال من يسب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ويستهزئ بهم، يقول: وبالاستقراء قل أن نجد منهم تائبا، وقل أن نجد منهم من يصلح حاله، وجدنا عبدة الأوثان يرجعون، ولكن هؤلاء تجدهم يتشبثون بسب ولعن الصحابة رضوان الله عليهم، ولكن قل أن تجد منهم تائبا، وهذا يدل دلالة واضحة على الحذر من الاستخفاف والاستهزاء بأولياء الله عز وجل، وبالأخص أهل العلم. وهذا مما أحببنا التنبيه عليه؛ لأنه كثر، خاصة في بعض مواقع الإنترنت ونحوه -نسأل الله السلامة والعافية- ولعل الله أن ييسر بعض الكلمات إن شاء الله في المستقبل نبين فيها ما ينبغي على طلاب العلم وعلى الأخيار من الحذر من هذه الآفات، فقد أصبحت أراضي المسلمين، وأصبح الإسلام وكرامته ومكانته وهيبته سوقا لأمثال هؤلاء، فنسأل الله بعزته وجلاله أن يهديهم وأن يصلح من شأنهم، وأن يتوب علينا وعليهم، وإن لم يكونوا مهتدين أن يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، وأن يقطع دابرهم عن الإسلام والمسلمين، إنه على كل شيء قدير.
__________________
|
|
#750
|
||||
|
||||
|
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (مقدمة كتاب الحدود) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (536) صـــــ(1) إلى صــ(12) شرح زاد المستقنع - باب حكم المرتد [2] الحكم على الشخص بالردة بحيث يستحق عقوبتها لابد أن تتوفر فيه شروط موجبة للعقوبة، ثم إن الردة تختلف باختلاف موجبها، فهناك من أنواع الردة ما قد يحكم بعض العلماء بعدم قبول التوبة منها، كسب النبي صلى الله عليه وسلم. اشتراط الاختيار والتكليف في المرتد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [فصل: فمن ارتد عن الإسلام وهو مكلف مختار] بعد أن بين لنا المصنف رحمه الله أدلة تحريم الردة شرع في الجزيئة الأخيرة وهي ما يترتب على الردة، فقال رحمه الله: (فمن ارتد عن الإسلام وهو مكلف مختار) . قوله: (وهو مكلف) أي: والحال أنه مكلف، والتكليف يكون بالبلوغ والعقل، فلو قال كلمة الكفر وهو صبي لم يؤاخذ، واختلف في الصبي المميز، أما إذا كان مجنونا فلا إشكال، والنصوص تدل على سقوط المؤاخذة عن الصبي والمجنون كما في حديث علي وعائشة رضي الله عن الجميع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ) فهذا يدل على أن كلا من المجنون والصبي غير مكلف، وأنه لو حصل منه ما يوجب الردة لم يحكم بردته وكفره. وقوله: (مختار) : الاختيار ضد الإكراه، وعلى هذا يشترط أن يقول كلمة الكفر أو يقول ما يوجب الردة دون وجود إكراه، فلو أكره على أن يقول كلمة الكفر -والعياذ بالله- أو يفعل ما فيه الكفر، فإنه إذا توفرت فيه شروط الإكراه حكمنا بعذره؛ لأن الله تعالى يقول: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} [النحل:106] فنص سبحانه وتعالى على العذر بالإكراه، وقد نزلت في عمار بن ياسر رضي الله عنه وعن أبيه وأمه، فإنه لما أكره على كلمة الكفر قالها. وذكرنا في طلاق المكره شروط الإكراه وهي: أن يهدد الإنسان بما فيه ضرر، وأن يكون هذا الضرر أعظم مما يطلب منه، من ناحية أن يحصل به العذر للشخص في نفسه، ويدخل في ذلك أهله وعرضه، وأن يغلب على ظنه أن المهدد يفعل ما هدد به، وألا يمكنه الفرار ولا الاستغاثة، وأن يكون التهديد حالا لا مؤجلا ولا مؤخرا، وألا يكون الإكراه على الباطن، بمعنى أن يقول كلمة الكفر في الظاهر، ولكنه يعتقد الإيمان في الباطن لقوله تعالى: {وقلبه مطمئن بالإيمان} [النحل:106] . وهذه الشروط إذا توفرت حكم بكون الإنسان مكرها، فإذا كان مكرها سقطت مؤاخذته، فلو وضع عليه السلاح وقيل له: إذا لم تقل كلمة الكفر قتلتك، فحينئذ إن غلب على ظنه أنه يفعل ذلك، فيجوز له أن يأخذ بالرخصة. واختلف العلماء على قولين: هل الأفضل أن يصبر ويحتسب نفسه عند الله عز وجل، أم الأفضل أن يأخذ برخصة الله عز وجل؟ من أهل العلم من قال: الأفضل أن يصبر، كما صبر الإمام أحمد رحمه الله برحمته الواسعة، فخلد الله ذكره في العالمين، لموقفه المشهود له في فتنة خلق القرآن، ونسي غيره، ومع أن غيره صبر، ولكن ما صبر عليه رحمه الله وعاناه كان عظيما، فلم يأخذ بالرخصة، وجعل الله عز وجل له فيها مبوأ صدق في الدنيا، ونسأل الله أن يبوئه مبوأ صدق في الآخرة وأن يقدس روحه وأن ينور ضريحه وأن يجزيه عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير الجزاء. ومن أهل العلم من يفصل بين من هو قدوة، أو ليس بقدوة، أو غلب على ظنه أن يكون لها أثر في دعوته، فهذا الأفضل أن يصبر، وهذا القول هو الأولى بالصواب إن شاء الله، فإنه لو نظر إلى الأحوال وما يترتب من حسن البلاء وحسن العاقبة؛ فإن بعض البلاء يزيد في إيمان الناس وثباتهم على الحق. لا تشترط الذكورة في المرتد قوله: [رجل أو امرأة] يستوي في الردة الرجل والمرأة، فإذا وقعت الردة من الرجل أو المرأة؛ فإن كلا منهما يعاقب بعقوبة المرتد، فمذهب جمهور العلماء رحمهم الله، أن الردة من المرأة توجب عقوبتها، وأن المرأة إذا ارتدت يقام عليها حد الردة كما يقام على الرجل. وخالف في هذا المسألة بعض السلف كـ ابن عباس رضي الله عنهما وبعض الصحابة، وهو مذهب الحنفية وطائفة رحمة الله على الجميع، قالوا: إن المرأة إذا ارتدت لا تقتل، وسيأتي أن النص عام في قوله عليه الصلاة والسلام: (من بدل دينه فاقتلوه) فإنه من صيغ العموم التي تدل على شمول الحكم للرجال والنساء على حد سواء. أقوال العلماء في حكم استتابة المرتد قوله: (دعي إليه ثلاثة أيام) . أي: دعي إلى الإسلام والرجوع مدة ثلاثة أيام، وهذا ما يسمى بالاستتابة، وهي أن يطلب منه الرجوع عن هذا الأمر الموجب للكفر ثلاثة أيام، فيعرض عليه أن يتوب إلى الله ويرجع. وهذه الاستتابة يتفق جميع العلماء على استحبابها، وقد وقعت في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان يرغبها فيها كما في قصة معاذ رضي الله عنه، ودرج على ذلك العلماء والأئمة. ولكن السؤال هل يجب أن يستتاب، أم أنه يجوز لولي الأمر أن يقتله فورا؟ فلو رفع إلى القاضي وشهد الشهود أنه مرتد وبقي على ردته ولم يرجع؛ فهل يجوز للقاضي أن يقتله ابتداء بعد ثبوت ردته؟ أو قال كلمة الكفر أمام القاضي، فأمر القاضي بقتله فورا؛ هل يجوز له ذلك أم يجب عليه أن ينتظر ثلاثة أيام؟ جمهور العلماء رحمهم الله على وجوب الاستتابة، وأن المرتد يستتاب ثلاثة أيام، وذهب الشافعية في قول والحنابلة في رواية، وصححها غير واحد من أصحاب الإمام أحمد رحمة الله عليه وهو قول طاوس بن كيسان رحمة الله على الجميع، أن هذا على الاستحباب وليس على الحتم والإيجاب. واستدل الذين قالوا بالوجوب بقصة عمر رضي الله عنه وأرضاه أنه جاءه رجل من اليمن، فقال له: هل من مغربة خبر؟ قال: نعم، رجل ارتد عن دينه إلى دين السوء -كان يهوديا ثم أسلم، ثم رجع إلى اليهودية- فقال: ما فعلتم به؟ قال: قربناه فقتلناه، فقال: هلا حبستموه ثلاثا، وأطعمتموه كل يوم رغيفا؛ لعله أن يتوب، لعله أن يرجع إلى ربه، اللهم إني لم أشهد ولم آمر، ولم أرض إذ بلغني. رواه مالك في الموطأ. فيقولون: هذا الأثر يدل على وجوب الاستتابة؛ لأن عمر رضي الله عنه أنكر عليهم ذلك. واستدل الذين قالوا بعدم وجوب الاستتابة بالأدلة الصحيحة الصريحة في السنة بوجوب قتل المرتد دون ذكر للاستتابة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) ولم يأمر باستتابته، وهذا يدل على أنه يحكم بردته، وتزول عنه عصمة الإسلام بمجرد كفره، ولو كانت الاستتابة واجبة لبينها النبي صلى الله عليه وسلم، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. وأكد هذا قصة معاذ رضي الله عنه مع أبي موسى الأشعري، وفيها: (أن معاذا رضي الله عنه دخل على أبي موسى، فوجد رجلا مكبلا بالحديد أو موثقا، فقال: ما شأن الرجل؟ قالوا: إنه كان على اليهودية ثم أسلم ثم رجع إلى دينه، فقال معاذ رضي الله عنه عندها: لا أجلس حتى تقتلوه، قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم -قالها ثلاثا- فقتل) . قالوا: والصحابي إذا قال: قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، دل على أنه في حكم المرفوع؛ لأنه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلأنه لم يسأل: هل استتبتموه أم لا، دل على عدم وجوب الاستتابة، والرواية الأصلية ليس فيها ذكر الاستتابة. لكن أجاب الجمهور عن هذا بأن الرجل كان قد أمهل شهرا، وقيل: عشرين يوما، والروايات مختلفة في هذا، لكن قول معاذ رضي الله عنه: (لا أجلس حتى يقتل قضاء رسول صلى الله عليه وسلم، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من بدل دينه فاقتلوه) ، فاحتج بالنص على ظاهره دون ذكر استتابة، وهذا يدل على أنه لا تجب الاستتابة، وإنما يجوز فعلها؛ لأنها سنة عند الخليفة الراشد، ولكن هذا ليس على سبيل الحتم والإيجاب. ومن الأدلة لهم أيضا: حديث ابن عباس في الصحيح المتقدم الذي استدل فيه معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من بدل دينه فاقتلوه) حيث نص النبي صلى الله عليه وسلم على وجوب قتل المرتد دون ذكر للاستتابة، فلو كانت الاستتابة واجبة لقال: من بدل دينه فاقتلوه بعد ثلاث، أو اقتلوه بعد أن تستتيبوه، ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذا، فدل هذا على عدم وجوب الاستتابة، وأولى القولين بالصواب إن شاء الله تعالى أن الاستتابة مستحبة وليست بواجبة. قوله: [وضيق عليه] أي: يسجن ثم يضيق عليه حتى يرجع ويتوب إلى الله عز وجل. قوله: [فإن لم يسلم قتل بالسيف] كلهم متفقون على أنه إذا عرض عليه الإسلام بعد الثلاث ولم يقبل أنه يقتل. توبة من سب الله أو رسوله قال المصنف رحمه الله: [ولا تقبل توبة من سب الله أو رسوله] . هذا أحد القولين عند العلماء، وجمهور العلماء رحمهم الله على قبول توبته، وأنه إذا تاب توبة نصوحا تاب الله عليه، وهذا هو الصحيح على ظاهر النصوص التي دلت على قبول توبة الكافر: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} [الأنفال:38] وقد كانوا يسبون النبي صلى الله عليه وسلم ويسبون الله عز وجل، ويسبون الدين، وإذا قبلت توبة من سب الله عز وجل، فمن باب أولى أن تقبل توبة من سب ما دونه. ولكن الذين قالوا: إنه لا تقبل توبة من سب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: إنه فيها حقا لآدمي، وحقا لله عز وجل، وحق الآدمي لا نعلم هل يسامحه النبي صلى الله عليه وسلم أو لا؟ وهذه الشبهة ضعيفة؛ لأننا أعطيناه الحرمة لحرمة النبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة، وقد دلت النصوص في الأصل على أنه إذا تاب توبة نصوحا أنه يتوب الله عليه، وعلى هذا فالصحيح مذهب الجمهور أنه إذا تاب توبة نصوحا أنه تقبل توبته. حكم من تكررت ردته قال المصنف رحمه الله: [ولا من تكررت ردته] . هذا هو الذي يعرف بالزنديق، يسلم ثم يقول كلمة الكفر، فيرتد ثم يرجع مرة ثانية، ويسلم ثم يرتد، فهذه فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله، والصحيح أنها تقبل توبته. لكن لو أن القاضي أو ولي الأمر اطلع على أنه يتلاعب وقتله فله وجه، وقد يكون ذلك أنكى فيه وأقطع لدابر أهل الفساد؛ لأنه ربما يردع غيره. وهذا ما يعتبر بفقه الخلاف، فنأخذ بالقول المرجوح في أحوال خاصة إذا وجد استشراء الناس وتساهلهم بحدود الله عز وجل فأراد الإمام أن يزجرهم، فله أن يأخذ بالقول الأوثق والذي فيه النصيحة، وله أن يجتهد في ذلك طلبا للمصالح ودرءا للمفاسد، وليس هناك مفسدة أعظم من الاستخفاف بالدين والشرع، فالزنديق هو الذي يكفر ويقول كلمة الكفر ثم يرجع ثم يكفر ثم يرجع، والذين يقولون: لا تقبل توبة الزنديق يقولون: قد شهد على نفسه بالكذب، وشهد على نفسه أنه يتلاعب بتوبته. ومن هنا أثر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في قصته مع بعض المرتدين أنه قبل توبتهم، ثم رأى رجلا وقال: إنك كنت قد فعلت هذا عام أول ثم أمر بقتله، أي أنه تكررت ردته وتوبته مرتين، فلم يقبل منه ذلك وقتله واستحل دمه. وأيا ما كان فالنصوص الصريحة في أن من تاب تاب الله عليه، وأن علينا أن نأخذ بظواهر الناس، وأن نكل سرائرهم إلى الله، واستباحة دم من أظهر الإسلام أمر صعب جدا، ولذلك ينبغي الاحتياط في هذا والبقاء على الأصل، إلا أن لولي الأمر أن يجتهد في مسائل خاصة. قوله: [بل يقتل بكل حال] أي: لا تقبل منه التوبة ويقتل بكل حال، فتنفعه التوبة فيما بينه وبين الله، فلو قتل يقتل على الظاهر؛ لأنه ثبت كذبه، ثم لو أنه كان في المرة الثالثة أو الرابعة أو الخامسة صادقا وقتل؛ فإن العلماء متفقون أن ذلك ينفعه بينه وبين الله، ولكن الإشكال أنه إذا كانت توبته على الظاهر هل لنا أن نقبل هذا الظاهر أو لا؟ لأنه قد ثبت بالظاهر أنه تلاعب، وأنه كذب، وقصة وحشي تدل على قبول التوبة. توبة المرتد قال المصنف رحمه الله: [وتوبة المرتد وكل كافر إسلامه، بأن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ومن كان كفره بجحد فرض ونحوه؛ فتوبته مع شهادتين إقرارا بالمجحود به] فرق رحمه الله في التوبة إذا ارتد المرتد بالأمور التي تقدمت من الشرك وجحود الربوبية ونحو ذلك، وبين التوبة من الذنب بإنكار المعلوم من الدين بالضرورة، فأما مطلق التوبة فإنه يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأنه إذا شهد شهادة الإسلام والتوحيد رجعت له عصمة الإسلام، ويعتبر هذا توبة ورجوعا منه إلى الله عز وجل، ومن تاب تاب الله عليه. وأما إذا كان قد أنكر حرمة الزنا أو أنكر المعلوم من الدين بالضرورة وقال: الصلاة ليست مفروضة، وليس في الإسلام صلاة، أو ليس في الإسلام زكاة، كما قال أهل الردة ونحو ذلك، فقلنا: إذا كان جاهلا يعلم، وإذا كان عنده شبهة تزال، وأما إذا كان عالما وأنكر هذا الشيء؛ فإن توبته أن يتشهد ثم يرجع عما كان يعتقده من عدم فرضية الصلاة وعدم فرضية الزكاة؛ لأن ما شرع بسببه يزول بزواله، ويبطل بزواله، فنحن حكمنا بردته بإنكاره للمعلوم من الدين بالضرورة، فلا نحكم بإسلامه إلا إذا أقر بهذا الذي أنكره، فلو أنه قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ولم يرجع عن جحوده؛ فإنه ما زال على كفره، ولا يحكم بتوبته من ردته. قوله: [أو قوله أنا بريء من كل دين يخالف الإسلام] هذا بالنسبة للتوبة العامة، والأصل الشهادة. الأسئلة حكم السكران إذا ارتد حال سكره السؤال هل السكران يحكم بردته إذا فعل أو قال ما يوجب الردة أثابكم الله؟ الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإن السكران لا يحكم بردته إذا قال أو فعل أثناء سكره وزوال عقله ما يوجب الردة، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} [النساء:43] فبين سبحانه وتعالى أن السكران لا يعلم ما يقول، ومن لا يعلم ما يقول فلا يؤاخذ بقوله. وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عليا رضي الله عنه كان قد أعد مهر فاطمة رضي الله عنها وجاء بشارفين وأناخهما بباب حمزة، ثم انطلق يهيئ بعض الأغراض للمهر، فشرب حمزة رضي الله عنه الخمر قبل أن تحرم، فلما شرب الخمر غنته جاريتان، فانتشى ثم قام إلى البعيرين، وجب سنامهما، فجاء علي رضي الله عنه، قال: فرأيته، فهالني ما رأيت، فانطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتكى له ما فعل حمزة، فأتاه فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم على حمزة وسأله ووبخه على ما فعل، فرفع حمزة رأسه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: وهل أنتم إلا عبيد لآبائي؟ فلما قال هذه الكلمة -كما في الرواية- رجع النبي صلى الله عليه وسلم القهقرى، أي: علم أنه سكران، وأنه لا يدري ما يقول، فرجع القهقرى وانصرف، ولم يأمره رضي الله عنه أن يجدد إسلامه، ولذلك قالوا: إن هذا يدل على أن السكران لا يؤاخذ بقوله، وهذا هو أصح قولي العلماء رحمهم الله، أعني أن السكران لا يعتد بقوله لا في ردة ولا في طلاق ولا غير ذلك؛ لأن النص دل على أنه لا يعلم ما يقول، وثانيا: عذر حمزة حال سكره. وهذا كما يقول العلماء في قوله للنبي صلى الله عليه وسلم: (وهل أنتم إلا عبيد لآبائي؟) يقولون: إن هذا ردة؛ لأنه استخفاف بالنبي صلى الله عليه وسلم واستهزاء، وشراح الحديث نصوا على أن هذا اللفظ لو قاله الصاحي كان ردة، ومن هنا يجعلونه عنوانا في عذر السكران إذا قال ما يوجب الردة، وأن من تلفظ بكلمة الكفر حال السكر يعتبر معذورا، وهذا أصح قولي العلماء، والله تعالى أعلم. إذا أسلم المرتد بعد موت مورثه وقبل قسمة تركته السؤال إذا ارتد شخص حكمنا أنه لا يرث من مورثه المسلم، فهل إذا أسلم بعد موت مورثه وقبل أن تقسم التركة؛ هل يكون له الحق أو لا، أثابكم الله؟ الجواب هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء: فبعض العلماء يقول: إنه لا يرث ما دام أن الميت توفي وهو على الكفر والردة، فحينئذ انقطع حقه ولا حق له في التركة، وهذا هو مذهب الجمهور رحمهم الله، وقال به جمع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: إن المرتد لا يرث حتى ولو أسلم قبل قسمة التركة. أما إذا أسلم قبل موت مورثه فإنه يرثه بلا خلاف، لكن الإشكال إذا أسلم بعد الموت وقبل قسمة التركة، فتبين أن له ثلاث حالات: أولا: أن يسلم قبل الموت، فهذا يرث إجماعا؛ لأنه مسلم. ثانيا: أن يسلم بعد الموت وبعد قسمة التركة فلا يرث إجماعا؛ لأنه انتهت العلاقة، وانتهى السبب الموجب. ثالثا: إذا أسلم بعد الموت وقبل قسمة التركة، ففيه خلاف: فمن أهل العلم من يقول: العبرة بالموت، لأن الإرث يثبت بموته، وهذا هو الصحيح، والأدلة دالة على ذلك؛ لأن الله تعالى نص على ذلك في كتابه، وكذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم نص على الإرث بمجرد الموت، وعلى هذا تكون العبرة بحاله عند موت الشخص، فإذا كان مسلما حال موت المورث فهو يرث وإلا فلا. وأما الذين قالوا: إنه قبل القسمة يرث لو أسلم بعد الموت، فاستدلوا بقضاء بعض الصحابة رضوان الله عليهم، وقالوا: بحديث قسم الجاهلية وقسم الإسلام، وأنه إذا أسلم فقد أدرك القسمة، والعبرة بالقسمة، ومن هنا قالوا: إنه إذا أسلم قبل قسمة التركة فإنه يرث، والصحيح أنه لا يرث ما دام أنه توفي مورثه وهو على الكفر، وهذا هو أصح قولي العلماء رحمهم الله. وصورة المسألة لو أن رجلا له ولد ارتد، ثم توفي هذا الرجل يوم الإثنين ولم تقسم تركته، فرجع الولد وتاب عن ردته يوم الثلاثاء وقسمت التركة يوم الأربعاء، فحينئذ يرد الخلاف، لكن لو قسمت الثلاثاء ورجع الولد عن ردته الأربعاء لم يرث بالإجماع، فهذه المسألة مشهورة عند العلماء رحمهم الله، وهي من مسائل الإرث. حكم زوجة المرتد السؤال إذا تزوج الرجل امرأة مسلمة وهو مسلم ثم ارتد، فما حكم النكاح بينهما؟ وهل يجوز له أن يطأها في العدة إذا فسخ النكاح بينهما أثابكم الله؟ الجواب يجب عليه فراقها، فيفرق بين المرتد والمسلمة، ولا يجوز للمسلمة أن تمكن زوجها المرتد من نفسها، ويفسخ العقد بينهما قولا واحدا بين العلماء رحمهم الله. وهناك تفصيل في مسألة العدة، فإذا كانت في عدتها وحصل وطأ فإنه في هذه الحالة يكون وطأ لأجنبية، والأصل أنه لا يجوز لها أن تمكن نفسها منه، ومن المؤسف أن تسمع المرأة زوجها يسب الدين ويسب الرب وتعاشره، وتكون معاشرة على الزنا إذا ارتد والعياذ بالله، وينبغي عليه أن يجدد إسلامه ويتوب، ثم يجدد عقده، وهذا أمر ينبغي أن ينتبه له وأن ينبه عليه الناس، حتى يعرفوا ما معنى الردة. هم يعرفون أن الردة أمر عظيم وليس بالأمر السهل، ولكن المرأة تسمع زوجها كلما غضب ينتهك حدود الله عز وجل ويكفر بالإسلام، ثم بعد ذلك كأن شيئا لم يكن، فهذا أمر في غاية الخطورة، ولذلك -نسأل السلامة والعافية- تعيش معه في الحرام، ولا يجوز له أن يطأها بعد ردته، إلا بعد تجديد العقد ورجوعه عليها على الصفة المعتبرة شرعا، والله تعالى أعلم. أسباب محق بركة العلم السؤال ما أسباب محق بركة العلم أثابكم الله؟ الجواب روح العلم بركته، وإذا أراد الله عز وجل بعبده خيرا بارك له في علمه، وتظهر بركة العلم إذا استجمع الإنسان أسباب البركة، وأول سبب وأول علامة على أن الإنسان أنه سيبارك له في علمه أن يجد توفيق الله له بالإخلاص، فإذا وجد أنه يذهب إلى حلق العلماء مخلصا لوجه الله عز وجل ولا يريد شيئا سوى ذلك، وأنه يريد به وجه الله والدار الآخرة، فهو موفق، ومن كان كذلك كان سعيه مشكورا، والله عز وجل شكر سعيه فيضع له البركة في علمه. وكم من أناس تعلموا القليل بإخلاص فرزقهم الله السداد والخلاص وفتح عليهم وبارك في أقوالهم، وبارك في علومهم، ونفع بهم الإسلام وأهله! الأمر الثاني: من الدلائل التي تدل على بركة العلم أن يحرص الإنسان على أخذ هذا العلم عن أهله، فكل علم ورث من العلماء العاملين فهو مبارك؛ لأن السلسلة متصلة، وكما بورك للعلماء السالفين ليباركن الله للعلماء اللاحقين ما داموا على نهجهم، وساروا على طريقهم. ومما يبارك الله به للعالم في علمه تقواه لله عز وجل؛ لأن التقوى سبب البركة، ومعنى ذلك: أن يكون علمه مشهودا بالطاعات وبالأعمال الصالحة، فكل من تعلم العلم فوجد أن العلم يهذبه في أخلاقه، ويقومه في سلوكه، وأنه بهذا العلم يجد سريرة نقية تقية سوية ترضي الله عز وجل، ويجد سيرة محمودة عند الله وعند عباده، يحرص فيها على الفضائل واكتساب الأعمال الصالحة والأخلاق الحميدة الفاضلة والتواضع، وحب الخير للمسلمين، وصفاء القلب، ونقاء السريرة، والبعد عن الحسد والبغضاء، وانتقاص الناس، واحتقارهم، والابتعاد عن الغيبة والنميمة، والسب والشتم؛ فإن الله لا يبارك له في جميع أمره {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض} [الأعراف:96] . فطالب العلم هو الذي طلب العلم وعمل به، وظهر العلم في قوله وعمله، ففتح الله له أبواب البركات من السماء والأرض، فوجدت البركة في قوله وعمله ونفعه للمسلمين، واقرأ سيرة السلف الصالح كيف كانوا مباركين، فتجدهم إذا علموا نفع الله بعلمهم. الناس لهم آذان صاغية وقلوب واعية، وتجد من دلائل البركة أنه إذا جلس يعلم أبناء المسلمين شغلهم بما ينفع، وشغلهم بما يفيد، وشغلهم بما يعود عليهم بالخير؛ ولذلك تجد العلماء والأئمة الماضين يكررون في كتبهم أمورا واضحة، لكنها عظيمة البركة والخير، حتى أصبحت دعائم الإسلام وشرائع الإسلام من البديهيات عند المسلمين، ولكن تجد المتأخرين، وتجد بعض طلبة العلم محقت البركة من علمهم؛ لأنه إنما يدخل يريد شيئا معينا، وكانوا يقولون: من أسباب البركة في العلم أن الإنسان يحرص على تعلم صغار العلم وضبطه قبل كباره، والآن انظر إلى بعض طلبة العلم حينما ندخل في باب من أبواب العبادة، فيمسك الأمور الواضحة ويكررها ثم يكررها، ويستمع ويصغي ولا يناقش حتى يضبط الأصل، وبمجرد أن ينتهي من حلقته ومجلسه يقوم وعنده علم وعنده فائدة. لكن بمجرد أن يأتي فينظر إلى حلق العلم ويستمع إلى العلماء، فإذا وجد مسائل خلافية ومناقشات وردود، أحب وقال: هذا العلم، وإذا وجد غرائب المسائل حضر، وقال: هذا والله العلم، هذا والله الدرس، في