|
|||||||
| ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث ملتقى يختص في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلوم الحديث وفقهه |
![]() |
|
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
|
حتمية السنة النبوية وضمان استمرارها 1/6 الدكتور الشريف محمد حمزة الكتاني الحمد لله الذي ضمن لنا الدين وجعله خاتمة الأديان وناسخها، وحجة الرسل إلى يوم القيامة ووسيلتها وشريعتها، وأخذ العهد على سائر الأنبياء والرسل لإن أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم ليعزرنّه ولينصرُنه وليتبعنه، فكان عهد المتبوعين عهدا لأتباعهم جاحِدِهم ومن استنّه، وضمن بذلك حفظ الوحي الأغر طول الدهور والأجيال، بطرفيه القرآن والسنة كما صح وتواتر من الأنقال. وصلى الله وسلم وبارك على يعسوب الكمالات ومَنبعها، وقاموس الرسالات ومُجمَلها، الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحيٌ يوحى، والمقتدى بقوله وفعله وسكوته ونطقه بالفصيحة الفصحى، فألبس عليه الحق بذلك جلبابا من اللاهوتية، على أتم ما يكون من الناسوتية العبدية. صلى الله عليه وسلم ما تواتر الليل والنهار، والظل والإسفار، وعلى آله السفينة التي من ركبها نجا، والنجوم الذين من اقتدى بهم التجا، وأصحابه المؤتمنين الموثقين المعَدّلين من الله العلي، رسُل الرسالة وأمنتها من الدخيل والغوي، وتابعيهم من رواة الآثار، وحماة السنة الأبرار. أما بعد؛ فقد روينا بالأسانيد المتصلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بسند حسن صحيح عن سيدنا علي بن أبي طالب – كرم الله وجهه - مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يحملُ هذا العلمَ من كل خَلَفٍ عُدُوله، يُنفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين"(1). يعد هذا الحديث الشريف من علامات النبوة، ومن الأحاديث الكريمة التي أثبتت اتصال العلم الشريف وحفظه وبقاءه، علاوة على قول الله تعالى عن الوحي الكريم: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}.[الحجر: 9]. والقرآن – كما لا يخفى – إشارة للدين ككل، وهو من باب إضافة الخاص على العام. فقد تكفل الله تعالى بحفظ دينه إجمالا، وعصمته من طوارق الحدثان عليه، وشقشقات وهذيان أهل الدسائس والمكر والزيغ، فلا يأتي زمن تبرد فيه جذوة الشريعة الإلهية، وتتفصم فيه عرى الدين المحمدي إلا ويبعث الله تعالى من يجدد أمر الدين، ويحيي دارسه، ويبعث الروح في أطرافه، وهو مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه أبو داود والحاكم وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه: "إن الله يبعث إلى هذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها"(2). جهود مضنية للتشكيك في السنة النبوية: وقد طعن أهل الأهواء قديما وحديثا على السنة النبوية، متخذينها معولا لهدم الإسلام كله، فقد عمل المعتزلة قديما جهدهم في الطعن فيها، وهم كما قال الأستاذ مصطفى السباعي: بين منكر للسنة كلها، وما بين مشترط في قبولها شروطا لا يمكن أن تقع. مع ما كانوا فيه من رقة في الدين، وشعوبية أوصلت بعضهم للطعن في النبي صلى الله عليه وسلم(3). كما عمل المستشرقون – وعلى رأسهم جولد تسيهر – في خطة استعمارية لهدم الإسلام والتشكيك فيه، على نشر مختلف الشبهات والآراء المغرضة حول السنة النبوية وجمعها، وطريقة نقلها إلى أن دونت في المصنفات الشهيرة. وبين هؤلاء وأولئك، نشطت مجموعة من الشيعة الإمامية، والعلمانيين في تصنيف المصنفات، وكتابة الأبحاث والمقالات التي تطعن في السنة النبوية، وتُعمل المعاول لهدمها وإبطالها، سواء بالطعن في حجيتها أصلا، أو بالطعن في رواتها وعدالتهم، خاصة الصحابة الكرام، أو بالطعن في علوم الجرح والتعديل التي تمالأ الناس عليها منذ عصر النبوة حتى تبلورها في القرن الثالث والرابع إلى الآن. وقد نبتت نابتة في عصرنا يسمون بالقرآنيين، يقولون: "القرآن قطعي الدلالة، قطعي الثبوت، فنأخذ به، ونُحاج به. أما السنة؛ فقد دخلها ما دخلها من الاعوجاج والدخيل، والأطماع السياسية والأهواء المذهبية، على أنها إنما دونت بعد نحو مائة عام من الهجرة، ولم تُحفظ إلا في أفواه الرجال، الذين كان كثير منهم غير متفقهة ولا يعرفون ما يروون"..إلخ مغالطاتهم. ردود الأعلام على محاولات التشكيك في السنة: وقد رد على هؤلاء القوم جمهرة من أعلام الإسلام في السابق واللاحق؛ فمما ألف في السابق: "السنة". للإمام عبد الله بن أحمد بن حنبل. ومنها: "السنة". لأبي بكر أحمد بن محمد الخلال. ومنها: "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة". للإمام الحافظ أبي القاسم هبة الله اللالكائي. ومنها: "السنة". للحافظ أحمد بن عمرو ابن أبي عاصم. ومن أعظم ما كتب في ذلك حديثا: "دفاع عن السنة، ورد شبه المستشرقين والكتاب المعاصرين، وبيان الشبه الواردة على السنة قديما وحديثا، وردها ردا علميا صحيحا". للعلامة محمد بن محمد أبو شهبة. ومنها: "ابتداء التدوين في صدر الإسلام". للحافظ الشيخ عبد الحي بن عبد الكبير الكتاني. ومنها: "السنة قبل التدوين". للعلامة محمد عجاج الخطيب. ومنها: "السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي". للعلامة الأستاذ مصطفى السباعي. ولا شك أن هذا من دلائل النبوة، فقد روي في الحديث الصحيح عن أبي رافع مرفوعا: "لا ألفينَّ أحدًا متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه!". غير أنني ارتأيت في هذا البحث المختصر، أن أدلو بدلوي، حتى تكون لي يد في الدين، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولله در الإمام البوصيري حيث قال في همزيته: وإذا سخر الإله أناسًا===لسعيد فإنهم سعداء وإذا عظمت سيادة متبو===ع أجَلَّ أتباعه الكبراء خطة البحث: ولذلك ارتأيت أن يدور بحثي على المحاور التالية: مقدمة في تعريف السنة النبوية. 1- تعريف كلمتي الشهادة، وتلازمهما. 2- الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم يقتضي الإيمان بالسنة. 3- دلائل القرآن الكريم على وجود السنة وحجيتها. 4- تدوين السنة في العصر النبوي والرد على شبهات الطاعنين. 5- عدالة الصحابة الكرام. 6- علوم الحديث وتميُّزها. 7- السنة أحد طرفي الوحي. 8- لا إسلام من غير السنة النبوية. الخاتمة. جعل الله تعالى ذلك لوجهه مقتصرا، وعلى الحق والتوفيق قاصرا، ووقاني أمراض القلوب ووساوس الشياطين، بمنه وكرمه...آمين. المقدمة في تعريف السنة النبوية السنة لغة: الصورة والوجه، قال ذو الرمة: تُريك سُنة وجه غيرِ مُفرِقة ملساء ليس بها خال ولا نَدَبُ والطريقة، محمودة كانت أو مذمومة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة"(4). ومن حديث: "لتتبعن سَنن من كان قبلكم، شبرا بشبر وذراعًا بذراع"(5). والسنة: السيرة، والسنة: الطبيعة والفطرة. وسنة الله: أحكامه وأمره ونهيه. وتطلق السنة لغة على القرآن والحديث(6). والسنة في اصطلاح المحدثين: ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير، أو صفة خَلقية أو خُلقية، أو سيرة، سواء كانت قبل البعثة أم بعدها، وهي بهذا ترادف الحديث عند بعضهم(7). وفي اصطلاح الأصوليين: ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير(8). وقد تطلق "السنة" عندهم على ما دل عليه دليل شرعي، سواء كان ذلك في الكتاب العزيز أو عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو اجتهد فيه الصحابة، كجمع المصحف الكريم، وحمل الناس على القراءة بحرف واحد، وتدوين الدواوين. ويقابل ذلك: البدعة. ومنه: قوله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي"(9). وفي اصطلاح الفقهاء: ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير افتراض ولا وجوب، وتقابل الواجب وغيره من الأحكام الخمسة، وقد تطلق عندهم على ما يقابل البدعة، ومنه قولهم: طلاق السنة كذا، وطلاق البدعة كذا(10). ومرد هذا الاختلاف في الاصطلاح: إلى اختلافهم في الأغراض التي يعنى بها كل فئة من أهل العلم(11). ونحن هنا نعني بالسنة: ما عناه المحدثون والأصوليون، لأنها بتعريفهم هي التي يبحث عن حجيتها ومكانتها في التشريع. -يتبع- ---------------------------------------------------------------------------- (1) صحح هذا المتن الإمام أحمد – رحمه الله – كما نقل ذلك عنه الخطيب البغدادي كما في "الجامع الكبير" للسيوطي (8/ 62 – 63). (2) رواه أبو داود في "السنن" (4/ 109)، والحاكم في "المستدرك على الصحيحين" (567، 568). (3) "السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي" تأليف الدكتور مصطفى السباعي ص21. الطبعة الثانية – دار الوراق، ودار السلام. (4) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن جرير بن عبد الله البجلي. (5) أخرجه البخاري في صحيحه، ومسلم في صحيحه، عن أبي سعيد الخدري. (6) "لسان العرب" (13 /224). (7) "السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي" ص57. (8) "السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي" ص57. (9)"الموافقات" للشاطبي (4/ 6)، والحديث أخرجه أبو داود في سننه، والترمذي في سننه، عن العرباض بن سارية، وقال الترمذي: "حسن صحيح". (10) "إرشاد الفحول" ص31. (11) "السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي" ص58.
__________________
|
|
#2
|
||||
|
||||
|
حتمية السنة النبوية وضمان استمرارها 2/6 الدكتور الشريف محمد حمزة الكتاني الفصل الأول: تعريف كلمتي الشهادة وتلازمهما كلمتا الشهادة هما: لا إله إلا الله محمد رسول الله. لا إله: نفي لوجود أي إله، فلا النافية، تعني: عدم الوجود الحسي والمعنوي، الحسي كالأصنام، والأنواء، والعباد، والطواغيت، والحكام، وعلماء السوء، وأولياء الباطل. ومعنوي؛ كالقوانين الوضعية، والعادات والطقوس، وما هو في حكم ذلك. والإله؛ هو كل ما عبد، وقصد بصرف العبادة والنية في الأفعال والأقوال، ولوحظ في الباطن، واعتُصم بحبله تمسكا ومنافحة. إلا؛ أداة استثناء، فبعد النفي المطلق، ومحو الاعتقاد والجنان من كل راسب إله صنعه الهوى، وتنقيته من كل وجود للسوى، دخلت أداة الاستثناء، وهو استثناء مفرغ، مفيد لتحقيق ما بعد الاستثناء، والاقتصار عليه حسا ومعنى. الله؛ رب العزة والجلال، فهو – سبحانه – الإله الواحد، الموصوف بجميع صفات الاستبداد والكمال، الأحد الذي لا شريك له، المستقل بصفات الألوهية، الفاعل في الوجود وحده. والأهل لأن تُفْرَد له العبودية، فهو الرب تعالى الذي نصرف إليه نياتنا، ونلتجيء في دعواتنا، ونلاحظ أوامره ونواهيه، وأحكامه في سائر تحركاتنا وسكناتنا. محمد؛ النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، ابن عبد الله بن عبد المطلب، الرجل العربي الهاشمي القرشي، الذي جاء بالوحي والقرآن، والمعجزة المثبتة للرسالة التي لا يساويها ولا يعادلها ولا يدانيها برهان. رسول الله: مبعوث من الله تعالى بالرسالة، وهي: القرآن والشريعة، وفي الحديث: "إني أوتيت القرآن وأوتيت مثله معه"، فهو موصوف بكل ما يتصف به الرسول الأمين من الصفات؛ وهي: الصدق والأمانة، والعدالة، والعصمة، وسلامة الحواس. فهو الواسطة بين الله تعالى: معرفته، شريعته، إلينا، ولولاه لما عرفنا الحق تعالى، ولما عرفنا شريعته ولا دينه. وقد روى الإمام أحمد والترمذي وحسنه عن عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه أنه: سمع النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله يقرأ هذه الآية: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم}. [التوبة/ 34]، قال: "فقلت: إنا لسنا نعبدهم"، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟". فقلت: "بلى". قال: "فتلك عبادتهم!". فلا إله إلا الله؛ قصرٌ للعبودية وجميع متعلقاتها على الله تعالى، باعتقاد أنه النافع الضار، القابض الباسط...إلخ أسمائه الحسنى، بيده الأمر وهو على كل شيء قدير، ليس ذلك لغيره في الوجود، فيصرف إليه تعالى نيته، ويقصر عليه توكله وعمله، ولا يرى غيره أهلا لشيء من ذلك. وأعلى من ذلك: أن يرى الوجود كله إنما هو منفعل بأمر الحق تعالى، وتجل لقدرته وصفاته ومشيئته، وجودا وتصرفا، فيكون له من كل متحرك في الوجود أو ساكن دليل على الحق تعالى يشاهد فيه صفة من صفاته، ونعتا من نعوته، وحكمة من حكم الحق تعالى. فيخاطبه ويعامله وينفعل له بمقدار ما شاهد فيه من عظمة الحق جل جلاله، فيخاطبه الحق تعالى، ويفهم منه خطابه. وهو المسمى عند الخاصة بوحدة الشهود، ووحدة الوجود. ومقتضى "محمد رسول الله" صلى الله عليه وسلم وعلى آله؛ أن يكون اعتقاده في الحق تعالى طبق ما علمناه النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله، فلا يسبقه عقله على الآثار، ولا فهمه على السنن، ويلتزم في كل أمر إلهي هدي النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله، في القول والصفة والعمل، إذ كل بدعة إنما هي شرود عن هديه الكريم، وكل شرود إنما هو شرود عن الحق تعالى في الحقيقة. لا إيمان بالله تعالى من دون الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم: وحيث كان النبي صلى الله عليه وسلم رسول رب العالمين، وواسطة الرسالة إلينا، كما أسلفنا ذكره، والمترجم عن الحق جل ذكره أوامره، وسائر دينه؛ صار لا إيمان بالله تعالى إلا بالإيمان بنبيه سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، إذ هو صورة الأوامر الإلهية إلينا، ولا نتوصل إلى معرفة الله تعالى، ولا إلى معرفة أحكامه إلا من طريق النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فالإيمان به صلى الله عليه وآله وسلم واسطة الإيمان بالله تعالى، وعدم الإيمان به صلى الله عليه وآله وسلم، تكذيب لما جاء به، وهو صلى الله عليه وآله وسلم ما جاء إلا بأمر الله تعالى ونواهيه، فاقتضى ذلك الكفر بأوامر الله تعالى ونواهيه، ومعرفته التي عرّفنا بها، فاقتضى الكفر بالله عز وجل. فلا إله إلا الله، نعرف مقتضاها عقلا، ولكن لا نعرف ماهيتها ومبتناها، إلا بواسطة سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهما لفظتان متداخلتان، متشابكتان، لا انفصام بينهما، ولا يتصور أصلا ذلك. قال الشيخ أبو الفيض محمد بن عبد الكبير الكتاني - قدس سره - في رسالته في وجوب اقتران لفظي التوحيد: "إن هاتين الكُليمتين الشريفتين متقاربتان كما قال اليوسي، لا تقوم إحداهما بدون الأخرى، شرعا وعقلا". "أما شرعا؛ فلأن الإيمان لا يقبل من أحد اليوم إلا بمجموعهما، ألا ترى أن من لم يؤمن بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر؟، وإن وحد الله أو لم يوحد فهو كافر، وإن آمن بالرسل؟. ولأجل هذا التقارن يكتفى بالأول كثيرا، نحو: من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله دخل الجنة". "وأما عقلا؛ فلأن الأولى مادة للثانية، والثانية مظهرة للأولى، وبيان ذلك: أن الألوهية منها نشأت الرسولية وظهرت، فكانت الأولى مقتضية للثانية باقتضاء السبب للمسبب، والثانية مقتضية للأولى على العكس...إلخ". فانظره(12). كما أن "لا إله إلا الله" لا مدلول لها ولا معنى إلا بكون نبي يعرفنا بالله تعالى، وبصفات الاستبداد له سبحانه، معرفة لا تدركها العقول، ولا تستوعبها الحواس..فهب أن ثمة إلها، ولا إله إلا هو؛ فكيف نتعرف إليه ويتعرف إلينا إلا بوجود الوساطة التي هي الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وخاتمتهم هو "محمد رسول الله" صلى الله عليه وسلم وعلى آله. معرفة الله تعالى من دون طريق النبي صلى الله عليه وسلم معرفة باطلة: ومن هنا؛ فإن أي معرفة للحق تعالى ولصفاته ولهديه خارج طريق النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله تعتبر معرفة باطلة، أو في حكم الباطل، لأنها جاءت من غير الطريق الذي أراد الله تعالى أن تأتي، فلو توافقت مع الهدي النبوي في بعض؛ فلا تعدو أن تكون من باب الصدفة، ولا أجر ولا ثواب ولا توفيق بها، ولا وجود أصلا في ميزان التدين، لأنها لم تخالطها نية الاتباع والتسليم. {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدون حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما}. [النساء/ 65]. وكذلك؛ فإن كون الحق تعالى لا إله إلا هو يقتضي معرفة هذا الإله المفرد، والحق تعالى لا يتعرف للخلق إلا بالوسائط، إذ لا مجانسة بينه تعالى وبيننا، وإلا فلا مقتضى للألوهية، إذ صفة الحق تعالى أنه: {ليس كمثله شيء وهو السميع العليم}. [الشورى/ 11]، فاقتضى أنه لا يتعرف لخلقه إلا بذلك، وما كانت الواسطة إلا بالأنبياء والرسل الذين خاتمتهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله، فلا معنى لقول: لا إله إلا الله، إلا بقولنا: محمد رسول الله. وقولنا: محمد رسول الله، يقتضي أنه: لا إله إلا الله كما أسلفنا. الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم شرط للدخول في الإسلام: قال تعالى: {واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخره إنا هدنا إليك قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون. الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراه والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون. قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون}. [الأعراف/ 156- 158]. بل خصصت آية سورة "محمد" اسم نبينا الجليل تصريحا لا تلويحا في قوله تعالى: {الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم. والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم. ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم كذلك يضرب الله للناس أمثالهم}. [محمد/ 1-3]. فجعل الحق تعالى من لم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم كافرا صادا عن سبيل الله، وأنه اتبع الباطل. فكانت الحكمة من تخصيص اسم النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية - كما في أربعة مواضع من القرآن، خلافا لما عود الله تعالى عليه نبيه من خطابه بالرسول والنبي تعظيما له وتشريفا - التخصيص بسيدنا محمد بن عبد الله النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم وعلى آله لمن قد يتبادر لذهنه أن غيره من الرسل يشمله في المعنى(13). وهذا خلافا لما يزعمه بعض جهلة العلمانيين المعاصرين من أن الحق تعالى أورد في القرآن الكريم موسى وعيسى عليهما السلام أكثر من "محمد" صلى الله عليه وسلم، مستدلين بذلك على عدم التفريق بين اليهود والنصارى والمسلمين، غافلين أن القرآن كله خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وتأريخ لسيرته، وتبيين لشريعته، وثناء عليه، وتصبير له، وتحفيز له، وحض على اتباعه والاقتداء به e. وقد استدل العلماء بقوله تعالى في معرض ذكر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده}. [الأنعام/ 90]، بأنه صلى الله عليه وسلم حاز جميع فضائلهم وجمعها، فصار له من الفضل ما تفرق فيهم منة من الحق تعالى(14). الفصل الثاني: الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم يقتضي الإيمان بالسنة فلما تقرر كلمتا التوحيد، وارتباطهما ببعض، وعدم الإيمان ما لم يكن بالنبي الواسطة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم؛ اقتضى ذلك تعريف الإيمان بهذا النبي ما هو؟. فالإيمان بالشيء هو: الاعتقاد بصحته وأصوبيته، وهو يقتضي التصديق، والتصديق يقتضي المصدق به، وحيث إن شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم غاب في هذه الأزمان بموته صلى الله عليه وسلم، فلم يبق إلا مقتضاه صلى الله عليه وآله وسلم، وهو أثره المستمر إلينا. ولا شك أن أثره المستمر إلينا صلى الله عليه وآله وسلم، هو خصوصياته المشيرة إليه، وأبرزها كلامه وهديه، إذ كلامه وهديه هما الذان ينقلان لنا نبوته ورسالته، ولولا كلامه المفصل لهديه وشريعته، وبشائره ودلائله، وما يصل إلينا من أخباره؛ لما اعتبر له وجود، إذ لن يزيد أن يكون وجودا توهميا. ولذلك فإن قولنا: "محمد رسول الله" يقتضي إيماننا بكل ما صحت نسبته إليه من قول وصفة وعمل، ويقتضي وجوب أن يصلنا عنه صحيحُ خبَر يكون كافيا للقيام بنبوته، وعدم إيماننا بذلك يقتضي – بالضرورة – عدم إيماننا برسالته وبهديه صلى الله عليه وسلم. فالرسول بمعنى: الهادي والدليل؛ إنما هو تصرفات هذا النبي الكريم وتوجيهاته، وليست إلا السنة المطهرة، فالتصديق بها واعتقاد استمرارها وصحتها تصديق بالنبوة والرسالة، وعدم ذلك كفر بالنبوة والرسالة. ومن هنا يظهر ضلال الشرذمة المعاصرة من العلمانيين وأشباههم الذين يدعون الإيمان بالقرآن الكريم والاكتفاء به عن السنة النبوية الطاهرة البلجاء، يقولون – وقد زعموا – ما في القرآن أخذنا به، وما في السنة لا نؤمن به لدخول الحق والباطل فيه؛ فقولهم يضاهئ قول الذين كفروا في عدم الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم، وطعن في شريعته وهديه. فهم حيث شككوا في السنة النبوية؛ إنما شككوا في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله، وأنكروا رسالته وبعثته لزوما، وفي ذلك ما فيه من عدم الإيمان بالله تعالى ودين الإسلام. اعتقاد خطأ النبي صلى الله عليه وسلم مناف للإيمان به: وقريب منهم الطائفة الحديثة ممن يزعمون أن للنبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله تصرفات وأحكاما هو فيها مشرع عن ربه تعالى، وأخرى إنما هو فيها بشر من الأبشار لسنا ملزمين باتباعه فيها، ولا هو معصوم فيها. وهذا مبطل – بالضرورة – لكثير من السنة النبوية، وفاتح الباب على مصراعيه للطعن فيها وردها بالصدر، بل أعظم بلاء وإفكا أن يؤمن المرء بصحة نسبة الحديث للنبي صلى الله عليه وسلم ثم يخطيء نبيه فيه. وهو نهاية ما يكون في المقت عياذا بالله تعالى. غافلين عما ورد في القرآن الكريم من الآيات الصريحة المقتضية أنه صلى الله عليه وسلم وعلى آله لا يتصرف إلا بوحي وهدى، قال تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}. [الحشر/ 7]، وقال جل جلاله: {إن هو إلا وحي يوحى}. [النجم/ 4]. فمثلهم مثل من قال فيهم تعالى: {ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين. وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين. أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون}. [النور/ 49، 50](15). إذ لا مبرر لوجود النبوة إلا وجود مقتضاها؛ وهو: كلام النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله، وهديه، ولا طريقة لفهم القرآن الكريم – كلام الحق تعالى وعلامة التوحيد – إلا بتفهيم من أرسله الحق تعالى لتوضيحه وتبيينه، قال تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم}. [النحل/ 44]، وليس إلا كلام النبوة الطاهر. وقد أشارت الآيات القرآنية المتكاثرة، والأحاديث المتواترة، والدليل النقلي والعقلي بما لا شك فيه – كما يأتي لاحقا بإذنه تعالى – إلى حفظ السنة النبوية الطاهرة كما حفظ الله تعالى القرآن، وأنها قسم من الوحي لا قيام للدين إلا بحفظه. -يتبع- الحلقة الأولى هنا ----------------------------------------------------------------------------------- (12) انظر "وجوب اقتران ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذكر الله تعالى، وكلام في وجوب الأدب". تأليف الإمام أبي الفيض محمد بن عبد الكبير الكتاني. ضمن "النفائس الكتانية" من رسائل الإمام محمد بن عبد الكبير الكتاني في الآداب والسلوك، الرسالة 6، ص178. بتحقيقنا. (13) وبقية الآيات: قوله تعالى: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم}. [آل عمران/ 144]، ومن حكم إظهار الاسم الشريف هنا: حتى لا يتوهم متوهم عدم موته، أو أنه رفع وسيأتي آخر الزمان، وقد ظهر مصداق ذلك يوم موته واستهالة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذلك وقوله: "من قال إن محمدا قد مات فسأضرب عنقه...". الأثر، فاستدل عليه أبو بكر الصديق بهذه الآية، فلم يجد جوابا وعاد إلى رشده. ولو جاء اللفظ بغير الاسم الصريح للنبي صلى الله عليه وسلم لاحتمل وجها آخر في محل لا يقبل التأويل. وثانيها: آية: {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين}. [الأحزاب/ 40]، فالمقصود هنا أن محمد بن عبد الله، النبي المعروف صلى الله عليه وسلم لم يكن له ابن ذكر من صلبه يأتي بعده ويخلفه، كما أنه رسول ونبي خاتم لا يأتي بعده نبي، فأحرى رسول، وهو النبي الذي نزل عليه كتاب وشريعة أمر بتبليغهما. فسد ذكر الاسم الشريف هنا أي تأويل أو إشراك محتمل إذا ذكر لفظ آخر. وثالثها: الآية المذكورة أعلاه. ورابعها: قوله تعالى: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم...} الآية [الفتح/ 29]، ففيها تصريح ظاهر بفضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ووصفهم والثناء عليهم خاصة دون أصحاب الرسل الأخر عليهم السلام، وتأهيلهم لحمل الشريعة الخالدة والكتاب المحفوظ، والله أعلم حيث يجعل رسالاته. كما يلاحظ أن جميع تلك الآيات اقترنت بعظيم التفضيل والتبجيل للنبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله، وبقرن اسمه بالرسالة تصريحا، وفي الثالثة تفسيرا مضعّفا: "نزِّل". وأنها كلها جاءت لتشريع أمر ما متعلق بشخص النبي صلى الله عليه وسلم وله مساس بالاعتقاد، فاقتضت التصريح بالاسم دون التلويح. (14) هذا الاستدلال من فوائد شيخنا العلامة العارف بالله سيدي عبد الحميد بن عمر زويتن الفاسي، حسبما شافهني به حفظه الله تعالى.. (15) انظر: "دلالة القرآن المبين على أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل العالمين" لشيخنا العلامة أبي الفضل عبد الله بن الصديق الغماري رحمه الله ص103 فله كلام نفيس في الموضوع.
__________________
|
|
#3
|
||||
|
||||
|
حتمية السنة النبوية وضمان استمرارها 3/6 الدكتور الشريف محمد حمزة الكتاني الفصل الثالث: دلائل القرآن الكريم على وجود السنة وحجيتها نص القرآن الكريم في كل آياته التشريعية، والعقيدية، تلويحا أو تصريحا بوجوب اتباع هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، واقتفاء أوامره ونواهيه، ولولا وجود تلك الأوامر والنواهي، وذلك الهدي، وحفظه على مر الأيام والأزمان؛ لما أمرنا الحق تعالى باتباعه، واقتفاء نهجه، ولزوم غرزه. وإلا لاقتضى أن تكون تلك الآيات الناصة على مثل ذلك لغوا، وكلاما في غير محله، والقرآن منزه عن ذلك، وإلا اقتضى بطلانه كلا، إذ بطلان البعض بطلانٌ للكل. فقد نص القرآن الكريم أن مهمة الرسول بالنسبة للقرآن أنه مبين له وموضح لمراميه وآياته، حيث يقول تعالى في كتابه: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نُزل إليهم ولعلهم يتفكرون}. [النحل/ 44]، كما بين أن مهمته: إيضاح الحق حين يختلف فيه الناس: {وما أنزلنا إليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون}. [النحل/ 64]، وأوجب النزول على حكمه في كل خلاف: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما}. [النساء/ 65]، وأخبر أنه أوتي القرآن والحكمة ليعلم الناس أحكام دينهم، فقال: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}. [آل عمران/ 164]. وقال تعالى في صفة المؤمنين: {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراه والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والاغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون}. [الأعراف/ 156]. وهذه من أشمل الآيات وأقواها دلالة على حجية وصحة السنة النبوية، إذ جعل من صفة المؤمنين اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وفصل مهامه: في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتحليل الطيبات وتحريم الخبائث، والتشريع مطلقا بنسخ الديانات السابقة، ثم أمر بالإيمان بمن هذه صفته، ومناصرته، وتعظيمه، والإيمان بالقرآن الكريم الذي أنزل معه، وفي هذه الآية من التمييز بين القرآن الكريم وبين السنة النبوية ما لا ينكره إلا جاحد للحق. وقال تعالى: {من يطع الرسول فقد أطاع الله}. [النساء/ 80]، {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم}. [الأنفال/ 24]، {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}. [الحشر/ 7]، واعتبر الحق تعالى طاعة نبيه طاعة له، واتباعه إيمانا وحبا له، فقال عز من قائل: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم}. [آل عمران/ 31]. بل حذر تعالى من مخالفة أمره فقال: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم}. [النور/ 63]، بل أشار إلى أن مخالفته صلى الله عليه وسلم كفر: {قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين}. [آل عمران/ 32]، ولم يبح مطلقا للمؤمنين أن يخالفوا حكمه وأوامره، فقال تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا}. [الأحزاب/ 36]. بل جعل الحق تعالى كلام نبيه وحيا لا يختلجه الخطأ، ولا يعتوره الشرود، بل جانس بينه وبين الوحي في خصائصه ومميزاته، حتى قال تعالى: {والنجم إذا هوى. ما ضل صاحبكم وما غوى. وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى}. [النجم/ 1-4]، وقال جل جلاله: {وما صاحبكم بمجنون. ولقد رأه بالأفق المبين. وما هو على الغيب بضنين. وما هو بقول شيطان رجيم. فأين تذهبون. إن هو إلا ذكر للعالمين}. [التكوير/ 22- 27]. إلى غير ذلك مما يطول إيراده من الآيات. فليس وراء هذا البيان والإيضاح من كلام رب الأرباب، مما لا يدع شكا لمؤمن بالقرآن الكريم، أن سنة النبوي صلى الله عليه وسلم وأقواله وأفعاله؛ أمرنا الحق تعالى باتباعها، والانتهاج بها، والاهتداء بهديها، وأن ذلك واجب مقترن بوجوب الإيمان، وأنها وحي لها ما للوحي، فهي دائمة بدوامه، محفوظة بحفظه. وبعد إثبات حتمية السنة النبوية، عقلا ونقلا، سأعمل في الفصول القادمة – بإذنه تعالى – على دحض شبهات ما فتيء أعداء الإسلام يبثونها لتشكيك المسلمين في دينهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم. الفصل الرابع: تدوين السنة في العصر النبوي والرد على شبهات الطاعنين من الأمور التي دندن حولها المستشرقون قديما وحديثا، وكثرت كتاباتهم حولها: تدوين السنة النبوية، وأن السنة النبوية إنما دونت بعد مائة سنة من الهجرة، ولذلك فلا شك أن فترة كتلكم، اعتورتها صراعات سياسية طويلة، وانتشأت عنها طوائف ومذاهب، وتفرق فيها الصحابة في الأمصار، لا شك أن يدخلها الدخيل، ويُدس فيها ما ليس منها حسب زعمهم. واعتمدوا في ذلك على روايات في غير محلها، تشكيكا في نزاهة أئمة – كالزهري الذي نُسب إليه أنه أول من دون السنة النبوية – وفي الدولة الأموية التي ادعوا بأن حكامها عملوا جهدهم على التزوير في الحديث النبوي بإقصاء روايات في غير صالحهم، وإثبات أخرى في مصلحتهم السياسية. من شبهات من ادعوا عدم تدوين السنة في القرن الأول: ومما احتجوا به على ذلك؛ ما روي من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، في النهي عن تدوين الحديث، حتى لا يختلط بالقرآن الكريم.. وما ذكره الهروي في "ذم الكلام" له عن عبد الله بن دينار قال: "لم يكن الصحابة ولا التابعون يكتبون الأحاديث لفظا ويأخذونها حفظا إلا كتاب الصدقات، والشيء اليسير الذي يقف عليه الباحث بعد الاستقصاء حتى خيف عليه الدروس، وأسرع في العلماء الموت، فأمر عمر بن عبد العزيز أبا بكر بن حزم فيما كتب إليه أن: انظر ما كان من سنة أو حديث عمر فاكتبه". وقريب منه لمالك في موطئه من رواية الشيباني، وأورده البخاري معلقا. وعلى ما في "قوت القلوب" لأبي طالب المكي قال: "هذه المصنفات من الكتب حادثة بعد سنة عشرين أو ثلاثين ومائة من التاريخ، وبعد وفاة كل الصحابة وعلية التابعين، ويقال: إن أول ما صنف في الإسلام كتاب ابن جريج في الآثار وحروف التفسير بمكة"(16). اهـ. هذا ما دعا بعض الكتاب – خاصة من المستشرقين والنصارى – إلى اعتباره طعنا في مصداقية السنة النبوية، وفي التاريخ الإسلامي، حتى قال جرجي زيدان في "التمدن الإسلامي" بعد أن ذهب إلى أن الخلفاء الراشدين كانوا يخافون الحضارة على العرب فلذلك كانوا يمنعونهم من تدوين الكتب قال(17): "لأن علومهم في أول الإسلام كانت قاصرة على القرآن والتفسير ورواية الأحاديث، وكان الاعتقاد فاشيا في الصحابة والتابعين..قال: فقضى العرب عصر بني أمية ولم يدونوا شيئا غير القرآن". وقال(18): "العرب قضوا القرن الأول ونصف الثاني وأبحاثهم قاصرة تقريبا على العلوم الإسلامية ولم يدونوها إلا في أواخر تلك المدة". وقد انطلت هذه الفكرة على الكثير من البحاثة المتأخرين، ممن كتب في الدفاع عن السنة النبوية، أو تاريخ تطور علومها، غير أن ثلة من العلماء ألفوا أبحاثا قيمة لرد هذه الشبهة، وإثبات التدوين من عهد النبي صلى الله عليه وسلم، مفرقين بين التدوين والتصنيف، وأن التصنيف على الأبواب والفصول هو الذي ابتدأ في القرن الثاني لا التدوين مطلقا. "ابتداء التدوين في الإسلام" للحافظ الكتاني: ولعل أوسع بحث في الموضوع هو: رسالة حافظ المغرب الشيخ عبد الحي بن عبد الكبير الكتاني المتوفى عام 1382/ 1962، المعنونة بـ: "ابتداء التدوين في صدر الإسلام"، والتي تعتبر قفزة مهمة في أعمال الدراسات الحديثية. أصل هذه الرسالة محاضرة ألقاها صاحبها في مؤتمر المستشرقين بالرباط نحو عام 1342/ 1924، ونشرت ضمن فعاليات ذلك المؤتمر، ثم أعدتُ طباعة نصها في مجلة "السنة" الصادرة بالرباط بالمغرب، في العدد الأول منها، غير أن هاته الطبعة اعتورتها أخطاء وتصحيفات. قال الحافظ عبد الحي الكتاني(19): "من تتبع كتب أئمة الحديث والتاريخ والأخبار بمزيد روية وتأمل، يجد ما ينافي ذلك، ويثبت لعصر الصحابة – عصر العلم والنور والإيمان والفتح – غيرما جمع ونسخ وكتابة وتدوين وتصنيف لهم ولأتباعهم في القرن الأول الهجري وأول الذي بعده، بل إن تأمل المتأمل يجد أن التدوين والجمع وقع في زمنه عليه السلام، ومنه، فقد كتب عليه السلام كتبا لأهل الإسلام في الشرائع والأحكام".. التدوين والجمع في العصر النبوي: ثم استعرض الحافظ الكتاني ما ألفه أهل القرن الأول ودونوه من المجاميع المتضمنة لأقوال النبي صلى الله عليه وسلم وتوجيهاته الشريفة، مبتدئا بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "إن تأمل المتأمل يجد أن التدوين والجمع وقع في زمنه عليه السلام ومنه. فقد كتب عليه السلام كتبا لأهل الإسلام في الشرائع والأحكام؛ منها: كتابه عليه السلام في الصدقات، وكان عند أبي بكر. وكتابه عليه السلام في نصاب الزكاة وغيرها الذي كان عند عمر. وكتابه إلى أهل اليمن بأنواع الفقه وأبواب مختلفة في الزكاة والديات والأحكام، وذكر الطلاق والعتاق، وأحكام الصلاة ومس المصحف، وغير ذلك، وهو كتاب جليل، احتج الفقهاء وغيرهم بما فيه من مقادير الديات وغيرها". أخرج أحمد وأبو داود وحسنه، والحاكم من طريق أبي سفيان عن سالم بن عبد الله بن عمر قال: "كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب الصدقة فلم يخرجه إلى عماله، وقرنه بسيفه حتى قبض، فعمل به أبو بكر حتى قبض، ثم عمل به عمر حتى قبض". وقد ساقه الإمام مالك في "الموطأ" في باب: صدقة الماشية من كتاب الزكاة قائلا: "مالك: إنه قرأ كتاب عمر في الصدقات"...فساقه. وقال الإمام أبو علي الحسن بن مسعود اليوسي في "القانون" لما تكلم على طرق نشر العلم وأنها مأثورة قديمة قال: "وأما التأليف؛ فأصله ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله من كتب الوحي إذا نزل، وكتب الرسائل إلى الملوك وغيرهم، وكتاب الصدقات، وقد جمع فيه مسائل، فهو علم مدون، وذلك هو التأليف، ولكن كان المصطفى لا يكتب بيده لما أغناه الله عن ذلك، لقد كان يأمر بالكتب، والمقصود إنما هو: وضع العلم وتدوينه وتخليده، سواء كتب العلم بيده أم لا، وكم من عالم يملي ولا يكتب، ويكون ذلك تأليفا". وقال القاضي عياض: "اعتمد مالك، والعلماء والخلفاء قبلهم كل ما في هذا الكتاب، يعني: كتابه عليه السلام لعمرو بن حزم، ولم يرد عن الصحابة إنكار شيء منه". هـ. قال الباجي: "هو أصل في كتابة العلم وتصنيفه في الكتب". هـ. وقال بحجية هذا الكتاب وشهرته كل من الأئمة: ابن عبد البر، والنووي، وابن كثير، حتى قال: "هذا الكتاب متداول بين أئمة الإسلام قديما وحديثا، يعتمدون عليه في مهمات هذا الباب كما قال يعقوب السفياني: "لا أعلم في جميع الكتب أصح من كتاب عمرو بن حزم هذا، كان الصحابة والتابعون يرجعون إليه ويدعون آراءهم، وصح أن عمر ترك رأيه ورجع إليه". بل قال الإمام الشريف ابن الوزير اليماني في "الزهر الباسم"(20) إثر كلام ابن كثير: "ظاهر كلامهم: دعوى إجماع أهل الصدر الأول على قبول حديث عمرو بن حزم، وذلك يقتضي الإجماع على العمل بالوجادة". هـ. قال الحافظ الكتاني: "وفي هذا: مكاتبه – عليه السلام – إلى الملوك والأطراف وولاته، فقد كانت بإملائه – عليه السلام – على كُتابه، واعتنى الصحابة ومن بعدهم بجمعها ونسخها وحفظ نصوصها". قلت: إلى أن وصلتنا في القرن الخامس عشر الهجري، وكثير منها محفوظ في متحف إصطنبول وغيره. وقد استوعب أكثر نصوصها الإمام ابن سعد في "الطبقات"، وكذا الإمام محمد بن علي ابن حديدة الأنصاري في كتابه: "المصباح المضي، في كتاب النبي الأمي، ورسله إلى ملوك الأرض من عربي وعجمي". ووقوفنا على ذلك يفهمنا احتفاظ الصحابة والسلف بتلك المكاتب، وجمعهم نصوصها، وإلا؛ لما وصلت لابن سعد في القرن الثالث، وابن حديدة في القرن السابع، ثم وصولها إلى زماننا. بل في سيرة ابن هشام: "قال ابن إسحاق: حدثني يزيد بن أبي حبيب المصري أنه: وجد كتابا فيه ذكر بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى البلدان وملوك العرب والعجم، وما قال لأصحابه حين بعثهم. قال: فبعثت به إلى ابن هشام فعرفه". وفي آخر "نصب الراية" للحافظ الزيلعي(21): أن الواقدي استدعى عكرمة قال: "وجدت هذا الكتاب في كتب ابن عباس بعد موته فنسخته، فإذا فيه"..وأتى بنص كتاب النبي صلى الله عليه وسلم للمنذر بن ساوى، وجواب المصطفى له عليه السلام. قال الشيخ عبد الحي الكتاني: "فيؤخذ منه أنه كان لابن عباس الكتب، إما من تصنيفه، أو من تصنيف من قبله، أو كان معه، ويفيد على كل حال وجود الكتب في تركة الصحابة وممتلكاتهم، ويفيد أنهم كانوا يعددون النسخ من مكاتبه عليه السلام ويدخرونها، وهذا هو الجمع والتدوين!". ثم نقل الحافظ الكتاني في رسالته المنوه إليها نصوصا تقتضي تدوين الصحابة لرسائل النبي صلى الله عليه وسلم، وخطبه، وطبقات من تلفظ بالإسلام، وأسماء من يتعين خروجهم في المغازي. قال المقريزي في خططه: "كانت كتابة الديوان في صدر الإسلام: أن يجعل ما يكتب فيه صحفا مدرَجة". قال الحافظ عبد الحي الكتاني رحمه الله: "فيمكننا الجزم بأن هذا أول تدوين وقع في الإسلام، إذ كتابة الناس على اختلاف مراتبهم في السبقية للإسلام، والهجرة والنصرة والغزو؛ المادة الأولى لكتب تراجم الصحابة وتراجم زعماء الإسلام وأبنائهم". "وكان – عليه السلام - اتخذ كتابا يكتبون له أموال الصدقات؛ وهم: الزبير بن العوام، فإن غاب أو اعتذر كتب جهين بن الصلت أو حذيفة بن اليمان. ذكر ذلك ابن حزم في كتابه: "جوامع السيرة"، والقضاعي في كتاب "الأنباء". "وهذا يدل على أن النظام والضبط وصل في زمنه عليه السلام إلى تقييد الداخل والخارج مما يتعلق بالأموال ونحوها، فكيف لا يقيدون الدين وهو أهم وأكبر وأكثر وقعا؟". "...فهي أصل ديوان العطاء الذي دون في زمن عمر وبإذنه، وانتدابه لكتبه: عقيل بن أبي طالب، ومخرمة بن نوفل، وجبير بن مطعم، قال الماوردي: كانوا شباب قريش، وقال لهم: اكتبوا الناس على منازلهم...". "فهذا الديوان العمري المادة الوحيدة لتواريخ البيوتات الإسلامية العربية وغيرها، وكان الأساس الأكبر للتدوين الإسلامي في الأنساب وأهل السبقيات". اهـ بخ. تدوين الصحابة رضوان الله عليهم: ثم نقل الشيخ عبد الحي الكتاني – رحمه الله – في رسالته المنوه إليها نصوصا تثبت تدوين أمة من الصحابة والتابعين إلى أواسط القرن الثاني، بما لا يدع مجالا للشك أن الأمة الإسلامية عرفت تدوين حديث نبيها صلى الله عليه وسلم، وسيرته، وأخباره، وأخبار أصحابه، وأحوال الأمة من سياسة واجتماع وتراجم، ودواوين...إلخ. فمنهم: أبو بكر الصديق؛ جمع في رق خمسمائة حديث من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يرجع إليها إذا روجع. وعمر بن الخطاب؛ استكتب ما روي من شعر الجاهلية والإسلام. وله كتابه المشهور إلى قاضيه على البصرة أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما، قال ابن القيم في "إعلام الموقعين": "هو كتاب جليل تلقاه العلماء بالقبول، وبنوا عليه أصول الحكم والشهادة، والحاكم والمفتي أحوج شيء إليه وإلى تأمله والتفقه فيه". وسبق الحديث عن ديوانه، وكان له تابوت يجمع فيه كل معاهدة كانت بينه وبين الناس. وعلي بن أبي طالب؛ له كتاب في أقضيته، وكتاب القضاء والقضاة ساقه صاحب "نهج البلاغة". وعبد الله بن عباس؛ كان له كاتب يكتب رواياته عن النبي صلى الله عليه وسلم، فاجتمع منها حمل بعير، وكان يكتب الفتاوى التي يُسأل عنها، وكتب عنه ابن الأزرق غريب القرآن، بل كانت له كتب يكتب عنها الناس كعكرمة وغيره. وعبد الله بن عمرو بن العاص؛ كان يكتب الحديث زمن النبي صلى الله عليه وسلم بإذنه، وكان يسمي صحيفته: "الصادقة"، واعتبر بعض العلماء إذن النبي صلى الله عليه وسلم له في ذلك نسخا للنهي المتقدم عنه. وزيد بن ثابت؛ نسب له كتاب في الفرائض. وجابر بن عبد الله؛ له منسك صغير خرجه الإمام مسلم، ألف فيه ابن المنذر جزءا كبيرا، استقصى منه نحو مائة ونيف وخمسين نوعا من الفقه. وله صحيفة فيما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم، حدث عنها مجاهد. وعبد الله بن مسعود؛ كان له كتاب، رواه عنه ابنه عبد الرحمن. وأبو هريرة حافظ الصحابة، كانت لديه كتب كثيرة جمعها من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأنس بن مالك؛ كان له كتاب دون فيه مروياته عن النبي صلى الله عليه وسلم وضبطها وعرضها. ومعاوية بن أبي سفيان؛ استكتب فضائل عثمان بن عفان، ودون رواته وأحوالهم، وكانت تسرد عليه الكتب الكثيرة في التواريخ والكتابات، حتى قيل بأنه أول من جمع مكتبة، والصحيح أن أبا بكر الصديق هو أول من جمع مكتبة حسبما في "تاريخ المكتبات الإسلامية" للشيخ عبد الحي الكتاني، وكثرت في عهد معاوية الدواوين، حتى دون الولادات، والوافدين من الخارج. بل حدَّث هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه عروة – كما في طبقات ابن سعد(22) - أنه: "أحرق يوم الحرة – سنة ثلاث وستين للهجرة – كتب فقه كانت له، فكان يقول بعد ذلك: لأن تكون عندي أحبُّ إلي من أن يكون لي مثل أهلي ومالي". فثبت بذلك أن كتب الفقه كانت موجودة مدونة في الصدر الأول للإسلام، وكتابة بعض الصحابة فتاواهم ومسموعاتهم وأحكامهم القضائية إنما يدل على كتابة غيرهم من أمثالهم ومن تلامذتهم، ما مؤداه أنها: كانت سلعة نافقة في ذلك العصر. وقد خص الحافظ الدارمي في مسنده بابا سماه: "باب من رخص في كتابة العلم"، ملأه آثارا وأحاديث في الموضوع، أردف به بابا بعنوان: "باب من لم ير كتابة الحديث". فكأنه يثبت به نسخ الحكم الأول أو تأويله، بل هو نفسه يدل على شيوع الكتابة في الصدر الأول. فليراجع. تدوين التابعين وتابعيهم: وممن دون كذلك بعد تلك الطبقة: الحارث بن كلدة، وصبيغ التميمي، والحسن البصري، وزائدة بن قدامة الثقفي ابو الصلت الكوفي، وحجر بن عدي، وسليم بن قيس الهلالي، وعلي بن أبي رافع، وعبيدة بن قيس السلماني، وعروة بن الزبير، وكعب الأحبار، وابن شهاب الزهري، وخالد بن يزيد بن معاوية، وأبو خلف الأزدي، والضحاك بن مزاحم، وعوانة بن حكيم الأزدي، وعكرمة مولى بن عباس، وأبو قلابة، وقتادة بن دعامة السدوسي، وأبو الأسود الدؤلي، ووهب بن منبه، وزيد بن أسلم مولى ابن عمر. قال الحافظ عبد الحي الكتاني: "فظهر لك بما سطر وقدر: أن التدوين والجمع إنما وقع في زمن عمر بن عبد العزيز وبأمره في الأحكام والحلال والحرام، تدوينا مرتبا على الكتب والأبواب والمسائل، لا التدوين المفرد في الأبواب، ولا في التاريخ والأخبار والحكمة والطب، التي علمتَ مما سبق أن جمعا ألفوا فيها فيما قبل". -يتبع- الحلقة الثانية هنا ------------------------------------------------------------------- (16) "قوت القلوب" (1/ 159). (17) "التمدن الإسلامي" (3/ 50). (18) "التمدن الإسلامي" (3/ 205). (19) "ابتداء التدوين" ص2. (20) ص35. (21) (2/ 371). (22) طبقات ابن سعد، ج5، ص179- 180.
__________________
|
|
#4
|
||||
|
||||
|
حتمية السنة النبوية وضمان استمرارها 4/6 الدكتور الشريف محمد حمزة الكتاني الفصل الخامس عدالة الصحابة الكرام الصحابة هم تلاميذ النبي صلى الله عليه وسلم الذين رأوه، وجالسوه، ونقلوا علومه ومعارفه، ونصروه، ونصروا دينه، وثبتوا معه في المعامع، ثم بعد وفاته صلى الله عليه وسلم حفظوا شريعته، ونقلوها إلينا، وهم الواسطة فيما بيننا وبين الوحي الكريم، سواء القرآن العظيم، أو السنة النبوية، فالطعن فيهم طعن في الوحي الكريم، والتشكيك في عدالتهم تشكيك في الله ورسوله، وعدالتهم وتثبتهم وأمانتهم واجبة وجوب حفظ الوحي. وقد عمل الطاعنون في السنة النبوية على توهين قدر الصحابة رضوان الله عليهم، سواء في التشكيك في مصداقيتهم، أو التقليل من عدالتهم، أو الدخول فيما شجر بينهم مما هو أمر طبيعي بين البشر، ومحاولة جعل ذلك مطية للطعن في مصداقيتهم، ورواياتهم، ومن ثمة الطعن في السنة النبوية الذي هو بريد مباشر للطعن في القرآن الكريم، ومن ثمة الدين الإسلامي ككل. ولا شك أن حفظ الدين من حفظ الصحابة، إذ لولا الواسطة لذهب الموسوط. ثناء القرآن الكريم على الصحابة الكرام: والقرآن الكريم أثنى عليهم في غيرما محل، وحكم بغفران ذنوب جميعهم، والرضا عنهم، وأنهم أنقى الناس قلوبا، وأصلحهم للصحبة، وأنهم من أهل الجنة؛ قال الله عز وجل: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً}. [الفتح: 18]. قال ابن حجر الهيتمي رحمه الله: "فهذه الآية ظاهرة الدلالة على تزكية الله لهم، تزكية لا يخبر بها ولا يقدر عليها إلا الله. وهي تزكية بواطنهم وما في قلوبهم، ومن هنا رضي عنهم، ومن رضي عنه تعالى لا يمكن موته على الكفر؛ لأن العبرة بالوفاة على الإسلام. فلا يقع الرضا منه تعالى إلا على من علم موته على الإسلام"(23). وقال تعالى: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ترااهم رُكعاً سُجدا يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مَثَلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سُوقه يُعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً}. [الفتح: 29] قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: "بلغني أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة - رضي الله عنهم - الذين فتحوا الشام، يقولون: والله لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا. وصدقوا في ذلك؛ فإن هذه الأمة معظمة في الكتب المتقدمة، وأعظهما وأفضلها: أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد نوه الله تبارك وتعالى بذكرهم في الكتب المنزلة والأخبار المتداولة؛ ولهذا قال سبحانه وتعالى هنا: {ذلك مثلهم في التوراة}. ثم قال: {ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه - أي فراخه – فآزره - أي: شده – فاستغلظ - أي: شب وطال - فاستوى على سوقه يعجب الزراع – أي: فكذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم آزروه وأيدوه ونصروه، فهو معهم كالشطء مع الزراع - ليغيظ بهم الكفار}"(24). وقال ابن الجوزي: "وهذا الوصف لجميع الصحابة عند الجمهور"(25). وقال عز من قائل: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم}. [التوبة: 100]. والدلالة في هذه الآية ظاهرة؛ قال ابن تيمية: "فرضي عن السابقين من غير اشتراط إحسان. ولم يرض عن التابعين إلا أن يتبعوهم بإحسان"(26). ومن اتباعهم بإحسان: الترضي عنهم والاستغفار لهم. وقال عز من قائل: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتوا وكلا وعد الله الحسنى}. [الحديد: 11]. والحسنى: الجنة. كما قال مجاهد وقتادة. واستدل ابن حزم من هذه الآية بالقطع بأن الصحابة جميعاً من أهل الجنة لقوله عز وجل: {وكلا وعد الله الحسنى}(27). وقال تعالى جده: {لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم}. [التوبة: 117]. وقد حضر غزوة تبوك جميع من كان موجوداً من الصحابة، إلا من عذر الله من النساء والعجزة. أما الثلاثة الذين خُلفوا فقد نزلت توبتهم بعد ذلك. وقال الله تعالى في سورة الحشر: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ? أُولَ?ئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ. وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى? أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ? وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَ?ئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}. [8-10]. قال القرطبي في تفسيرها إثرها: "هَذِهِ الْآيَة دَلِيل عَلَى وُجُوب مَحَبَّة الصَّحَابَة؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ لِمَنْ بَعْدهمْ حَظًّا فِي الْفَيء مَا أَقَامُوا عَلَى مَحَبَّتهمْ وَمُوَالَاتهمْ وَالِاسْتِغْفَار لَهُمْ، وَأَنَّ مَنْ سَبَّهُمْ أَوْ وَاحِدًا مِنْهُمْ أَوْ اِعْتَقَدَ فِيهِ شَرًّا أنَّهُ لَا حَقّ لَهُ فِي الْفَيء؛ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِك وَغَيْره. قَالَ مَالِك: مَنْ كَانَ يُبْغِض أَحَدًا مِنْ أَصْحَاب مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، أَوْ كَانَ فِي قَلْبه عَلَيْهِمْ غِلّ؛ فَلَيْسَ لَهُ حَقّ فِي فَيء الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدهمْ}...الْآيَة". ثناء السنة النبوية على الصحابة الكرام: وكذا السنة النبوية أوصت بحقوقهم، ونهت عن الطعن فيهم: فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعا: "لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مُد أحدهم ولا نصيفه"(28). قال ابن تيمية في "الصارم المسلول": "وكذلك قال الإمام أحمد وغيره: كل من صحب النبي ? سنة أو شهراً أو يوماً أو رآه مؤمناً به، فهو من أصحابه، له من الصحبة بقدر ذلك. فإن قيل: فلِمَ نَهى خالداً عن أن يسب أصحابه إذا كان من أصحابه أيضاً؟، وقال: لو أن أحدكم انفق مثل اُحُد ذهباً ما بلغ مُد أحدهم ولا نصيفه؟". "قلنا: لأن عبد الرحمن بن عوف ونظراءه من السابقين الأولين الذين صحبوه في وقت كان خالد وأمثاله يعادونه فيه، وأنفقوا أموالهم قبل الفتح وقاتلوا، وهم أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد الفتح وقاتلوا، وكلا وعد الله الحسنى. فقد انفردوا من الصحبة بما لم يشركهم فيه خالد ونظراؤه، ممن أسلم بعد الفتح الذي هو صلح الحديبية وقاتل. فنهى أن يسب أولئك الذين صحبوه قبله. ومن لم يصحبه قط نسبته إلى من صحبه، كنسبة خالد إلى السابقين وأبعد"(29). وقال صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: "وما يدريك، لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"(30). وعن عمران بن الحصين رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم". قال عمران: "فلا أدري؛ أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثا"(31). عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "النجوم أمَنةٌ للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى أهل السماء ما يوعدون، وأنا أمَنَةٌ لأصحابي، فإذا ذهبت أنا أتى أصحابي ما يُوعَدُون، وأصحابي أمَنَةٌ لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يُوعَدُون"(32). وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أكرموا أصحابي؛ فإنهم خياركم"(33). وفي رواية أخرى: "احفظوني في أصحابي"(34). وعن واثلة يرفعه: "لا تزالون بخير ما دام فيكم من رآني وصحبني، والله لا تزالون بخير ما دام فيكم من رأى من رآني وصاحبني"(35). وعن عبد الله بن مغفل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضا، من أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه"(36). تحذير سلف الأمة من الوقيعة في الصحابة الكرام: ومازال سلف الأمة يحذرون من الوقيعة في الصحابة الكرام، حتى قال حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "إن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه خص نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بصحابة آثروه على الأنفس والأموال، وبذلوا النفوس دونه في كل حال، ووصفهم الله في كتابه فقال: {رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ ?للَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَـ?هُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ ?لسُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِى ?لتَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِى ?لإنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَ?سْتَغْلَظَ فَ?سْتَوَى? عَلَى? سُوقِهِ يُعْجِبُ ?لزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ?لْكُفَّارَ وَعَدَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}، قاموا بمعالم الدين وناصحوا الاجتهاد للمسلمين، حتى تهذبت طرقه وقويت أسبابه، وظهرت آلاء الله واستقر دينه، ووضحت أعلامه، وأذل بهم الشرك وأزال رؤوسه ومحا دعائمه، وصارت كلمة الله العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، فصلوات الله ورحمته وبركاته على تلك النفوس الزكية والأرواح الطاهرة العالية، فقد كانوا في الحياة لله أولياء، وكانوا بعد الموت أحياء، وكانوا لعباد الله نصحاء، رحلوا إلى الآخرة قبل أن يصلوا إليها، وخرجوا من الدنيا وهم بعد فيها"(37). وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "من كان مستناً فليستن بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا خير هذه الأمة، أبرها قلوباً وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونقل دينه، فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم، فهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا على الهدى المستقيم"(38). وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئاً فهو عند الله سيئ"(39). وقال الإمام الشوكاني رحمه الله تعالى: "قد ثبت إجماع الأئمة من أهل البيت على تحريم سبِّ الصحابة و تحريم التكفير و التفسيق لأحد منهم". ثم ذكر النقول عنهم من اثنتي عشر طريقًا(40). وقد نقل القاضي عياض رحمه الله تعالى عن أيوب السختياني، أحد كبار التابعين من مشايخ الإمام مالك أنه قال: "و من انتقص أحدًا منهم – الصحابة – فهو مبتدع مخالف للسنة والسلف الصالح وأخاف ألاَّ يصعد له عمل إلى السماء حتى يحبهم جميعًا، و يكون قلبه سليمًا". ثم نقل عن سهل بن عبد الله التستري أنه قال: "لم يومن بالرسول صلى الله عليه وسلم من لم يوقر أصحابه و لم يعز أوامره"(41). ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "قد علم بالكتاب والسنة والنقل المتواتر محاسن الصحابة وفضائلهم، وما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع السلف من المنقولات المتواترة عن أدلة العقل من أن الصحابة – رضي الله عنهم – أفضل الخلق بعد الأنبياء". وقد جمع العلماء في فضائلهم كتبا كثيرة، من أوعبها: "فضائل الصحابة" للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله في مجلدين. حرص الصحابة الكرام على المحافظة على السنة: وقد عرف عن الصحابة – رضي الله عن جميعهم – شدة حرصهم على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، بجمعه، وروايته، والتثبت فيه، حتى كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يقبل رواية الحديث إلا بشاهد: ففي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن أبا موسى الأشعري سلم على عمر من وراء الباب ثلاثا، فلم يؤذن له، فرجع. فأرسل عمر في أثره، فقال: "لم رجعت؟". قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سلم أحدكم ثلاثا فلم يجَب؛ فليرجع". قال: "لتاتينّي على ذلك ببينة أو لأفعلن بك!". فجاءنا أبو موسى ممتقعا لونه ونحن جلوس، فقلنا: "ما شأنك؟". فأخبرنا وقال: "فهل سمع أحد منكم؟". فقلنا: "نعم؛ كلنا سمعه". فأرسلوا معه رجلا منهم فأخبره. وتضافرت الآثار أن بعض الصحابة كان يسافر الشهر وربما أكثر لمعرفة حديث من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم؛ أخرج الحافظان أحمد في "المسند" والطبراني عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: "بلغني حديث عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أسمعه منه، فابتعت بعيرا، فشددت عليه رحلي، ثم سرنا إليه شهرا حتى قدمت الشام، فإذا هو عبد الله بن أنيس الأنصاري. فأتيته، فقلت: حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في المظالم، لم أسمعه، فخشيت أن أموت أو تموت قبل أن أسمعه. فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يحشر الناس عراة غُرْلا بُهْما، قلنا: وما لهم؟، قال: ليس معهم شيء، فيناديهم نداء يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك، أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار، ولا أحدٌ من أهل الجنة عنده مظلمة حتى أقصه منه، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولا أحدٌ من أهل النار يطلبه بمظلمة حتى أقصه منه، حتى اللطمة. قلنا: كيف وإنما نأتي الله عراة غرلا بهما؟. قال: الحسنات بالحسنات والسيئات". وأخرج البيهقي عن عطاء بن أبي رباح قال: "خرج أبو أيوب إلى عقبة بن علي رضي الله عنهما فسأله عن حديث سمعه منه غيره، فلما قدم أتى منزل مسلمة بن مخلد الأنصاري رضي الله عنه، وهو أمير مصر، فخرج إليه، فعانقه، ثم قال له: ما جاء بك يا أبا أيوب؟. قال: حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ستر المؤمن. فقال: نعم؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من ستر مؤمنا في الدنيا على كربته، ستره الله يوم القيامة. ثم انصرف أبو أيوب إلى راحلته، فركبها راجعا إلى المدينة، فما أدركته جائزة مسلمة إلا بعريش مصر". وسبق الحديث أن جمعا من الصحابة كانوا يدونون الأحاديث التي سمعوها، ويحفظونها في صندوق أو تابوت يرجعون إليها عند الحاجة، ومن هنا يُحل الإشكال الذي يضعه الكثير من المرجفين حول سعة حفظ الصحابة رضوان الله عليهم وكثرة حفظهم. وقد بلغ من حرص الصحابة وتثبتهم في الرواية ما تواترت به الأخبار وتضافرت، من محاسبة بعضهم بعضا، وواعتضاد بعضهم ببعض، وخوفهم من أن تزيد الرواية كلمة أو معنى لم يفه به النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أوضح من حديث: "من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار". الذي رواه من الصحابة أزيد من مائة حسبما في مقدمة "نظم المتناثر من الحديث المتواتر" لجد جدنا شيخ الإسلام محمد بن جعفر الكتاني رحمه الله تعالى. لا يكاد ينفرد صحابي ممن نوزعوا بحديث: بل لا يكاد واحد من الصحابة يروي حديثا إلا وقد شورك في لفظه أو معناه، ومن هنا يُرد على الطاعنين في مرويات حافظ الصحابة أبي هريرة، ومعاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص رضي الله عنهم، وغيرهم ممن ثبتت له الصحبة، فلم يكادوا يروون حديثا إلا وقد شاركهم فيه غيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم. قال شقيقنا وشيخنا العلامة الحسن بن علي الكتاني - فك الله أسره - في ديباجة كتابه "الرد على الطاعن في أبي هريرة": "و ليعلم القراء الكرام أن الكلام عن أبي هريرة رضي الله عنه إنما هو خداع السـذَّج من النَّـاس، إذ إنه ما من حديث رواه رضي الله عنه إلاَّ و قد شاركه فيه جماعة آخرون من الصحابة، و لا يكاد ينفرد إلاَّ بأشياء معدودة هي نقطة في بحر ما روي، و قد بين ذلك العلامة الشيخ عبد المنعم صالح العزى في كتابه الفريد: "أقباس من مناقب أبي هريرة" بما لا مزيد عليه". قلت: وقد حصر بعضهم تلك الروايات في الكتب التسعة إلى ثمانية أحاديث فقط، وهي: 1- "بينما رجل راكب بقرة"...إلى آخر الحديث، سنن الترمذي، المناقب حديث رقم 3610. 2- قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يومئذ تحّدث أخبارها"، سنن الترمذي صفة القيامة حديث رقم 2353. 3- "أتدرون من المفلس". صحيح مسلم، البر والصلة، حديث رقم 4678. 4- "أول من يُدعى يوم القيامة..". مسند أحمد، باقي مسند المكثرين حديث رقم 8558. 5- "أظلكم شهركم...". مسند أحمد، باقي مسند المكثرين حديث رقم 10365. 6- "أعذر الله إلى امرئ..". صحيح البخاري، الرقاق، حديث رقم 5940. 7- " أقرب ما يكون العبد..". صحيح مسلم، الصلاة، حديث رقم 744. 8- " بينا أيوب يغتسل..". صحيح البخاري، الغسل، حديث رقم 270. قلت: ولا شك أن المتتبع لو بحث عن تلك الروايات، فسيجد لها متابعا أو أكثر من الصحابة رضوان الله عليهم. أما مروان بن الحكم؛ فقد قال عم والدنا الإمام محمد الناصر الكتاني: "لا تبلغ الأحاديث المروية عنه عشرة أحاديث، رواها غيره من الثقات"(42). أما مرويات معاوية بن أبي سفيان؛ فهي في الكتب الستة بضع وثلاثون حديثا في الأحكام، جميعها مما لا شذوذ فيه، وجلها شاركه فيها غيره من الصحابة. ولم يورد معاوية شيئا قط في ذم علي – رضي الله عنه – ولا في استحلال حربه، ولا في فضائل عثمان، ولا في ذم القائمين عليه، ولم ينفرد برواية ما يخالف الإسلام أو يهدم القواعد، بل هي موافقة لمذهب الشيعة والفقهاء، وليس فيها ما لم يذهب إليه جماهير العلماء، إلا قتل شارب الخمر في المرة الرابعة(43). حسبما للإمامين ابن الوزير اليماني، ومحمد الناصر الكتاني. وأما حديث المغيرة بن شعبة؛ فله مما يتعلق بالحرام والحلال أربعة وعشرون حديثا أو أقل، اتفق البخاري ومسلم على تسعة منها، وانفرد البخاري بتسعة، ومسلم بحديثين، والثلاثة البواقي لم تصح، وما صح عنه شاركه غيره من الصحابة في جميعه(44). أما عمرو بن العاص؛ فله في الأحكام عشرة أحاديث، كلها متابع عليها من غيره من الصحابة ولها شواهد(45). وقد استعرض تلك الروايات وناقشها: الإمام الشريف ابن الوزير اليماني في موسوعته: "العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم" (2/ 113-129)، والإمام الشريف محمد الناصر لدين الله الكتاني في كتابه: "قيد الأوابد في مختلف العلوم والفوائد" (ص275- 289)، بما يرجع إليهما. فتبين مما سطرناه أعلاه بطلان الطاعن في السنة بطعنه في الصحابة رضوان الله عليهم، وادعائه أن ما قدره الله من الفتن في زمنهم كان سببا لدخول الوضع في الحديث، وذلك بأمور: - تزكية الله تعالى لجميعهم في القرآن الكريم. - تزكية السنة النبوية لهم. - تزكية سلف الأمة من عدولها الذين بني عليهم الإسلام. - ما تواتر من شدة تثبتهم في الحديث وابتغائهم فيه العدالة والضبط والصحة. - ضبطهم وتدوينهم السنة في حياتهم. - ندرة انفراد أحدهم برواية الحديث، وأن من استلذ المخالفون الطعن فيهم لدخولهم في السياسة، أو لإكثارهم، إنما شوركوا فيما رووه من غيرهم، فحيث بطل التفرد بطلت الدعوى...والله الموفق. الحلقة الثالثة هنا -يتبع- ------------------------------------------------------------------- (23) "الصواعق المحرقة" ص 316. (24) "الاستيعاب" لابن عبد البر 1/6 ط. دار الكتاب العربي بحاشية الإصابة، عن ابن القاسم. وتفسير ابن كثير: 4/204 ط. دار المعرفة - بيروت. (25) "زاد المسير" 4/204. (26) "الصارم المسلول" 572. (27) "الفصل" 4/148، 149. (28) رواه البخاري (رقم 3673)، ومسلم (2541). (29) "الصارم المسلول" ص576. (30) "صحيح البخاري - فتح الباري" حديث 3983. و"صحيح مسلم" حديث 2494 - عبد الباقي. (31) "صحيح البخاري" حديث 3650. وصحيح مسلم حديث 2535. وهذا سياق البخاري مختصرا. (32) "صحيح مسلم" حديث 2531. والأمنة هي: الأمان. (33) رواه الإمام أحمد، والنسائي، والحاكم بسند صحيح. انظر "مشكاة المصابيح" 3/1695. ومسند الإمام أحمد بتحقيق أحمد شاكر1/112. (34) رواه ابن ماجه 2/64. وأحمد 1/81. والحاكم 1/114. وقال: "صحيح" ووافقه الذهبي، وقال البوصيري: "إسناد رجاله ثقات" - زوائد ابن ماجه 3/53 وانظر بقية كلامه. (35) رواه ابن أبي شيبة 12/178، وابن أبي عاصم 2/630. في "السنة"، ورواه الطبراني في "الكبير" 22/85. وعنه أبو النعيم في "معرفة الصحابة" 1/133، وقد حسنه الحافظ في "الفتح" 7/5، وقال الهيثمي في "الجمع" 10/20: "رواه الطبراني من طرق رجال أحدها رجال الصحيح". (36) رواه الإمام أحمد في "المسند (4/ 87)، والترمذي في سننه (رقم 3862)، وعبد الله بن أحمد في "زوائد فضائل الصحابة" (رقم4)، وابن حبان في صحيحه (رقم 7256). (37) "مروج الذهب ومعادن الجوهر" (3/75) للمسعودي. (38) "حلية الأولياء" (1/305-306). (39) "حلية الأولياء" (1/305-306). (40) "إرشاد الغبي إلى مذهب أهل البيت في صحب النبي". ( ص.51). (41) "الشفا في حقوق المصطفى". (2/ 39)، وكلام أيوب رواه ابن أبي زمنين في "أصول السنة" ( 189) واللآلكائي (2333) بأتم من هذا. (42) "قيد الأوابد في مختلف العلوم والفوائد" تأليف محمد الناصر الكتاني، تصحيح: الدكتور أسامة محمد الناصر الكتاني. طبعة دار الكتب العلمية. (43) "قيد الأوابد" ص277. (44) "قيد الأوابد" ص281. (45) "قيد الأوابد" ص283.
__________________
|
|
#5
|
||||
|
||||
|
حتمية السنة النبوية وضمان استمرارها 5/6 الدكتور الشريف محمد حمزة الكتاني الفصل السادس علوم الحديث وتميزها اعتنى المسلمون، وخصوصا منهم علماء الحديث، بضبط الحديث الشريف، فقسموه إلى علم رواية وعلم دراية. وبحثوا فيمن أوصله إلينا، بدءا من الصحابة الكرام، إلى الكتب المتداولة المشهورة، فنظروا في حال كل راو راو من حيث ولادته، ووفاته، وطلبه العلم، ورحلته، وضبطه، وعدالته، وإتقانه، وشيوخه، والآخذون عنه، ثم عمدوا إلى رواياته ودرسوها فقها، وموافقة لغيرهم من الرواة. ودرسوا علاقة كل راو بمن بعده ومن قبله، من حيث إثبات اللقيا أو عدمها، وكيفية اللقيا، ونوع الرواية هل بقول: حدثنا، وأخبرنا، وقرأت، وقريء بمحضره وأنا أسمع...أو بالعنعنة: عن فلان عن فلان، أو بالأنأنة: أن فلانا قال: إن فلانا قال...إلخ، وبمن شاركه في تلك الرواية، وبمن خالفه فيها لفظا أو معنى. فمن جُهل حاله أو عينه؛ رُد حديثه، ومن خالف الثقات والجمهور اعتبر حديثه شاذا، ومن كثر شذوذه رُد حديثه، ومن أغرب في رواياته اتهم بها، واختل ضبطه أو علمه أو عدالته؛ رد حديثه أيضا. وقسموا ذلك إلى علوم وأبواب؛ كعلم الرجال والطبقات، والوضاعين، والثقات، وعلم العلل، والجرح والتعديل، والمنفردات والوحدان، والتدليس والمدلسين...إلخ، وأفردوا في ذلك مصنفات كثيرة. وقسموا الأحاديث بناء على تلك الدراسة إلى: صحيح وضعيف، والصحيح: ما اتصل إسناده إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وسلم من الشذوذ والعلة. شذوذ رواية وشذوذ لفظ، وعلة رواية وعلة متن. وأعلاه المتواتر: وهو ما روته الطائفة التي يستحيل اتفاقها على الخطأ عن مثلها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأدناه: الحسن، الذي هو أدون من الصحيح. والضعيف: أقل منه الواه، ثم الموضوع، الثابت كذبه عن النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله. ثم ذهبوا إلى متون الأحاديث، فتتبعوا ألفاظها، وميزوا بين كلام النبي صلى الله عليه وسلم وإدراج الراوي، أو خطئه، أو خلطه، حتى روي عن بعض الأئمة أنه قال: "لا نعرف فقه الحديث حتى نراه من عشرين وجها". فقد يصححون الحديث ويردون بعض ألفاظه، وقد يضعفون سند حديث ويصححون معناه لموافقته للصحيح، أو لغيره من القرائن. فلا يسلم من الطعن، ويوضع في خانة الصحة إلا الحديث السالم سنده من العيوب، ومتنه من الخطأ، بل قد يردون الحديث ولا شائبة في إسناده، إذا خالف ما فيه القرآن الكريم، أو الثابت من السنة والسيرة؛ كفعلهم مع حديث البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه في الإسراء، وفيه شق صدره صلى الله عليه وسلم، وأعلوه بأن شق الصدر إنما كان وهو رضيع..رده الحافظ ابن حزم وفيه مراجعات. ومنه: حديث مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما: "كان الناس لا ينظرون إلى أبي سفيان ولا يقاعدونه، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: ثلاث أعطنيهن. قال: نعم. قال: عندي أحسن العرب وأجمله: أم حبيبة بنت أبي سفيان أزوجكها. وسأله أن يستكتب ابنه معاوية وأن يستعمله". يعني: نفسه، ويوليه. رُد بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما تزوج أم حبيبة رضي الله عنها وهي بأرض الحبشة مهاجرة، وأبو سفيان حينها بمكة لما يُسلم. والضعيف ليس مكذوبا على النبي صلى الله عليه وسلم، بل له حظ من الصحة، إلا أنه لا يُحتج به إلا بشروط، اتقاء ورود الدخيل على حديث النبي صلى الله عليه وسلم. وصنفوا في تراجم الرجال وأحوالهم موسوعات ضخمة حوت مئات الآلاف من التراجم، حفظوا فيها شهادات العلماء حول الرواة، واعتمدوا الطعن المبرر، مع النظر إلى مبرره، ورفضوا الطعن غير المبرر، وغير المستند إلى حجة علمية. ومن تتبع تاريخ جمع الحديث الكريم وتدوينه، واعتناء الرعيل الأول من أهل الإسلام بذلك، وحفظه وتصنيفه، والجهود الضخمة التي بذلت من أجل معرفة نقلة الآثار ورواتها وأحوالهم وطريقة تحملهم، والجمع بين الروايات ومقارنتها؛ علم حق اليقين صدقية السنة النبوية ووثوقها. انفراد أمة الإسلام بالإسناد: ونظرا لانفراد أمتنا بين الأمم بالإسناد؛ وقيل في قوله تعالى: {أو أثارة من علم}. [الأحقاف/ 4]: "إنه إسناد علم الحديث"، وقال عبد الله بن المبارك: "مثل الذي يطلب أمر دينه بلا إسناد؛ كمن يرتقي إلى السطح بلا سلم!"، وقال أيضا: "طلب الإسناد من الدين"، وقال: "لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء". وقال الثوري: "الإسناد سلاح المؤمن، فإذا لم يكن معه سلاح؛ فبأي شيء يقاتل؟!". وكان عبد الله بن طاهر يقول: "رواية الحديث بلا إسناد من عمل الزمْنى"، وعن بقية قال: "ذاكرت حمّاد بن زيد بأحاديث فقال: ما أجودها لو كان لها أجنحة!. يعني: إسنادا". وقال الشافعي: "مثل الذي يطلب الحديث بلا إسناد؛ كمثل حاطب ليل: يحمل الحطب وفيه أفعى وهو لا يدري!". ومن كلامهم: "من لم يكن له أستاذ يصله بسلسلة الأتباع، ويكشف عن قلبه القناع؛ فهو في هذا الشان لقيط لا أب له، دعي لا نسب له". وقيل: "الأسانيد أنساب الكتب"، ونقْلُ الإنسان ما ليس له فيه سند ولا رواية؛ ممنوع بإجماع أهل الدراية، واتفق العلماء على أنه: لا يجوز لمسلم أن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. حتى يثبت عنده أن ذلك القول مروي عنه عليه السلام، ولو على أقل وجوه الروايات العظام. ونصوا على أن: معرفة السند من فروض الكفاية؛ إذ لا يُعرف الموضوع من غيره إلا به عند أرباب العناية(46). فقد تكفل الله تعالى بحفظ سنة نبيه كما تكفل بحفظ القرآن الكريم، فسخر من علماء الإسلام من خدموا علم الحديث خدمة لم يعرفها توثيق في التاريخ، فضبطوا الآثار، وقيدوا الأسانيد، وعرفوا الرجال طبقة بعد طبقة، وكيفية أخذ بعضهم من بعض، ودرسوا روايات كل شخص من الرواة، حتى تكونت منظومة عظيمة تمثلت في علم الحديث والمصطلح وفروعهما، وهو الأمر الذي تعجب له المستشرقون قبل المسلمين، حتى قال العالم الألماني أشبره نكر: "إن الدنيا لم تر ولن ترى أمة مثل المسلمين فقد درس بفضل علم الرجال الذى أوجدوه حياة نصف مليون رجل"(47). وقال المستشرق المحقق مرجليوث: "ليفتخر المسلمون ما شاؤوا بعلم حديثهم"(48). علوم الحديث تعد أهم مرجع للتوثيق الحديث: وقال الأستاذ محمد بهاء الدين في رسالته العلمية "المستشرقون والحديث النبوي"(49): "فالطريقة التي سلكها العلماء في التثبت من صحة الحديث سندا ومتنا، وما ابتدعوا لأجل ذلك من علوم كعلم أصول الحديث وعلم الجرح والتعديل، وغيرهما من العلوم؛ طريقة أشاد بها كثير من الغربيين في تحقيق الراوية أمثال: باسورث سميث عضو كلية التثليث في أكسفورد، وكارليل، وبرنارد شو، والدكتور: سبرنكر كان. فقد أعلن هؤلاء إعجابهم بالطريقة التي تم بها جمع الأحاديث النبوية، وبالعلم الخاص بذلك عند علماء المسلمين، وهو الجرح والتعديل". بل استفاد المستشرقون وتلامذتهم من علم مصطلح الحديث في استحداث علم جديد هو: "علم مصطلح التاريخ". وأول من كتب في هذا الفن هو: البحاثة النصراني أسد رستم أستاذ التاريخ في الجامعة الأمريكية في بيروت، والذي كان يحضر دروس الشيخ طاهر الجزائري في فن مصطلح الحديث، ثم خرج بذلك الفن الذي هو مستفاد ومشتق من علم مصطلح الحديث، واعترف في كتابه "أصول الرواية التاريخية" بأن قواعد مصطلح الحديث هي أصح طريقة علمية حديثة لتصحيح الأخبار والروايات(50). وبذلك صنع علماء الحديث والجرح والتعديل شبكة في منتهى المناعة تحمي الحديث النبوي من الدخيل، ومن التلاعب، ومن الخطأ، وهو الأمر الذي يرد جميع الشبهات الطاعنة في الحديث النبوي من حيث نقله ووصوله إلينا، ومن حيث دخول الشوائب والمدرجات على متنه ومعانيه. الفصل السابع السنة أحد طرفي الوحي وحيث قد قرر القرآن – كلام الله تعالى – بأن النبي صلى الله عليه وآله إنما هو وحي يوحى، فقال تعالى: {والنجم إذا هوى. ما ضل صاحبكم وما غوى. وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى}. [النجم/ 1-4]، ووعد الله تعالى بحفظ وحيه، فقال جل شأنه: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}. [الحجر/ 9]، وقال سبحانه: {بل هو قرآن مجيد. في لوح محفوظ}. [البروج/ 22]. وقد روى الدارمي في سننه، والمروزي في "السنة"، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" بإسناد صحيح عن حسان بن عطية قال: "كان جبريل ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل القرآن عليه، يعلمه إياها كما يعلمه القرآن"(51). قلت: ومثل هذا لا يقال رأيًا، فله حكم المرفوع. وقد مرت فيما سبق آيات عدة، ونقول عن الأعلام لا تدع مجالا للشك في أن السنة طرف من الوحي، وفي الحديث الشريف: ما رواه أبو داود في سننه عن المقداد بن معديكرب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله قال: "ألا إنني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان متكيء على أريكته يقول: عليكم بالقرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه". فهو تصريح بذلك أيضا. لذلك فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم - ممثلا في كلامه وصفته وهديه - محفوظ، تكفل الله تعالى بإيصاله إلينا استمرارا لدينه وشريعته التي هي خاتمة الأديان وناسخة الشرائع، وإنكار السنة إنكار للنبوة، وإنكار للوحي، وبذلك كفر بالنبي وبرسالته صلى الله عليه وآله وسلم، وكفر بلا إله إلا الله محمد رسول الله. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه أبو هريرة وغيره: "إني قد خلفت فيكم ما لن تضلوا بعدهما أبدا ما أخذتم بهما: كتاب الله وسنتي، فلن يتفرقا حتى يردا علي الحوض"(52). فأثبت ارتباطهما، وأنهما لن يتفرقا، والقرآن محفوظ، فثبت بهذا أن السنة – أيضا – محفوظة. ثم إن الاتفاق على أن القرآن والسنة مخاطب بهما سائر الأمة من زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبعده، ولولا استمرار السنة وحفظها إلى آخر الدهر لما أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم بها. بل ورد في المتواتر: "إني تارك فيكم ما إن تمسكنم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما"(53). قال العلماء رضي الله عنهم: ذكر كتاب الله تعالى ولم يذكر السنة؛ لأن سنته صلى الله عليه وسلم من كتاب الله تعالى، فالمقصود: الوحي، وهي منه. والحاصل؛ إن السنة وحيٌ كما أن القرآن وحي، وحيث تكفل الله تعالى بحفظ وحيه؛ فقد تكفل بحفظ سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وهو الضامن الأكبر لوصولها واستمرارها إلينا، ومن أعظم الأدلة على ثبوتها وصيانتها. -يتيع- الحلقة السابقة هنا -------------------------------------------------- (46) "الإجازة الشنقيطية في الكتب الستة وغيرها" تأليف: الإمام محمد بن جعفر الكتاني. (47) "موقف العقل والعلم والعالم ج4ص59 لشيخ الإسلام مصطفى صبري رحمه الله. (48) "المقالات العلمية" ص234، 253. بإحالة العلامة عبد الرحمن المعلمي رحمه الله في مقدمة تقدمة كتاب "الجرح والتعديل". (49) "المستشرقون والحديث النبوي" ص30. (50) "السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي" ص107. (51) رواه الدارمي برقم (588)، والمروزي في "السنة" رقم (28، 116)، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" رقم (99)، وصححه الحافظ ابن حجر كما في "فتح الباري" (13/ 291). (52) رواه الحاكم في: "المستدرك على الصحيحين" (1/ 93)، والبيهقي في "الشعب" (10/ 114)، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" (رقم 90) واللفظ له. (53) رواه بهذا اللفظ الإمام أحمد في مسنده (10720) عن أبي سعيد الخدري، والترمذي في سننه (3788)، عن أبي سعيد الخدري وزيد بن أرقم رضي الله عنهما، وقال عقبه: "هذا حديث حسن غريب، إنما نعرفه من هذا الوجه". والطبراني في "الصغير" (1/ 135) عن أبي سعيد أيضا، وهو متواتر ينظر تخريجه في تخريجنا لأحاديث "الأربعين الكتانية في فضائل آل بيت خير البرية". المطبوع بدار الكتب العلمية.
__________________
|
|
#6
|
||||
|
||||
|
حتمية السنة النبوية وضمان استمرارها 6-6 الإسلامية الدكتور حمزة الكتاني الفصل الثامن. لا إسلام من غير السنة النبوية حيث تقرر ثبوت السنة النبوية، عقلا، وشرعا، وواقعًا، وأنها جزء من الوحي، فليُعلم أن موضوع السنة النبوية هو: - تأييد حكم قرآني. - أو تبيين مجمل في القرآن. - أو توضيح مشكل. - أو تقييد مطلق. - أو تخصيص عام. - أو نسخ حكم. - أو إضافة حكم لم يكن واردا. فهو صلى الله عليه وسلم مبين عن الله تعالى، ومشرع بإذن الله تعالى، وقد قال تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة}. [النور/ 63]. والفتنة: الشرك، كما فسرها به ابن عباس رضي الله عنهما، وتقتضي جميع ما يشتق عن معنى الفتنة. فالكتاب مجْمَل، والسنة مفصلة له، وهي واردة في بيان ما أجمل ذكره من الأحكام، إما بحسب كيفيات العمل أو أسبابه أو شروطه، أو موانعه أو لواحقه، أو ما أشبه ذلك، فبيانها للصلوات على اختلاف مواقيتها، وركوعها وسجودها، وسائر أحكامها، وبيانها للزكاة في مقاديرها وأوقاتها، ونصب الأموال المزكاة، وبيان أحكام الصوم مما لا نص عليه في القرآن، وكذلك أحكام الحج والذبائح، والأنكحة وما يتعلق بها، والبيوع وأحكامها، والجنايات من القصاص وغيره، والأحكام السلطانية، والعلاقات الخارجية والداخلية للدولة الإسلامية، وغير ذلك مما وقع مجملا في القرآن الكريم، وهو الذي يظهر دخوله تحت قوله تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما أنزل إليهم}. [النحل/ 44](54). ولذلك روي عن عمران بن حصين أنه قال لرجل منكر للسنة: "إنك امرؤ أحمق، أتجد في كتاب الله الظهر أربعا، لا يجهر فيها بالقراءة؟..ثم عدد عليه الصلاة والزكاة ونحو هذا، ثم قال: أتجد هذا في كتاب الله مفسَّرا؟، إن كتاب الله أبهم هذا وإن السنة تفسر ذلك"(55). وقيل لمطرف بن عبد الله الشخير: "لا تحدثونا إلا بالقرآن". فقال له مطرف: "والله ما نريد بالقرآن بدلا، ولكن نريد من هو أعلم بالقرآن منا"(56). ومن هنا قال الإمام الأوزاعي: "الكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى الكتاب". قال الحافظ ابن عبد البر: "يريد أنها تقضي عليه وتبين المراد منه"(57). فتبين أن إقصاء السنة إقصاء للقرآن في معناه أولا، وإقصاء لجل الشريعة التي أنيط بالحديث تبيينها وتوضيحها وتشريعها، فلا إسلام بلا سنة، وشريعة بلا نعهج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما أنه لا توحيد بغير: محمد رسول الله. وعن سعيد بن جبير رحمه الله أنه: حدث يوما بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رجل: "في كتاب الله ما يخالف هذا". قال: "ألا أراني أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعرض فيه بكتاب الله؟. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بكتاب الله منك!"(58). ولذلك قال سيدنا عمر الفاروق رضي الله عنه: "إنه سيأتي ناس يجادلونكم بشُبه القرآن، فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله"(59). الخاتمة في أهمية السنة النبوية في التشريع الإسلامي: مما مضى؛ تبرز أهمية السنة في التشريع الإسلامي، فأهميتها من أهمية صاحبها صلى الله عليه وآله وسلم، وحيث الإيمان به ملازم للإيمان بالله تعالى، فهي من حيث كونها هي لا تقل قيمة عن كتاب الله تعالى، والإيمان بها من جنس الإيمان بالله تعالى. ومن حيث مرتبتُها من الصحة، ونسبتها لمن صدرت عن شفتيه الشريفتين؛ فهي في المرتبة الثانية بعد كتاب الله تعالى، إذ القرآن الكريم إنما يشترط في جميع ألفاظه التواتر، بخلاف السنة النبوية المطهرة. ومع ذلك فالجمهور على أن القرآن ينسخ بالسنة، بمعنى تخصص أحكامه أو ترفع، كما أن الإجماع على أن أمر السنة إلزامي واجب الاتباع، والعقائد المضمنة إياها ملزمة، وإن تواترت كفر من لم يعتقدها. كما أن السنة النبوية المطهرة، خصصت بعض أحكام القرآن، وفصلت في البعض الآخر، وقيدت المطلق، وذكرت أحكاما استقلالا عن الكتاب الكريم لم تذكر صراحة فيه، بل جل الشريعة الإسلامية وما يتفرع عنها من أحكام وأخلاق وتوجيهات، وتشريعات وتقنينات إنما مأخوذة من السنة النبوية المطهرة. قال الدكتور عجاج الخطيب: "قد جاءت السنة في الجملة موافقة للقرآن الكريم، تفسر مبهمه، وتفصل مجمله، وتقيد مطلقه، وتخصص عامه، وتشرح أحكامه وأهدافه، كما جاءت بأحكام لم ينص عليها القرآن الكريم، فكانت في الواقع تطبيقا عمليا لما جاء به القرآن العظيم، تطبيقا يتخذ مظاهر مختلفة؛ فحينا يكون عملا صادرا عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وحينا يكون قولا يقوله في مناسبة، وحينا ثالثا يكون تصرفا أو قولا من أصحابه صلى الله عليه وسلم، فيرى العمل أو يسمع القول ثم يقر هذا وذاك، فلا يعترض عليه ولا ينكره، بل يسكت عنه أو يستحسنه فيكون هذا منه تقريرا"(60). ولذلك قال تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون}. [النحل/ 44]، وقال جل أمره: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم. صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور}. [الشورى/ 52، 53]. وقال سبحانه: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}. [آل عمران/ 31]، وقال تقدست أسماؤه: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر}. [النساء/ 59]. وقال عز مجده: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما}. [النساء/ 65]. وقال تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}. [الحشر/ 7]...إلى آخر الآيات الكثيرة في هذا المعنى. وفي الحديث الشريف: ما رواه أبو داود في سننه عن المقداد بن معديكرب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله قال: "ألا إنني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان متكيء على أريكته يقول: عليكم بالقرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه". وفي الحديث الصحيح عن العرباض بن سارية رضي الله عنه مرفوعا: "قد تركتكم على البيضاء ليلها ونهارها، لا يرجع بعدي إلا هالك، ومن يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ...". الحديث. وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "إني قد خلفت فيكم ما لن تضلوا بعدهما أبدا ما أخذتم بهما: كتاب الله وسنتي، فلن يتفرقا حتى يردا علي الحوض". ولذلك فإن إنكار السنة إنما هو إنكار لجل الدين الإسلامي، فعلاوة على أنه إنكار غير مبني على أسس علمية، ولا قواعد يقينية، بل جله توهم ورمي بالظن، علاوة على ذلك هو تبرؤ من الدين، وكفر بقواعده اليقينية وأسسه ومبانيه. فالسنة النبوية واجبة عقلا بثبوت الرسالة النبوية، وواجبة شرعا بنص القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وثابتة نقلا عن النبي صلى الله عليه وسلم بتدوينها منذ حياته عليه السلام، وتتابع تمحيصها جيلا وراء جيل إلى أن وصلتنا غضة طرية، لا تشوبها شائبة، ولا يعتورها إغفال. وشبهة عدم تدوين السنة في الصدر الأول؛ مردودة بإثبات ذلك، وتواتر الأخبار وتعاضدها على تدوين النبي صلى الله عليه وسلم في عصره، وتدوين الصحابة بعده، وتدوين التابعين وتابع التابعين. فكل ما يبنى على ذلك من دخول الإسرائيليات وغيرها في السنة مردود. وشبهة الطعن في الصحابة الكرام، إما بحجة إكثار بعضهم للرواية، أو تداخل بعضهم الآخر في السياسة وصراعاتها، وما يتفرع عن ذلك، مردودة بعدم انفرادهم فيما رووه، فلم يغربوا أولا، ولم يتفردوا ثانيا، ولم يحدثوا بما فيه نصرة لمذاهبهم وإن كان لا شيء في ذلك إن ثبتت روايته عن غيرهم. وشبهة تأثر الرواية بالدخلاء في الدين، والجهلاء، والعجم، وتراكم ذلك جيلا وراء جيل، مردودة بذكر تلك المنظومة الكبرى من العلوم العظيمة التي سنتها الأمة حماية للحديث متنا وسندا، منبعا ووضعا، بحيث بقيت مثالا لأرقى وسائل التوثيق العلمي في العصر الحديث. فلم يبق أمام العالم المنصف إلا التسليم بصحة السنة النبوية، وحتمية ثبوتها، وضمان استمرارها إذ هي وحي يوحى، رزقنا الله تعالى التسليم لنبيه، وحسن الاتباع ودوامه، وصلى الله وسلم على سيدنا ومولانا محمد النبي الأمي العربي الهادي المهدي وعلى آله وأصحابه أجمعين، والحمد لله رب العالمين. وكتبه الفقير إلى الله الغني محمد حمزة بن محمد علي ابن محمد المنتصر بالله الكتاني الحسني الرباط: 13 محرم الحرام 1429 الموافق: 13 سبتمبر عام 2008 الحلقة السابقة هنا -انتهى-
__________________
|
![]() |
| الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 0 والزوار 2) | |
|
|
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |