خصومة في بر - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         الثامن من ذي الحجة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          ما الحكم إذا اجتمع يوم العيد ويوم الجمعة في يوم واحد؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          تفسير قوله تعالى: { وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين... } (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          تخريج حديث: إذا أتى أحدكم البراز فلينزه قبلة الله، ولا يستقبلها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          من أقوال السلف في أسماء الله الحسنى: (العزيز، الجبار، المتكبر) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}: فوائد وعظات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          فتاوى الطلاق الصادرة عن سماحة مفتي عام المملكة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله ابن باز: (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          عناية النبي بضبط القرآن وحفظه في صدره الشريف (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          على علم عندي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          عظمة الإسلام وتحديات الأعداء - فائدة من كتاب: إتمام الرصف بذكر ما حوته سورة الصف (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 04-09-2023, 03:44 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 153,466
الدولة : Egypt
افتراضي خصومة في بر

خصومة في بر
د. محمد بن عبدالله بن إبراهيم السحيم

الحمدُ للهِ البَرِّ الرحيمِ، ذي الطَّوْلِ العظيمِ، والمجدِ الكريمِ، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ مخلصًا له الدينَ، وأشهدُ أنّ محمدًا عبدُه ورسولُه، عليه وعلى آلِه وصحبِه من اللهِ أزكى الصلاةِ والتسليمِ.

أما بعدُ: فاتقوا اللهَ -عبادَ اللهِ-؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].

أيها المؤمنون!
العادةُ في خصوماتِ البشرِ أنْ تكونَ ناشئةً عن إخلالٍ بالحقِّ؛ إما بمنعِه، أو بَخْسِه، أو مَطْلِه، لكنْ أنْ تكونَ الخصومةُ في بذلِ الحقِّ والتنافسِ في رعايتِه والظفرِ بحفظِه؛ فذاك من أعجبِ ما يُروى من نبأِ ذوي القيمِ والمَكْرُماتِ؛ مما تَطِيبُ النفوسُ باستماعِ خبرِه والتأسي بعِبرِه! ﴿ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 176].

أحاديثُ الكرامِ لها شُجونٌ
يَطيبُ لنا بها رَوْحٌ وأُنْسُ




ومِن أعجبِ نبأِ خصومةِ ذويِ القِيمِ ما كان ميدانُه دوحةَ البِرِّ وتَفَيُّؤَ ظلالِها الوارفِ؛ حدّثَ بخبرٍ مِن عجائبِ أولئك البررةِ مَنِ ارْتَضَوهُ مِن قضاةِ العصرِ حَكَمًا مُقْسِطًا وهو يُغالِبُ دمعةَ التأثُّرِ في قَصِّه النبأَ حين لم يَملِكْها إبَّانَ نظرِه وقائعَ الخصومةِ والفصلِ فيها، كما لم يَملِكْ حبْسَها مَن شَهِدَ جلسةَ الحُكمِ مِن أعوانِ القاضي والخصومِ الشرفاءِ ومَن كان سببَ الخصومةِ! فاصِلًا خصومةَ البِرِّ بينهم بحكمٍ بناه على اجتهادٍ بهُدى مَن أوجبَ البِرَّ والحكمَ بين الناسِ بالعدلِ؛ فيذعنونَ لحُكمِه؛ رضىً وتسليمًا بحُكمِ اللهِ؛ فذلك شعارُ المؤمنينَ إذا شَجَرَ بينهم خلافٌ أو دُعُوا إلى اللهِ ورسولِه لِيحكمَ بينهم؛ ﴿ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾ [النور: 51، 52].

ففي لحظةٍ مِن سكونِ صَخَبِ المخاصماتِ في المحكمةِ إذ برجلٍ في الستين من عمرِه يَخطُّ خُطى الاستحياءِ متقدِّمًا نحوَ مَنَصةِ القضاءِ وفي يدِه ورقةٌ قد وارى خطَّها؛ حياءً من مضمونِها، وهو يستأذنُ القاضيَ في الحديثِ شارحًا ما حَوَتْهُ تلك الورقةُ بصوتٍ خافتٍ قد كَسَرَ حِدَّةَ لفظَه سَيفُ الحياءِ كما كسرَ نَبْرةَ صوتِه وقوةَ خَطِّه المرقومِ. ولمّا أنْ أَذِنَ له القاضي بالحديثِ إذ بكلماتِ الاعتذارِ تَنْهالُ بالتَّقْدُمَةِ بين يديْ شكواه؛ مُبيِّنًا أنّه لم يلجأْ إلى المحكمةِ إلا بعدَ تَعذُّرِ ما عَدَاها؛ حيث لا فيصلَ لخصومتِه إلا بحكمِ القضاءِ حين كان هذا هو شرطُ خصمِه أخيه الأكبرِ البَرِّ ذي العمرِ الذي بلغَ الخامسةَ والستينَ والذي يُكِنُّ له شاكيه من التقديرِ والحياءِ ما يُكِنُّه لقاضي المحكمةِ؛ إذ لم تُجْدِ محاولاتُ الاسترضاءِ ومساعي أهلِ الإصلاحِ في حلِّ هذه المنازعةِ، والتي كان مناطُها رعايةَ أمٍّ طاعنةٍ في السنِّ وَهَنَ عَظْمُها واشتعلَ رأسُها شيبًا، والظَّفَرَ بغنيمةِ بِرِّها الذي هو أرجى ما يكونُ من أسبابِ الفوزِ برضا اللهِ وجنَّتِه، كما قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " رَغِمَ أَنْفُ! ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ! ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ "! قِيلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: " مَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا، فَلَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ " رواه مسلمٌ.

اشتكى أخاه الأكبرَ الذي حظيَ دونَه ببقاءِ والدتِه عندَه عقودًا من أعوامِ البِرِّ جاوزتِ الثلاثينَ عامًا حين نَأَى به طلبُ الرزقِ في وظيفةٍ تَبْعُدُ مسافتُها أكثرَ من ألفٍ وأربعمائةِ كِيلًا عن بلدتِه التي فيها بيتُ أخيه، وظلَّ يَرْفِدُهما بعطائِه الشهريِّ الذي يستقطعُه من مُرتَّبِه الوظيفيِّ في تأمينِ حاجتِهمُ التي لا تَفي بسدِّها قدرةُ أخيه الماليةُ.

ولم يُطْفِئْ مُضِيُّ السنينِ لهيبَ ألمِه ببُعدِه عن أمِّه وشوقَ سُكْناها لديه؛ فحينما عادَ إلى بلدتِه إثْرَ تقاعدِه هَرَعَ إلى أخيه وأشواقُ البِرِّ تُطِيفُ بقلبِه البَرِّ؛ يَستجديه معروفَه بأنْ يهبَه كرامةَ البِرِّ بتنازلِه عن نعيمِ سُكنى الوالدةِ لديه لِتكونَ عنده ما بقيَ من عمرِها؛ يُمَتِّعُ ناظريْهِ بمَرْآها، ويَملأُ خزينةَ عملِه ببِرِّها وإدخالِ السرورِ عليها، ويُعوِّضُ تلك السنين التي حُرِمَ بها نعيمَ النظرِ إلى وجهِها الصَّبُوحِ والقُرْبِ منها وإنْ غَمَرَها رِفْدًا.

وما إنْ وصلتْ كلماتُ استجداءِ البِرِّ مَسْمَعَ الأخِ الأكبرِ إلا ودمعُه يَنْهَمِرُ غزيرًا على وَجْنَتِه سابِقًا جوابَه؛ فكان جوابُ الرَّفضِ مِن مَرْأَى الدمعِ باديًا قبلِ إفصاحِ الكلماتِ. ثمَّ تكلّمَ بالعبارةِ المُؤَثِّرةِ التي هيَ من جنسِ تأثيرِ دمعِه المُنْهَمِرِ قائلًا: واللهِ لو نَزعتَ فؤاديَ من صدري لكانَ أرحمَ عندي مِن أنْ تنزعَ أمِّيَ منّي! فأجابَه الأصغرُ جوابًا مِن نَسْجِ لِبَانِ البِرِّ الذي تَغَذَّيَاهُ وأُتْرِعَا مِن مَعِينِه قائلًا: إنّني لم أمنعْك منها، وإنما أستجديك سُكناها وانتقالَها من بيتِك إلى بيتيَ الذي لا يُبعدُ عنك كثيرًا؛ أتلذَّذُ ببِرِها ومَرْآها ما بقيَ من عمري وعمرِها كما تلذذتَ أنت بذلك ثلاثينَ عامًا، فأجابَه الأكبرُ بأنَّ بِرَّكَ سابقٌ؛ إذ لم أَعِشْ أنا وأمِّيَ -بعدَ فضلِ اللهِ- إلا على خيرِك! فلما رأى إلحاحَ أخيه الأصغرِ على طلبِه أقسمَ أنْ لن يَسمحَ بانتقالِ أمِّه من بيتِه إلا بحُكمٍ شرعيٍّ يُصدره قاضي المحكمةِ؛ فكان ذلك هو سببُ الشكوى والخصومةِ! ويا لِشرفِ تلك الخصومةِ! ويا لِشرفِ ذَيْنَك الخَصْميْنِ! فلمّا سمعَ القاضي شكوى البِرِّ واستغربَها؛ لانفرادِ مُثُلِها في عالمِ الخصوماتِ وكثرةِ حوادثِ العقوقِ؛ استعانَ اللهَ في نظرِها، وضَرَبَ أَجَلًا لموعدِ المحاكمةِ طالبًا حضورَ الأمِّ المُكرَّمةِ وابْنَيْها البَررةِ.

وما إنْ حَلَّ موعدُ النظرِ إلا وبابُ مجلسِ الحُكمِ يَزدانُ بمَقدمِ مَوْكِبِ أولئك البررةِ؛ في مَشْهدٍ يُقسِمُ القاضي في قَصِّهِ نبأَهم على عدمِ نسيانِه وهم يَدخلون عليه حياتَه كلَّها، وعدمِ رؤيتِه بِرًَّا كَبِرِّ هذيْن الخصميْنِ أمَّهما ما خلا مِن عُمرِه؛ أمٌّ عجوزٌ قد اكتَنَفَ جنْبيْها ابناها الكَهْلانِ عن مَيْمنةٍ ومَيْسرةٍ وهم يُراعونَ وَئِيدَ خَطْوِها ووهْنِ حالِها، ويكادان أنْ يَبْسُطا أيديَهما ليحمِلانِها عن معاناةِ الدبيبِ على الأرضِ؛ رحمةً وتقديرًا. وحين قَعدوا بين يديِ القاضي كما أمرَهم؛ الأمُّ واسطةُ عِقْدِ البِرِّ وَسْطَ مجلسِ الحُكمِ كما توسَّطتْ قلبيْهما، وابنٌ عن يمينِها وابنٌ عن شمالِها، وطلبَ القاضي من المدعي الأخِ الأصغرِ ذِكْرَ دعواه فاعتذرَ بسَلَفِ ذِكْرِها له مَقْدَمَه الأولَ كما خَطَّها قَلَمُه، فأمرَه القاضي أنْ يعيدَها؛ ليسمعَها الخصمُ البارُّ وأمُّه المبرورةُ، فشَرَعَ في سَرْدِ دعوى البِرِّ والمدعى عليه الأخُ الأكبرُ والأمُّ يستمعانِ تلك الدعوى ودموعُ الأخِ الأكبرِ لا تَقِفُ عن الانهمارِ؛ فقد كان وَقْعُ الدعوى يَسْتَدِرُّ المدامعَ.

ولمّا أنْ فَرَغَ من دعواه إذ بالقاضي يَطلبُ من الأكبرِ الجوابَ عن دعوى البِرِّ، وماذا عساه أنْ يقولَ؟! أجابَ قائلًا: إنِّ أخي لَصادقٌ في دعواه، ومُحِقٌّ فيها، وإنّ له لَحقًا في الظَّفرِ بأمّي مُهْجةِ روحي، لكني لا أستطيعُ إجابةَ طلبِه، وأعادَ الكلمةَ التي أبكتِ القاضيَ عندما أخبرَه الأصغرُ بها في لقائه الأولِ: واللهِ لو نزعتم فؤاديَ من صدري لكان أرحمَ عندي مِن أنْ تَنْزِعُوا أمّيَ منّي! فأجابَه الأصغرُ قائلًا: لكنّ لي حقًا فيها؛ فأْذَنْ ليَ بها بقيةَ العُمرِ! فردَّ عليه مُقسِمًا باللهِ يمنيًا مغلَّظةً: لا تأخذَنَّها إلا بحكمِ الشرعِ؛ إذ ذاك ما لا يَسَعُنِي مخالفتُه! والقاضي وهو مأسورٌ بجمالِ تلك المرافعةِ بمُثُلِ البِرِّ التي رَفَعَتْها في سماءِ المَكْرُماتِ والمآثرِ رأى أنْ يكونَ سببُ الخصومةِ هو سبيلُ حلِّها؛ فخاطبَ الأمَّ قائلًا: يا أمي، أصلحي بين ابنيْكِ، فقالتْ: واللهِ لم أستطعِ إلى ذلك سبيلًا؛ هذا عَيْنٌ، والآخرُ عينٌ، ومُنَايَ أنْ يصطلحا، لكنْ ما حيلتي وكلٌّ منهما مُصِرٌّ على أنْ يكونَ الظافرَ ببِرِّي، ولن يَحسِمَ النزاعَ إلا حكمُك؛ وذاك سببُ مَقْدَمِنا عليك؛ فاقضِ بينهما بما أراكَ اللهُ! ولمّا رأى القاضي كَرَمَ نَفْسِ الخصومِ، وكانت شيمةُ الكرماءِ التغاضيَ عن استقصاءِ الحقوقِ ولينَ المياسرةِ؛ طَمِعَ في الإصلاحِ بينهما عارضًا عليهما طُرُقًا من وجوهِ الصلحِ بتكرارٍ وتنوعٍ، فأبى الخصومُ إلا الحُكمَ الباتَّ الحاسمَ للنزاعِ؛ فكانت قيمةُ عدمِ الإيثارِ بالقُرَبِ عندهما غالبةً قيمةَ الصلحِ والتنازلِ عن الحقوقِ.

الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ.
أما بعدُ. فاعلموا أنّ أصدقَ الحديثِ كتابُ اللهِ...

أيها المؤمنون!
لمّا رأى القاضي ألّا مناصَ من الحُكمِ، ورأى باجتهادِه أنّ الابنَ الأصغرَ أولى بإيواءِ أمِّه؛ نطقَ بحُكمِه أنْ تكونَ سُكناها عند ابنِها الأصغرِ. وما إنْ نطقَ بالحُكم إلا والأخُ الأكبرُ يَنْفَجِرُ باكيًا وكأنّما فُجِعَ بمقتلِ أحدِ أبنائه؛ بكاءً قطَّعَ نِياطَ قلوبِ مَن رآهُ مِن قاضٍ وأعوانٍ ومَن حضرَ المحاكمةَ؛ فتأثَّروا باكين ببكائه، وغدتِ المحكمةُ يومَها دارَ بكاءٍ، ولمّا رأى الأخُ الأصغرُ بكاءَ أخيه الأكبرِ قامَ إليه وانحنى مُقَبِّلًا رأسَه ويديه وركبتيه وهو يبكي؛ فبكتِ الأمُّ لبكائِهما، وقامتْ في مجلسِ الحُكمِ وقاما لقيامِها، فضمَّتْهُما لصدرِها الحنونِ الذي طالما حواهما صغيريْنِ وها هو يَحْوِيهما عن يمينٍ وشمالٍ كَهْليْن باكييْن؛ بغيةَ تسكينِ عبْرتِهما كما كانت تُسَكِّنُ بكاءَهما في الصغرِ؛ إذ الولدُ في عينِ رحمةِ أمِّه صغيرٌ وإنْ شاخَ. ولمّا أنْ هَدَأَ بكاءُ الأكبرِ، وتَرَادَّ نُطْقُه إذ به يلتفتُ إلى القاضي طالبًا إمكانيةَ عدولِه عن حُكمِه وإكرامَه بإبقاءِ أمِّه لديه، فأجابَه بأنّ ذلك اجتهادُه، ومِن حقِّكَ الاعتراضُ عليه لدى محكمةِ الاستئنافِ، فقال: كيف أعترضُ وأنا أعلمُ أنّك مُحِقٌّ في حُكمِك؟! عندَها عَلِمَ ألّا سبيلَ للوصولِ لبُغيتِه إلا باسترحامِ أخيه المحكومِ له، فالتفتَ إليه قائلًا: أخي! أَلَا ترحمُ قلبَ أخيك الذي أوْجَعْتَه بأخذكِ أمّي! أرجوك لا تأخذْ أمَّيَ منّي! فبكى الأصغرُ تأثّرًا بمَنطقِ أخيه وحالِه، وأقسمَ ألا رغبةَ له في إحزانِه، ولكنّ له في سُكنى أمِّه لديه حقًا كما كان لك؛ فقد أكرمَك اللهُ بإيوائِها ثلاثينَ سنةً؛ تشهدُ لك عند اللهِ يومَ تَشِحُّ الحسناتُ، لم أنازعْك فيها ساعةً! فلمّا رأى إصرارَ أخيه، ويَأِسَ من ثَنْيه؛ قدّمَ الخُطى نحوَ منصةِ القضاءِ وهو ممسكٌ بيدِ أخيه يَجُرُّه إليه، وقال: يا شيخُ، أريدُك أنْ تأخذَ على أخي العهدَ والميثاقَ أنْ يبُرَّ أمّيَ كما كنتُ أبُرُّها. ثم أخذَ بيدِ أمِّه وأخيه، وخرجوا من مجلسِ الحُكمِ كما دخلوه؛ وهما عن ميْمنتِها ومَيْسرتِها وقد توسَّطتْ بينهما؛ تاركين بخصومتِهم عبرةً للبررةِ، لا تفي عبارةٌ عن وصفِها، وكان ذاك مسكَ ختامِ هذه الخصومةِ الشريفةِ التي تُكتبُ في مآثرِ الخالدين؛ لتبقى نبراسًا للسالكين، وتغذيةً للسائرين. رحمَ اللهُ أولئك القومَ البررةَ! وجعل مآثرَهم خالدةً إلى يومِ الدِّينِ!

‌العيشُ ‌ماضٍ فأكرمْ والديْك به
والأمُّ أولى بإكرامٍ وإحسانِ
وحَسْبُها الحملُ والإرضاعُ تُدْمِنُه
أمرانِ بالفضلِ نالا كلَّ إنسانِ


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 75.49 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 73.77 كيلو بايت... تم توفير 1.72 كيلو بايت...بمعدل (2.28%)]