الغرائب والردود والمناقشات، ثم من مسألة إلى مسألة ومن مناقشة إلى مناقشة، وإذا جلست معه بعد الشهر والشهرين تجده قد ضاع وتاه، ولا يمسك من ذلك إلا القليل. فعلى الإنسان أن يتعلم الأصول، هذه الأصول التي بدأ طالب العلم يحتقر نفسه أن يتعلمها، هي عزك هي كرامتك، إن لم تعتز بدينك وتبدأ بالألف قبل الباء، وبالباء قبل التاء، وتتهجى هذا العلم وتأخذه حرفا حرفا، وتضبطه مسألة مسألة حتى البديهيات، وتتواضع مع هذا العلم؛ فلن تفلح في العلم، ولا تعظم نفسك وتقول: كيف أجلس وأكرر مسائل واضحة! وانظر إلى دواوين السلف الذين كرروا الأمور البديهية، وهل العلم إلا تكرار المعلوم؛ لأن هذا التكرار له أثر على النفسية وعلى التطبيق، كم مرة تكرر الفاتحة في اليوم في صلاتك وتتقرب إلى ربك، وكم تسجد وكم تركع وأنت تكرر الصلاة، كل هذا لكي تصبح عقيدتك راسخة لا تقبل التحويل، ولذلك ما عرف في أهل دين ثبات مثلما عرف للمسلمين، وقل أن يرجع أحد من أهل الإسلام عنه إلى دين آخر بفضل الله عز وجل ثم بفضل الأمور العديدة، ومنها: تكرار هذه الأمور وضبطها. وانظر إلى طلاب العلم الذين أخذوا صغار المسائل، وكلما جلس في مجلس يلخص المسائل الصغيرة ويضبطها ويقرأها المرة تلو المرة، ويحرص على تكرارها، فيجد البركة والخير، فلا ينتهي بعد شهر أو شهرين إلا وقد حفظ ثلاثة أو أربعة أبواب؛ لأن عنده أمورا هي الأساس ثم بعد ذلك يبني عليها، أما الولع بالخلافات والردود، وأن يجلس طالب العلم في المجلس ويقرأ على الشيخ الكتاب فيقول له الشيخ: هذا كذا، فيقول: لماذا كذا؟ ولماذا لا يجعلونه كذا؟ ولماذا يقولون كذا؟ ولماذا يفعلون كذا؟ حتى يصبح معلما للعلماء، فبدلا من أن يأتي متعلما إذا به قد صار معلما! قال أحد الحكماء لطالب عنده أكثر من مناقشته: يا بني ما علمت أن مجلسك هنا. أي: كان المفروض أنك تجلس مكاني، لا أن أجلس أنا هذا المكان، بسبب كثرة الاعتراضات. فكثير من العلم نزعت بركته بسبب كثرة الاعتراضات، وقد كان في الماضي إذا أفتى العالم وجد الآذان صاغية، والقلوب واعية، والناس مستجيبة، وإذا بالبركة والخير والنفع يحل للناس، ولكن اليوم ما إن يفتي واحد فتوى إلا وخرجت مئات الفتاوى، ثم وجدت هذا يعلق على هذا، وهذا يرد على هذا، وعندها محقت بركة العلم {وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} [النحل:33] فالذي يريد العلم الصافي عليه أن يحرص على أخذ صغار العلم قبل كباره، وهو علم الربانيين، وعليه ألا يتعاظم نفسه أمام العلم، فهذا مما يزيد بركة العلم. وجماع الخير كله أن يسأل العبد ربه، وأن يقول: ربي إني أسألك علما نافعا؛ ولذلك سأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن يرزقه علما نافعا، فإذا كان العلم نافعا من الله عز وجل، فهو المبارك. نسأل الله بعزته وجلاله أن يعيذنا من علم لا ينفع، اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تجعل علمنا حجة لنا لا حجة علينا ألهمنا الصواب، وأحسن لنا الخاتمة والمآب، وارفع بالعلم درجاتنا، وكفر به خطيئاتنا، وآمن به روعاتنا، وأصلح به أمورنا، يا حي يا قيوم، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
__________________
|
![]() |
| الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |