|
فتاوى وأحكام منوعة قسم يعرض فتاوى وأحكام ومسائل فقهية منوعة لمجموعة من العلماء الكرام |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() أحكام السرقة المتعلقة بالسيارات حسين بن معلوي الشهراني الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن استن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين، وبعد: فهذا بحث موجز في: أحكام السرقة المتعلقة بالسيارات، ولا يخفى على الجميع أهمية هذا الموضوع؛ نظراً لما يلاحظ في المقروء والمسموع من كثرة الاعتداء بسرقة السيارات في هذه الأيام، والله المستعان. وقد وضعت لهذا البحث خطة قسّمتها إلى: تمهيد، وثلاثة مباحث، وخاتمة. التمهيد: في عناية الشريعة الإسلامية بحفظ الأموال. المبحث الأول: حقيقة السرقة، وفيه ثلاثة مطالب: المطلب الأول: تعريف السرقة في اللغة وفي الاصطلاح. المطلب الثاني: حكم السرقة. المطلب الثالث: شروط السرقة. المبحث الثاني: حقيقة الحرز، وفيه ثلاثة مطالب: المطلب الأول: تعريف الحرز في اللغة والاصطلاح. المطلب الثاني: ضابط الحرز. المطلب الثالث: أنواع الحرز. المبحث الثالث: معنى السيارة، وبيان حرزها، وفيه مطلبان: المطلب الأول: معنى السيارة في اللغة وفي الاصطلاح المعاصر. المطلب الثاني: حرز السيارات. المبحث الرابع: أحكام السرقة المتعلقة بالسيارات، وفيه مطلبان: المطلب الأول: سرقة السيارة نفسها. المطلب الثاني: السرقة من السيارة، وفيه مسألتان: المسألة الأولى: سرقة قطعة من قطع السيارة، أو جزء من أجزائها. المسألة الثانية: سرقة متاع من السيارة من غير أجزائها. الخاتمة: وتشتمل على أهم النتائج والتوصيات. التمهيد: عناية الشريعة الإسلامية بحفظ الأموال: أباحت الشريعة الإسلامية كسب المال وتملكه من الطرق المباحة، وأثبتت للإنسان حق التملك والتصرف في هذا الملك، وثبوت الحقوق عن طريق الشرع يعني أن تلك الحقوق مصونة، محفوظة عن التعدي عليها، وإلا لم يكن لإثباتها فائدة، بل لا يتصور للتناقض الذي تتنزه عنه شريعة الإسلام المحكمة الخاتمة التي ارتضاها الله - تعالى - ديناً للعباد؛ فقال - عز وجل -: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً)(3). ومن جملة الحقوق التي عنيت الشريعة الإسلامية بحفظها، وتكفلت بصيانتها: الحقوق المالية. وفي نصوص الوحيين المتكاثرة ما يكون أصلاً لذلك؛ وأنىّ لأحدٍ أن يحيط بها جمعاً وفهماً، ولكني أذكر هنا بعض النصوص الشرعية العامة التي تدل على عناية الشريعة الإسلامية بحفظ الحقوق بأنواعها، والتحذير من التعدي عليها؛ فمن ذلك: قول الله - عز وجل -: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون)(2)، وقوله - تعالى -: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم..)(3). وهاتان الآيتان بعمومهما دالتان على عدم جواز التعدي على الحقوق المالية؛ فيشمل النهي فيهما التعدي على المال بأنواعه؛ لأن المال لم يرد له حد في اللغة، ولا في الشرع؛ فيكون مردّه إلى العرف يبين المقصود منه، ولذلك قرر العلماء أن مفهوم المال يختلف باختلاف الأزمنة، والأمكنة، والأعراف. وعليه فإن النهي عن أكل أموال الآخرين بالباطل يشمل كل ما يدخل في مفهوم المال مما يتعارف الناس على ماليته. ومن ذلك أيضاً قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه))(4). وقوله - صلى الله عليه وسلم - في أكبر اجتماع للناس في حجة الوداع، في أعظم بقعة: ((فإن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم؛ حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا…))(5). فهذه النصوص وغيرها من النصوص دالة على تحريم الاعتداء والظلم، والإضرار بالآخرين، وقد أجمع المسلمون على أن أخذ أموال الناس وأكلها ظلماً لا يحل، وأن الله - عز وجل - حرم ذلك(6)؛ مما يبين حفظ الشريعة الإسلامية لحقوق الناس بشتى أنواعها، وصيانتها عن الاعتداء عليها بأية صورة من صور الاعتداء. ومن هذه الأموال بل من أهمها: السيارات التي جعل الله - تعالى - منها بفضله ومنّه وسيلة يستعين بها الناس في قضاء كثير من حوائجهم ومتطلباتهم، حتى أصبحت في هذه الأيام من الوسائل التي تشتد حاجة الناس إليها، ولا غنى لهم عنها؛ فإذا ثبت أن تملكها من الحقوق الثابتة لأصحابها بمقتضى الشرع؛ فإنه لا يجوز التعدي عليها بأي صورة من صور التعدي، ومن ذلك السرقة، وفي النصوص السابقة ما يجعلها محفوظة لأصحابها والله - تعالى - أعلم. المبحث الأول: حقيقة السرقة. المطلب الأول: تعريف السرقة في اللغة والاصطلاح: السرقة في اللغة: مصدر الفعل (سَرَق)، ويدل على أخذ ما ليس له أخذه، في خفاء وستر، يقال: سرَق منه الشيء يسرق سَرَقاً محرّكة، وسرْقاً، واستَرَقَه: جاء مستتراً إلى حرز؛ فأخذ مالاً لغيره(7). والسرقة في معناها الشرعي لا تخرج عن معناها في اللغة؛ فتعرف بأنها: أخذ مال على وجه الاختفاء من مالكه أو نائبه، وهذه هي السرقة المحرمة بصفة عامة. أما السرقة الموجبة لحد القطع فهي لا تختلف عن المعنى اللغوي، والمعنى العام مع إضافة بعض الأوصاف؛ فعرفت بأنها: "أخذ مال محترم لغيره، وإخراجه من حرز مثله، لا شبهة له فيه، على وجه الاختفاء"(8). المطلب الثاني: حكم السرقة: السرقة نوع من أنواع التعدي على حقوق الآخرين، وداخلة في أكل أموال الناس بالباطل؛ لأنها أخذ لمال الغير على وجه لم يؤذن به شرعاً، ولذلك حرمها الله - عز وجل -، وأوجب فيها حدّ القطع؛ دل على ذلك نصوص الوحيين، وإجماع المسلمين. فمن أدلة الكتاب قول الله - عز وجل -: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالاً من الله والله عزيز حكيم)(9). ومن السنة ما روته أم المؤمنين عائشة - رضي الله تعالى عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((تقطع اليد في ربع دينار فصاعداً))(1). وقد أجمع المسلمون على وجوب قطع السارق في الجملة(11). وكذلك فإن أهل العلم لا يختلفون في وجوب رد العين المسروقة على مالكها إذا كانت باقية(12). وبناءً على هذا فإن من صور السرقة أن يقوم شخص بسرقة سيارة من مالكها؛ فإذا ثبت فعل السرقة، وتوفرت الشروط، وانتفت الموانع؛ كان ذلك موجباً للحدّ، وذلك لأنها من الأشياء التي تقع عليها السرقة وتدخل في مسمى المسروق الذي يجب حد السرقة بسرقته. وجملة ذلك أن العلماء - رحمهم الله تعالى - قد وضعوا لذلك ضابطاً وهو أن كل متمول جاز بيعه، وأخذ العوض؛ فإن فيه القطع. ففي المعونة على مذهب عالم المدينة(13): "كل ما جاز بيعه، وأخذ العوض عليه؛ جاز أن يقطع في سرقته كسائر الأموال، ويقطع في سائر المتمولات التي يجوز بيعها، وأخذ العوض عنها". وفي بداية المجتهد(14): "العلماء متفقون على أن كل متملك غير ناطق يجوز بيعه، وأخذ العوض منه؛ فإنه يجب في سرقته القطع ما عدا الأشياء التي أصلها مباحة، فإنهم اختلفوا في ذلك؛ فذهب الجمهور إلى أن القطع في كل متمول يجوز بيعه، وأخذ العوض فيه، وقال أبو حنيفة: لا قطع في الطعام، ولا فيما أصله مباح كالصيد، والحطب، والحشيش(15). والراجح ما ذهب إليه الجمهور، ولا حاجة هنا لعرض الخلاف، والأدلة؛ لأن السيارة على كلا القولين مما يجب القطع بسرقتها؛ إذ هي خارجة عن محل الخلاف. وقد يعدل القاضي من القطع إلى التعزير لفوات شرط، أو حصول مانع، أو شبهة، ذلك أن العقوبات كما هو معلوم نوعان(16): 1- عقوبات مقدرة في الشرع، لا يزاد فيها، ولا ينقص، وهي الحدود كحد القتل، والزنا، والسرقة وغيرها إذا توفرت الشروط، وانتفت الموانع. 2- عقوبات على معاصٍ لا حدّ فيها، ولا كفّارة، وهي التي تسمى "التعزير"، وهي راجعة إلى اجتهاد الوالي بحسب ما يحصل به المقصود، وتكون بالضرب، وبالحبس، وبالتوبيخ، وبالمال، كل أحد بحسب ذنبه، وبحسب حاله. المطلب الثالث: شروط السرقة: يثبت حد القطع إذا توفرت الشروط المعتبرة في السرقة، وهذه الشروط هي(17): 1- أن تكون السرقة من حرز(18)، وحرز كل شيء بحسبه، والمحكَّم في ذلك العرف كما سيأتي وهو يختلف باختلاف الأموال، والأمكنة، والأزمنة، والأحوال. 2- أن يكون المسروق مملوكاً ملكاً تاماً لغير السارق. 3- أن يكون المسروق محترماً؛ فلا قطع على من سرق آلة تستخدم للمعصية؛ كأن تستخدم في الغناء والطرب، أو في تزوير وتزييف النقود، أو في إجهاض الأجنّة ونحو ذلك، وكذلك لا قطع في سرقة كتب محرمة كالمشتملة على كفر، أو شركيات، أو سحر وكهانة ونحو ذلك؛ لأن كل هذه الأشياء غير محترمة بل محرمة، يجب إتلافها وإفسادها. 4- انتفاء الشبهة، بأن لا يكون فيه شبهة استحقاق للسارق؛ لأن وجود الشبهة يدرأ الحد تبعاً للقاعدة المطردة في كتاب الحدود وهي: درء الحدود بالشبهات، وأهل العلم متفقون على ذلك(19). 5- أن يكون المسروق نصاباً: ومقدار نصاب السرقة الموجب للقطع هو على الصحيح ثلاثة دراهم، أو ربع دينار، أو ما تبلغ قيمته ذلك. 6- مطالبة المسروق منه بماله. 7- ثبوت السرقة بالإقرار مرتين، أو بشهادة عدلين. فإذا سرق مكلف سيارة مع توفر الشروط السابقة وجب إقامة حد السرقة عليه بقطع يده، وذلك حفظاً للأموال التي بها قوام الحياة، ولأن المال محبوب إلى النفوس، تميل إليه الطباع البشرية وخاصة عند الحاجة، ومن الناس من لا يردعه عقل، ولا يمنعه نقل، ولا تزجرهم الديانة، ولا تردهم المروءة والأمانة، فلولا الزواجر الشرعية من القطع والصلب ونحوهما لبادروا إلى أخذ الأموال مكابرة على وجه المجاهرة، أو خفية على وجه الاستسرار، وفيه من الفساد ما لا يخفى؛ فناسب شروع هذه الزواجر حسماً لباب الفساد، وإصلاحاً لأحوال العباد(2)، والله - تعالى - أعلم. المبحث الثاني: حقيقة الحرز: المطلب الأول: معنى الحرز في اللغة والاصطلاح: الحرز في اللغة (21): مأخوذ من الحفظ والتحفظ، يقال: حرزته واحترز هو أي تحفظ، وأصل الحرز في اللغة الموضع الحصين، والمكان الذي يحفظ فيه، والجمع أحراز، وأحرزت المتاع جعلته في الحرز. وفي الاصطلاح: تعددت عبارات الفقهاء في بيان المراد منه، مع وجود التقارب في بيانه، ومن تعريفاتهم للحرز ما يلي: 1- عرفه الموصلي بأنه: "ما يصير به المال محرزاً عن أيدي اللصوص"(22). 2- وعرفه ابن رشد بأنه: "ما من شأنه أن تحفظ به الأموال كي يعسر أخذها مثل: الأغلاق والحظائر، وما أشبه ذلك"(23). 3- وعرّفه القرطبي بقوله: "الحرز هو ما نصب عادة لحفظ أموال الناس، وهو يختلف في كل شيء بحسب حاله"(24). 4- وعرفه الماوردي بأنه: "ما يصير به المال محفوظاً"(25). 5- وعرّفه الحجاوي بقوله: "وحرز المال ما العادة حفظه فيه، ويختلف باختلاف الأموال، والبلدان، وعدل السلطان، وجوره، وقوته، وضعفه"(26). ومن هذه التعاريف يظهر التواطؤ بين المعنى اللغوي والشرعي للحرز: من أن الحرز هو المكان المعدّ لحفظ المال فيه، كما نجد أن النقول متفقة على أن حرز كل شيء بحسبه، وأنه يختلف باختلاف الأموال، والأمكنة، والأزمنة، والأحوال ونحو ذلك(27)، والله أعلم. المطلب الثاني: ضابط الحرز. لم يرد في الشرع للحرز حقيقة اصطلاحية بحيث إذا أطلق تبادرت إلى الأذهان كما هو الحال في الصلاة، والصوم، والنكاح وغيرها؛ بل ترك ذلك لما يتعارف الناس عليه بما يعرفون ويألفون، وهذا يعني أن مفهوم الحرز قابل للتبدل بحسب اختلاف الأعراف زماناً، ومكاناً. ولأنه لم يرد للحرز تعريف محدد في اللغة، أو الشرع؛ فإن المرجع في بيان معناه هو العرف؛ لأن مقتضى قاعدة الأسماء المطلقة في الشريعة الإسلامية هو اعتبار الحقيقة الشرعية؛ فإن لم يوجد فيها تحديد فاللغوية؛ فإن لم يوجد فيها تحديد فالعرفية. وقد نص الفقهاء - رحمهم الله تعالى - على أن كل اسم ليس له حد في اللغة، ولا في الشرع؛ فالمـرجع فيـه إلى العرف(28). قال ابن قدامة - رحمه الله تعالى -: "والحرز ما عدّ حرزاً في العرف؛ فإنه لما ثبت اعتباره في الشرع من غير تنصيص على بيانه عُلم أنه ردّ ذلك إلى أهل العرف؛ لأنه لا طريق إلى معرفته إلا من جهته؛ فيرجع إليه كما رجعنا إليه في معرفة القبض، والفرقة في البيع وأشباه ذلك(29). وبناءً على ما قرّره العلماء - رحمهم الله تعالى - فيما سبق يتبين أن ضابط الحرز، وتحديد مفهومه؛ إنما مرجعه إلى العرف، وأن الإحراز يختلف باختلاف المُحرزات، وكيفية إحرازها زماناً، ومكاناً، ومن الأمور التي ذكر بعض العلماء أن الأحراز تختلف بناءً على اختلافها وتفاوتها ما يلي: 1- اختلاف جنس المال ونفاسته. 2- اختلاف البلدان؛ فإن كان البلد واسع الأقطار، كثير الدعّار - أي المفسدين -؛ غلظت أحرازه، وإن كان صغيراً قليل المارّ، لا يختلط بأهله غيرهم؛ خفت أحرازه. 3- اختلاف الزمن؛ فإن كان زمان سلم ودعة خفّت أحرازه، وإن كان زمان فتنة وخوف؛ غلظت أحرازه. 4- اختلاف السلطان؛ فإن كان عادلاً غليظاً على أهل الفساد خفّت أحرازه، وإن كان جائراً مهملاً لأهل الفساد غلظت أحرازه. 5- اختلاف الليل والنهار؛ فيكون الإحراز في الليل أغلظ لاختصاصه بأهل العبث والفساد(3). وقد يضاف إلى ما سبق: 6- اختلاف البلاد وتفاوتها من حيث الحكم بشرع الله - عز وجل -، وتطبيقه في الأحكام بعامة، وفي الحدود بخاصة؛ فلا شك أن البلد الذي يطبّق أحكام الشرع يقلّ فيه المفسدون، فتقل أحرازه، والبلاد التي لا تطبق شرع الله - تعالى - يكثر فيها المفسدون، فتغلظ أحرازها. وجملة ما سبق أنه يعتبر في الحرز شرطان(31): الشرط الأول: العرف. الشرط الثاني: عدم التفريط. وذلك لأن المال المحرز هو ما لا يُعدّ صاحبُه مضيعاً. المطلب الثالث: أنواع الحرز: الحرز نوعان: 1- حرز بنفسه، ويسمى حرزاً بالمكان، وهو كل بقعة معدة للإحراز يمنع الدخول فيها إلا بإذن: كالدار، والبيت. 2- وحرز بغيره، ويسمى حرزاً بالحافظ: وهو كل مكان غير معدِّ للإحراز، لا يمنع أحد من دخوله: كالمسجد، والسوق. ولما كان ضابط الحرز، وتحديد مفهومه؛ يرجع إلى العرف، وهو يختلف باختلاف الزمان، والمكان، ونوع المال المراد حفظه، وباختلاف حال السلطان من حيث العدل، أو الجور، ومن حيث القوة، أو الضعف؛ فقد اختلف الفقهاء في الشروط الواجب توافرها ليكون الحرز تاماً، وبالتالي يقام الحد على من يسرق منه. فذهب الحنفية(32) إلى أن الحرز بنفسه: كل بقعة معدة للإحراز يمنع دخولها إلا بإذن، كالدور والحوانيت، والخيم والخزائن، والصناديق والجرن حظائر الماشية، سواء كان الباب مغلقاً، أو مفتوحاً، أو لا باب لها؛ لأن هذه الأبنية قُصِد بها الإحراز كيفما كان. ولا يُشترط في الحرز بنفسه عندهم وجود حافظ، ولو وُجد فلا عبرة به. أما الحرز بغيره: فهو كل مكان غير معد للإحراز يدخل إليه بدون إذن، ولا يمنع منه؛ كالمساجد، والطرق، والأسواق، وهي لا تُعتبر حرزاً إلا إذا كان عليها حافظ، أي شخص ليس له من مقصد سوى الحراسة، والحفظ؛ فإن كان له مقصد آخر فلا يكون المال محرزاً به. وذهب المالكية(33) إلى أن الحرز بنفسه: كل مكان اتخذه صاحبه مستقراً له، أو اعتاد الناس وضع أمتعتهم به سواء أكان محاطاً أم غير محاط كالبيوت، والحوانيت، والخزائن، وكالجرن الذي يُجمع فيه الحب، والتمر، وليس عليه باب ولا حائط، ولا غلق، وكالأماكن التي يضع التجار بضائعهم فيها، في السوق، أو في الطريق؛ دون تحصين، وكالأماكن التي تُراح فيها الدواب دون بناء، أو التي تُناخ فيها الإبل للكراء. أما الحرز بغيره فهو المكان الذي لم يتخذه صاحبه مستقراً له، ولم تجر العادة بوضع الأمتعة فيه؛ كالطريق، والصحراء، وهو يكون حرزاً بصاحب المتاع إن كان قريباً من متاعه عرفاً، بشرط أن يكون حياً، عاقلاً، مميزاً. وعند الشافعية(34) لا يكون حرزاً بنفسه إلا المكان المغلق المعد لحفظ المال داخل العمران؛ كالبيوت، والحوانيت، وحظائر الماشية. فإن كان المكان غير مغلق بأن كان بابه مفتوحاً، أو ليس له باب، أو كان حائطه متهدماً، أو به نقب؛ فإنه لا يعُتبر حرزاً بنفسه. وإن كان المكان خارج العمران بأن كان منفصلاً عن مباني القرية، أو البلدة؛ ولو ببستان، فلا يكون حرزاً بنفسه، ولا يرى الشافعية ما يمنع من اعتبار الحرز بنفسه حرزاً حرزاً بالحافظ إذا اختل الحفظ بالمكان. أما الحرز بغيره فهو كل مكان لم يعد لحفظ المال، أو كان خارج العمران، أو غير مغلق، وهو لا يكون حرزاً إلا بملاحظ يقوم بحراسة المال بحيث لا يعتبر العرف صاحبه مقصراً عند سرقته، والملاحظة يختلف مداها باختلاف نوع الحرز. ويتفق الحنابلة مع الشافعية في أن الحرز بنفسه هو كل موضع مغلق، معد لحفظ المال، داخل العمران كالبيوت، والحوانيت، وحظائر الماشية، فإن لم يكن مغلقاً فلا يُعتبر حرزاً بنفسه، وإن لم يكن معداً لحفظ المال كالسوق والمسجد فلا يُعتبر حرزاً بنفسه، وإن كان خارج العمران فلا يُعتبر حرزاً بنفسه، ولا يرى الحنابلة مانعاً من اعتبار الحرز بنفسه حرزاً بالحافظ إذا اختل الحرز بالمكان بأن أذن للسارق بالدخول، أو كان الباب مفتوحاً، أما الحرز بغيره فهو الموضع الذي لم يعدّ لحفظ المال دون حافظ في العادة؛ كالخيام، والمضارب، أو الموضع المنفصل عن العمران؛ كالبيوت في البساتين، والطرق، والصحراء مغلقة كانت أو مفتوحة فلا تكون حرزاً إلا بحافظ أياً كان(35). المبحث الثالث: معنى السيارة، وبيان حرزها: المطلب الأول: معنى السيارة في اللغة، وفي الاصطلاح المعاصر. السيارة في اللغة مأخوذة من الفعل (سير)، وفي معجم مقاييس اللغة أن السين والياء والرّاء أصل واحد يدل على مضي وجريان، يقال: سار يسير سيراً، وذلك يكون ليلاً ونهاراً، ومنه السيرة، وهي الطريقة في الشيء والسنة، سميت بذلك لأنها تسير وتجري(36). والسيّارة: القافلة(37)، ومنه قوله - تعالى -: (وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم)(38)، سميت بذلك لكثرة سيرها. وأما السيّارة في الاصطلاح المعاصر فعرِّفت بأنها: "عربة آلية سريعة السير، تسير بالبنزين ونحوه، وتستخدم في الركوب، أو النقل"(39). والسيارة إذا أطلقت في زمننا هذا فهي معروفة، لا يكاد يجهلها أحد، بل يعرفها الصغير والكبير، والجاهل وغير الجاهل؛ لأنها مما تمّس حاجة الناس اليوم إليها، وعليها المعوّل في غالب تنقلاتهم. ومن المعلوم أن السيارات أنواع كثيرة؛ فمنها ما يستخدم للنقل الخاص، أي لنقل الأشخاص، والأمتعة الخفيفة، وهي الأكثر، ومنه ما يستخدم لنقل الجماعات الكثيرة من الناس، ومنها ما يستخدم لنقل الأحمال الثقيلة، أو لنقل الماء، والوقود، وغير ذلك من الاستخدامات المتعددة؛ فضلاً من الله - تعالى - ونعمة؛ فالحمد والشكر له - سبحانه - على تفضله وإنعامه. المطلب الثاني: حرز السيارات: من المعلوم أن السيارات بأنواعها هي من الآلات التي استحدثت في العصور المتأخرة بعد اكتشاف النفط، والاستفادة منه في تطبيقات صناعية كثيرة منها صناعة المعدات الآلية، والتي منها السيارات، ثم ما زالت هذه السيارات تطوّر وتحسّن حتى وصلت إلى ما نراه اليوم من أنواع ومواصفات كثيرة؛ ولذا كان من الطبيعي ألاّ يتطرق الفقهاء المتقدمون في كتبهم لمسألة حرز السيارات؛ لأنها لم تكن قد وجدت آنذاك، وإنما تطرّقوا لحرز بعض الأشياء التي كانت تقوم في عهدهم مقام السيارات الآن؛ كحرز الإبل، وحرز السفن، وفصّلوا الكلام في حكم سرقة الإبل، وسرقة السفن، وحكم السرقة منها، وحرز كل منها. والحقيقة أننا بحاجة إلى بيان حرز السيارات نظراً لما نلحظه من كثرة السرقات الواقعة عليها؛ فهل يُقال: إن السيارات تأخذ حكم الإبل، أو السفن من جهة الإحراز وعدمه، أم أن لها حكماً آخر؟ ذهب بعض الباحثين المعاصرين إلى أن السيارات تأخذ حكم الإبل في الإحراز وعدمه(4)، ولعل من ذهب إلى هذا نظر إلى أن السيارات الآن لما قامت مقام الإبل في التنقل، وحمل الأثقال، ونحو ذلك؛ فإنها تأخذ حكمها لأن البدل يأخذ حكم المبدل. وبناءً على هذا الاتجاه، وقياساً على ما ذكره الفقهاء في حرز الإبل؛ فإن حرز السيارات الواقفة داخل العمران يكون على مذهب الحنفية والمالكية هو وجودها في مكانها المتعارف على وضعها فيه، سواء أكانت داخل الدار، أم في الطريق، أم في مكانها المعدّ لبيعها في السوق، أم في الأماكن المعدّة لها عموماً كمواقف السيارات. وإذا أوقفت السيارة في مكان غير متعارف على وضعها فيه؛ كأن تكون عند المسجد، أو في السوق في غير المكان المعدّ لها؛ فإنها تكون غير محرزة. أما إذا كانت خارج العمران فإنها لا تكون محرزة إلا بالحافظ. أما بناءً على مذهب الشافعية والحنابلة فإن السيارة لا تكون محرزة إلا بحافظ؛ فإذا كانت مقفلة؛ فيكتفى بالحافظ ولو كان نائماً. هذا بناءً على ما تقدم بيانه من نوعي الحرز وهما: الحرز بالمكان، والحرز بالحافظ، وما يترتب على كل منهما من أحكام. والذي يظهر والعلم عند الله - تعالى - أن قياس السيارات على الإبل في طريقة إحرازها فيه بُعد؛ ذلك لأن السيارات وإن كانت بديلاً عن الإبل في بعض الاستخدامات إلا أنها تختلف عنها، وتفارقها في أمور كثيرة من أهمها: أولاً: أن الإبل يمكن سرقتها بمجرد فكّ عقالها إن كانت معقولة، ثم قيادتها، بخلاف السيارة فهي تحتاج لفتح قفل بابها، ومن ثم تشغيلها، وإدارة محركاتها، وهذا وذاك لا يكونان إلا بمفتاح، ثم إن كل سيارة لها مفتاح خاص بها. ثانياً: إن عادة الناس في هذه الأيام في إحراز السيارات تختلف عن عادتهم - في هذه الأيام كذلك - في إحراز الإبل؛ فكل منهما له طريقة معينة في الحفظ والإحراز، فدلّ على التفاوت بينها. ثالثاً: إن الحرز إنما يعتبر بالعادة، وعادات الناس تختلف باختلاف الأمكنة، والأزمنة - كما سبق بيانه -، وتختلف كذلك باختلاف المال المحرز، بل إن السيارات فيما بينها قد تختلف أحرازها باختلاف الزمان، والمكان؛ فإذا جاز اختلافها فيما بينها؛ فإن اختلافها عن الإبل من باب أولى. فإذا تبيّن بُعد قياس السيارات على الإبل في الإحراز؛ فإن الأقرب أن يقال: إن حرز السيارات إنما يعتبر بالعرف والعادة التي درج عليها الناس في ذلك البلد، وذلك الزمان؛ فما عدّه الناس حرزاً لمثل هذه السيارة حُكِم بأنه حرز لها، وما عدّه الناس أنه ليس بحرز حُكِم به كذلك؛ أخذاً بالقاعدة الفقهية المشهورة: "القاعدة مُحَكَّمة"(41). وقد أكّد الفقهاء - رحمهم الله تعالى - قديماً على هذا المعنى فيما يتعلق بخصوص الحرز، ومن ذلك قول الإمام الشافعي - رحمه الله - تعالى -: "وانظر إلى المسروق، فإن كان في الموضع الذي سرق فيه تنسبه العامة إلى أنه في مثل ذلك الموضع محرز؛ فاقطع فيه، وإن كانت العامة لا تنسبه على أنه في مثل ذلك الموضع محرز؛ فلا يقطع فيه"(42). وقال: "الأحراز تختلف، فيحرز بكل ما يكون العامة تحرز به"(43). ويقول ابن قدامة - رحمه الله - تعالى -: "والحرز ما عُدَّ حرزاً في العرف؛ فإنه لما ثبت اعتباره في الشرع من غير تنصيص على بيانه؛ عُلِم أنه ردّ ذلك إلى أهل العرف؛ لأنه لا طريق إلا معرفته إلا من جهته؛ فيرجع إليه، كما رجعنا إليه في معرفة القبض والفرقة في البيع وأشباه ذلك(44). وبهذا يتبين أن المحكم في ضبط حرز السيارات إنما هو العرف، وذلك للأمور التالية: أولاً: أن الشارع أثبت اعتبار الحرز في وجوب القطع من غير تنصيص على بيانه؛ فعُلِم أنه ردّ على عرف الناس فيه؛ فيؤخذ به في حرز السيارات. ثانياً: أن الرجوع في ضبط الحرز إلى العرف هو في حقيقته رجوع إلى الشرع؛ فإن الشرع ما ترك التحديد إلا أن الحرز لا ينضبط(45). ثالثاً: أن ضبط حرز السيارات بضابط محدد غير العرف لا يمكن؛ لأن ذلك يختلف باختلاف الزمان، والمكان، واستتباب الأمن وضعفه، ويختلف كذلك باختلاف أنواع السيارات، واختلاف استخداماتها. وبهذا يتبين أن ضابط الحرز في السيارات هو العرف، ولكن ينبغي أن ينضم على ذلك ضابط آخر وهو عدم حصول التفريط في إحراز السيارة؛ لأن التفريط في الإحراز يضعفه؛ إذ الحرز في اللغة يدل على الحفظ، والصيانة عن الأخذ(46)، والتفريط يضاد ذلك. ولذا فسّر بعض الفقهاء المُحرز بأنه لا يُعدّ صاحبه مضيِّعاً(47)، وقال الماوردي - بعد بيانه للحرز وأنه يختلف باختلاف المُحرَزات -: ".. وجملة ذلك اعتبار شرطين: العرف، وعدم التفريط"(48)، والذي يظهر أنه لا بُدّ من اعتبار هذين الشرطين في حرز السيارات، والله - تعالى - أعلم. يتبع
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |