|
|||||||
| ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة |
|
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
|
الوصية الخالدة أحمد الجوهري عبد الجواد إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. من أين أبدأ والمحامد كلها ![]() لك يا مهيمن يا مصوّرُ يا صمدْ ![]() احترتُ في أبهى المعاني أن تفي ![]() بجلال قدرِك فاعتذرتُ ولم أزدْ ![]() أما بعد: فيا أيها الإخوة "خطب عقَدية" سلسلة إيمانية، الهدف منها: تحقيق أول واجب أوجبه الله على عباده، ألا وهو التوحيد بإفراده سبحانه بجميع أنواع العبادة، نتحدث في هذه السلسلة الكريمة عن أعظم كلمة عرفها الوجود، وأفضل كلمة شهدتها الأسماع، وأشهى كلمة تذوقتها ورددتها الألسنة والأفواه، تلك هي كلمة الإخلاص والنجاة كلمة" لا إله إلا الله ". فتعالوا بناَ - أيها الإخوة - لنطوف سويًّا في بستان التوحيد الماتع اليانع نأخذ من كل شجرة فيه غصناً، ومن كل غصن نقطف زهرة، نستمد منها عبيرها وطيبها العطر الجميل، خاصة وأن هذا العبير وذلكم الطيب مستمد من عبيرٍ وطيبٍ قال فيه المصطفى صلى الله عليه وسلم "أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله"[1]. وهذا هو لقاؤنا الأول -أيها الإخوة- وهو بعنوان " الوصية الخالدة ". وسننظم سلك هذا الموضوع العظيم الجليل في العناصر الأربعة التالية: أولاً: لحظات ثمينة. ثانياً: التوحيد أولاً. ثالثا: فلنتعرف إلى التوحيد. رابعاً وأخيراً: كيف نحقق التوحيد في الواقع؟ أولاً: لحظات ثمينة: -أيها الإخوة-: إن أسعد فترات الحياة هي الفترات التي مرت على البشرية وهي على علاقة مباشرة واتصال لا ينقطع بالسماء، وهي تلكم الفترات التي عاش فيها أنبياء الله ورسله بين الناس، يبلغون عن الله رسالاته ويوصلون إلى خلقه أوامره ونواهيه، ولذلك بكى الفطناء الألباء الأذكياء لما انقطع هذا الاتصال بموت آخر الأنبياء، المصطفى صلى الله عليه وسلم، روى مسلم في صحيحه عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضى الله عنه - بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم – لِعُمَرَ رضي الله عنهم انْطَلِقْ بِنَا إِلَى أُمِّ أَيْمَنَ نَزُورُهَا كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَزُورُهَا. فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَيْهَا بَكَتْ فَقَالاَ، لَهَا: مَا يُبْكِيكِ؟، مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ -صلى الله عليه وسلم-. فَقَالَتْ: مَا أَبْكِى أَنْ لاَ أَكُونَ أَعْلَمُ أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ -صلى الله عليه وسلم- وَلَكِنْ أَبْكِى أَنَّ الْوَحْىَ قَدِ انْقَطَعَ مِنَ السَّمَاءِ. فَهَيَّجَتْهُمَا عَلَى الْبُكَاءِ، فَجَعَلاَ يَبْكِيَانِ مَعَهَا[2]. عاشت البشرية -أيها الإخوة- هذه الفترات تتربى على عين الله وتصنع بتوجيهه، يقوم بإرشادها إلى تنفيذ ذلك وتطبيقه خيرة خلق الله وصفوتهم، في قيادة حكيمة وريادة رشيدة، فعاشت البشرية في ظل ذلك أسعد فترات حياتها. وإن أسعد هذه الفترات على الإطلاق لهي الفترة التي شهدت فيها الدنيا وسعدت فيها الحياة بأعظم من خلق الله وأفضل من اصطفاه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي الفترة التي تقدر بعمر الزمن وتقدير الناس بثلاثة وعشرين عاما قضى النبي منها ثلاثة عشر في مكة المكرمة وعشرا في المدينة المعطرة (هذا بتقدير الزمان وأما بتقدير الحقيقة فليس لها حدود) عاش النبي صلى الله عليه وسلم، خلال هذه السنوات - طوال الأيام والليالي - يمشي على شوك الأسى، ويخطو على جمر الكيد والعنت، يتلمس الطريق لهداية الضالين وإرشاد الحائرين، حتى علم الجاهل وقوم المعوج ونشر أضواء الحق والتوحيد والإيمان على الدنيا كلها، كما تنشر الشمس أشعتها على الدنيا فتغمر الأكوان بضيائها. عَمَّر النبي صلى الله عليه وسلم الحياة وأضاء الدنيا وأنارها يوم دعا الناس إلى نبذ الشرك والتمسك بالتوحيد، وترك الآلهة الكثيرة والاستمساك بعبادة العزيز الحميد، وصدع فيهم بقولة الحق في صيحته الخالدة: "يا أيها الناس: قولوا: لا إله إلا الله، تفلحوا"[3]. ومما زادني شرفاً وعزًّا ![]() وكدت بأخمصي أطأ الثريا ![]() دخولي تحت قولك يا عبادي ![]() وأن أرسلت أحمد لي نبيا ![]() عاش النبي صلى الله عليه وسلم - أيها الإخوة - حياته كلها يعلم الناس معنى هذه الكلمة، وطريقة العمل بها، ووجوب الدعوة إليها والسعي لتبليغها، والحرص على أداء مقتضياتها. حتى بدت في الأفق خاتمة هذه الدنيا الطيبة، ولاحت من بعيد طلائع التوديع لهذا العمر المبارك، وبدأت الأيام الأخيرة في حياة -المصطفى صلى الله عليه وسلم- العد التنازلي. يوم تكاملت الدعوة وسيطر الإسلام على الموقف، ساعتها أخذت طلائع التوديع للحياة والأحياء تطلع من مشاعره - صلى الله عليه وسلم- وتتضح بعباراته وأفعاله وأحوله: فها هو قد أنزلت عليه سورة النصر: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ﴾ [النصر: 1 - 3]. وها هو يعتكف في رمضان من السنة العاشرة، عشرين يوماً، بينما كان لا يعتكف إلا عشرة أيام فحسب قبل هذا، وتدارسه جبريل في رمضان الأخير القرآن الكريم مرتين، بينما كان لا يدارسه كل رمضان سبق إلا مرة واحدة[4]. فعرف أنه الوداع وأنه نعيت إليه نفسه وأوحى بذلك إلى الناس في إشارات كثيرة فقال في حجة الوداع: "إني لا أدري، لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً"[5] وقال -وهو عند جمرة العقبةَ-: "لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ، فَإِنِّى لاَ أَدْرِى لَعَلِّى لاَ أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِى هَذِهِ"[6]. وفي أوائل صفر سنة 11هـ خرج النبي - صلى الله عليه وسلم- إلى أحد فصلى على الشهداء كالمودع للأموات والأحياء، ثم انصرف إلى المنبر فقال: "إني فرط لكم، وأنا شهيد عليكم، وإني - والله - لأنظر إلى حوضي الآن"[7]. وبالفعل - أيها الإخوة - في اليوم الثامن أو التاسع والعشرين من شهر صفر سنة 11هـ - وكان يوم الاثنين - شهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم- جنازة في البقيع، فلما رجع وهو في الطريق أخذه صداع في رأسه، واتقدت حرارته حتى إنهم كانوا يجدون سورتها وأثرها فوق العصابة التي تُعصَّب بها رأسه، وبدأت أيام المرض التي دامت 13 أو 14 يوماً، وتتابعت الأيام سراعًا على رسول الله تقربه من الآخرة وتبعده من الدنيا، فيبقى من عمر المصطفى أيام معدودة، بقي خمسة أيام بقى أربعة أيام،بل ثلاثة ثم يومان ثم ساعات، وجاءت اللحظات الأخيرة، اللحظات الثمينة التي يودع فيها المصطفى الدنيا، إنها أثمن لحظات الحياة على الإطلاق نعم ولا ريب فبعد لحظات قليلة سيغلق الباب الذي بين السماء والأرض وينقطع وحي السماء عن الأرض. إنها لحظات ثمينة، تلك اللحظات الأخيرة من حياة الصلة الفريدة، الصلة المباشرة بين الصفوة من الخلق وبين الخالق سبحانه، وفي لحظة من هذه اللحظات - أيها الإخوة - أراد المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أن يترك بين يدي الأمة كتاباً يكتبه لها، لا تضل الأمة بعده أبداً، أراد النبي - صلى الله عليه وسلم- أن يوصي الأمة وصية ثمينة بقدر هذه اللحظات الثمينة التي بقيت له في الحياة، أو لنقل: التي بقيت للحياة في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أراد المصطفى أن يوصي الأمة بوصية تحفظ على الأمة سيرها ومسراها وتضبط للأمة خطواتها في ممشاها، روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لما اشتد بالنبي - صلى الله عليه وسلم- وجعُه قال: ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تختلفوا بعده، فلما هموا بذلك نظر عمر فوجد النبي في غاية الإعياء ورأى أن لا يشقوا عليه، فقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم- غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله حسبنا، فاختلفوا، وكثر اللَّغًط فلما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم- ذلك قال: قوموا عني، ولا ينبغي عندي التنازع"[8]. فمات المصطفى - صلى الله عليه وسلم- ولم يكتب ذلك الكتاب، وهذا من شؤم الاختلاف قال الحافظ الجليل ابن حجر: وَفِي الْحَدِيث دَلِيل عَلَى أَنَّ الِاخْتِلَاف قَدْ يَكُون سَبَبًا فِي حِرْمَان الْخَيْر، كَمَا وَقَعَ فِي قِصَّة الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ تَخَاصَمَا فَرُفِعَ تَعْيِين لَيْلَة الْقَدْر بِسَبَبِ ذَلِكَ "[9]. أيها الإخوة! حزن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- لأجل فوات هذه الوصية حزناً شديدًا بالغاً، لكنهم وهم الفطناء الألباء علموا أنه صلى الله عليه وسلم أوصى بوصية عظيمة محفوظة إلى أن تقوم الساعة لا تتبدل ولا تتغير، نعم نظروا فوجدوا عوض تلك الوصية التي فقدوها بل هي بعينها وجدوها في كتاب الله تعالى وهذا هو عنصرنا الثاني من عناصر اللقاء: التوحيد أولاً. أيها الإخوة! روى الترمذي وحسنه عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: "من أراد أن ينظر إلى وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه "، أي: التي كتبت وختم عليها فلم تغير ولم تبدل، من أراد أن ينظر إلى وصية محمد –صلى الله عليه وسلم- التي عليها خاتمه فليقرأ قوله تعالى: ﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [الأنعام: 151، 153]"[10]. آيات محكمات هن أم الكتاب كما قال ترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما[11] هذه هي وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرسول الله أوصى بوصايا أولى هذه الوصايا أن أوصى بتوحيد الله جل في علاه كما توضح هذه الآيات ولهذا أيها الإخوة كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يبايع أصحابه على هذه الآيات الثلاث ففي مستدرك الحاكم وصححه من حديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أيكم يبايعني على ثلاث، ثم تلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذه الآيات حتى فرغ منها [12]، وفي هذا - أيها الإخوة - ما يدعونا إلى تدبر هذه الآيات وبخاصة إذا لحظنا هذا الختام العجيب الذي ختمت به كل آية من الآيات الثلاث يقول سبحانه: "ذلكم وصاكم به "، أي هذا أوصاكم به ربكم -عز وجل- وأمركم به وأكد عليكم فيه. قال ابن عطية: الوصية هي: الأمر المؤكد المقرر[13]، فهذه الآيات الثلاث أيها الإخوة هي وصية الله تعالى لعباده وهي وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته، لذلك وجب على كل من قرأ هذه الآيات أن يتدبرها ويتفهم ما فيها. وإذا تأملنا أيضا ما بعد هذه الكلمة من الآيات وهي قوله تعالى في الآية الأولى" لعلكم تعقلون" وفي الآية الثانية" لعلكم تذكرون" وفي الآية الثالثة" لعلكم تتقون" ولهذا الترتيب سر كما قال شيخ المفسرين، قال الطبري: ذكر أولاً (لعلكم تعقلون) ثم (تذكرون) ثم (تتقون) لأنهم إذا عقلوا تذكروا فإذا تذكروا خافوا واتقوا. [14] "وإذا تدبرها الإنسان وعمل بها حصلت له الأوصاف الثلاثة الكاملة المذكورة: العقل والتذكر والتقوى"[15]. فإذا نظرنا إلى هذه الوصية أيها الإخوة نجدها قد اشتملت على الأمر بعشر وصايا وكانت أولى هذه الوصايا العشر الأمر بتوحيد الله بدأ الله هذه الوصايا المؤكدات والأوامر الواجبات بالأمر بإفراده سبحانه بالعبادة وتوحيده -عز وجل- قال العلامة السعدي:[16] "يقول الله تعالى لنبيه –صلى الله عليه وسلم- قل لهؤلاء الذين حرموا ما احل الله تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم تحريماً عاماً شاملاً لكل أحد محتوياً على سائر المحرمات.. وأول ذلك وأحقه الشرك بالله: أن يعبد المخلوق كما يعبد الله ويعظم كما يعظم الله ألا تشركوا به شيئا لا قليلاً ولا كثيراً، أو يصرف له نوع من خصائص الربوبية، والإلهية وإذا ترك العبد الشرك كله صار موحداً مخلصاً لله في جميع أحواله"، فهذا حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، فهذا آكد الحقوق وأعظمها وأولها ولهذا بدأ به وجعله أولاً، ألم أقل لحضراتكم هذه هي وصية الله ووصية رسول الله بل وصية كل نبي إلى قومه ورسول إلى أمته قبل المصطفى؟ أوصى الأنبياء أقوامهم وأممهم أن يوحدوا الله تعالى، وأن يفردوه بالعبادة وانتبهوا أحبتي هذا أول أمر بدأ به كل نبي وكل رسول فإن دعوة الأنبياء والرسل على مدى التاريخ البشري كله كانت تستهدف أمراً واحداً وهو رد البشرية الضالة إلى ربها –جل وعلا- وهدايتها إلى طريقه وتربيتها على منهاجه وإخراجها من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن ظلمات الشرك والإلحاد إلى أنوار التوحيد والإيمان وتزكية نفوس أبنائها وتهذيب أخلاقهم، وكانت نقطة البدء على هذا الطريق ولبنة الأساس الأول لهذا التيار الضخم الكبير هي دعوة الناس إلى التوحيد الشامل، إلى عبادة الله وحده لا شريك له، إلى العقيدة الصحيحة الصافية، ولذا كانت الصيحة الأولى لكل نبي ورسول: ﴿ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ [النحل: 36]. بدأ بها نوح عليه السلام: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ ﴾ [هود: 25، 26]. وبدأ بها هود عليه السلام: ﴿ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ ﴾ [هود: 50]. وبدأ بها صالح عليه السلام: ﴿ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ [الأعراف: 73]. وهكذا إلى آخر الرسل الكرام وختام الأنبياء العظام. فقد بدأ بها لبنة تمامهم ومسك ختامهم محمد -صلى الله عليه وسلم- وظل يدعو إليها في مكة ثلاثة عشر عاما كاملة لا تزاحمها في اهتمامه قضية أخرى بل لما انتقل إلى المدينة لم يدع - صلى الله عليه وسلم - قضية التوحيد وينتقل إلى غيرها، بل دعا إلى دعوة التوحيد ودعا إلى غيرها، فإن التوحيد ليس مرحلة زمنية ينتقل منه إلى غيره بل هو مهمة كل مرحلة ولذا ينتقل معه إلى غيره. وبالجملة - أيها الإخوة - فما بعث الله نبيا ولا رسولا إلا كانت دعوته الأولى لأمته وقومه هي التوحيد بالأمر بعبادة الله والنهي عن الشرك كما قال سبحانه: "ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت وقال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء: 25]. لذا وجب على كل داعية أراد النجاح لدعوته أن يبدأ بما بدأ به سادة الدعاة إلى الله وقد كانت أول وصية لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أوصى بها أول داعية له إلى اليمن وهو معاذ بن جبل -رضي الله عنه- أن يدعوهم إلى التوحيد ففي الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حين بعث معاذًا إلى اليمن، قال: إنك تقدم على قوم أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله وفي رواية البخاري: إنك ستأتي قوما أهل كتاب فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله"[17]. فأمره المصطفى -صلى الله عليه وسلم- أن يبدأهم بالدعوة إلى التوحيد. فالتوحيد أيها الإخوة هو الوصية الخالدة التي تعمقت عبر تاريخ البشرية ولا تزال تترسخ حتى نهايته، أوصى بها ربنا سبحانه وعمل على سبيلها كل نبي ورسول وجاهد من أجلها كل داعية صادق وكل مؤمن غيور، لأن التوحيد - أيها الإخوة - وأرجو أن تنتبهوا لهذا التأصيل الذي يغيب عن أذهاننا كثيرا فتختلط الحقائق وتتخبط الرؤىَ: لأن التوحيد هو حق الله تعالى على عباده وواجبه عليهم الذي لا يقبل الله عملاً ولا يرضى عن عامل إلا إذا حقق هذا الحق وأتم هذا الواجب، ولذلك كان التوحيد هو الغاية من الخلق كما قال ربنا سبحانه" {﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ [الذاريات: 56 - 58]". قال الحافظ ابن كثير: "خلق الله تعالى الخلق ليعبدوه وحده لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذبه أشد العذاب، وأخبر أنه غير محتاج إليهم بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم وهو خالقهم ورازقهم"[18] فهذه هي وظيفة الخلق الأولى التي لأجلها خلقوا ولتحقيقها أوجدوا فاعملوا رحمكم الله على التعرف إلى التوحيد حتى تحققوه فتفوزوا بخيري الدنيا والأخرى. ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]. فبين لنا الله تعالى الحكمة - من خلق الثقلين الإنس والجن وهي أنه إنما خلقهم لشيء واحد وهو العبادة ولهذا جاء بالحصر "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون"حصر الحكمة من خلق الجن والإنس في شيء واحد وهو أنهم يعبدونه، فالحكمة من خلق المخلوقات هي عبادة الخالق -سبحانه وتعالى-، خلق الله الجن والإنس للعبادة وخلق كل الأشياء لمصالحهم، سخرها لهم ليستعينوا بها على عبادته -عز وجل- ومعنى ليعبدون، أيها الإخوة - أي يفردوني بالعبادة وهذا هو التوحيد الذي هو حق الله على عباده فإنه بذلك أمر أمراً مؤكداً مقرراً فقال: واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، فهذا أمر من الله بعبادته ونهي عن الشرك به، وهذا معنى لا إله إلا الله، لأن لا إله إلا الله معناها نفي الشرك وإثبات العبادة لله -سبحانه وتعالى- فقال سبحانه "واعبدوا الله"،أي أخلصوا العبادة لله وحده أي تقربوا بجميع أنواع العبادة إليه. وقال سبحانه: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ [الإسراء: 23]. وقضى أي أمر وشرع فهذا أمر من الله -تعالى- واجب وتشريع حتم لازم أن لا نعبد إلا هو وحده سبحانه. وفي الصحيحين من حديث معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال: "كنت رديف النبي -صلى الله عليه وسلم- على حمار، فقال لي: يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا، قلت: أفلا أبشر الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا".[19] وهذا الحديث العظيم يبيّن أن حق الله على عباده أن يعبدوه وحده لا شريك له بما شرعه لهم من العبادات، ولا يشركوا معه غيره، وأن حق العباد على الله -عز وجل- أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا، ولا شك أن حق العباد على الله: هو ما وعدهم به من الثواب، فحق ذلك ووجب بحكم وعده الصدق، وقوله الحق، الذي لا يجوز عليه الكذب في الخبر، ولا الخلف في الوعد، فهو حق جعله الله سبحانه على نفسه، تفضلاً وكرمًا، فهو سبحانه الذي أوجب على نفسه حقًّا لعباده المؤمنين، كما حرم الظلم على نفسه، لم يوجب ذلك مخلوق عليه، ولا يقاس بمخلوقاته، بل هو بحكم عدله ورحمته، كتب على نفسه الرحمة، وحرم على نفسه الظلم[20]. يتبع
__________________
|
| الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |