|
فتاوى وأحكام منوعة قسم يعرض فتاوى وأحكام ومسائل فقهية منوعة لمجموعة من العلماء الكرام |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() السياق وأهميته في سلامة الاستدلال وتحديد مطلوب الخبر د. أنس وكاك ونعني بالاستدلال تقرير الدليل لإثبات مدلول المحور المذكور، ونعني بالخبر، خبر الشرع الذي هو الدليل النقلي، وهو الكتاب والسنة، ومطلوبهما هو مدلولهما، وقد يكون حكما شرعيا أو غير ذلك مما يتعلق بغاية التشريع ومقصده. أما السياق: فهو المتعلق والبعد والمجرى الذي يأتي الكلام منصبا فيه، فسياق الكلام أسلوبه ومجراه الذي يجري فيه. ومعرفة السياق من طرق استقراء المعاني والدلالات عند الأصوليين وعلماء العربية، والقاعدة الأم عندهم في هذا الباب هي: الحكم بالمدلول المسوق فيه على المراد من المسوق؛ أي على دلالته وما يستفاد منها على الوجه الراجح لا المرجوح والمحتمل. وقد رد العلماء الراسخون وجوها كثيرة من الاستدلال المفيد لمراد المستدل ظاهرا بحكم السياق وسبب الورود. فمثلا من المعاني المتبادرة إلى الذهن الذم المنسوب للشعراء في قوله تعالى: ﴿والشعراء يتبعهم الغاوون. ألم تر أنهم في كل واد يهيمون. وأنهم يقولون ما لا يفعلون﴾ (الشعراء: 223-225)، والحقيقة أنه ليس الكلام ذما للشعراء بحكم السياق والقرينة. فالسياق هو نفي دعوى المشركين القائلة ببشرية القرآن واختلاقه، والسياق يبدأ من قوله تعالى:﴿وما تنـزلت به الشياطين﴾[1]، ففيه نفي لتقوّل القرآن وعدم إنـزاله لا ذم للشعراء مطلقا؛ إذ في الشعر من الحِكم والأمثال وبدائع القول ما لا يأتي عليه المداد عدا، وذلك بقرينة قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من الشعر لحكمة)[2]، أي: قولا صادقا مطابقا للحق. قال الإمام الألوسي في “روح المعاني”[3]، في سياق تفسيره للآيات السابقة: “الظاهر من السياق أنها نـزلت للرد على الكفرة الذين قالوا في القرآن ما قالوا”. ومن أمثلة تحكم السياق في السنة ما يظهر من عدم تفاضل الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم من ظاهر حديث: (لا تفضلوا بين الأنبياء)[4]، والسياق في مجال ذم التفاخر والمباهاة بذلك لا في نفي وجود الفضل المعلوم كونه والاجتباء المذكور في القرآن، ومنه: ﴿تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض﴾ (سورة البقرة: 223)، وغيرها من الآيات. قال الإمام أبو سليمان الخطابي في “معالم السنن”[5]: “معنى هذا ترك التخيير بينهم على وجه الإزراء ببعضهم؛ فإنه ربما أدى ذلك إلى فساد الاعتقاد فيهم والإخلال بالواجب من حقوقهم وبفرض الإيمان بهم، وليس معناه أن يعتقد التسوية بينهم في درجاتهم، فإن الله سبحانه قد أخبر أنه فاضل بينهم، فقال: ﴿تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات﴾. والسياق من حيث هو قرينة كبرى أو مجموعة قرائن صغرى ينقسم قسمين: سياق لغوي (مقالي) يعتمد على القرائن اللغوية التي يتضمنها الدليل ويستدل بها على مدلوله من جهة اللفظ والمعنى لتحديد المعنى اللغوي، أو ما يعبر عنه البعض بالمعنى النحوي أو الوظيفي للجملة، ألا ترى إلى العرب حين قالت: خرق الثوبُ المسمارَ، لم يعتبروا بقرينة الإعراب في دلالتها على المعنى النحوي للجملة، وذلك لوضوحه، وهو ما يسميه اللغويون بـ”أمن اللبس”، لدلالة قرينة الإسناد والمعنى المعجمي المناسب لمادة خرق. وسياق غير لغوي (مقامي) يعتمد على سائر القرائن الأخرى المرتبطة بالـدليل والمدلول لتحديد مراد المتكلم بحسب مقتضى الحال، وهذا المعنى المقصود في خطاب المتكلم هو ما يعبر عنه البعض بالمعنى الوظيفي المراد من الخِطاب، ومقتضى الحال يشمل عناصر كثيرة تتصل بالمخاطِب والمخاطَب وسائر الظروف التي تحيط بالخِطاب، وهذا قدر زائد على مجرد فهم وضع اللفظ في اللغة، ألا ترى إلى اختلاف الغاية التي تساق من أجلها القصة في القرآن، فتذكر بعض معانيها الوافية بالغرض في مقام، وتبرز معان أخرى في سائر المقامات حسب اختلاف مقتضيات الأحوال. فالنمط التركيـبي للجملة قد يتعدد معناه الوظيفي بتعدد احتمالات الدلالات في القرائن اللغوية المقالية، فيصبح النمط التركيـبي بحاجة إلى اعتبار القرائن المقامية لرفع تلك الاحتمالات وتحديد المعنى المراد، ولذلك قال الإمام أبو إسحاق الشاطبي في “موافقاته”[6]، في سياق استدلاله على أهمية أسباب التنـزيل في فهم الكتاب الذي هو أصل أدلة الأحكام: “والدليل على ذلك أمران: أحدهما: أن علم المعاني والبيان الذي يُعرف به إعجاز نظم القرآن فضلا عن معرفة مقاصد كلام العرب إنما مداره على معرفة مقتضيات الأحوال، حال الخطاب من جهة نفس الخطاب، أو المخاطَب، أو المخاطِب، أو الجميع؛ إذ الكلام الواحد يختلف فهمه بحسب حالين، وبحسب مخاطبين، وبحسب غير ذلك، كالاستفهام لفظه واحد، ويدخله معان أخـر من تقرير وتوبيخ وغير ذلك، وكالأمر يدخله معنى الإباحة والتهديد والتعجيز وأشباهها، ولا يدل على معناها المراد إلا الأمور الخارجة، وعمدتها مقتضيات الأحوال، وليس كل حال ينقل، ولا كل قرينة تقترن بنفس الكلام المنقول، وإذا فات نقل بعض القرائن الدالة، فات فهم الكلام جملة أو فهم شيء منه، ومعرفة الأسباب رافعة لكل مشكل من هذا النمط، فهي من المهمات في فهم الكتاب بلا بد، ومعنى معرفة السبب هو معنى معرفة مقتضى الحال،..”. وقد أحسن رعاية هذا المعنى من المعاصرين الدكتور تمام حسان في دراسته اللغوية الرائعة “البيان في روائع القرآن[7]، فإنه بعد استشهاده بأمثلة تطبيقية متعددة من روائع القرآن في اعتبار قرينة السياق في تحديد المعنى المراد من النص، وبيان اعتماد هذه القرينة على مختلف القرائن من داخل النص وخارجه، قال: “وهكذا تمتد قرينة السياق على مساحة واسعة من الركائز، تبدأ باللغة من حيث مبانيها الصرفية وعلاقاتها النحوية ومفرداتها المعجمية، وتشمل الدلالات بأنواعها من عرفية إلى عقلية إلى طبيعية، كما تشتمل على المقام بما فيه من عناصر حسية ونفسية واجتماعية كالعادات والتقاليد ومأثورات التراث، وكذلك العناصر الجغرافية والتاريخية، مما يجعل قرينة السياق كبرى القرائن بحق؛ لأن الفرق بين الاستدلال بها على المعنى، وبين الاستدلال بالقرائن اللفظية النحوية كالبنية والإعراب والربط والرتبة والتضام… هو فرق ما بين الاعتداد بحرفية النص والاعتداد بروح النص، وقرينة السياق هي التي يحكم بواسطتها على ما إذا كان المعنى المقصود هو الأصلي أو المجازي، وهي التي تقضي بأن في الكلام كناية أو تورية أو جناسا…، وهي التي تدل عند غياب القرينة اللفظية على أن المقصود هذا المعنى دون ذاك؛ إذ يكون كلاهما محتملا”. وعُني بهذا من قبلُ في دراسته الشهيرة التي أفاد منها مَن بعده، وأعني بذلك كتابه: “اللغة العربية: معناها ومبناها[8]، فإنه قال في سياق حديثه عن البنية اللغوية والقرينة اللفظية: “السياق كالطريق، لابد له من معالم توضحه، ولا شك أن مباني التقسيم وما تبدو فيه من صيغ صرفية وصور شكلية، وكذلك مباني التصريف، مع ما تبدو به من لواصق مختلفة، تقدم قرائن مفيدة جدا في توضيح منحنيات هذا الطريق، ولكن السياق حتى مع وضوح الصيغ واللواصق يظل بحاجة إلى الكثير من القرائن الأخرى التي تتضح بها العلاقات العضوية في السياق بين الكلمات”. والمتكلم في السياق من حيث هو، إما أن يقصد بكلامه السياق المقالي أو المقامي أو كليهما، وسياق كلامه الحالي هو الذي يحدد مراده من جهة السامع، فالسامع، إذن، لابد له في فهم مراد المتكلم أن يكون عارفا بالسياق وسياق السياق. والعلـم بمدلول الدليل كما يتفـاوت فيه المخـاطبون من جهة فهمهم للـدليـل ومحيطه وسياقه الذي عايشوه، يتفاوت في فهمه مَن بعدهم بحسب وقوفهم على لوازم فهم ذلك الدليل، وبحسب ذلك تتفاوت مراتبهم في الفقه والعلم، ومن لوازم فهم الدليل أو فهم مراد المتكلم من كلامه العلم بالقرائن المرتبطة به جملة وتفصيلا، وهي عين السياق الذي نتحدث عنه. ومن هذه الجهة اشتُرط الفقهُ في الراوي عند جماعة من العلماء؛ وعلّلوا ذلك بأن غير الفقيه مظِنة سوء الفهم ووضع النصوص على غير المراد منها، ونُقل عن الإمام مالك أنه ذكر ذلك من باب الاحتياط في الأحكام، وخاصة في رواية الحديث بالمعنى. ومن هذه الجهة، أيضا، اشترط المجيزون لرواية الحديث بالمعنى أن لا يكون اللفظ الذي نقل به الراوي معنى الحديث أخفى من لفظ الحديث الأصل ولا أظهر؛ لأن الشارع ربما قصد إيصال الحكم باللفظ الجلي تارة، وبالخفي أخرى، فتصرف الراوي في اللفظ من جهة الوضوح أو الخفاء قد يوهم أرجحية غير الراجح عند تعارض الأدلة. فالسياق عند علماء الشريعة أشبه بالميزان الذي يوفق بين الدليل الشرعي ومدلوله المراد، وبالنور الذي يكشف الغُمّة عن حالة الدليل التي هي المدلولات المحتملة إذا لم يكن نصا، فيخرجه من حيِّز الإشكال إلى حيِّز الوضوح والتجلي، وبالروح التي تُضفي على الدليل حيويته ومرونته في حل المعضلات وتوضيح المجملات وتعيين المحتملات بالنسبة للمخاطَب (السامع). والدليل الشرعي إنما يُراد أساسا للإيصال إلى معرفة الحكم الشرعي، والحكم الشرعي له مصدر، وهو الشرع، ومورد، وهو المكلف الذي يتلقاه ليمتثله. ثم مورد الحكم -وهو المكلف- قد يكون مجتهدا يستقل بمعرفة الحكم، وقد يكون قاصرا عن ذلك، وحكم القاصر هو التقليد للمجتهد، والمجتهد لا يصح له عند جمهور العلماء أن يقول بقولين مختلفين من جهة واحدة في وقت واحد[9]، والمقلد إنما عليه أن يستفتي علماء بلده؛ لأنهم أعرف به وبقضاياه وأعراف البلد التي لا يُستطاع الاستغناء عنها، وهذا أمر لم يفرده الأصوليون بباب مستقل لوضوحه، ولذلك قال ابن القيم في “إعلام الموقعين”[10]: “لا يجوز له؛ (أي للمفتي) أن يفتي في الإقرار والأيمان والوصايا وغيرها مما يتعلق باللفظ بما اعتاده هو من فهم تلك الألفاظ دون أن يعرف عُرف أهلها والمتكلمين بها فيحملها على ما اعتادوه وعرفوه وإن كان مخالفا لحقائقها الأصلية، فمتى لم يفعل ذلك ضل وأضل”. وهذا مثال من أمثلة اعتماد المفتي في مجال الفتوى على قرينة السياق القائم على معرفة العادات والأعراف والتقاليد، لأن هذه المعرفة أساسية في صنعة الفتيا وفقه المفتي وإصابة الحق، ويفتقر فهم نص سؤال المستفتي إليها، والمفتي إذا كان جاهلا بالناس وأحوالهم وعوائدهم وعرفياتهم سيفتي الناس بمجرد المنقول المجرد عما يشهد بسلامة العمل به. فالمعرفة بالأحكام الشرعية من حيث هي ثابتة، ليس هو عين المعرفة بها من حيث هي متغيرة بحسب تنـزيلها على الوقائع؛ ولذلك قال الونشريسي في “المعيار”[11]: “تجد الرجل يحفظ كثيرا من الفقه ويفقهه ويعلمه غيره، فإذا سئل عن واقعة لبعض العوام من مسائل الصلاة، أو مسألة من الأعيان لا يحسن الجواب، بل ولا يفهم مراد السائل عنها إلا بعد عسر”. وقال ابن القيم: “ومن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم فقد ضل وأضل، وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طبب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم”[12]. وما من شك في أن اعتبار العرف والعادة في كثير من أبواب الفقه هو اعتبار للسياق المقامي من جهة اشتراط الاطراد والغلبة فيهما، فلا اعتبار بعرف ولا عادة إلا باعتبار السياق المقامي الذي يقدمهما من جهة المعنى ويشهد بسلامة العمل بهما، وقد سمى العرب المهر سياقا؛ لأنهم إذا تزوجوا كانوا يسوقون الإبل والغنم مهرا، وكانت هي الغالب على أموالهم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن وقد تزوج بامرأة من الأنصار: (ما سقت إليها؟)؛ أي ما أمهرتها؟ وفي رواية: (ما سقت منها؟)؛ بمعنى البَدَل. وكون الأحكام الشرعية تختلف باختلاف الصور الحادثة لا يعني أنها أحكام غير مشروعة أو شرع جديد كما يبدو لبعض السطحيين، فتنـزيل الأحكام على الوقائع يحتاج إلى معرفة العوارض والعوائد، والتمييز بين العوائد المستمرة والمتبدلة، والمعرفة بمآلات الأحكام والأفعال، والمعرفة بطبيعة الوقائع في أحوال فاعليها، وعلاقات تلك الوقائع مع غيرها من الأوضاع، والظروف المحيطة بتلك الوقائع الزمانية والمكانية، وهذا باب يلتبس على كثير من الناس. وإذا كان مطلوب خبر الشرع قد بيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين، وتركهم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، فمعنى ذلك أن هذا المطلوب بَيِّنٌ واضح بعد اكتمال التبليغ، فلا إجمال بقي فيما كان مجملا، ولا إشكال بقي فيما كان مشكلا، وبهذا نفهم أن دراسات الأصوليين للدليل الشرعي من جهة كونه مجملا كما عند الجمهور، أو من جهة كونه مشكلا كما عند الأحناف إنما هو من باب الدراسات النظرية في أصول الفقه، ولا أقول من رياضيات فن الأصول كما في بعض المباحث الجزئية الأخرى التي يصدق عليها ذلك الوصف؛ إذ المعرفة بها لا تخلو من ثمرة. والذي يظهر أن المجتهد حينما يستفرغ وسعه ويبذل جهده في طلب المقصود من جهة الاستدلال، إنما يُبين حكما شرعيا كان خفيا في أحشاء الدليل ودلالته وإيحاءات سياقه وظِلاله وجَوِّه العام والخاص، وهذا هو معنى استنباط الحكم الشرعي، ولذلك يرى بعض الأحناف بأنه لا فرق بين إظهار المجتهد لعلة الحكم وتطبيقه الدليل العام على أفراده، أو ترجيحه بين الأدلة عند التعارض، وأصحاب هذا الاتجاه يرون بأن وظيفة المجتهد هي بيان الحكم الشرعي وإظهاره بعد أن كان خفيا. وتحصيل المجتهد على كل حال هو تحصيل ظني لاحتمال وقوع الخطأ في الاستدلال من جهة النظر، ومن أسباب وقوع ذلك القصور إغفال بعض قرائن السياق كما لا يخفى. وقد استدل الإمام أحمد على عدم جواز رجوع الواهب فيما وهب بقرينة السياق المذكورة في الحديث الوارد في ذلك، وهو قوله صلى الله عليه وسلم ![]() فالاحتمالات في حالة الدليل، وترجيح إحداها على الأخرى، وكون الاحتمال الراجح هو المدلول المراد، كل ذلك متوقف على الدليل المفضي لترجيحه، وهو أنواع بحسب قرب الاحتمال وبعده، وقد يكون هذا الدليل المرجح قرينة السياق، وهذا نظير دليل التأويل الذي ينضم إلى احتمال اللفظ المؤول فيستوليان على الظاهر، فالكلام في هذا المكان كالميزان. ويشهد لما ذكرت ما قرره أبو حامد الغزالي في “المستصفى”[13]، في طريق فهم المراد من الخطاب، وهو الفصل السادس من الفن الأول من القطب الثالث في كيفية استثمار الأحكام، قال: “ويكون طريق فهم المراد تقدم المعرفة بوضع اللغة التي بها المخاطبة، ثم إن كان نصا لا يحتمل كفى معرفة اللغة، وإن تطرق إليه الاحتمال فلا يعرف المراد منه حقيقة إلا بانضمام قرينة إلى اللفظ، والقرينة إما لفظ مكشوف… وإما إحالة على دليل العقل… وإما قرائن أحوال من إشارات ورموز وحركات وسوابق ولواحق لا تدخل تحت الحصر والتخمين…”. وقال ابن القيم في “إعلام الموقعين”[14]: “فمن عرف مراد المتكلم بدليل من الأدلة وجب اتباع مراده، والألفاظ لم تقصد لذواتها، وإنما هي أدلة يستدل بها على مراد المتكلم، فإذا ظهر مراده ووضح بأي طريق كان عمل بمقتضاه، سواء كان بإشارة أو كتابة أو إيماء أو دلالة عقلية أو قرينة حالية أو عادة له مطردة لا يخل بها…”. وإذا أمعنا النظر في مجموع شروط النظر الصحيح التي تواضع عليها الأصوليون في باب الاجتهاد فإننا نجدها متعلقة بالسياق، فالعلم باللغة العربية ووجوه دلالاتها، ومعرفة أسباب نـزول القرآن وأسباب ورود الحديث، وإدراك مقاصد الشارع من تشريعاته وأحكامه، وغيرها من الشروط الأساسية أو التكميلية مرتبطة ارتباطا وثيقا بالسياق. وإنما وجب اعتبار السياق في فهم المدلول المراد من الدليل؛ لاختصاصه بقوة في الدلالة على المدلول المراد، فهو ترجيح وتقديم لأحد المدلولين على الآخر، أحدهما هو المراد، وهو ما شهدت به قرينة السياق. والترجيح بين المدلولين باعتبار قرينة السياق في المجال الأصولي، هو من باب القياس على الترجيح بين الدليلين المنقولين، فإننا إذا أمعنا النظر في باب الترجيح في كتب علماء أصول الفقه، سنجد السياق اللغوي منصوصا عليه ضمن المرجحات بين الدليلين، إذ الترجيح عندهم يكون، أيضا، بـ”الأحسن سياقا “؛ لأن حسن السياق دليل على رجحانه، واهتمام الراوي بما يرويه، فما كان من الأدلة أحسن سياقا واتساقا هو الذي يدل على مطلوب الخبر الصحيح، ولذلك قال الإمام مالك، رحمه الله، بأفضلية الإفراد في الحج؛ لأن حديث جابر في صفة الحج أولى من حـديث أنس الذي احتج به أبو حنيفة، رحمه الله، على أفضلية القران، لأن جابرا وصف الحج من بدايته إلى نهايته، وجاء بالحديث على سَوْقِه، وذلك يدل على حفظه وضبطه وعلمه بظاهر الأمر وباطنه، بخلاف أنس فإنه قال: قرن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلم ينقل إلا لفظة واحدة يجوز عليه فيها ألا يعلم مسببها. ومن ضوابط الترجيح عند الأصوليين أنه متى اقترن بأحد الدليلين قرينة عقلية أو لفظية أو حالية، وأفاد ذلك الاقتران زيادة ظن رُجِّح به؛ لأن رجحان الدليل هو بالزيادة في قوته أو ظن إفادته المدلول. فالرجحان صفة تقوم بالدليل كما تقوم بالمدلول بإحدى المرجحات، ومن ذلك قرائن السياق. واختلاف الأصوليين في حكم فعله صلى الله عليه وسلم المتردد بين ما هو جبلي وتشريعي بالنسبة إلينا نحن الأمة، عند من جعلوه قسما مستقلا، إنما منشؤه تعارض الأصل الذي هو براءة الذمة؛ (أي استصحاب العدم الأصلي أو النفي الأصلي أو الإباحة العقلية)، مع الظاهر الذي هو الاختصاص النبوي بتبليغ الشرعيات، لكن بالرجوع إلى آحاد تلك الأفعال، يظهر الراجح من الأقوال، من جهة اعتبار قرائن الأحوال الدالة على الحكم الشرعي المناسب، لا من جهة اعتبار الأصل دون الظاهر أو العكس، وهذا واضح بالنسبة لحكم فعله صلى الله عليه وسلم الـمجرد المعلوم الصفة، فإن صفة ذلك الحكم تُـعرف، أيضا، من جهة قرائن الأحوال الدالة عليه، ومن القرائن الدالة على الوجوب مثلا: فعلُ الأذان والإقامة للصلاة، فإنه قد تقرر في الشرع أن الأذان والإقامة من أمارات الوجوب، ولهذا لا يُطلبان في صلاة عيدٍ، ولا كسوفٍ ولا استسقاءٍ، فيدُلان على وجوب الصلاة التي يُؤذن لها ويُقام. والقرينة الدالة على النـدب قصدُ القُربة مجردا عن دليل وجوبٍ وقرينته، والقرينة الدالة على الإباحة عدم ظهور هذا المعنى. يتبع
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |