
21-08-2022, 10:54 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,685
الدولة :
|
|
قراءة في قصة " بكاء الشادوف "
قراءة في قصة " بكاء الشادوف "
د. نبيل محمد رشاد
بكاء الشادوف
أقصوصة لمحمد عبدالحليم عبدالله
يستوقف نظرَ مَن تسوقه قدماه إلى تلك البقعة الهادئة الواقعة على النيل في القاهرة قطعةُ أرضٍ من بقايا الحقول، تنظر إليها القصور في ازدراءٍ وكِبْر، لكن الخصب الكامن في معدنِها بدا كأنَّه يتلقَّى عنجهيَّة المباني بتسامحٍ وعفو وإغضاء، كنفس العمل الذي يأتيه سكان هذه المباني، ونفس العمل الذي يأتيه الكادحون في هذه الأرض.
وهناك كوخ صغير يجثم بين قصرين، جدرانُه من صفيح وحطب، وطين وقصب، وجثم كأنه رصد وكله فرعون بكنز ثمين.
يتصاعد الدُّخَان من بابه وسقفه وكواه والتفاريح التي تملأ جدرانه، فلو رأيته من بعيد لظننت أنه يحترق.
لكنك حين تقتربُ منه يأخذ سمعَك أولَ ما يأخذ غناءٌ ناشزٌ لا انسجام فيه يتردَّد بلهجة صعيدية، ويراسله على البعد في وسط الحقل بكاء لشادوف ينزف الماء من بئرٍ غير غزيرة؛ حيث يسقي السبانخ والخبَّازى والنَّعْناع والجرجير، وبعض شجرات من الورد نثرت في فوضى على حوافي الحقل؛ لأن غرسها لم يكن عملاً مقصودًا لذاته.
وإن كنتَ ممَّن لا يقيسون الأمور بالأرقام كما يفعل عدَّاد الماء أو عداد الكهرباء، حكمت بأن في هذا الكوخ سعادة قد لا تكون فيما هو مُنْزوٍ بينه من قصور.
وكثيرًا ما يأخذ بصرَك أولَ ما يُرخِي الليلُ سدولَه غلامٌ في السادسة من عمره، أسود، صعيدي، محلوق الرأس بغير انتظام، جميل العينين، أخضر الأسنان من كثرة أكل الخضر، واسع الجلباب، مفتوح الصدر.
ترى هذا الغلام وقد جعل من إحدى الصفائح الفارغةِ دفًّا يوقع عليه غناءً يطرب له جدًّا، وقد تطرب له أنت كذلك على شرط أن تسمعه بأذنيه.
قلَّما يمسك الشادوف عن البكاء.
قلَّما يكف الدخان عن التصاعد.
وقلما يتخلف الغلام عن الغناء.
مشاهد متتابعة متلاحقة كأن كلاًّ منها كان سببًا في ظهور الآخر!
• • • •
كان الليلة جالسًا على باب الكوخ واجمًا لا يُغنِّي، والدفُّ الصفيح ملقًى على بُعْدٍ منه كأنه عودٌ خالٍ من الأوتار، وكان وجهُه الذي بدت ملامحه تحت ضوء شاحبٍ من مصباح صغير متجهًا إلى نافذة القصر، فقرأتُ عليه حزنًا، وأظن أنه لولا وقوف الظلام بيني وبينه لرأيتُ في عينيه البريئتين دموعًا، وأيَّد ما ظننت أنني سمعتُه يُهِيبُ بأمه الجالسة على العتبة من الداخل قائلاً لها - وهو يشير إلى نافذة مضيئة -: أما يزال "عادل" مريضًا بالحمى؟ ترى كيف حاله الآن؟ إنني لم أرَه من زمن طويل.. طويل.
كل يوم أُجهِّزُ له الورد، ولكنه لا ينزل.. ليتني أستطيع الدخول إليه.. منعني الخدم خمسَ مرَّات، فرميتُ الوردَ في النيل؛ لأنني قطفته من أجله.
فقالت الأم في حدة شديدة: إيَّاك أن تحاول هذا مرة أخرى.. مغفَّل.. "أمتى ح تتفهم"، إن أمه غاضبة، وتزعم أن نزوله إليك هو الذي سبب له الأمراض، ألم تسمعها وهي تُحذِّره من أن يمشي في الحقل، أو يقترب من الكوخ؟! فقال الغلام:
سمعتها يا أمي، وكانت تفتح النافذة المطلة علينا وتنحني إلى الأمام وهي تشير بيديها وتنادي عليه: "دولا.. دولا.. ألم أنهك عن النزول؟!"
فيفر عادل من أمامي!
ثم يسكت الغلام برهة، ويشرد بصره في الفضاء قبل أن يمصمص بشفتيه، ويهز رأسه في صمت، ثم يسأل أمه:
• لكن .. لم يمرض عادل يا أم، وهو يأكل لحمًا ويعطيني شيكولاته؟!
إن الدكتور في المستشفى قال لي يوم ذهبت مريضًا: "غذِّ نفسك يا شاطر"، لِمَ هو مريض يا أم؟!
• لم يمرض من الأكل.
• هل مرض من الجوع؟.. هل حرمه أبوه من الأكل لأنه (لا يسمع الكلام)؟
• ولا هذا يا مرسي.. إنه مريض بالحمى.
• سيشفى بإذن الله، فقط عليه أن يغذي نفسه.
•- بالعكس يقولون: إن الطبيب منعه من الأكل وهو يعيش على السوائل وحدَها.
فهز الغلام رأسه في حيرة مرة أخرى؛ لأنه لم يستطيع أن يوفق بين مشكلتين بدا التناقض واسعًا بينهما: ناس يمرضون فيشفون إن شبعوا، وناس يمرضون فيشفون إن جاعوا.
وفاحت روائح العدس فعطرت نواحي الكوخ، وجلس مرسي إلى العشاء بين أبويه، وبات بعدها يغطُّ في سبات عميق؛ لأنه البصل كان أكثر من كل مرة.
• • • •
ولم تشَأْ أسرةُ عادل أن تؤخِّر حفل ميلاده وإن كان لا يزال في دور النقاهة؛ لأن في تأخير حفل الميلاد شؤمًا على المواليد! ورأى مرسي وهو جالس عند باب الكوخ معطل الدف أن القصر الليلة في زينة، وأن أناسًا كثيرين يدخلون، وسأل فعلِم حقيقة الموضوع، وتقبَّل المريض التهاني والهدايا وهو في سريره، واختصر الحفل مراعاة للظروف، وتجمع المدعوون يسمرون، وتركوه وحده في الفراش.
وكانت هناك أقدام تتسلل على السلَّم الخلفي في طريقها إلى عادل، وحالف الحظُّ صاحبَها فلم يشعر به أحد، ودخل مرسي على صديقه غرفة نومه وفي قلبه شوق، وفي يمينه حزمة كبيرة من الأزهار لم يُنسِّقها سوى الحب، وكان المريض مسبل الجفنين كأنه نائم، فأقبل عليه صديقه كما يُقبِل الظامئ على المنهل، وأكب عليه في قُبْلَة أيقظته من أحلامه، وعجب عادل؛ لأن البراءة لم تكن قد خضعت بعد لسلطان التقاليد، فابتسم له، ومسح على رأسه الأشعث المغبر، لكنه سرعان ما تذكر أمَّه وخُيِّل إليه أنها تنادي من النافذة المطلة على الحقل وهي تشير بإحدى يديها:
"دولا .. دولا .. ألم أنهك عن النزول؟!"
فقال لصاحبه:
انزل يا مرسي.. أنت سبب مرضي كما تقول أمي!!
فلم يَسَعِ الضيفَ إلا أن يحملقَ فيه بعينين مستغربتين فيهما آثار من الدموع وهو يشير إلى صدره بإصبعه متعجبًا منكرًا: أنا؟ ... أنا؟
وكأنما عزَّ على الصديق الثاني أن يبكي زائره فهمس: "أنت زعلت..".
فمال مرسي عليه ليُقبِّله مرة أخرى.
• • • •
وتنقضي أيام يتم فيها شفاء عادل، وينزل إلى الدنيا ليملأها نورًا، وتحقق الأم نذرًا أنذَرَتْه لله، فتحرم على ابنها أن يحومَ حول الكوخ القريب ولو مرة واحدة، وتظل عينا الصبي الثاني تبحثانِ في سكون ولهفة عن الصبي الأول حتى إذا ما غلبهما اليأس اتَّجهتا نحو نافذتِه تطالعان النور.. ثم تنقضي أيام أخر..
وتنسق الأمور لأم عادل؛ لأن ابنها أصبح في أمان.
إن مرسي لا يظهر له ظل في المكان جميعه، ولا يسمع له صوت، وكثيرًا ما يهزُّ الشوق إليه ابنها الصغير فيطل على النافذة عله يراه عند الكوخ.. كان مرسي يهتف باسمه، لكن صوته لم يصل إليه؛ لأنه كان بعيدًا.
كان راقدًا في مستشفى الحميات في الدرجة الثالثة؛ حيث تتقارب الأسِرَّة في ازدحام قذر، تشرف عليه نفوس لا تحب عملها.
كان الغلام إذا هتف باسم صديقه وهو في وهج الحمى تنهَّدت إحدى الأمهات في سرير مجاور لتسهر على ابنها الصغير كما يقضي نظام المستشفى، ثم قالت:
• "يا عيني .. لازم أخوه!!"
لم يكن هناك غناء؛ لأن مرسي غائب، لكن الدفَّ الصفيح كان ملقى في إهمال على مقربة من الباب.
والشادوف كما هو لا يكف عن البكاء، والدُّخَان كما هو كذلك لا يتخلف عن التصاعد.. أعني أن ظاهرة واحدة من الظواهر الثلاث هي التي غابت!
وتدافعت الأيام في طريقها، والمريض في المستشفى يزهد في الطعام يومًا بعد يوم حتى قنع بالماء .. ثم استغنى عنه آخر الأمر!
وارتفع صراخٌ في الكوخ بعد ارتفاع الضحى حين نعى المستشفى إلى الأبوين ولدَهما.. ثم غابا قليلاً عن الحقل ريثما قضوا له آخر حاجاته ثم عادوا.
وكان أول ما عملته أم مرسي أن أخذت الدف وجرت به نحو النهر وألقته فيه.
وأشرقت شمس اليوم التالي فتخلَّفت الظاهرتان الباقيتان.. لم يكن الشادوف في ذلك اليوم يبكي؛ لأن صاحبه كان يبكي بعينيه.. ولم يكن يتصاعد من الكوخ دخان.
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|