حكم الحج والعمرة - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ المُؤْمِنِينَ}ا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 234 - عددالزوار : 27915 )           »          حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4478 - عددالزوار : 982612 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4014 - عددالزوار : 501654 )           »          عيد أضحى مبارك ، كل عام وانتم بخير (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 111 )           »          سفرة إفطار عيد الأضحى.. كبدة مشوية بخطوات سهلة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 84 )           »          9 نصائح لمطبخ نظيف خلال عزومات عيد الأضحى.. التهوية أساسية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 88 )           »          فتياتنا وبناء الذات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 73 )           »          إضاءات سلفية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 58 )           »          ابن أبي الدنيا وكتابه “العيال” (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 63 )           »          خطبة عيد الأضحى المبارك 1445هـ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 51 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام > ملتقى الحج والعمرة
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الحج والعمرة ملتقى يختص بمناسك واحكام الحج والعمرة , من آداب وأدعية وزيارة

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 12-05-2024, 11:12 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 136,504
الدولة : Egypt
افتراضي حكم الحج والعمرة

حكم الحج والعمرة

يوسف بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن السيف

قالَ الْمُصَنِّفُ -رحمه الله-: "الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ واجِبانِ عَلَى الْمُسْلِمِ الْحُرِّ الْمُكَلَّفِ الْقادِرِ في عُمُرِهِ مَرَّةً عَلَى الْفَوْرِ، فَإِنْ زالَ الرِّقُّ، وَالْجُنونُ، وَالصِّبَا، فِي الْحَجِّ بِعَرَفَةَ، وَفِي الْعُمْرَةِ قَبْلَ طَوافِهَا: صَحَّ فَرْضًا، وَفِعْلُهُمَا مِنَ الصَّبِيِّ، وَالْعَبْدِ: نَفْلًا".



الْكَلامُ عَنْ هَذَا في فُروعٍ:
الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: فيهِ أَرْبَعُ مَسائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأولى: تَعْريفُ الْحَجِّ لُغَةً وَشَرْعًا.

الْحَجُّ لُغَةً: الْقَصْدُ وَالسَّيْرُ إِلَى الْبَيْتِ خَاصَّةً، تَقولُ: حَجَّ يَحُجُّ حَجًّا، وَالْحَجُّ قَضاءُ نُسُكِ سَنَةٍ واحِدَةٍ. وَبَعْضُهُمْ يَكْسِرُ الْحاءَ فَيَقولُ: الْحِجُّ وَالْحِجَّةِ، وَقُرِئَ: ﴿ وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ﴾ [آل عمران: 97]، وَ(حَجُّ الْبَيْتِ)، وَالْفَتْحُ أَكْثَرُ[1].

وَيُقالُ: الْحَجُّ بِالْفَتْحِ، وَالْحِجُّ بِالْكَسْرِ، فَالْحَجُّ مَصْدَرٌ، وَالْحِجُّ اسْمٌ[2].

وَالْحَجُّ شَرْعًا: "قَصْدٌ لِبَيْتِ اللهِ تعالى بِصِفَةٍ مَخْصوصَةٍ، في وَقْتٍ مَخْصوصٍ، بِشَرائِطَ مَخْصوصَةٍ"[3]. أَوْ هُوَ: قَصْدُ مَكَّةَ لِأَداءِ النُّسُكِ في زَمَنٍ مَخْصوصٍ؛ تَقَرُّبًا إِلَى اللهِ سبحانه وتعالى. وقال الراغب: "وَقَدْ خُصَّ في تَعارِفِ الشَّرْعِ بِقَصْدِ بَيْتِ الله تعالى إِقامَةً لِلنُّسُكِ"[4].

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَعْريفُ الْعُمْرَةِ لُغَةً وَشَرْعًا.
الْعُمْرَةُ لُغَةً: اسْمٌ مِنَ الاِعْتِمارِ، وَهِيَ: الزِّيَّارَةُ[5].

أَمَّا شَرْعًا فَهِيَ: زِيارَةُ بَيْتِ اللهِ الْحَرامِ لِعَمَلٍ مَخْصوصٍ؛ مِنَ: الطَّوافِ، وَالسَّعْيِ، وَالْحَلْقِ أَوْ التَّقْصيرِ؛ تَقَرُّبًا إِلَى اللهِ سبحانه وتعالى[6].

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَقْتُ مَشْروعِيَّةِ الْحَجِّ.
اخْتَلَفَ الْعُلَماءُ في تَوْقيتِ فَرَضِيَّةِ الْحَجِّ عَلَى أَقْوالٍ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ فُرِضَ في السَّنَةِ التَّاسِعَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَهَذَا قَوْلُ الحنابلة، والمالكية، والحنفية.[7] وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿ وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيْلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِيْنَ ﴾ [آل عمران: 97]؛ فَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ بِالْإِجْماعِ عَلَى وُجوبِ الْحَجِّ[8]، وَصَدْرُ هَذِهِ السُّورَةِ نَزَلَ عامَ الْوُفودِ، وَفيهِقَدِمَ وَفْدُ نَجْرانَ عَلَى رَسولِ اللهِ –صلى الله عليه وسلم-، وَصالَحَهُمْ عَلَى أَداءِ الْجِزْيَةِ، وَالْجِزْيَةُ إِنَّمَا نَزَلَتْ عامَ تَبوكٍ سَنَةَ تِسْعٍ، كَمَا أَوْضَحَ ذَلِكَ ابْنُ الْقَيِّمِ[9] -رَحِمَهُ اللهُ-، وَأَخَّرَ النَّبِيُّ –صلى الله عليه وسلم- الْحَجَّ؛ لِأَنَّهُ تَوَقَّعَ أَنَّ الْمُشْرِكينَ سَيَحُجُّونَ فِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ، فَأَرادَ النَّبِيُّ –صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُؤَخِّرَ الْحَجَّ إِلَى السَّنَةِ الْعاشِرَةِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَتَطَهَّرَ الْبَيْتُ مِنَ الْمُشْرِكينَ؛ وَلِهَذَا أَمَّرَ النَّبِيُّ –صلى الله عليه وسلم- أَبَا بَكْرٍ -رضي الله عنه- عَلَى هَذِهِ الْحَجَّةِ، فَأَرْسَلَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عنه- جَماعَةً؛ مِنْهُمْ: أَبَا هُرَيْرَةَ -رضِي اللهُ عنه- وَغَيْرَهُ يَوْمَ النَّحْرِ يُؤَذِّنُون بِمِنًى أَنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَ هَذَا الْعامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيانُ، كَمَا ثَبَتَ في الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا[10]، وَأَيْضًا: لِكَثْرَةِ الْوُفودِ عَلَيْهِ في تِلْكَ السَّنَةِ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ فُرِضَ فِي السَّنَةِ السَّادِسَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ. وَقالَ بِهِ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ[11]. وَقَدْ اسْتَدَلَّ أَصْحابُ هَذَا الْقَوْلِ: بِقَوْلِهِ سبحانه وتعالى: ﴿ وَأَتِمُّوْا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ ﴾ [البقرة: 196]، وَقَدْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ في كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ في الْحُدَيْبِيَّةِ في ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ سِتٍّ، بِلَا خِلافٍ[12].

وَأُجيبَ عَنْ هَذَا الِاسْتِدْلالِ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَإِنْ نَزَلَتْ سَنَةَ سِتٍّ عامَ الْحُدَيْبِيَّةِ، إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ فيها فَرْضُ الْحَجِّ، وَإِنَّمَا فيها الْأَمْرُ بِإِتْمامِهِ، كَمَا أَوْضَحَ ذَلِكَ ابْنُ الْقَيِّمِ –رحمه الله-[13]، وَغَيْرُهُ. وَأَيْضًا: هَذَا الَّذِي يَقْتَضيهِ ظاهِرُ اللَّفْظِ، وَلَوْ كانَ يَدُلُّ عَلَى ابْتِداءِ الْوُجوبِ، لَمَا حَصَلَ خِلافٌ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ في وُجوبِ الْعُمْرَةِ، وَالْخِلافُ في وُجوبِهَا مَعْروفٌ، وَسَيَأْتِي -إن شاء الله- إيضاحُهُ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى وُجوبِ إِتْمامِهَا بَعْدَ الشُّروعِ فيها، كَمَا هُوَ ظاهِرُ الْآيَةِ[14]، وَأَشارَ إِلَى هَذَا الْعَلَّامَةُ الشَّنْقيطِيُّ -رحمه الله-[15].

الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنُّهُ فُرِضَ في السَّنَةِ الْخامِسَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ، قالَ بِهِ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ[16]. وَاسْتَدَلُّوا: بِمَا جاءَ في قِصَّةِ ضِمامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ السَّعْدِيِّ -رضي الله عنه-، عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- قال: «نُهِينَا أَنْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ شَيْءٍ، فَكَانَ يُعْجِبُنَا أَنْ يَجِيءَ ‌الرَّجُلُ ‌مِنْ ‌أَهْلِ ‌الْبَادِيَةِ، الْعَاقِلُ، فَيَسْأَلَهُ وَنَحْنُ نَسْمَعُ... -وفيه:- قَالَ: وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنَّ عَلَيْنَا حَجَّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا؟ قَالَ: صَدَقَ، قَالَ: ثُمَّ وَلَّى، قَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَا أَزِيدُ عَلَيْهِنَّ وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُنَّ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لَئِنْ صَدَقَ لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ»[17]. وَقَدْ زَعَمَ الْوَاقِدِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ قُدومَ ضِمامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ -رضي الله عنه- كانَ عامَ خَمْسٍ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ كانَ مَفْروضًا عامَ خَمْسٍ.

وَلَكِنْ قَدْ أُجيبَ عَنْ هَذَا الِاسْتِدْلالِ: بِأَنَّ الصَّحيحَ أَنَّ قُدومَ ضِمامٍ -رضي الله عنه- كانَ سَنَةَ تِسْعٍ، قالَ ابْنُ حَجَرٍ -رحمه الله- في تَرْجَمَةِ ضِمامٍ الْمَذْكورِ: "وَزَعَمَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ قُدومَهُ كانَ في سَنَةِ خَمْسٍ، وَفيهِ نَظَرٌ، وَذَكَرَ ابْنُ هِشامٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ أَنَّ قُدومَهُ كانَ سَنَةَ تِسْعٍ، وَهَذَا عِنْدِي أَرْجَحُ"[18].

فَاتَّضَحَ بِهَذَا: عَدَمُ صِحَّةِ الاِسْتِدْلالِ بِهِ وَبِالْآيَةِ الْكَريمَةِ، وَأَنَّ الْحَجَّ إِنَّمَا فُرِضَ سَنَةَ تِسْعٍ، وَهُوَ الصَّوابُ -إن شاء الله تعالى-.

وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْخِلافِ مَسْأَلَةٌ مُهِمَّةٌ، وَهِيَ: هَلِ الْحَجُّ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ عَلَى التَّراخِي؟ وَسَيَأْتِي الْكَلامُ عَلَيْهِ -إن شاء الله-.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: حِكَمُ الْحَجِّ وَأَسْرارُهُ.
قالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رحمه الله-: "وَأَمَّا الْحَجُّ فَشَأْنٌ آخَرُ: لَا يُدْرِكُهُ إِلَّا الْحُنَفاءُ الَّذِينَ ضَرَبُوا فِي الْمَحَبَّةِ بِسَهْمٍ، وَشَأْنُهُ أَجَلُّ مِنْ أَنْ تُحيطَ بِهِ الْعِبارَةُ، وَهُوَ خَاصَّةُ هَذَا الدِّينِ الْحَنيفِ؛ حَتَّى قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ حُنَفَاءَ للهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ ﴾ [الحج: 31]؛ أَي: حُجَّاجًا، ‌وَجَعَلَ ‌اللهُ ‌بَيْتَهُ ‌الْحَرَامَ ‌قِيَامًا ‌لِلنَّاسِ؛ فَهُوَ عَمُودُ الْعَالَمِ الَّذِي عَلَيْهِ بِنَاؤُهُ؛ فَلَوْ تَرَكَ النَّاسُ كُلُّهُمْ الْحَجَّ سَنَةً لَخَرَّتِ السَّمَاءُ عَلَى الْأَرْضِ، هَكَذَا قَالَ تُرْجُمانُ الْقُرْآنِ ابْنُ عَبَّاسٍ –رضي الله عنهما-[19]؛ فَالْبَيْتُ الْحَرَامُ قِيامُ الْعَالَمِ؛ فَلَا يَزَالُ قِيَامًا مَا زَالَ هَذَا الْبَيْتُ مَحْجوجًا؛ فَالْحَجُّ هُوَ خَاصَّةُ الْحَنِيفِيَّةِ، وَمَعونَةُ الصَّلَاةِ، وَسِرُّ قَوْلِ الْعَبْدِ: لَا إِلَهَ إِلَّا الله؛ فَإِنَّهُ مُؤَسَّسٌ عَلَى التَّوْحِيدِ الْمَحْضِ، وَالْمَحَبَّةِ الْخَالِصَةِ، وَهُوَ اسْتِزارَةُ الْمَحْبوبِ لِأَحْبابِهِ، وَدَعْوَتُهُمْ إِلَى بَيْتِهِ، وَمَحَلِّ كَرامَتِهِ؛ وَلِهَذَا إِذَا دَخَلُوا فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ فَشِعارُهُمْ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ؛ إِجَابَةَ مُحِبٍّ لِدَعْوَةِ حَبِيبِهِ؛ وَلِهَذَا كَانَ لِلتَّلْبِيَةِ مَوْقِعٌ عِنْدَ اللهِ، وَكُلَّمَا أَكْثَرَ الْعَبْدُ مِنْهَا كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَبِّهِ وَأَحْظَى؛ فَهُوَ لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ أَنْ يَقُولَ: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ حَتَّى يَنْقَطِعَ نَفَسُهُ. وَأَمَّا أَسْرارُ مَا فِي هَذِه الْعِبَادَةِ مِنَ الْإِحْرَامِ، وَاجْتِنَابِ الْعَوائِدِ، وَكَشْفِ الرَّأْسِ، وَنَزْعِ الثِّيَابِ الْمُعْتَادَةِ، وَالطَّوَافِ، وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَرَمْيِ الْجِمارِ، وَسَائِرِ شَعَائِرِ الْحَجِّ؛ فَمِمَّا شَهِدَتْ بِحُسْنِهِ الْعُقُولُ السَّليمَةُ، وَالْفِطَرُ الْمُسْتَقيمَةُ، وَعَلِمَتْ بِأَنَّ الَّذِي شَرَعَ هَذِهِ لَا حِكْمَةَ فَوْقَ حِكْمَتِهِ"[20].

وَجاءَ في تَوْضيحِ الْأَحْكامِ: "لِلْحَجِّ حِكَمٌ عَظيمَةٌ، وَأَسْرارٌ سامِيَةٌ، وَأَهْدافٌ كَريمَةٌ، تَجْمَعُ بَيْنَ خَيْرَي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَقَدْ أَشارَتْ إِلَيْهَا الْآيَةُ الْكَريمَةُ، قالَ تعالى: ﴿ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ﴾ [الحج: 28].

فَهُوَ مَجْمَعٌ حافِلٌ كَبيرٌ، يَضُمُّ جَميعَ وُفودِ الْمُسْلِمينَ مِنْ أَقْطارِ الدُّنْيَا، في زَمَنٍ واحِدٍ، وَمَكانٍ واحِدٍ.

فَيَكونُ فيهِ التَّآلُفُ وَالتَّعارُفُ، وَالتَّفاهُمُ، مِمَّا يَجْعَلُ الْمُسْلِمينَ أُمَّةً واحِدَةً، وَصَفًّا واحِدًا، فيمَا يَعودُ عَلَيْهِمْ بِالنَّفْعِ في أَمْرِ دينِهِمْ وَدُنْياهُمْ.

وَفيهِ مِنَ الْفَوائِدِ وَالْمَنافِعِ الِاجْتِماعِيَّةِ وَالثَّقافِيَّةِ وَالسِّياسِيَّةِ مَا يَفوتُ الْحَصْرُ عَدَّهُ، وَهُوَ عِبادَةٌ جَليلَةٌ لله تعالى بِالتَّذَلُّلِ، وَالْخُضوعِ وَالْخُشوعِ، وَبَذْلِ النَّفْسِ وَالنَّفيسِ مِنَ النَّفَقاتِ، وَتَجَشُّمِ الْأَسْفارِ وَالْأَخْطارِ، وَمُفارَقَةِ الْأَهْلِ وَالْأَوْطانِ، كُلُّ ذَلِكَ طاعَةً لله تعالى، وَشَوْقًا إِلَيْهِ، وَمَحَبَّةً لَهُ، وَتَقَرُّبًا إِلَيْهِ في قَصْدِ الْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ، وَالْبِقاعِ الْمُقَدَّسَةِ.

وَمِنْ أَجْلِ هَذَا: جاءَ الْحَديثُ الَّذِي في الْبُخارِي وَمُسْلِمٍ: «الْحَجُّ الْمَبْرُوْرُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ»[21]، هَذَا إِذَا قَصَدَ الْعَبْدُ بِحَجِّهِ وَجْهَ اللهِ تعالى، وَاحْتَسَبَ الْأَجْرَ مِنَ اللهِ تعالى، ثُمَّ تَحَرَّى اتِّباعَ سُنَّةِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- في حَجِّهِ وَأَعْمالِهِ كُلِّهَا، وَابْتَعَدَ عَمَّا يُنْقِصُ حَجَّهُ مِنَ الرَّفَثِ، وَالْفُسوقِ، وَالْجِدالِ بِالْباطِلِ. وَنَقَّى عَقيدَتَهُ مِنَ الْبِدَعِ وَالْخُرافاتِ وَالِاتَّجاهاتِ الْمُنافِيَةِ لِدينِ الْإِسْلامِ"[22].

الْفَرْعُ الثَّانِي: حُكْمُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ -رحمه الله- بِقَوْلِهِ: (واجِبانِ).

وَهَذَا الْفَرْعُ فيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: حُكْمُ الْحَجِّ.
الْحَجُّ أَحَدُ الْأَرْكانِ الْخَمْسَةِ الَّتِي بُنِيَ عَلَيْهَا الْإِسْلامُ، وَهُوَ واجِبٌ، وَلَا خِلافَ في وُجوبِهِ، وَقَدْ دَلَّ الْكِتابُ، وَالسُّنَّةُ، وَإِجْماعُ الْمُسْلِمينَ عَلَى وُجوبِ الْحَجِّ مَرَّةً واحِدَةً في الْعُمُرِ.

أَمَّا مِنَ الْكِتابِ: فَقَوْلُهُ تعالى: ﴿ وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيْلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 97]، وقال الله تعالى: ﴿ وَأَتِمُّوْا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ ﴾ [البقرة: 196].

وَأَمَّا مِنَ السُّنَّةِ: فَالْأَحاديثُ في ذَلِكَ كَثيرَةٌ، وَمِنْ ذَلِكَ: حَديثُ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنه- قالَ: قالَ النَّبِيُّ –صلى الله عليه وسلم-: «‌بُنِيَ ‌الْإِسْلَامُ ‌عَلَى ‌خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضانَ»[23]، فَذَكَرَ فيهَا الْحَجَّ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، قالَ: «خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ –صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، ‌قَدْ ‌فَرَضَ ‌اللهُ ‌عَلَيْكُمُ ‌الْحَجَّ فَحُجُّوا، فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَسَكَتَ، حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ –صلى الله عليه وسلم-: لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ، لَوَجَبَتْ، وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ، ثُمَّ قَالَ: ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ، وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ»[24].

وَأَمَّا الْإِجْماعُ: فَقَدْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى وُجوبِ الْحَجِّ عَلَى الْمُسْتَطيعِ في الْعُمُرِ مَرَّةً واحِدَةً[25]، وَلَا خِلافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ في كُفْر ِمَنْ جَحَدَ وُجوبِ الْحَجِّ[26].

لَكِنْ اخْتَلَفُوا فيمَنْ أَقَرَّ بِوُجوبِهِ وَتَرَكَهُ تَهاوُنًا وَكَسَلًا، وَخِلافُهُمْ في ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ مَنْ تَرَكَ الْحَجَّ تَهاوُنًا وَكَسَلًا كافِرٌ[27].
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ مَنْ تَرَكَ الْحَجَّ تَهاوُنًا وَكَسَلًا لَا يَكْفُرُ[28].

قالَ شَيْخُ الْإِسْلامِ -رحمه الله-: "اتَّفَقَ الْمُسْلِمونُ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَأْتِ بِالشَّهادَتَيْنِ فَهُوَ كافِرٌ، وَأَمَّا الْأَعْمالُ الْأَرْبَعَةُ؛ فَاخْتَلَفُوا في تَكْفيرِ تارِكِهَا، وَالْقَوْلُ بِكُفْرِ مَنْ تَرَكَ واحِدَةً مِنْهَا رِوايَةٌ عَنِ الْإِمامِ أَحْمَدَ، اخْتَارَهَا طائِفَةٌ مِنْ أَصْحابِ مالِكٍ، وَالْقَوْلُ الْمُرَجَّحُ عِنْدَ الْجُمْهورِ: أَنَّهُ لا يَكْفُرُ إِلَّا مَنْ تَرَكَ الصَّلاةَ، عَلَى خِلافٍ بَيْنَهُمْ في حُكْمِ تارِكِهَا أَيْضًا، وَقَدْ اتَّفَقَ الصَّحابَةُ -رضي الله عنهم- عَلَى كُفْرِ تارِكِ الصَّلاةِ، وَإِنْ كانَ مُعْتَرِفًا بِوُجوبِهَا"[29]، والله أعلم.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: حُكْمُ الْعُمْرَةِ.
اخْتَلَفَ الْعُلَماءُ في حُكْمِ الْعُمْرَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهورَيْنِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا واجِبَةٌ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُصَنِّفُ -رحمه الله-، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنابِلَةِ، وَبِهِ قالَ الشَّافِعِيُّ، وَبَعْضُ الْمالِكِيَّةِ[30]. وَقَدْ اسْتَدَلَّ أَصْحابُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا: قَوْلُهُ سبحانه وتعالى: ﴿ وَأَتِمُّوْا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ ﴾ [البقرة: 196]، وَوَجْهُ الدَّلالَةِ أَنَّ اللهَ سبحانه وتعالى قَرَنَ الْعُمْرَةَ بِالْحَجِّ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ حُكْمَهُمَا واحِدٌ. وَهَذِهِ الدَّلالَةُ تُسَمَّى عِنْدَ الْعُلَماءِ دَلالَةَ الاِقْتِرانِ، وَهِيَ دَلالَةٌ ضَعيفَةٌ[31]، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ دَلالَةَ الاِقْتِرانِ دَلالَةٌ ضَعيفَةٌ قَوْلُهُ تعالى: ﴿ كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ﴾ [الأنعام: 141]؛ فَاللهُ سبحانه وتعالى قَرَنَ الْأَكْلَ بِأَداءِ الزَكاةِ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُقْرَنُ الْواجِبُ بِغَيْرِ الْواجِبِ.

وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ أَيْضًا: حَديثُ أَبِي رَزينٍ الْعُقَيْلِيِّ: «أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ –صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: إِنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ، لَا يَسْتَطِيعُ الْحَجَّ، وَلَا الْعُمْرَةَ، وَلَا الظَّعْنَ، قَالَ: ‌حُجَّ ‌عَنْ ‌أَبِيكَ ‌وَاعْتَمِرْ»[32]، وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ واحِدٍ عَنِ الْإِمامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ قالَ: "لَا أَعْلَمُ في إِيجابِ الْعُمْرَةِ حَديثًا أَجْوَدَ مِنْ هَذَا، وَلَا أَصَحَّ"[33].

وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ كَذَلِكَ: وُرودُ رِوايَةِ الْعُمْرَةِ في حَديثِ عُمَرَ -رضي الله عنه- حينَ أَتَى جِبْريلُ إِلَى النَّبِيِّ –صلى الله عليه وسلم- يَسْأَلُهُ عَنْ أَرْكانِ الْإِسْلامِ وَذَكَرَ مِنْهَا: «‌وَتَحُجَّ ‌الْبَيْتَ ‌وَتَعْتَمِرَ»[34]، وَهَذِهِ الزِّيادَةُ: «وَتَعْتَمِرَ»، قَدْ صَحَّحَهَا الْبَعْضُ، وَحَكَمَ عَلَيْهَا الْبَعْضُ بِالشُّذوذِ[35]؛ لِأَنَّ الْحَديثَ مُخَرَّجٌ في الصَّحيحَيْنِ وَلَيْسَ فيهِ: «وَتَعْتَمِرَ».

وَمِنَ الْأَدِلَّةِ أَيْضًا: مَا أَخْرَجَهُ الْإِمامُ أَحْمَدُ، وَغَيْرُهُ، عَنْ عائِشَةَ قالتْ: «يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ عَلَى النِّسَاءِ مِنْ جِهَادٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، عَلَيْهِنَّ جِهَادٌ لَا قِتَالَ فِيهِ: الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ»[36].

الْقَوْلُ الثَّانِي:أَنَّهَا سُنَّةٌ، وَهَذَا قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنابِلَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمالِكِيَّةِ، وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ[37]. وَقَدْ اسْتَدَلَّ أَصْحابُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا: ظاهِرُ قَوْلِهِ سبحانه وتعالى: ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ﴾ [آل عمران: 97]، قالُوا: وَجْهُ الدَّلالَةِ في الْآيَةِ واضِحٌ؛ حَيْثُ اقْتَصَرَ عَلَى الْحَجِّ وَلَمْ يَذْكُرِ الْعُمْرَةَ.

وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ أَيْضًا: حَديثُ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: «‌بُنِيَ ‌الْإِسْلَامُ ‌عَلَى ‌خَمْسٍ: -وفيه- وَحَجِّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيْلًا»[38]، وَوَجْهُ الدَّلالَةِ واضِحٌ أَيْضًا، وَهُوَ: أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ لَمْ يَذْكُرِ الْعُمْرَةَ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ وَلَيْسَتْ واجِبَةً. وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِحَديثِ عُمَرَ الْمَشْهورِ، وَبِحَديثِ ضِمامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ[39].

وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ كَذَلِكَ: حَديثُ جابِرٍ -رضي الله عنه- قال: «أَتَى النَّبِيَّ –صلى الله عليه وسلم- أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، ‌أَخْبِرْنِي ‌عَنِ ‌الْعُمْرَةِ: ‌أَوَاجِبَةٌ ‌هِيَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لَا، وَأَنْ تَعْتَمِرَ خَيْرٌ لَكَ»[40]. وَالْحَديثُ ضَعيفٌ؛ لِأَنَّ مَدارَهُ عَلَى الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَأَة وَهُوَ ضَعيفٌ مُدَلِّسٌ، وَقَدْ عَنْعَنَ[41]، وَرَجَّحَ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ وَقْفَهُ[42].

وَمِنَ الْأَدِلَّةِ أَيْضًا: حَديثُ طَلْحَةِ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ: «الْحَجُّ جِهادٌ، وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ»[43].

وَمِنْ أَقْوَى مَا تَمَسَّكُوا بِهِ: الْبَراءَةُ الْأَصْلِيَّةُ، قالُوا: وَلَا يُنْتَقَلُ عَنْهَا إِلَّا بِدَليلٍ يَثْبُتُ بِهِ التَّكْليفُ، وَلَا دَليلَ يَصْلُحُ لِذَلِكَ، لَا سِيَّمَا مَعَ اعْتِضادِهِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ النُّصوصِ الْقاضِيَةِ بِعَدَمِ الْوُجوبِ، كَمَا أَشارَ إِلَى هَذَا الشَّوْكانِيُّ -رحمه الله-[44].

وَالَّذِي يُفْهَمُ مِنْ كَلامِ شَيْخِ الْإِسْلاِم: أَنَّ الْعُمْرَةَ واجِبَةٌ عَلَى الْأَفَقِيِّ دونَ الْمَكِيِّ[45]، وَوَجْهُ التَّفْريقِ أَنَّ الْعُمْرَةَ هِيَ الزِّيارَةُ، وَالزِّيارَةُ إِنَّمَا تُتَصَوَّرُ مِمَّنْ يَقْدُمُ عَلَى الْمَزورِ، لَكِنْ مِثْلُ هَذَا لَا يُخَصِّصُ قَوْلَهُ –صلى الله عليه وسلم-: «‌حُجَّ ‌عَنْ ‌أَبِيكَ ‌وَاعْتَمِرْ»[46].

فَالْأَظْهَرُ - وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ -: وُجوبُ الْعُمْرَةِ.

وَلَا يَعْنِي كَوْنَ الْعُمْرَةِ واجِبَةٌ: أَنَّ وُجوبَهَا مِثْلُ وُجوبِ الْحَجِّ، نَعَمْ، يَأْثَمُ تارِكُهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا، لَكِنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ رُكْنًا مِنْ أَرْكانِ الْإِسْلامِ؛ كَالْحَجِّ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّهَا لَمْ تُذْكَرْ في الْآيَةِ، وَلَا في حَديثِ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ وَضِمامٍ. فَالْجَوابُ عَنْهُ: أَنَّ الْحَجَّ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: الْأَوَّلُ: حَجٌّ أَكْبَرُ. وَالثَّانِي:حَجٌّ أَصْغَرُ.

وَهَذَا هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ؛ كَمَا في قَوْلِهِ سبحانه وتعالى: ﴿ وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ ﴾ [التوبة: 3]؛ فَهُناكَ حَجٌّ أَكْبَرُ، وَهُوَ: الْحَجُّ الْمَعْروفُ، وَهُناكَ حَجٌّ أَصْغَرُ، وَهُوَ: الْعُمْرَةُ، فَقَوْلُهُ سبحانه وتعالى: ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ﴾ [آل عمران: 97] يَشْمَلُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ.

الْفَرْعُ الثَّالِثُ: شُروطُ الْحَجِّ، وَقَدْ ذَكَرَهَا -رحمه الله- بِقَوْلِهِ: (عَلَى الْمُسْلِمِ الْحُرِّ الْمُكَلَّفِ الْقادِرِ).

وَفِي هَذَا الْفَرْعِ مَسائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اِعْلَمْ -وَفَّقَنِي اللهُ وَإِيَّاكَ-: أَنَّ الْحَجَّ تُشْتَرَطُ لَهُ خَمْسَةُ شُروطٍ، وَهِيَ:
أَوَّلًا: الْإِسْلامُ، ثانِيًا: الْعَقْلُ، ثالِثًا: الْبُلوغُ، رابِعًا: الْحُرِّيَةُ، خامِسًا: الِاسْتِطاعَةُ.
وَلَا خِلافَ في هَذِهِ الشُّروطِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ[47].

وَالْعُلَماءُ يَقْسِمونَ هَذِهِ الشُّروطَ إِلَى ثَلاثَةِ أَقْسامٍ، وَهِيَ:
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: شُروطُ وُجوبٍ وَصِحَّةٍ وَإِجْزاءٍ، وَهِيَ شَرْطانِ، وَهُمَا: الْإِسْلامُ، وَالْعَقْلُ؛ فَلَا يَصِحُّ الْحَجُّ مِنْ كافِرٍ بِالْإِجْماعِ[48]، وَأَمَّا الْمَجْنونُ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَماءُ في صِحَّةِ حَجِّ الْمَجْنونِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ حَجَّ الْمَجْنونِ صَحيحٌ إِذَا عَقَدَ عَنْهُ وَلِيُّهُ، وَالدَّليلُ أَنَّ النَّبِيَّ –صلى الله عليه وسلم-: «لَقِيَ رَكْبًا بِالرَّوْحَاءِ، فَقَالَ: مَنِ الْقَوْمُ؟ قَالُوا: الْمُسْلِمُونَ، فَقَالُوا: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: رَسُولُ اللهِ، فَرَفَعَتْ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ صَبِيًّا، فَقَالَتْ: أَلِهَذَا حَجٌّ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَكِ أَجْرٌ»[49]، قالُوا: وَالصَّبِيُّ في حُكْمِ الْمَجْنونِ، وَالْمَجْنونُ في حُكْمِ الصَّبِيِّ؛ فَكُلٌّ مِنْهُمَا فاقِدٌ لِلْحِلْمِ وَالْعَقْلِ، فَإِذَا صَحَّحَ النَّبِيُّ -عليه الصلاة والسلام- حَجَّ الصَّبِيِّ؛ فَلْنُصَحِّحْ أَيْضًا حَجَّ الْمَجْنونِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمالِكِيَّةِ في الْمَشْهورِ، وَالشَّافِعِيَّةِ[50].

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ اقْتِصارًا عَلَى النَّصِّ في الطِّفْلِ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهورُ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَوْلٌ لِلْمالِكِيَّةِ، وَوَجْهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ [51]، وَاللهُ أَعْلَمُ.

الْقِسْمُ الثَّانِي: شُروطُ وُجوبٍ وَإِجْزاءٍ، دونَ الصِّحَّةِ، وَهَذانِ شَرْطانِ، وَهُمَا: الْبُلوغُ وَكَمالُ الْحُرِّيَةِ، فَلَوْ حَجَّ الصَّبِيُّ أَوْ الْعَبْدُ صَحَّ حَجُّهُ، وَلَكِنْ لَا يُجْزِئُهُ عَنْ حُجَّةِ الْإِسْلامِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْإِجْماعَ عَلَى هَذَا غَيْرُ واحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ[52].

وَقَدْ خالَفَ في ذَلِكَ: الظَّاهِرِيَّةُ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ حَزْمٍ؛ حَيْثُ قالُوا: إِنَّ الْعَبْدَ يُطالَبُ بِالْحَجِّ وَيُجْزِئُهُ[53] لِعُمومِ الْأَدِلَّةِ.

وَقَدْ نوقِشَ هَذَا بِأَنَّ الْحَجَّ مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ الِاسْتِطاعَةِ، وَذَلِكَ في قَوْلِهِ تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ﴾ [آل عمران: 97].
وَقالَ بَعْضُ الْعُلَماءِ: إِذَا حَجَّ الرَّقيقُ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ أَجْزَأَهُ عَنِ الْفَريضَةِ.

الْقِسْمُ الثَّالِثُ: شَرْطٌ لِلْوُجوبِ دونَ الْإِجْزاءِ، وَهُوَ شَرْطُ الِاسْتِطاعَةِ، أَمَّا كَوْنُهُ شَرْطًا لِلْوُجوبِ فَبِالْإِجْماعِ[54].

وَأَمَّا الْإِجْزاءُ فَلَيْسَ شَرْطًا لَهُ بِاتِّفاقِ الْمَذاهِبِ الْأَرْبَعَةِ[55]، فَلَوْ حَجَّ فَقيرٌ أَوْ مَريضٌ أَوْ كَبيرٌ أَجْزَأَهُ، وَقَدْ حَجَّ خَلْقٌ مَعَ النَّبِيِّ –صلى الله عليه وسلم- وَلَا شَيْءَ مَعَهُمْ، وَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا مِنْهُمْ بِالْإِعادَةِ[56].

فائِدَةٌ: مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الشَّرْطْ -الَّذِي هُوَ الِاسْتِطاعَةُ-: أَنْ يَكونَ لِلْمَرْأَةِ مَحْرَمٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَحْرَمٌ: فَلَا حَجَّ عَلَيْهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنابِلَةِ وَالْحَنَفِيَّةِ[57]، وَإِذَا حَجَّتْ بِدونِ مَحْرَمٍ فَحَجُّهَا صَحيحٌ؛ لَكِنَّهَا آثِمَةٌ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَمْ مَرَّةً يَجِبُ الْحَجُّ الْواجِبُ في الْعُمُرِ؟
وَهَذَا قَدْ ذَكَرَهُ –رحمه الله- بِقَوْلِهِ: (فِي عُمُرِهِ مَرَّةً)؛ أي: أَنَّ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ واجِبانِ مَرَّةً في الْعُمُرِ؛ لِحَديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه- السَّابِقِ، وَنُقِلَ الْإِجْماعُ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ واجِبٌ في الْعُمُرِ مَرَّةً واحِدَةً[58].

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَلْ الْحَجُّ يَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ أَمْ عَلَى التَّراخِي؟
وَهَذَا قَدْ ذَكَرَهُ –رحمه الله- بِقَوْلِهِ: (عَلَى الْفَوْرِ)؛ أي: يَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ، فَمَنْ تَوَفَّرَتْ فيهِ الشُّروطُ السَّابِقَةُ: وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُبادِرَ، وَيَأْثَمُ إِنْ أَخَّرَهُ بِلَا عُذْرٍ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي قَرَّرَهُ الْمُؤَلِّفُ -رحمه الله-.

وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلافٌ بَيْنَ الْعُلَماءِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنابِلَةِ، وَبِهِ قالَ الْجُمْهورُ[59]. وَقَدْ اسْتَدَلَّ أَصْحابُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَدِلَّةٍ، مِنْهَا:
أَوَّلًا: الْأَدِلَّةُ الْكَثيرَةُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى وُجوبِ الْمُبادَرَةِ إِلَى أَوامِرِ اللهِ سبحانه وتعالى، وَالثَّناءِ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، وَتَوْبيخِ مَنْ لَمْ يُبادِرْ، وَتَخْوِيفِهِ مِنْ أَنْ يُدْرِكَهُ الْمَوْتُ قَبْلَ أَنْ يَمْتَثِلَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكونُ اقْتَرَبَ أَجَلُهُ وَهُوَ لَا يَدْرِي، فَمِنْ تِلْكَ النُّصوصِ قَوْلُهُ تعالى: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 133]، وَقَوْلُه سبحانه وتعالى: ﴿ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾ [الحديد: 21]، وَقَوْلُهُ سبحانه وتعالى: ﴿ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ﴾ [البقرة: 148]، وَمِنَ الْآياتِ الَّتِي فيهَا الثَّناءُ عَلَى الْمُبادَرَةِ إِلَى امْتِثالِ أَوامِرِ اللهِ قَوْلُهُ سبحانه تعالى: ﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ ﴾ [الأنبياء: 90]، وَقَوْلُهُ سبحانه وتعالى: ﴿ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ﴾ [المؤمنون: 61]، وَمِنَ الْآياتِ الَّتِي فيها التَّخْويفُ مِنَ الْمَوْتِ قَبْلَ الاِمْتِثالِ الْمُتَضَمِّنُ الْحَثَّ عَلَى الْمُبادَرَةِ إِلَى الِامْتِثالِ قَوْلُهُ سبحانه: ﴿ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: 185].

وَمِنَ الْأَدِلَّةِ أَيْضًا: قَوْلُه سبحانه وتعالى: ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ﴾ [آل عمران: 97]، وَقَوْلُهُ -عليه الصلاة والسلام-: «أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ، فَحُجُّوا»[60]، وَالْأَصْلُ في الْأَمْرِ أَنْ يَكونَ عَلَى الْفَوْرِ.

وَمِنَ الْأَدِلَّةِ كَذَلِكَ: حَديثُ ابْنِ عَبَّاسٍ –رضي الله عنمها- مَرْفوعًا: «تَعَجَّلُوا إِلَى الْحَجِّ -يَعْنِي: الْفَرِيضَةَ-؛ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ»[61].

وَجاءَتْ أَحاديثُ دالَّةٌ عَلَى ذَلِكَ، لَكِنْ لَا يَخْلُو شَيْءٌ مِنْهَا مِنْ مَقالٍ، إِلَّا أَنَّهَا تَعْتَضِدُ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ النُّصوصِ، والله أعلم.

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ وُجوبَ الْحَجِّ عَلَى التَّراخِي، وَهَذَا رِوايَةٌ عِنْدَ الْحَنابِلَةِ، وَقَوْلٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمالِكِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَصْحابِهِ[62]. وَقَدْ اسْتَدَلَّ أَصْحابُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَدِلَّةٍ، مِنْهَا: قَوْلُهُ تعالى: ﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ﴾ [البقرة: 196]، فَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ في الْحُدَيْبِيَّةِ سَنَةَ سِتٍّ بِالْإِجْماعِ[63]، وَفيهَا وُجوبُ الْحَجِّ، وَلَمْ يَحُجَّ النَّبِيُّ –صلى الله عليه وسلم- إِلَّا في السَّنَةِ الْعاشِرَةِ، قالُوا: فَهَذَا دَليلٌ عَلَى التَّراخِي؛ إِذْ لَوْ كانَ عَلَى الْفَوْرِ لَمَا أَخَّرَهُ عَنْ أَوَّلِ وَقْتِ الْحَجِّ بَعْدَ نُزولِ الْآيَةِ. وَقَدْ سَبَقَتْ مُناقَشَةُ هَذَا الاِسْتِدْلالِ.

وَمِنَ الْأَدِلَّةِ أَيْضًا: قِصَّةُ ضِمامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ وَسَبَقَ ذِكْرُهَا، قالُوا: وَكانَ قُدومُهُ عَلَى النَّبِيِّ –صلى الله عليه وسلم- سَنَةَ خَمْسٍ، وَسَبَقَ لَنَا أَيْضًا مُناقَشَةُ هَذَا الِاسْتِدْلالِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ الصَّوابَ أَنَّ قُدومَهُ كانَ سَنَةَ تِسْعٍ.

وَعَلَى هَذَا فَالْأَظْهَرُ -وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ-: أَنَّ الْحَجَّ واجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ، وَذَلِكَ لِوَجاهَةِ ما اسْتَدَلَّ بِهِ الْقائِلونَ بِهِ، وَقُوَّةِ أَدِلَّتِهِمْ، وَسَلامَةِ أَكْثَرِهَا مِنَ الْمُعارَضَةِ، وَاللهُ أَعْلَمُ.

الْفَرْعُ الرَّابِعُ: زَوالُ الرِّقِّ وَالْجُنونِ وَالصِّبَا فِي الْحَجِّ.
وَهَذَا ذَكَرَهُ -رحمه الله- بِقَوْلِهِ: (فَإِنْ زالَ الرِّقُّ وَالْجُنونُ وَالصِّبَا في الْحَجِّ بِعَرَفَةَ، وَفِي الْعُمْرَةِ قَبْلَ طَوافِهَا: صَحَّ فَرْضًا، وَفِعْلُهُمَا مِنَ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ نَفْلًا).

وَفِي هَذَا الْفَرْعِ مَسائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَوْ خَرَجَ رَقيقٌ حاجًّا وَزالَ رِقُّهُ بِعَرَفَةَ؛ أي: أَعْتَقَهُ سَيِّدُهُ بِعَرَفَةَ: صَحَّ حَجُّهُ فَرْضًا، وَيُجْزِئُهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلامِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْميقاتِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي قَرَّرَهُ الْمُؤَلِّفُ -رحمه الله-، وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلافٌ بَيْنَ الْعُلَماءِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: مَا قَرَّرَهُ الْمُؤَلِّفُ -رحمه الله-، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنابِلَةِ، وَالْمالِكِيَّةِ، وَالشافِعِيَّةِ[64]، لِمَا ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنه-: «أَنَّ النَّبِيَّ –صلى الله عليه وسلم- سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: لَبَّيْكَ عَنْ شُبْرُمَةَ، قَالَ: مَنْ شُبْرُمَةُ؟ قَالَ: أَخٌ لِي -أَوْ قَرِيبٌ لِي- قَالَ: حَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ»[65]. فَهَذَا الْحَجُّ الَّذِي وَقَعَ مِنَ هَذَا الرَّجُلِ، قَدْ نَواهُ في الْميقاتِ عَنْ شُبْرُمَةَ، ثُمَّ أَمَرَهُ النَّبِيُّ –صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ؛ فَلَوْ كانَ يَلْزَمُهُ الرُّجوعُ إِلَى الْميقاتِ لَقالَ لَهُ رَسولُ اللهِ –صلى الله عليه وسلم-: ارْجِعْ إِلَى الْميقاتِ وَانْوِ عَنْ نَفْسِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجوزُ تَأْخيرُ الْبَيانِ عَنْ وَقْتِ الْحاجَةِ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ مَنْ طَرَأَ عَلَيْهِ حُكْمٌ وَانْقَلَبَتْ نِيَّتُهُ: لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ؛ فَكَذَلِكَ الرَّقيقُ إِذَا زالَ رِقُّهُ في عَرَفَةَ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْميقاتِ، وَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ فَلَا يُجْزِئُهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلامِ، وَيَقَعُ نَفْلًا، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ[66].

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَوْ خَرَجَ مَجْنونٌ حاجًّا وَأَفاقَ وَزالَ جُنونُهُ وَهُوَ في عَرَفَةَ: صَحَّ حَجُّهُ فَرْضًا، وَيُجْزِئُهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلامِ، وَهَذَا مَا قَرَّرَهُ الْمُؤَلِّفُ -رحمه الله-.

وَهَذَا يُتَصَوَّرُ إِذَا قُلْنَا: إِنَّ الْمَجْنونَ يَجوزُ أَنْ يُحْرِمَ عَنْهُ وَلِيُّهُ، كَمَا يُحْرِمُ عَنِ الصَّغيرِ؛ فَالصَّغيرُ لَيْسَ لَهُ تَمْيِيزٌ، وَالْمَجْنونُ كَذَلِكَ؛ فَحُكْمُهُماَ واحِدٌ، وَقَدْ سَبَقَ أَنْ أَشَرْنَا إِلَى هَذَا الْقَوْلِ. وَقَدْ اسْتَدَلَّ أَصْحابُ هَذَا الْقَوْلِ بِحَديثِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-.

وَبِناءً عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: فَلَا إِشْكالَ؛ لِأَنَّهُ سَيُحْرِمُ عَنْهُ وَلِيُّهُ، وَهُوَ مَجْنونٌ، وَيَبْقَى مُحْرِمًا؛ فَإِذَا عَقَلَ بِعَرَفَةَ صَحَّ أَنْ نَقولَ: إِنَّهُ زالَ جُنونُهُ بِعَرَفَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ.

أَمَّا إِذَا قُلْنَا: إِنَّ الْمَجْنونَ لَا يَصِحُّ إِحْرامُهُ بِنَفْسِهِ وَلَا بِوَلِيِّهِ؛ فَإِنَّهُ يُحْمَلُ كَلامُ الْمُؤَلِّفِ عَلَى مَا إِذَا طَرَأَ عَلَيْهِ الْجُنونُ بَعْدَ الْإِحْرامِ، وَهُنَا إِشْكالٌ، وَهُوَ: أَلَا يَبْطُلُ إِحْرامُهُ بِالْجُنونِ؟ نَقولُ: لَا يَبْطُلُ الْإِحْرامُ بِالْجُنونِ، بَلْ يَبْقَى عَلَى إِحْرامِهِ ثُمَّ إِنْ زالَ جُنونُهُ بِعَرَفَةَ: أَتَمَّهُ، وَإِنْ زالَ جُنونُهُ بَعْدَ عَرَفَةَ: فَإِنُّهُ قَدْ فاتَهُ الْحَجُّ وَيُتِمُّهُ عُمْرَةً، وَإِنْ بَقِيَ عَلَى جُنونِهِ: فَإِنَّهُ يَكونُ كَالْمُحْصَرِ؛ أي: يَتَحَلَّلُ وَيَذْبَحُ إِنْ تَيَسَّرَ[67].

وَعَلَى كُلِّ حالٍ: فَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلافٌ بَيْنَ الْعُلَماءِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: مَا قَرَّرَهُ الْمُؤَلِّفُ -رحمه الله-، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنابِلَةِ، وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ[68].

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَقَعُ نَفْلًا، وَلَا يُجْزِئُهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلامِ؛ إِلَّا أَنْ يَرْجِعَ مِنَ الْميقاتِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ[69].
يتبع



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 164.27 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 162.54 كيلو بايت... تم توفير 1.72 كيلو بايت...بمعدل (1.05%)]