تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         الاحتياط وقطع الذرائع والمشتبه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          القياس ​ بين النفى و الإثبات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          بين معاملة الخلق ومعاملة الخالق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          استشراف الفتن (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          ( قُرّة العين) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          ( حسبنا الله ونعم الوكيل) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          وصية رجل كبير فـي السن (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          (كنوز صلاة الجماعة في المساجد) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          طبْ نفسًا يا طالبَ العلم! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          شكرُ النّعم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #11  
قديم 29-04-2023, 05:21 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,114
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ يُوسُفَ
المجلد التاسع
صـ 3576 الى صـ 3590
الحلقة (411)



القول في تأويل قوله تعالى:

[ 76 ] فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم

فبدأ أي فتى يوسف بأوعيتهم أي ففتشها قبل وعاء أخيه أي بنيامين، نفيا للتهمة ثم استخرجها أي السقاية من وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف أي دبرنا لتحصيل غرضه ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك أي شرعه وقانونه. والجملة استئناف وتعليل لذلك الكيد وصنعه. أي: ما صح له أن يأخذ أخاه في قضاء الملك، فدبر تعالى ما حكم به إخوة يوسف على السارق، لإيصال يوسف إلى أربه، رحمة منه وفضلا. وفيه إعلام بأن يوسف ما كان يتجاوز قانون الملك، وإلا لاستبد بما شاء، وهذا من وفور [ ص: 3576 ] فطنته وكمال حكمته. ويستدل به على جواز تسمية قوانين ملل الكفر (دينا) لها والآيات في ذلك كثيرة.

وقوله تعالى: إلا أن يشاء الله يعني: أن ذلك الأمر كان بمشيئة الله وتدبيره; لأن ذلك كله كان إلهاما من الله ليوسف وإخوته، حتى جرى الأمر وفق المراد.

نرفع درجات من نشاء أي بالعلم، كما رفعنا يوسف. وفي إيثار صيغة الاستقبال إشعار بأن ذلك سنة إلهية مستمرة، غير مختصة بهذه المادة.

وفوق كل ذي علم أي من أولئك المرفوعين عليم أي فوقه أرفع درجة منه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 77 ] قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون

قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل هذا تنصل منهم إلى العزيز بالتشبيه به. أي: إن هذا فعل كما فعل أخ له من قبل، يعنون به يوسف.

فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا أي: منزلة، حيث سرقتم أخاكم من أبيكم، ثم طفقتم تفترون على البريء.

والله أعلم بما تصفون أي: من أمر يوسف.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 78 ] قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين

قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين لما تعين أخذ بنيامين وإبقاؤه عند يوسف بمقتضى فتواهم، طفقوا يعطفونه [ ص: 3577 ] عليهم، بأن له أبا شيخا كبيرا يحبه حبا شديدا يتسلى به عن أخيه المفقود، فخذ أحدنا بدله رقيقا عندك.

قال بعضهم: الفقه من هذه الجملة أن للكبير حقا يتوسل به، كما توسلوا بكبر يعقوب. وقد ورد في الاستسقاء إخراج الشيوخ. انتهى.

وفي ما عزموا عليه لإنقاذ أخيهم من شرك العبودية، المقضي عليه بها، ما يشف عن حسن طوية، ووفاء بالوعد، ويعرب عن أمانة، وصدق بر، وشدة تمسك بموثق أبيهم، محافظة على رضاه وإكرامه، وهكذا فليتمسك البار بمرضاة أبويه.

وقولهم: إنا نراك من المحسنين أي إلينا، فأتمم إحسانك بهذه التتمة. أو من المتعودين بالإحسان، فليكن هذا منه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 79 ] قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون

قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون أي إن أخذنا بريئا بمتهم; لأنه لا يؤخذ أحد بجرم غيره. قال بعضهم: إلا ما ورد في العقل.

وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 80 ] فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا قال كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين

فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا أي يئسوا من يوسف وإجابته لهم أشد يأس، كما دل عليه (السين والتاء) فإنهما يزادان في المبالغة.

[ ص: 3578 ] قال أبو السعود: وإنما حصلت لهم هذه المرتبة من اليأس، لما شاهدوه من عوذه بالله لما طلبوه، الدال على كون ذلك عنده في أقصى مراتب الكراهة، وأنه مما يجب أن يحترز عنه، ويعاذ بالله عز وجل، ومن تسميته (ظلما) بقوله: إنا إذا لظالمون و خلصوا بمعنى اعتزلوا وانفردوا عن الناس، خالصين، لا يخالطهم سواهم، و (نجيا) حال من فاعل خلصوا أي: اعتزلوا في هذه الحالة مناجين. وإنما أفردت الحال وصاحبها جمع; إما لأن النجي (فعيل) بمعنى (مفاعل) كالعشير والخليط، بمعنى المعاشر والمخالط، كقوله: وقربناه نجيا أي مناجيا، وهذا في الاستعمال يفرد مطلقا. يقال: هم خليطك وعشيرك أي: مخالطوك ومعاشروك. وإما لأنه صفة على (فعيل) بمنزلة صديق، وبابه. فوحد لأنه بزنة المصادر، كالصهيل والوحيد والذميل. وإما لأنه مصدر بمعنى التناجي، أطلق على المتناجين مبالغة، أو لتأويله بالمشتق والمصدر، ولو بحسب الأصل، يشمل القليل والكثير، وتنزيل المصدر منزلة الأوصاف أبلغ في المعنى، ولذا قال الزمخشري: وأحسن منه -أي من تأويل نجيا بذوي نجوى، أو فوجا نجيا أي مناجيا- أنهم تمحضوا تناجيا لاستجماعهم لذلك، وإفاضتهم فيه، بجد واهتمام، كأنهم في أنفسهم صورة التناجي وحقيقته، وكان تناجيهم في تدبير أمرهم على أي صفة يذهبون، وما يقولون لأبيهم في شأن أخيهم؟ كقوم تعايوا بما دهمهم من الخطب، فاحتاجوا إلى التشاور. انتهى.

لطيفة:

ذكر القاضي عياض في (الشفا) في (بحث إعجاز القرآن): أن أعرابيا سمع رجلا يقرأ: فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا فقال: أشهد أن مخلوقا لا يقدر على مثل هذا الكلام.

وقال الثعالبي في كتاب (الإيجاز والإعجاز) في الباب الأول: من أراد أن يعرف [ ص: 3579 ] جوامع الكلم، ويتنبه لفضل الاختصار، ويحيط ببلاغة الإيماء، ويفطن لكفاية الإيجاز، فليتدبر القرآن، وليتأمل علوه على سائر الكلام.

ثم قال: فمن ذلك قوله عز ذكره، في إخوة يوسف: فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا وهذه صفة اعتزالهم جميع الناس وتقليبهم الآراء ظهرا لبطن، وأخذهم في تزوير ما يلقون به أباهم عند عودهم إليه، وما يوردون عليه من ذكر الحادث. فتضمنت تلك الكلمات القصيرة معاني القصة الطويلة.

وقوله تعالى: قال كبيرهم أي في السن، كما هو المتبادر، وهو فيما يروى، (رؤبين): ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله أي عهدا وثيقا في رد أخيكم. وإنما جعل منه تعالى لكون الحلف كان باسمه الكريم. ومن قبل أي قبل هذا ما فرطتم في يوسف أي قصرتم في شأنه و (ما) إما مزيدة، و (من) متعلق بالفعل بعده، والجملة حالية، وإما مصدرية في موضع رفع بالابتداء، و (من قبل) خبره، أو في موضع نصب عطفا على معمول (تعلموا). وإما موصولة بالوجهين، أي: قدمتموه في حقه من الخيانة، ولم تحفظوا عهد أبيكم بعد ما قلتم: وإنا له لناصحون وإنا له لحافظون

فلن أبرح الأرض أي: فلن أفارق أرض مصر حتى يأذن لي أبي أي في الرجوع أو يحكم الله لي أي بالخروج من مصر، أو بخلاص أخي بسبب ما. وهو خير الحاكمين لأنه لا يحكم إلا بالحق والعدل.

ثم أمر كبيرهم أن يخبروا أباهم بما جرى، فقال:
[ ص: 3580 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 81 ] ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين

ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق أي: نسب إلى سرقة صواع الملك، وما شهدنا إلا بما علمنا أي ما شهدنا عليه بالسرقة، إلا بما تيقناه من إخراج الصواع من رحله.

تنبيه:

استنبط بعضهم من هذا عدم جواز الشهادة على الكتابة بلا علم وتذكر. وكذا من سمع كلامه من وراء حجاب; لعدم العلم به -كذا في (الإكليل)- ولا يخفى أن مثل هذا مما يستأنس به في مواقع الخلاف.

وما كنا للغيب حافظين أي: وما علمنا أنه سيسرق حين أعطيناك الموثق.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 82 ] واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون

واسأل القرية التي كنا فيها يعنون مصر. أي: أرسل إلى أهلها فسلهم عن كنه القصة. والعير التي أقبلنا فيها أي جئنا معها. وكان صحبهم قوم من كنعان وإنا لصادقون أي فيما أخبرناك.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 83 ] قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم

قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا معناه: فرجعوا إلى أبيهم، فقالوا له ما قال لهم أخوهم. فقال: بل سولت، أي زينت وسهلت أنفسكم أمرا، ففعلتموه.

[ ص: 3581 ] لطيفة:

قال الزمخشري: أمرا أردتموه، وإلا فما أدرى ذلك الرجل أن السارق يؤخذ بسرقته، لولا فتواكم وتعليمكم؟!.

قال الناصر: هذا من الزمخشري إسلاف جواب عن سؤال، كأن قائلا يقول: هم في الوقعة الأولى سولت لهم أنفسهم أمرا بلا مراء، وأما في هذه الوقعة الثانية، فلم يتعمدوا في حق بنيامين سوءا، ولا أخبروا أباهم إلا بالواقع على جليته، وما تركوه بمصر إلا مغلوبين عن استصحابه، فما وجه قوله ثانيا: بل سولت لكم أنفسكم أمرا كما قال لهم أولا؟ وإذا ورد السؤال على هذا التقرير; فلا بد من زيد بسط في الجواب، فنقول: كانوا عند يعقوب عليه السلام حينئذ متهمين، وهم قمن باتهامه لما أسلفوه في حق يوسف عليه السلام، وقامت عنده قرينة تؤكد نفي التهمة وتقويها، وهي أخذ الملك له في السرقة، ولم يكن ذلك إلا من دين يعقوب وحده، لا من دين غيره من الناس، ولا من عادتهم. وإلى ذلك وقعت الإشارة بقوله تعالى: ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك تنبيها من الله تعالى على وجه اتهام يعقوب لهم، فعلم أن الملك إنما فعل ذلك بفتواهم له به، وظن أنهم أفتوه بذلك بعد ظهور السرقة تعمدا; ليتخلف أخوهم، وكان الواقع أنهم استفتوا من قبل أن يدعي عليهم السرقة، فذكروا ما عندهم، ولم يشعروا أن المقصود إلزامهم بما قالوا. واتهام من هو بحيث تتطرق التهمة إليه لا حرج فيه، وخصوصا فيما يرجع إلى الوالد من الولد. ويحتمل -والله أعلم- أن يكون الوجه الذي سوغ له هذا القول في حقهم، أنهم جعلوا مجرد وجود الصواع في رحل من يوجد في رحله، سرقة، من غير أن يحيلوا الحكم على ثبوت كونه سارقا بوجه معلوم، وهذا في شرعنا لا يثبت السرقة عليه -والله أعلم-.

وقوله: بل سولت لكم أنفسكم أمرا واقع بمكانه من حالهم، وإن كان شرعهم يقتضي ذلك مخالفا لشرعنا، فالعمدة على الجواب الأول. اهـ.

[ ص: 3582 ] وقوله تعالى: فصبر جميل أي بلا جزع عسى الله أن يأتيني بهم جميعا أي بيوسف وأخيه المتوقف بمصر، فتذهب أحزانه بمرة واحدة إنه هو العليم الحكيم أي العليم بحالي وحالهم، الحكيم في تشديد الأمر لينظر مقدار الصبر فيفيض بقدره الأجر، ومن الأجر المعجل تعجيل الفرج.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 84 ] وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم

وتولى أي: أعرض عنهم أي عن بنيه كراهة لما جاؤوا به وقال يا أسفى على يوسف أي يا حزني الشديد، و (الألف) بدل من ياء المتكلم للتخفيف. وقيل: هي ألف الندبة، والهاء محذوفة. و (الأسف) أشد الحزن والحسرة على ما فات. وإنما تأسف على يوسف دون أخويه، والحادث رزأهما. والرزء الأحدث أشد على النفس، وأظهر أثرا; لأن الرزء في يوسف كان قاعدة مصيباته التي ترتبت عليها الرزايا في ولده، فكان الأسف عليه أسفا على من لحق به، ولأنه لم يزل عن فكره، فكان غضا طريا عنده، كما قيل:


ولم تنسني أوفى المصيبات بعده وكل جديد يذكر بالقديم


ولأنه كان واثقا بحياتهما- دون حياته.

[ ص: 3583 ] وابيضت عيناه من الحزن وذلك لكثرة بكائه.

قال الزمخشري: إذا كثر الاستعبار محقت العبرة سواد العين، وقلبته إلى بياض كدر. فهو كظيم أي مملوء من الغيظ على أولاده، ولا يظهر ما يسوؤهم. (فعيل) بمعنى (مفعول) كقوله: وهو مكظوم أو بمعنى شديد التجرع للغيظ أو الحزن; لأنه لم يشكه إلى أحد قط. فهو بمعنى (فاعل).

تنبيه:

دلت الآية على جواز التأسف والبكاء عند المصيبة.

قال الزمخشري: فإن قلت: كيف جاز لنبي الله أن يبلغ به الجزع ذلك المبلغ؟.

قلت: الإنسان مجبول على أن لا يملك نفسه عند الشدائد من الحزن، ولذلك حمد صبره، وأن يضبط نفسه حتى لا يخرج إلى ما لا يحسن.

ولقد بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ولده إبراهيم وقال: « إن العين تدمع والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون » .

وإنما الجزع المذموم ما يقع من الجهلة من الصياح والنياحة ولطم الصدور والوجوه وتمزيق الثياب.

وعن الحسن أنه بكى على ولد، أو غيره، فقيل له في ذلك؟ فقال: ما رأيت الله جعل الحزن عارا على يعقوب.

وقوله تعالى:
[ ص: 3584 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 85 ] قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين

قالوا أي أولاد يعقوب لأبيهم على سبيل الرفق به، والشفقة عليه: تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أي مريضا مشفيا على الهلاك، أو تكون من الهالكين أي بالموت. يقولون: إن استمر بك هذا الحال، خشينا عليك الهلاك والتلف، واستدل به على جواز الحلف بغلبة الظن. وقيل: إنهم علموه، لكنهم نزلوه منزلة المنكر، فلذا أكدوه. و(تفتأ) مضارع فتئ، مثلثة التاء. يستعمل مع النفي ملفوظا أو منويا; لأن موضعه معلوم، فيحذف للتخفيف كقوله:


فقلت يمين الله أبرح قاعدا ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي


أي: لا أبرح. ومعنى (تفتأ): لا تزال ولا تبرح.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 86 ] قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون

قال إنما أشكو بثي أي غمي وحالي، وحزني إلى الله أي لا أشكو إلى أحد منكم ومن غيركم، إنما أشكو إلى ربي داعيا له، وملتجئا إليه، فخلوني وشكايتي.

وأعلم من الله أي لمن شكا إليه من إزالة الشكوى، ومزيد الرحمة ما لا تعلمون ما يوجب حسن الظن به، وهو مع ظن عبده به.

ولما علم من شدة البلاء مع الصبر، قرب الفرج، قوى رجاءهم، وأمرهم أن يرحلوا لمصر، ويتطلبوا خبر يوسف وأخيه بقوله:
[ ص: 3585 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 87 ] يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون

يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه أي تعرفوا من نبئهما، وتخبروا خبرهما ولا تيأسوا من روح الله أي: فرجه ورحمته المريحة من الشدة. إنه لا ييأس من روح الله -لم يقل (منه) إشارة إلى ظهور حصوله لمن لم ييأس- إلا القوم الكافرون أي بالله ورحمته، وقدرته على إفاضة الروح، بعد مضي المدة في الشدة، وسنته في إفاضة اليسر مع العسر، لا سيما في حق من أحسن الظن به.

وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 88 ] فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين

فلما دخلوا عليه أي على يوسف بعد ما رجعوا إلى مصر، ولانفهامه من المقام طوى ذكره إيجازا: قالوا يا أيها العزيز أي الملك القادر، المتمنع، مسنا وأهلنا الضر أي الشدة من الجدب، وجئنا ببضاعة مزجاة أي: بدراهم قليلة في مقابلة ما نمتاره. استقلوا الثمن واستحقروه; اتضاعا لهيبة الملك، واستجلابا لرأفته وحنانه. وأصل معنى (التزجية): الدفع والرمي، فكنوا به عن القليل الذي يدفع; رغبة عنه، لذلك فأوف لنا الكيل أي: أتممه ووفره بهذه الدراهم المزجاة، كما توفره بالدراهم الجياد. وتصدق علينا أي: برد أخينا، أو بالإيفاء، أو بالمسامحة وقبول ما لا يعد عوضا: إن الله يجزي المتصدقين أي يثيبهم أحسن المثوبة.

[ ص: 3586 ] تنبيهات:

الأول: في الآية إرشاد إلى أدب جليل، وهو تقديم الوسائل أمام المآرب، فإنها أنجح لها. وهكذا فعل هؤلاء: قدموا ما ذكر من رقة الحال، والتمسكن، وتصغير العوض، ولم يفجؤوه بحاجتهم; ليكون ذريعة إلى إسعاف مرامهم، ببعث الشفقة، وهز العطف والرأفة، وتحريك سلسلة الرحمة -كما قدمنا- ومن ثم رق لهم، وملكته الرحمة عليهم، فلم يتمالك أن عرفهم نفسه، -كما يأتي-.

الثاني: يؤخذ من الآية جواز شكوى الحاجة لمن يرجى منه إزالتها.

الثالث: استدل بعضهم بقوله تعالى: فأوف لنا الكيل على أن أجرة الكيال على البائع; لأنه إذا كان عليه توفية الكيل، فعليه مؤنته، وما يتم به.

الرابع: استدل بقوله تعالى: وتصدق علينا من قال: إن الصدقة لم تكن محرمة على الأنبياء -كذا في الإكليل- وهذا بعد تسليم نبوة إخوة يوسف. وفيها خلاف. وسيأتي في التنبيهات، آخر السورة، تحقيق ذلك.

الخامس: في قوله تعالى: إن الله يجزي المتصدقين حث على الإحسان، وإشارة إلى أن المحسن يجزى أحسن جزاء منه تعالى، وإن لم يجزه المحسن إليه.
ثم بين تعالى رأفة يوسف بتعرفه إليهم بقوله:

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 89 ] قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون

قال أي: يوسف مجيبا لهم: هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون أي شبان غافلون؟ استفهام تقرير، يفيد تعظيم الواقعة. ومعناه: ما أعظم ما ارتكبتم في يوسف، وما أقبح ما أقدمتم عليه! كما يقال للمذنب: هل تدري من عصيت [ ص: 3587 ] وهل تعرف من خالفت؟ وهذه الآية تصديق لقوله تعالى: وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون

لطائف:

الأولى- أبدى المهايمي مناسبة بديعة في قول يوسف لهم: هل علمتم إثر قولهم: إن الله يجزي المتصدقين وهو أنهم أرادوا بقولهم: إن الله يجزي المتصدقين أنه يعطيهم في الآخرة ما هو خير من العوض الدنيوي، فأشار لهم يوسف بأنكم تريدون دفع الضرر العاجل، بوعد الأجر الآجل، ولا تدفعون عن أنفسكم الضرر الآجل، كأنكم تنكرونه، هل علمتم ضرر ما فعلتم بيوسف؟.

الثانية: قيل: من تلطفه بهم قوله: إذ أنتم جاهلون كالاعتذار عنهم; لأن فعل القبيح على جهل بمقدار قبحه، أسهل من فعله على علم. وهم لو ضربوا في طرق الاعتذار لم يلفوا عذرا كهذا. ألا ترى أن موسى عليه السلام، لما اعتذر عن نفسه لم يزد على أن قال: فعلتها إذا وأنا من الضالين ففيه تخفيف للأمر عليهم.

الثالثة: قال الزمخشري: فإن قلت: ما فعلهم بأخيه؟ قلت: تعريضهم إياه للغم والثكل، بإفراده عن أخيه لأبيه وأمه، وجفاؤهم به، حتى كان لا يستطيع أن يكلم أحدا منهم إلا كلام الذليل للعزيز، وإيذاؤهم له بأنواع الأذى. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 90 ] قالوا أإنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين

قالوا أي: استغرابا وتعجبا من أن هذا لا يعلمه إلا يوسف: أإنك لأنت [ ص: 3588 ] يوسف قال أنا يوسف أي: الذي فعلتم به ما فعلتم، وهذا أخي أي من أبوي.

قال أبو السعود: زادهم ذلك مبالغة في تعريف نفسه، وتفخيما لشأن أخيه، وتكملة لما أفاده قوله: هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه حسبما يفيده قوله: قد من الله علينا فكأنه قال: هل علمتم ما فعلتم بنا من التفريق والإذلال، فأنا يوسف، وهذا أخي، قد من الله علينا بالخلاص مما ابتلينا به، والاجتماع بعد الفرقة، والعزة بعد الذلة، والأنس بعد الوحشة.

ثم علل ذلك بطريق الاستئناف التعليلي بقوله: إنه من يتق أي ربه في جميع أحواله، ويصبر أي: على الضراء، وعن المعاصي، فإن الله لا يضيع أجر المحسنين أي أجرهم، وفي وضع الظاهر موضع الضمير تنبيه على أن المنعوتين بالتقوى والصبر، موصوفون بالإحسان.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 91 ] قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين

قالوا تالله لقد آثرك الله علينا أي فضلك بما ذكرت من التقوى والصبر، وسيرة المحسنين وإن كنا لخاطئين أي: وإن شأننا وحالنا أنا كنا متعمدين الذنب، لم نتق ولم نصبر، ففعلنا بك ما فعلنا، ولذلك أوثرت علينا. وفيه إشعار بالتوبة والاستغفار، ولذلك:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 92 ] قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين

قال لا تثريب أي: لا تعيير ولا توبيخ ولا تقريع: عليكم اليوم أي: وإن كنتم ملومين قبل ظهور منتهى فعلكم، ولا إثم عليكم; إذ يغفر الله لكم [ ص: 3589 ] أي: حقي لرضاي عنكم، وحقه أيضا لواسع رحمته، كما قال: وهو أرحم الراحمين أي: فكأنه لا خطأ منكم. و (اليوم) متعلق بالتثريب، أو بالمقدر في (عليكم) من معنى الاستقرار. والمعنى: ولا أثربكم اليوم، وهو اليوم الذي هو مظنة التثريب، فما ظنكم بغيره من الأيام؟! فتعبيره بـ (اليوم) ليس لوقوع التثريب في غيره، لأن من لم يثرب أول لقائه واشتعال ناره، فبعده بطريق الأولى.

وقال الشريف المرتضى في (الدرر): إن اليوم موضوع موضع الزمان كله كقوله:


اليوم يرحمنا من كان يغبطنا واليوم نتبع من كانوا لنا تبعا


ثم زادهم تكريما بأن دعا لهم بالمغفرة، لما فرط منهم بقوله: يغفر الله لكم

وقوله: وهو أرحم الراحمين تحقيق لحصول المغفرة; لأنه عفا عنهم، فالله أولى بالعفو والرحمة لهم، وبيان للوثوق بإجابة الدعاء. وجوز تعلق (اليوم) بـ (يغفر). والجملة خبرية سيقت بشارة بعاجل غفران الله; لما تجدد يومئذ من توبتهم وندمهم على خطيئتهم. والوجه الأول أظهر. والثاني من الإغراب في التوجيهات.

تنبيه:

قال بعضهم: إن تجاوز يوسف عن ذنب إخوته، وإبقاءه عليهم، ومصافاته لهم، تعلمنا أن نغفر لمن يسيء إلينا، ونحسن إليه، ونصفي له الود، وأن نغضي عن كل إهانة تلحق بنا، فيسبغ الله تعالى إذ ذاك علينا نعمه وخيراته في هذه الدنيا، كما أوسع على يوسف ويورثنا السعادة الأخروية. وأما إذا أضمرنا السوء للمسيئين إلينا، ونقمنا منهم، فينتقم الله منا، ويوردنا مورد الثبور، فنعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا.

ثم قال لهم يوسف:
[ ص: 3590 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 93 ] اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا وأتوني بأهلكم أجمعين

اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا وأتوني بأهلكم أجمعين أراد يوسف تبشير أبيه بحياته، وإدخال السرور عليه بذلك، وتصديقه بإرسال حلة من حلله التي كان يستشعر بها أو يتدثر، ليكون في مقابلة القميص الأول، جالب الحزن، وغشاوة العين. و (الإلقاء على وجهه) بمعنى المبالغة في تقريبه منه، لما ناله من ضعف بصره، فتتراجع إليه قوة بصره، بانتعاش قلبه، بشمه واطمئنانه على سلامته. وللمفرحات تأثير عظيم في صحة الجسم، وتقوية الأعضاء، وقد جود الكلام في ذلك الحكيم داود الأنطاكي في (تذكرته) في مادة مفرح بما لا يستغنى عن مراجعته.

وفي (الكنوز) من كتب الطب: الفرح، إن كان بلطف، فإنه ينفع الجسم، ويبسط النفس، ويريح العقل، فتقوى الأعضاء وتنتعش. انتهى.

ثم رأيت الرازي عول على نحو ما ذكرناه، وعبارته: قال المفسرون: لما عرفهم يوسف سألهم عن أبيه، فقالوا: ذهبت عيناه، فأعطاهم قميصه. قال المحققون: إنما عرف أن إلقاء القميص على وجهه يوجب قوة البصر بوحي من الله تعالى، ولولا الوحي، لما عرف ذلك; لأن العقل لا يدل عليه. ويمكن أن يقال: لعل يوسف عليه السلام علم أن أباه ما صار أعمى إلا أنه من كثرة البكاء، وضيق القلب، ضعف بصره، فإذا ألقي عليه قميصه، فلا بد أن ينشرح صدره، وأن يحصل في قلبه الفرح الشديد، وذلك يقوي الروح، ويزيل الضعف عن القوى، فحينئذ يقوى بصره، ويزول عنه ذلك النقصان. فهذا القدر مما يمكن معرفته بالقلب. فإن القوانين الطبية تدل على صحة هذا المعنى. انتهى.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 1,839.57 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 1,837.85 كيلو بايت... تم توفير 1.72 كيلو بايت...بمعدل (0.09%)]