ذكرى الأمل وبشرى العامل - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         إماطة الأذى عن الطريق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          فأنساهم أنفسهم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          انتشار لافتات "ممنوع دخول المسلمين" في ولاية راجستان الهندية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          مسائل شاملة في العشر من ذي الحجة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          حديث الائتلاف علي القرآن بكل الروايات الصحيحة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          وَلَدي فتنة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          مِن أسباب العناية القرآنية باليوم الآخر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          خواطر في طريق الحج (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          الأونروا: 90% من سكان غزة أجبروا على الفرار من منازلهم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          لا تزال الفرصة متاحة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 16-02-2020, 04:07 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 152,014
الدولة : Egypt
افتراضي ذكرى الأمل وبشرى العامل

ذكرى الأمل وبشرى العامل



الشيخ عبدالله بن محمد البصري





أمَّا بعدُ، فأوصيكم - أيُّها الناس - ونفسي بتقوى الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة: 119].

أيُّها المسلمون، روى الترمذي وصحَّحه الألبانِيُّ أنَّه - عليه الصلاة والسلام - قال: ((أعمار أمَّتِي ما بين السِّتِّين إلى السبعين، وأقَلُّهم مَن يجوز ذلك))؛ لقد قضى الله أن تكون أعمار هذه الأمة قصيرةً، وعيشهم في هذه الدنيا قليلاً، نعم، إن ستين سنةً أو سبعين عامًا، إنَّها لقصيرةٌ في حساب القرون المتطاولة والسنين المتكاثرة، غير أنَّ العمر الحقيقيَّ في هذه الحياة ما قضاه المؤمن في طاعة ربِّه وعبادة خالقِه، القائل - سبحانه -: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56].

وإذا كان الأمرُ كذلك - أيُّها المسلمون - فما أقصر العمر الفعلي! وما أقلَّه! إذْ يذهب ثلثُه في النوم أو يزيد، وتضيع أجزاءٌ منه في غفلة الطفولة وطيش الصِّبا وسكرة الشباب، وتُستهلك أوقاتٌ منه في الأَكْل والشُّرب وقضاء حاجات النَّفس من الْمُباحات واللَّهو، وأوقاتٌ أخرى تَمْضي في طلب ما زاد على الحاجة مِن متاع الحياة الدُّنيا وزينتها، فإذا ما أُضيف إلى ذلك ما بُلِي به كثيرٌ من الناس من اتِّباع هوى الأنفُس والانتصار لَها ومُقاضاة الآخرين في كلِّ موقفٍ، ومفاخرتهم ومكاثرتهم هنا وهناك، فإنَّ العبد يَخْرج مِن دنياه مفْلسًا وإنْ صلَّى وصام وزكَّى، وفعل ما فعَل، روى مسلمٌ أنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((أتدرون ما المُفْلس؟)) قالوا: المفلس فينا مَن لا درهم له ولا متاع، فقال: ((إنَّ المفلس من أُمَّتِي من يأتي يوم القيامة بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ، ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دمَ هذا، وضرب هذا، فيُعطَى هذا مِن حسناته وهذا مِن حسناته، فإنْ فَنِيَت حسناتُه قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطُرِحَت عليه، ثم طرح في النار)).

وفي خضمِّ هذه الخسارة الفادحة التي يُمْنَى بها كثيرون، فإنَّ ثَمَّة عبادًا موفَّقين، وعُقَلاء مسدَّدين، ومؤمنين مهديِّين، عرفوا قصر العمر وقلَّة متاع الحياة الدنيا، وعِظَمَ ما أعدَّه الله - تعالى - في الآخرة من الثواب لمن أطاعه واتَّقاه، فجعلوا نُصْبَ أعينهم قولَ المولى - عزَّ وجلَّ -: ﴿ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى ﴾ [النساء: 77]، وقوله - سبحانه -: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ ﴾ [آل عمران: 14 - 17]، وقوله - تعالى -: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [آل عمران: 185]، وقوله - عليه الصلاة والسلام -: ((ما الدُّنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعَه هذه في اليمِّ فلْيَنْظرْ بِم يرجع؟))؛ رواه مسلمٌ.

نعم - عباد الله - لقد عرف المؤمنون الموفَّقون أن الحياة الدنيا بكلِّ ما فيها ليست برأس مالٍ حقيقيٍ، ومن ثَمَّ فقد اتخذوها مطيةً لهم؛ للوصول إلى النعيم المقيم في جنات النعيم.

إِنَّ للهِ عِبَادًا فُطَنَا
طَلَّقُوا الدُّنْيَا وَخَافُوا الفِتَنَا

نَظَرُوا فِيهَا فَلَمَّا عَلِمُوا
أَنَّهَا لَيْسَتْ لِحَيٍّ سَكَنَا

جَعَلُوهَا لُجَّةً وَاتَّخَذُوا
صَالِحَ الأَعْمَالِ فِيهَا سُفُنَا



ولقد كان على رأس هؤلاء الزاهدين في الدُّنيا، الراغبين في الآخرة، الْمُسابقين إلى الخيرات، إمامُ الهدى وقائدُ أهل التُّقى، وسيِّدُ أولي العقل والنُّهَى، محمدٌ - عليه الصلاة والسلام - حيث كانتْ حياتُه مثالاً عمليًّا للتجافي عن الدُّنيا، والزُّهدِ في دار الغرور، والالتفات عن متاعها، ونَبْذ شهواتها، فقَنعَ - عليه الصلاة والسلام - منها بالقليل الذي يكفي ولا يلهي، حتَّى كان يقول - عليه الصلاة والسلام - كما رواه الشيخان: ((اللهم اجعلْ رزْقَ آل محمدٍ قوتًا))، وفي روايةٍ: ((اللهم اجعلْ رزق آل محمدٍ كفافًا))، بل لقد جعل عيشَ الكفاف مع القناعة هو عنوانَ الفلاحِ والسعادة، وحكَمَ بالتعاسة والشَّقاء على مَن عبَدَها وأُغْرِق في طلبها، قال - عليه الصلاة والسلام -: ((قد أفلح من أسلم ورُزِق كفافًا، وقنَّعَه الله بما آتاه))؛ رواه مسلمٌ، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((تعس عبدُ الدِّينار، وعبد الدِّرهم، وعبد الخميصة، إنْ أُعْطِي رضي، وإنْ لم يُعْطَ سَخط، تَعِسَ وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش))؛ رواه البخاري.

وحذَّر - عليه الصلاة والسلام - أُمَّتَه من الدنيا وشهواتها تَحذيرَ العارف بأثر الرُّكون إليها، وخاف عليهم من بسطها وسعتها والتنافس فيها، فقال - عليه الصلاة والسلام -: ((إن الدنيا حلوةٌ خضرةٌ، وإن الله - تعالى - مستخلِفُكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتَّقوا الدُّنيا، واتقوا النِّساء))؛ رواه مسلمٌ، وقال لأصحابه يومًا: ((أبشِرُوا وأَمِّلوا ما يسرُّكم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكنْ أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتُهْلِكَكم كما أهلكتهم))؛ رواه البخاري ومسلمٌ.

هكذا عَرَّف - عليه الصلاة والسلام - أمَّتَه بطبيعة الدُّنيا، وهكذا جلَّى لهم حقيقتها، وعرَّاها، وحذَّر منها، فكيف كانت حياته فيها؟ كيف عاش وماذا أكل وعلى أيِّ شيءٍ نام؟ هل كان يُزَهِّد أصحابه فيها، ثُم يأكلها دونَهم؟ أو يتمتَّع بها من ورائهم؟! لا والله، وحاشاه - بأبِي هو وأمِّي! بل لقد كانت حياتُه مَضْرِب المثَلِ في الزُّهد والتقلُّل من المتاع، وشغل العمر في العبادة، وملء الوقت بالطاعة، وإنفاق ما أوتي من مالٍ في سبيل الله.

روى البخاريُّ ومسلمٌ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "والذي نفْسُ أبي هريرة بيده، ما شبع نبي الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثلاثة أيامٍ تباعًا مِن خبز حنطةٍ حتى فارق الدنيا"، وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "ما شبع آل محمدٍ من خبز الشعير يومين متتابعين حتَّى قُبِض رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -"؛ رواه البخاري ومسلمٌ.

وعن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: "لَم يأكل النبِيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - على خوانٍ حتَّى مات، ولم يأكلْ خبزًا مُرَقَّقًا حتى مات"، وفي روايةٍ: "ولا رأى شاةً سميطًا بعينه قط"؛ رواه البخاري.

وعن النُّعمان بن بشيرٍ - رضي الله عنهما - قال: "ألستم في طعامٍ وشرابٍ ما شئتم؟! لقد رأيتُ نبيَّكم - صلَّى الله عليه وسلَّم - وما يجد من الدقل ما يَمْلأ بطنه"؛ رواه مسلمٌ وغيره.

وعن عروة بن الزبير عن عائشة - رضي الله عنها - أنها كانت تقول: "والله يا بْنَ أختي، إنْ كنَّا لنَنْظُر إلى الهلال، ثم الهلال، ثم الهلال، ثلاثة أهلةٍ في شهرَيْن، وما أوقِدَ في أبيات رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - نارٌ"، قلت: "يا خالة، فما كان يعيشكم؟" قالت: "الأسودان التمر والماء، إلاَّ أنه قد كان لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - جيرانٌ من الأنصار، وكانت لهم منايح، فكانوا يُرْسِلون إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - من ألبانها فيسقيناه"؛ رواه البخاري ومسلمٌ.

وعن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - دخل عليه عمر وهو على حصيرٍ قد أثَّرَ في جنبِه، فقال: "يا رسول الله، لو اتَّخذتَ فراشًا أَوْثَر مِن هذا!"، فقال: ((ما لي وللدنيا، ما مثَلي ومثَلُ الدُّنيا إلاَّ كراكبٍ سار في يومٍ صائفٍ، فاستظلَّ تحت شجرةٍ ساعةً، ثم راح وتركها)).

هذا طرَفٌ من حياته - عليه الصلاة والسلام - وتِلْكم لَمحاتٌ من فَقْرِه، وصورٌ من قلَّة ذات يده، فما سبب ذلكم الفقر، وما منشأ تلكم القلَّة؟! لقد كان ذلك عن اختياره - عليه الصلاة والسلام - لنفسه أن يكون عبدًا رسولاً، وأن يُحْيِيه ربُّه مسكينًا، ويميته مسكينًا، ويحشره في زمرة المساكين، اختار ذلك لِيُكرمه - تعالى - بأعلى جنَّتِه، ويورثه المقام المحمود في الآخرة.

نعم، لقد كان - عليه الصلاة والسلام - لا يدَّخِر شيئًا لِغَدِه، بل كان يُؤْثِر غيْرَه بما في يده، ويغني الآخرين، ويظلُّ هو فقيرًا متَفرِّغًا لطاعة مولاه والدعوة إليه والجهاد في سبيله؛ في البخاري عن عقبة بن الحارث - رضي الله عنه - قال: صلَّيْتُ مع النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - العصر، فلما سلم قام سريعًا، فدخل على بعض نسائه ثم خرج، ورأى ما في وجوه القوم مِنْ تعَجُّبِهم لسرعته، فقال: ((ذكرْتُ وأنا في الصلاة تِبْرًا عندنا، فكَرِهْتُ أن يُمْسي أو يبيت عندنا، فأمَرْتُ بقسمته)).

وفي "صحيح مسلمٍ" عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: "ما سُئِل رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - على الإسلام شيئًا إلاَّ أعطاه، فجاءه رجلٌ فأعطاه غنمًا بين جبلَيْن، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم، أسلموا؛ فإنَّ مُحمدًا يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة".


ومع هذا الفقر فقد جاهَد - عليه الصلاة والسلام - وقاتل في سبيل الله، وقام اللَّيل حتَّى تفطَّرَت قدماه، ودعا إلى الله، وبذل في ذلك النَّفْسَ والجاه، فعن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - قال: قام النبِيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - حتى تورَّمَت قدماه، فقيل له: لِمَ تصنع هذا وقد غفر لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر؟ قال: ((أفلا أكون عبدًا شكورًا))؛ متفقٌ عليه.

وعنْ عائشة - رضي الله عنها - قالتْ: "كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم، فما رأيت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - استكمل صيام شهرٍ إلاَّ رمضان..." الحديث؛ متفقٌ عليه، واللفظ للبخاري.

وعن عمرو بن الحارث - رضي الله عنه - قال: "ما ترك رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عند موته درهمًا ولا دينارًا، ولا عبدًا ولا أَمَةً، ولا شيئًا، إلاَّ بغلته البيضاء التي كان يركبها، وسلاحَه، وأرضًا جعلها لابن السبيل صدقةً"؛ رواه البخاري.

فاتَّقوا الله - رَحِمَكم الله - واقتدوا بنبيِّكم؛ تفلحوا وتفوزوا، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب: 23 - 24].

الخطبة الثانية


أمَّا بعدُ، فاتَّقوا الله - تعالى - حقَّ تَقْواه، وتَمسَّكوا من الإسلام بأوثق عُرَاه، واستعِدُّوا بالصَّالحات ليوم لقاه؛ ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ﴾ [الطلاق: 2 - 3].

أيُّها المسلمون، إنه ليس للعبد من حياته إلاَّ صالح الأعمال وما قدَّمَه؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يتبع الميت ثلاثةٌ: أهلُه وماله وعمَلُه، فيَرْجِع اثنان ويبقى واحدٌ، يرجع أهله وماله، ويبقى عمله))؛ رواه البخاري ومسلمٌ.

وعن عبدالله بن الشِّخِّير - رضي الله عنه - قال: أتيتُ النبِيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو يقرأ: ﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ﴾ [التكاثر: 1]، قال: ((يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك يا بْنَ آدم من مالِكَ إلاَّ ما أكلتَ فأفنيت، أو لبسْتَ فأبلَيْت، أو تصدَّقْتَ فأمضيت؟))؛ رواه مسلمٌ.

وقال - عليه الصلاة والسلام -: ((إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثٍ: صدقةٍ جاريةٍ، أو عِلْمٍ ينتفع به، أو ولدٍ صالِحٍ يدعو له))؛ رواه مسلمٌ وغيره.

وقال: ((إنَّ مِمَّا يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: علمًا نشرَه، وولدًا صالِحًا تركه، ومصحفًا ورَّثَه، أو مسجدًا بناه، أو بيتًا لابن السبيل بناه، أو نَهْرًا أجراه، أو صدقةً أخرجَها مِن ماله في صحَّتِه وحياته، تلحقه من بعد موته))؛ رواه ابن ماجه وغيْرُه، وحسَّنه الألباني.

فماذا قدَّمْتم - عباد الله؟ وبأيِّ شيءٍ ستقدمون على ربِّكم؟ إن الجنة درجاتٌ وغرفاتٌ، وإنَّ سُكْناها لا يكون إلاَّ بالصالحات والقربات، قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إن في الجنة غرفًا يُرَى ظاهرها من باطنِها، وباطنُها من ظاهرها، أعدَّها الله لمن ألانَ الكلام، وأطعم الطعام، وتابع الصِّيام، وصلَّى بالليل والناسُ نيامٌ))؛ رواه البيهقي في "الشُّعَب" وصحَّحه الألباني.

وقال - عليه الصلاة والسلام -: ((مَن بنَى لله مسجدًا ولو كمفحص قطاةٍ، بنَى الله له بيتًا في الجنة))، وقال: ((فوالله لأَنْ يهدي الله بك رجلاً واحدًا خيرٌ لك من حُمْر النَّعَم))، وقال: ((خيْرُكم مَنْ تعلَّم القرآن وعلَّمَه))، فهنيئًا لمن بنى لله مسجدًا يُذْكَر فيه اسمه، أو دعَمَ تعليم القرآن، أو ساعد في نشر حلقاته ودُور تعليمه، أو اهْتَدى على يده أو بِماله أو رأيه رجلٌ، فأخرجه الله بسببه من الظُّلمات إلى النور، بلْ هنيئًا لِمَن إنْ فعل، فعَل خيْرًا وإلاَّ كفَّ شرَّه، وترك ما لا يَعْنيه.

وفي الصحيحَيْن أنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((على كلِّ مسلمٍ صدقةٌ)) قالوا: فإنْ لم يَجدْ؟ قال: ((فلْيعملْ بيديه فينفع نفسه ويتصدَّق))، قالوا: فإنْ لم يستطعْ، أو لم يفعلْ؟ قال: ((فيُعِين ذا الحاجة الملهوفَ))، قالوا: فإن لم يفعلْ؟ قال: ((فيأمر بالخير))، قالوا: فإن لم يفعلْ؟ قال: ((فيمسك عن الشَّر؛ فإنه له صدقةٌ)).

ألا فاتَّقوا الله، واعلموا صالحًا يُنجِكُم من عذابٍ أليمٍ، و((سدِّدوا وقاربوا وأبشروا؛ فإنَّه لن يُدْخِل الجنَّةَ أحدًا عمَلُه))، واعلموا أنَّ ((أحبَّ العمل إلى الله أدوَمُه وإنْ قلَّ))، ثم اعلموا أنَّكم في شهر الله المحرَّم، فعظِّموه بتعظيم الله له، وصوموه أو ما تيسر منه، فإنْ عجزتم فلا تُغلَبُنَّ على صيام يوم عاشوراء، فقد قال نبيُّكم - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المُحرَّم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل))؛ رواه مسلمٌ وغيره، وقال - عليه الصلاة والسلام -: ((صيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يُكَفِّر السَّنَة التي قبله))؛ رواه مسلمٌ وغيره.

وعن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قدم المدينة، فوجد اليهود صيامًا يوم عاشوراء، فقال لَهم رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما هذا اليوم الذي تصومونه؟)) فقالوا: هذا يومٌ عظيمٌ أنْجَى الله فيه موسى وقومَه، وغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرًا، فنحن نصومه، فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((فنحن أحَقُّ وأولى بِمُوسى منكم))، فصامه رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأمر بصيامه؛ رواه مسلمٌ وغيره.

وعنه - رضي الله عنه - قال: حين صام رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يوم عاشوراء وأمر بصيامه، قالوا: يا رسول الله، إنه يومٌ تعظمه اليهود والنصارى، فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((فإذا كان العام المقبل - إنْ شاء الله - صُمْنا اليوم التاسع))، قال: فلم يأت العامُ المقبل حتَّى تُوفِّي رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - رواه مسلمٌ.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 85.52 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 83.79 كيلو بايت... تم توفير 1.72 كيلو بايت...بمعدل (2.01%)]